اسماعيل ابراهيم عبد : مؤثثات الرائي في تراتيل العكاز الأخير*

ismaeil ibrahim 3بمجموعته ” تراتيل العكاز الأخير ” تنمو من عناصر البيئة أربعة , تديم القص وتؤثث عقلانيته بشيء من العفوية , تلك هي الأماكن والأصوات والروائح والدخان , يُتم السرد , من خلالها , تنمية حوادث القص بأن تندمج هذه العناصر مع بعضها لتؤلف عنصرا خامسا هو القدرية . وبالقدرية المصاغة يصبح للعكاز تراتيل , بل قل أناشيد , ترقق اللغة وتركّب النغم , وتراقب السكون والحركة , فينخلق الكائن الرقيب ” الرائي ” , الضمير الفردي والجمعي , كسلطة للقص والروي والمروية .. لسوف تتوسع هذه المنظومة لتتحصن بمستشعرات جديدة كاللون والضوء والظل .. لعل قصة ” دخان المظلة ” هي القصة الأكثر إحتفاء بهذه المنظومة التأثيثية , إضافة الى تمتعها بميزتين هما / ـ عدم تأثرها بالثيمة المجملة للقص , ثيمة الحرب ومابعدها .. ـ الميزة الثانية أن القصة كلها تنتمي الى السرد الذاتي , فهي حوار داخلي يقوم برويه مراقب رائي , يقسّم ذاته الى منشطرات عدة . منظومة السرد هذه غير منضبطة بمحددات مسبقة , وما أشير إليه هو نظام لما بعد الإنشاء .. لنبدأ بالموثثات الأساسية , ثم الثانوية , ثم الثالثوية . ثم تجتمع كلياً في مؤثث فكري فني هو القدرية . المؤثثات الأساسية هي موجودات مادية ثلاثة تشمل الأماكن والدخان والغبار .. الأماكن : يتشكل المكان بثلاثة آليات هي , الثابتة والمتحركة والمفترضة . الأماكن الثابتة / هي ساحة الميدان والمقهى والطاولة والكرسي , لها دوران , الأول تأطيري إذ أن المكان حاضن مباشر لمكوناته من موجودات مادية ومعنوية , والدور الثاني إنمائي , أي يسهم في إنماء الأحداث وإحتواء حركتها , ومصاحبة حيويتها من البدء حتى المنتهى . تتعاضد وظائف النوعين لأداء المهمات الآتية :ـ 1ـ تفريغ المحتوى الذهني من صفته التذكرية الى هيأة شبه واقعية عن طريق الروي . 2ـ تهيء أرضية متسعة تتوسع وتضيق بحسب موجهات مقاصد الراوي . 3ـ الإسهام المباشر بتوضيح الملامح العامة للشخوص والأفكار على درجة واحدة من الترتيب الرتبي للسرد . 4ـ إقحام الأحداث في مواجهات التصادم الفعّال لمحركات السرد البيئية بجعلها مضفورة معاً بحسب رؤى مخمّنة من قِبل القاريء . 5ـ الأماكن الثابتة لها أهمية كبرى في فتح الدلالة التأريخية على مجمل الحركة الفردية والجماعية , السياسية والإجتماعية . الأماكن المتحركة / يترتب على نمو السرد وجود حركة مكانية تتغير يموجب تغير الأحداث وتغير زاوية الرؤية , وفي قصة ” دخان المظلة ” يتمثل ذلك بمكانين هما الحافلة وأماكن نزول المطر (الشوارع). وهذان العاملان إمتازا بكونهما أكثر الأماكن قبولاً للتطور الحدثي , فالقصة تستعاد ” بأهم أحداثها ” داخل الطابق الثاني , في الكرسيين الأولين , للحافلة المتحركة , والمكان mohamad alwan 8الثاني هو الساحة التي يتحرك تحتها وفوقها الرائي البطل , الشخص الوحيد في الفعل والحركة والروي . بمعنى أن المهمات السابقة لم تستقل عن مهمات الأماكن المتحركة , والحق أن الأماكن المتحركة هي الخالقة لتلك المهمات , ومع هذا فهناك وظيفتان مميزتان مضافتان لهما هما : ـ تركيب الأحداث وضفرها بمحور روي متسق الأجزاء متناسق العناصر . ـ إكمال الطاقة الرتبية وتبيينها , بإعطاء الراكبين الدرجة الفُضْلى من مساحة السرد لأجل الإشادة بالحافلة التي تتنقل بالراكبين ” زمنياً ” بين تأريخين مختلفين . الأماكن الإفتراضية / هما مكانان في موضع واحد , الأول مثلث إنتظار الحافلة , والثاني هو ذات المثلث لكنه الآن مكب كبير للنفايات .. ولهذه المنظومة هدفان , الأول , كون المثلث مكان جرت فيه أحداث ساسية صاخبة من تأريخ البلد , والهدف الثاني الإشارة الى أن الذكريات والمواقف الفردية ما هي إلّا نفايات الأحداث السابقة . من عناصرها : الدخان , مؤثث مادي جيء به لتعتيم الرؤى والرؤية . الغبار , مؤثث جيء به لأداء مهمة تأشير حالة الجدب العاطفي بعدّه من مظاهر الموت وتغير المصائر نحو حتوفها المقررة سلفا .. وفي القصة يكون الغبار مؤَهِلا للبطل لأجل أن يبث حادثة الموت لفتاته , الحبيبة , الزوجة , ذات المصير المجهول , كجزء من حالة التعتيم التي يؤديها الدخان ثم يكملها الغبار .. المؤثثات الثانوية تقتصر على اللون والضوء والظل . من الناحية الفيزيائية , اللون والضوء والظل جميعاً أشعة يتعلق فعلها بالإبصار المباشر , فاللون الأبيض ضوء واللون الأسود ظل , بمعنى أن الضوء والظل هما لونان , لذا سنعاملهما على أساس أنهما أبيض وأسود …. هذه القصة إحتفت باللون الى الحد الذي يصيّرها قصة مخصصة للّون .. لقد وردت كلمات اللون ومعناه في القصة حوالي (82) كلمة , وأدت الوظائف الآتية : ـ تأكيد دلالة التغير الذوقي عند التحدث مع الذات أو مجادلتها فكرياً . ـ الإشادة بالتغيير النفسي الذي يستجلبه التغير اللوني . ـ التعبير عن التغير العُمْري للبطل من خلال ألوان الحفر على المنضدة في المقهى , وعلى الأرصفة وفي الشوارع , والتشوهات على الوجوه البشرية . ـ باللون يشار الى تغير الأماكن وتغير موضوعات السرد معها . ـ التعبير عن حالات الذهان التي تتلبس بطل القصة . المؤثثات الثالثوية تتضمن , الأصوات , والروائح . هذه المؤثثات مندغمة بالفعل الحدثي من طرفه البعيد , إنها تقارب عمل الديكور والخلفية للصورة الحدثية بطريقة تعيين المفردات الإسمية للمصاغة الجملية . إنها معاً , حضورها , يتصدر مسبباتها , أي أن قيمة الصوت تتأتى من قيمة قائله أو ناقله وقيمة الروائح من قيمة متشممها والمشير إليها .. وفي قصة دخان المظلة يبرز الصوت والرائحة من خلال كتمانهما .. فالرجل الراوي الرائي يتحدث مع نفسه بإشارات ونادراً ما يشرك شخوصاً وموجودات محيطه معه .. شبيه البطل , المنشطر عنه , هو الآخر لا يتحدث بصور إنما يهمس في الأذن .. فالصوت المكتوم والرائحة المتصورة يظهران بطريقة الروي , أي بطريقة الكتابة , مما يعني أن لا صوت في القصة ولا رائحة . الصوت والرائحة , في هذه الحالة , جدال نفسي بين ذاتين متشابكتين للبطل . وفي هذا تكمن مسألتين هما , أن البطل هو الذي يضع مستوى الجدل الفكري والفني للقص , والثانية , أن البطل هو الذي يؤشر , قولياً , أصوات البيئة المحيطة به وروائحها , ينتقي منها بحسب حالته , ما يريد مهملاً الأصوات والروائح الأُخرى التي قد تكون أعلى تأثيراً من غيرها , بمعنى أن البطل يكمُّ أفواه كم هائل من الأصوات والروائح لصالح الصوت والرائحة اللذين يكتب عنهما .. مهمة الأصوات والروائح في هذه القصة تتعدى قيمة التعبير الى