المعماري العراقي محمد مكية يعد من أبرز الفاعلين في الحياة الفنية العراقية ورحل تاركا أثراً في النفوس بأخلاقه وفكره وفي الأمكنة بتصاميمه.
شيخ المعماريين عاش قرنا عينه على بغداد وحق الطيور في الفراغ
رحل المعماري العراقي محمد مكية، بعد قرن وعام، قضى ثمانين عاماً منها في الدِّراسة المعمارية، والتصميم والتخطيط، ومِن أشهر
ما ترك ببغداد مِن عمران جامع الخلفاء، وكان أساسه عباسي، قيل يعود إلى الخليفة المستكفي (ت 338هـ)، إلا أن هذا الأثر المعماري لم يكن الأول والأخير مما اشتهر به مكية، إنما كان مشروعاً يُبدأ به لإعادة مجد بغداد العمراني العباسي، لكن لم يكن هذا متاحاً له، في زمن قتل التراث من أجل حداثة لم تحدث، حسب تعبيره.
التراث والفكرة
تخرّج مكية بشهادة الدكتوراه في العمارة من كيمبردج (1946) وعاد إلى بغداد، يوم كان مَن يبعث للدراسة يعود بلا تأخير، كي يأخذ دوره في التقدم المدني الصاعد آنذاك. اشتهر بعمارة مساجد مازالت معالم للمدن، كمسجد السلطان قابوس بمسقط، والمسجد الكبير بالكويت، ومحاكم الرياض بما يرتبط مع البيئة النَّجدية، وغيرهما الكثير، وأصرّ أن يكون التصميم غير نافرٍ عن بيئة المكان، وكان قد وصل إلى أبو ظبي 1949 ودخل إلى قصر الحصن، وزار العين، وأسس مكتب بغداد والبحرين ثم لندن.
كان لا يخرج عن المحلية وتراثها إلا بحدود ما يتطلّبه التصميم، فعندما كُلف مِن قبل الدَّولة العراقية بتصميم خمسة فروع لمصرف الرافدين، في مختلف المحافظات العراقية، عزم أن يكون كل مصرف مخالفا للآخر ومطابقا لمحلية البيئة، وكان هذا الأمر مستهجناً من قِبل الآخرين، لأنهم أرادوا الفروع الخمسة على طراز واحد، وفي هذه الحال يرفض المساهمة في التصميم أو احترام المحلية، وبالفعل تحقق له هذا.
كنت شاهداً على مداولاته مع إمارة الرياض عندما شارك بتصميم لمجمّع المحاكم، أو دار العدل، قريباً من مبنى الإمارة، ولما فحص المكان وجد الأفضل أن يكون داخل السوق الشَّعبي، وقد رفض المسؤولون هناك مثل هذا التصور، ولما فاز التصميم بالدرجة الأولى، وكان عمره آنذاك يربو على الثمانين عاماً، ظل مصراً على المكان، على اعتقاد منه أن العدل يخص الناس والسوق تخص الناس أيضاً، وهو بهذا التصور لم يتعد على تراث نجد وبيئتها، وبالفعل تحقق ذلك والبناء قائم الآن وسط السوق، وهي، حسب رأيه فكرة سومرية اختلاط الحكم بالناس.
لا عمل للمعمار
عاد محمد مكية إلى العراق العام 1946 وكان أول معماري عراقي يحمل شهادة الدكتوراه، وحينها اصطدم برئيس الوزراء، آنذاك، وكأنه يقول له: ليس لدينا عمل لدكتور في العمارة، وبعدها عُيّن كمخطط مدن في البلديات، ومن هناك فكّر في أن تحاط بغداد بحزام أخضر، من النخيل، وأن تحجز لهذا الحزام مساحات من الأرض، لكن التعطيل جاء ممَن لا يقدّرون قيمة هذا الحزام، وظلت الفكرة تجول في باله.
«الحياة الفنية العراقية، تحفظ حضور مكية فيها، فبجهوده وجهود الفنانين التشكيليين والنحاتين الرواد، شكلت أول جمعية للفنون التشكيلية العراقية، بداية الخمسينات، وكانت دار مكية معرضا فنيا دائما، وقد سلم بنفسه الملك فيصل الثاني عضوية الانتماء للنقابة أو الجمعية، لأن الملك كان يهوى الرسم ويمارسه»
كان حلمه أن يُعاد تصميم بغداد، وأن تحظى محلاتها بظلال النخيل وكذلك طرقاتها، وكان يعتبر الطرقات المستقيمة أعمالاً ساذجة مدمّرة للمدن، فأخذ يُشبّه المصممين بالجراحين لا بالفنانين، بينما العمارة وتخطيط المدن فن من الفنون، لهذا ظل يسخر من شارعي الرشيد والجمهورية، لأنهما، حسب ما أسمع منه ويردده كثيراً، ينافسان دجلة بالتوازي معه، فالمفروض أن تتعامد طرقات بغداد مع شاطئ النهر.
كان يكره حركة السيارات، في غير أماكنها، لأنها تنافس الإنسان وتعتدي على حقه في المكان، حتى سماها بالوحش، فلا بد أن تلجم، حسب توصيفه، حركتها ووجودها، لا تدخل في كل ساحة وكل طريق، أن تكون لها محلات خاصة في الوقوف والحركة عبر الطرق الدَّائرية، وتعوض بوسائل أُخر.
لقد عاش مكية قرناً كاملاً بين قرنين، بدايات العشرين إلى بدايات الحادي والعشرين، عاش النقل على الحيوان والكاري العثماني وشهد دخول السيارات أول مرة إلى بغداد، عاش فترة الاحتلال البريطاني، وحصل أن ضربه في السوق جندي بريطاني فتشاجر خاله معه، وفي هذا ظل حسه في إعادة تصميم بغداد وكأنها عنده تلك الأولى التي ما زالت بحاجة إلى تخطيط جديد، وعندما أواجهه بالقول: إن الشَّوارع قد عُبّدت والعمارات ارتفعت، فمَن يسمح بالهدم كي تعيد التصميم مرة أُخرى؟ يقول: لا بد أن يصحح الخطأ.
بغداد وبغداد
كان مغرماً ببغداد، وينتظر أيّ مناسبة للاحتفال بها، لأنها تستحق التكريم، ففي الذكرى الألف على تمصيرها عاصمةً، تبنى كتاب “بغداد” في هذه المناسبة، بمشاركة كبار آخرين، وعمل على إعادة طبعه بعد حين. أقيم وقتها مهرجان واسع في هذه المناسبة، واعتبر من الأحداث الثقافية في بداية الستينات، وقد شاركت فيه العديد من المؤسسات الدولية العالمية المختصة، كالمكتبة الوطنية الفرنسية التي تحوي أهم مجموعة لرسوم الواسطي، ذلك الرسام العباسي المعروف، وبهذه المناسبة أهدت المكتبة الفرنسية إلى المهرجان نسخاً خاصة مطبوعة بحجوم صغيرة لرسوم الواسطي التي تمتلكها كهدية للدولة، لكن أحدهم استغل المناسبة واستولى على تلك الرسوم.
قدّم محمد مكية مشورة للدولة، في عهد عبدالكريم قاسم، بإعادة ميدان دار الخلافة العباسية، كي يمتد من الساحل النهري عن طريق زقاق، وأن يكون ميداناً مثل ميدان مدينة مراكش المعروف، لأن التراث هو التراث الاجتماعي أولاً، وأن يبدأ بسوق الطيور والأسواق الأُخرى، ويصبح وسط بغداد المركزي حيث جامع الخلفاء. كان مكية مصراً أن محلته محلة أصبابيغ الآل، وسط بغداد، هي مكان دار الخلافة، وشاهده على ذلك، جامع الخلفاء ومنارة سوق الغزل، وأنهم عندما كانوا يحفرون في ساحات الدور لغرض البناء يعثرون على طابوق “الفرشي”، وهو ما كان يستخدم في البناء العباسي، وأن ذلك الميدان يكون محاطاً مظللاً بشجر النخيل، وبهذا التأثير أُصدر قانون منع قطع النخيل، مهما كان البناء، والحفاظ على قدسيّتها، حيث أن اسم بغداد لا يعني شيئاً بلا بساتين، والاعتراف بحقوق الشَّجر والبشر بها، هكذا كان مكية يتكلم.
حداثة لم تحدث
كان مكية فاعلاً في الحياة الفنية العراقية، فبجهوده وجهود الفنانين التشكيليين والنحاتين الرواد آنذاك شُكلت أول جمعية للفنون التشكيلية العراقية، في بداية الخمسينات، وكانت داره عبارة عن معرض فني دائم، وقد سلم الملك فيصل الثاني (قُتل 1958) عضوية الانتماء للنقابة أو الجمعية، وكان الملك يهوى الرسم ويمارسه.
استغرب الآخرون من مكية أنه حوّل قسم العمارة، الذي أسسه 1959 وظل رئيساً له حتى 1968 إلى تدريس الفن وعلم الاجتماع، فقد أتى بمَن يدرّس الفن وأتى بعلي الوردي لتدريس علم الاجتماع، على اعتقاد منه أن العمارة لا تنفصل عن الفن ولا عن المجتمع، فلا بد للمعماري أن يكون ملمّا فنياً واجتماعياً، ويتعدى ذلك إلى الخط أيضاً.
كان لا يرغب بالانفصال عن البيئة ولا عن التراث، وفي الوقت نفسه يجيد مزج المعاصرة، فالذين لم يفهموا فكرته يعتقدون أنه ماضوي، بينما الحقيقة أنه لا يريد لمدن العالم أن تكون طرازا واحدا، لأن في ذلك موت لهويات وبيئات لا هوية واحدة قاتلة، وهؤلاء سمّوا أنفسهم بالحداثيين، لكنَّ أمثال مكية لم يكونوا خصماء للحداثة إلى هذه الدرجة، وكنت أسمع منه كثيراً عبارة: “حداثة لم تحدث”، ويقصد أن أولئك الحداثيين لم يحافظوا على البيئات المعمارية ولا يجيدون التعامل مع الحداثة، وهو في تصاميمه يأخذ الثلاثية “المكان والزمان والإنسان” بنظر الاعتبار.
يعطي محمد مكية، في تصاميمه المعمارية، مِن مساجد أو منازل أو دوائر، حقاً للطيور، لأن الفضاء مِن حقها والأشجار أوكارها، وقد شغل البناء ذلك الفضاء، فكيف ستعيش؟ إضافة إلى ما تضفيه على المكان مِن ألفة وجمال، وقد نظرتُ ذلك في مسجد الدولة بالكويت ومسجد السلطان قابوس بمسقط ووجدت تلك الأوكار في مداخل البناء.
قد يحدثك المعماري محمد مكية لساعات عن أمانيه وتطلعاته، وذلك لكثرة ما لم يستطع تنفيذه منها، بحكم الأوضاع الاستثنائية التي عاشها ويعيشها العراق، وظل معمارياً صرفاً لم تشكله ولا تستهويه عقيدة سياسية ولا دينية، ولا يعرف طريقاً إلى الخلافات الاجتماعية بحكم السياسة أو الدين أو المذهب، فقد عاش طفولته وصباه وشبابه بين محلات مختلطة، مِن إسلام ويهود ومسيح وكرد وعرب وتركمان، ليس مكية فقط ورث هذا الإحساس إنّما كان جيلاً كاملاً تحلى بالوطنية على أساس الوطن للجميع، وكان حينها يدركون أن بغداد لا تكون إلا باختلاطها الاجتماعي.
ديوان الكوفة الثقافي
مِن المحطات المهمة في حياة مكية، وفي الثلاثين عاماً الأخيرة مِن حياته، التي قضاها بلندن، أنه أسس مركزاً ثقافياً، جاء مرفقاً في بداية الأمر مع مكتبه المعماري، وبعد تصفية المكتب، والذي ظل نادماً عليه كثيراً، حسب ما كنت أسمع منه، تفرغ كليّة لديوان الكوفة الثقافي، وسط لندن، وقد اُفتتح 1986 وظل مواظباً على تقديم برنامجه الثقافي الأسبوعي حتى 2006، بعد أن بلغ صاحبه من العمر عتيا.
عشرون عاماً زمن ليس بالقصير، ولا بد أن يترك بصماته في ذكريات رواد المكان، والمساهمين في محاضراته ومعارضه الفنية وندواته وأمسياته الشعرية. تعارف الكثيرون من الغرباء في أروقته، وكثيراً ما قادت تلك اللقاءات إلى فعل ثقافي واجتماعي، ومشاريع مؤسسات ومشتركات عاشت ردحاً من الزمن.
تعارفت في رواق ديوان الكوفة وجوه واجتمعت أمزجة من مختلف البشر والمشارب والجغرافيا، على هامش: ندوة ثقافية أدبية، أمسية شعرية، معرض تشكيلي، موسيقى هندية، مدائح صوفية باكستانية أو تركية، أمسية من تراث شمال أفريقيا، أنغام عربية. نشاطات كثيرة أحياها فنانون كانوا كباراً ببلدانهم وبين شعوبهم، وما إن تصدح أصواتهم ونغمات آلاتهم إلا ويتيقن السامع أنهم كذلك.
تراث ضخم وإبداع أضخم تجده يختبئ تحت العمامة الهندوسية أو السيخية، ووراء الثياب الباكستانية المحلية. وكم حصل من تواصل بين المبدعين: قارئ مقام عراقي ينشد إلى مغنٍ هندي، ويتم التعارف عبر تبادل خواطر العزف، وتاريخ الغناء، من دون الحاجة إلى اللغة.
كان ديوان الكوفة بحق دار ندوة للمثقفين العرب والعراقيين ككل، ولكثرة من الشرقيين الآخرين، ويوم الأربعاء يوم ترتيب المواعيد والجلسات ما بعد المحاضرة أو الندوة أو افتتاح المعرض. وربما اختيار هذا اليوم من أيام الأسبوع له صلة بمجلس قديم كان يُعقد بمحلة صبابيغ الآل، مسقط رأس صاحب الديوان محمد مكية. كان يعقد المجلس كل مساء أربعاء الشخصية البغدادية الوطنية المعروفة جعفر أبو التمن (ت 1945). كانت ندوات الديوان محط اهتمام الصحافة والإعلام العربي والبريطاني.
كانت الآراء تسمع بإصغاء، ويُردّ عليها بهدوء، ومع ذلك لم تخل الساحة من المشاغبين، الذين لا يكررون فعلتهم بعد مهاجمة نظرات ووشوشات الجمهور ضدهم. هناك نفر تخصص برمي الأسئلة، غير الموزونة، والتعقيبات السائبة، إلا أنهم مع مرور الزمن أصبحوا مادة تندر، واستهجان، وربما ترك أغلب الجمهور القاعة حين يطلب أحدهم الحديث.
جمهور اختلق لنفسه نظاماً وضوابط خاصة في الحفاظ على حضور ندوة مساء الأربعاء. فليس لدى ديوان الكوفة نظام خاص أو رجال حماية: الأبواب مفتوحة، والدعوات عامة، ليس من حق أحد منع أحد. كان يوم الأربعاء يوماً مملوءاً عند محمد مكية، ينتظره بفارغ الصبر، ففيه تعقد الندوة، ويلتقي بالنَّاس، وظل حريصاً على رعاية أيّ محاضرة أو نشاط، ولم يكن يحسب أنه في يوم الأربعاء سيوارى الثرى (22 تموز 2015).
نعم عاش مكية قرناً وعاماً، وخلالها ترك أثراً في النفوس بأخلاقه وفكره وفي الأمكنة بتصاميمه، لهذا يكون فقده أكثر ألماً وحزناً للذين عرفوه وعاشروه. رحل شيخ المعماريين وآخر ما سمعته منه ما الجديد، وكالعادة أجيبه ببيت محمد مهدي الجواهري “وقائلةٍ أما لك مِن جديدٍ/أقول لها القديم هو الجديد”. تصوروا ابن المئة يسأل ما الجديد، وليس بالعراق لا قديم قدر مكية الحفاظ عليه ولا جديد يفخر به العرب.
*عن موقع صوت العراق