قيمة التفكير , أي أنهما ديكور يحفز على التفكير المُخَطِط للحركة الحدثية ولمحيطها , المبرمج ” المنظم ” لمتجهاتها الإستشرافية المتواصلة من بدء التدوين حتى ضربة kh mohammad alwan 5الجدل الأخيرة ” قمة دراما المواقف ” , مسوغة صنفين للحركة الدرامية هما , (صوت الاصطدامات , صوت الإنسحاقات , صوت الهبوط) , ثم (روائح الأشياء الفاسدة , روائح النفايات , روائح الأجساد البشرية ) بالشكل المادي والرمزي . للأصوات والروائح وظيفة سردية خاصة , تلك هي التقريب الذهني المُقْنِع بين المادي والمتخيل بجعل الواقع القصصي شبيه بالواقع المعاش , بها ” الروائح والأصوات ” يتحين الجو (الفضاء السردي) ليضع مرتسم حالة مقنعة روائيا وفكريا , لكأنما القص حياة حقيقية متحركة عبر عشر سنين منبعثة بلحظة إستذكار وامضة ! القدرية الملفت للنظر أن القصة المنوَّه عنها أخذت من الوقائع المُسْتَذْكَرَة مادة مشادة من ركائز ذات دالالات منطقية ونفسية تبارك الإتجاه التلقائي لحدوث الأفعال دونما تدخل مباشر , ودونما تداخل منفر كقدرية صائغة لمجمل الحوادث والأفعال . هي إذاً اهاب أو ثياب عامة خاصة تفادت الغور في فلسفة الوجود ووضعته بإزاء متعة خالصة يثيرها ظهورها المباشر , ثم أن هذا الوجود وافق تدفق الوقائع مثل تدفق حبيبات المطر , وكأن البطل وضع في ذهاله الحضوري بطلين عالميين هما بطل قصة ” تحت المظلة لنجيب محفوظ , وبطل رواية همنغواي في , ماتزال الشمس تشرق” حيث أن المطر يخبيء بهطوله أملاً أو حزناً قادمين .. أضاف القاص محمد علوان جبر قدريته الى البطلين القدريين المذكورين بيئة مجسدة ليملأ الفراغ العاطفي للبطل الذي عاد بعد عشر سنين ليجد الخراب الروحي والمادي منتشراً على حفر الشوارع وألوان الوجوه , وإنثلام الجمال عند كل شيء .. وكأن للحروب يد أزلية للتدمير اللاحق .. كأن للحروب قدرة قاهرة وقدرية لتفسيخ الأرواح والماديات كلها بفعل وحشي يبدأه الموت ثم ينيه الخراب ! المقطع الأتي سيلخص منطلقاتنا الإفتراضية تقريباً فلنتابعه / [ كنتُ أتمنى عليَكَ أن ترتدي البدلة الزرقاء والقميص الزهري وربطة العنق البنفسجية ذاتها التي شهدتْ ليلة زواجكما .
كنتُ موقناً بأني إرتديتُ صباحا البدلة الزرقاء ذاتها قبل أن أقرر الإقتراب منها , أن أعيش إقترابي من صورة رحلتي الإستكشافية في ساحة الميدان .. مستعيداً ما إستطعتُ صورة مثلثٍ صغيرٍ يتوسطُ مقترباتِ الباصات المغادرة والعائدة .. حيث بدأتْ علاقتنا أول مرة , لكني وأنا أحدق في المرآة الناصعة التي توسطتْ محل الخردة الذي توقفنا قربه , رأيتُ نفسي أرتدي ذات البلوزة الرصاصية المتسخة , وبلحية رمادية يجتمع فيها اللونان الرصاصي والاسود .. في حين كنتُ موقناً أني حلقتُ لحيتي صباحاً وبموسى جديدة … أدرت وجهي ناحية الرجل الغامض الذي رافقني طوال الساعات الماضية , لم أجد له أثراً.. لكني كنت أسمع همسا في أذني
أعرف أن الأمر كبير عليك أن تبقى وحيدا !!]( )

اسماعيل ابراهيم عبد

* دراسة نقدية لقصة دخان المظلة , من مجموعة قصص , تراتيل العكاز الأخير , محمد علوان جبر , دار ومكتبة عدنان , 2015 , بغداد , العراق .
1-تراتيل العكاز الأخير , قصص , محمد علوان جبر , 2015 , ص63

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *