لنهتدي قليلاً ببعض المقولات .. أ ـ المكانية قيمة / لعل الفرض الأول للمكانية على وفق المنظور الروائي هو كون المكان المأوى الصالح للدراسة: ” أن نكوص الروح يمتلك ـ برأي جاستون باشلار ـ صور المأوى وأكثر المآوي تعاسة هو الركن المنعزل , والذي يستحق أن ندرسه . إنسحب الإنسان الى ركنه الذي هو ضحل القدم , ولكن رغم ضحالته يحوي صوراً عديدة … ذات سايكلوجية بدائية . ففي بعض الأحيان , كلما كانت الصورة أكثر بساطة , إتسع الحلم “( 1) . المبدأ الذي يفيدنا في القول أعلاه كون المكان له خمس صفات هي : ـ المكان هو السكن (المأوى) . ـ المأوى هو ركن لملاذات الروح الناكصة . ـ المكان إطار منعزل للتعاسة . ـ الركن ضحل وبدائي . ـ المكان الضحل والبدائي سايكلوجية تعبر عن صور بسيطة متسعة الحلم . في المقطع الآتي سنرى كيف يصير المكان قيمة مكانية دالة على العزلة الموسِّمة لكل تلك المباديء . [ تحتفظ هيلين في غرفتها , فوق منضدة صغيرة بصورة للسيدة العذراء في إطار فضي , وبجانبها وضعت أيضا , نسخة من الكتاب المقدس , الإنجيل , وفوق الجدار الأبيض علّقت روزنامة أُهديت إليها من الكنيسة السريانية , فيها تواريخ كافة التذكارات الدينية التي تقيمها تلك الكنيسة على مدار السنة . وقد أشرّت هيلين على بعض التواريخ بالقلم الجاف … ](2 ) ـ إن الفهم الأولي بالنسبة للقاريء هو أن هذه الغرفة هي مسكن ككل المساكن وهو على أفقر مايكون من الأدوات المادية … ـ وإذا ما عرفنا أن الغرفة في مشفى للمجانين وهي غرفة منزوية , كأنما هي خارج دائرة الإهتمام البشري لسوف نعي مقدار العزلة التي تتأطر بها هيلين ومقدار الخراب الروحي الذي أوصلها الى هذا الركن من الاماكن . المكانية هنا ليست للسكن الطبيعي , إنما قيمة لسكن من نوع خاص , يعطيها الفضاء النصي للموجودات المادية , فالعزلة المكانية للروح المخرّبة قيمة أولاً, ثم مأوى حِمائياً ثانياً . ـ بذات الحال سيكون المكان المنعزل شكلاً للتعاسة يؤطرها بأُطر صورة العذراء والكتاب المقدس والروزنامة الخاصة بالتذكارات الدينية . التجريد أعلاه هو شكل مادي بدائي لا يحتفظ بأدنى مؤهلات الحضارة الإنسانية السوية . المرضى مجانين وثانيها أنهم (مع هيلين) خارج الإهتمام البشري , ضحل في موجوداته وسلوك أفراده , وغير مؤهل لأيما فعل مناسب فهو شبه فطري وقريبا من البدائية . ـ النص على بساطته يوحي بالصور المتعددة لثيمة النص منها مثلاً / + الصورة الأولى : إمرأة خارجة عن إرادة الإسرة تريد الإبتعاد عن كل ما يذكرها باسرتها التي لاتتلائم مع ماتريد . إتخذت من العمل وبالغرفة تلك مكاناً للنفي الطوعي . + الصورة الثانية : أن المكان والأدوات المكيفة للسكن فيه هي ملجأ إضطراري للتخلص من إضطهاد سياسي أو عنصري ما , فالمكان قيمة خلاص من الإضطهاد . + الصورة الثالثة : أن المكان والمرأة متخصصان بنوع معين من المعرفة الطبية لا توجد إلّا فيه على الرغم من كونه مكاناً يُتْعب الأعصاب ويعتدي على راحة النفس وبالتالي فهو (مكان للخراب والإنهيار في المستقبل ) . + الصورة الرابعة : أن العزلة مكانية عبادية للتطهر ـ بالعمل المضني ـ من ذنوب الطيش الشبابي أو المغامرات العاطفية , أو فقدان العذرية بالإنحراف الجنسي . + الصورة الخامسة : المكان ليس سوى ملاذ لجوع موجوع بالاماني الضائعة , وهو فرصة لإقتناص زوج ! + الصورة السادسة : المكانية قد تكون صورة للتستر على تنظيم سري لمقاومة الدولة المُرَوِّعة للناس , تقدم البطلة خدمات بعكس الغرض الذي وظفوها لأجله . ……… الى غير ذلك من الصور ! ب ـ المكانية منظور للعمق الوجداني / لنبتعد قليلاً عن المستوى السطحي الذي قدمناه … لنستحصل بعض المسوغات الجمالية المكانية المترتبة على مبدأ الإنشاء الروائي … لنتابع / [ عاد كاميران ليلتصق بجسدي من الخلف وهو يلف إحدى يديه حول بطني ويكرر جملة ـ بصوت مرتعش ـ أنت جميلة .. هيكا نوشي . تنمل جسدي , تخدر , فيما كان هو يحاول إغرائي للبقاء على هذا الوضع مشيراً بيده الأُخرى الى الجبال التي تحيط بمدينة دهوك التي بدت مدينة لامرئية , فيما كان مشهد الجبال يبدو ساحراً وهو يحجب صفحة السماء الباهتة الضوء . إطمأن كاميران لإستسلامي وسكوني , فقام بالخطوة التالية , مد كفه نحو صدري , تلمس حلمتي , فإزداد جسدي تنملاً وخدراً , لا خبرة عندي في هذا الشأن , لكنني أحببته , ومازلت أذكره على الرغم من أنه حدث في بداية العام 1989. مضى على ذلك أكثر من عقد من الزمن , لكنني مازلت أعتبره من أجمل المواقف العاطفية التي لامست حياتي ….. هاجر كاميران وتزوج من فتاة كردية هاجرت عائلتها هناك … هاجر لكنه ترك في نفسي شعوراً بالتسامي لم يتكرر في حياتي ] ( 3) . يتحمل المشهد أن يكون تأليفاً فكرياً وجدانياً لحالات تخص التذكر جسدياً وعاطفياً نجمل احالاتها بالتمظهرات الآتية : الخطوة الأولى / ـ أول خطوة للتماس الجسدي تبدأ بحركة ( عاد كاميران ) والعودة هنا بالمشي وتكرار فعل (التحرش) , فالمكان حركة حقيقية لكنها تشبه التجريد اللفظي , أي أن العودة خطوة إنتقالية للقدمين واليدين والنوايا للفتى والفتاة . + ماديات الفعل الإرادي هي , الفتى المرتعش والفتاة اللامبالية , الجسدان الملتصقان , البطن . + الموجودات اللامادية هي (حركة الفتى , سكون الفتاة , الصوت المرتعش , جملة أنتِ جملية هيكا نوشي . + هيئات الحالات الرئيسة ( تنمل جسد الفتاة , محاولة الإغراء , إشارة اليد نحو جبال دهوك . + الجماليات المباشرة تتجسد بالألفاظ (دهوك مدينة لامرئية , سحر منظر الجبال , حجب الجبال للسماء باهتة الضياء) … تلك هي جماليات الخطوة الأُولى . ـ الخطوة الثانية تبدأ بإطمئنان كاميران وتحرك إرادة المداعبة لديه . تنتهي الخطوة بالتأريخ السنوي 1989. + الإطمئنان والإستسلام والسكون , حالات هلامية لفحوى الخلوة المكانية (العزلة) , بما يعني , وجود خليط يسبق التشكل المادي ويلاصقه أيضاً , كسمة للهلامية المكانية , وهذا يميز حالة الهيمنة للقيمة المكانية أساساً . + الماديات متكررة لاتتعدى (الكف , الصدر , الحلمة) . + هيئات الحالات الرئيسة (إمتداد الكف , تلمس الحلمة , التنمل والتخدر , حب الفتاة للمس , التذكر , مضي الوقت ) . + المظاهر الجمالية المباشرة تتجسد في ( إزدياد التنمل والتخدر , قلّة خبرة الفتاة بشأن المداعبة الجنسية ) . تلك هي جماليات الخطوة الثانية . ـ الخطوة الثالثة تبدأ بحرية تفكير الفتاة هيكا نوشي بكاميران , وتنت
هي بالتسامي الحياتي للفتاة هيكا نوشي . + ماديات الفعل الإرادي ( لا توجد ) . + الموجودات اللامادية هي ( مضي أكثر من عقد من الزمن , الإطمئنان والسكون , تمتع الفتاة بموقف المداعبة كأجمل المواقف العاطفية في حياتها , هجرة كاميران وزواجه في الغربة ) . + هيئات الحالات الرئيسة (ملامسة الفتى لأجمل متع حياة الفتاة , الأسف المبطن للكلام المعني بزواج كاميران ). + جمالية الصوغ المباشر تحتويه جملة واحدة هي (هاجر لكنه ترك في نفسي شعوراً بالتسامي لم يتكرر في حياتي ) . تلك هي جماليات الخطوة الثالثة . في الجمع بين الخطوات تبرز لدينا نتيجة مفادها (أن ليس في المشهد حادث مهم , لكن اللغة تنصرف الى أن تكون بسيطة معبرة عن مواقف عديدة مُعاشة بين الناس , لكن التعبير عنها متخفٍ بالتوريات , والكاتب جاء الى الجمالية اللغوية ليجعلها بديلة عن الحوادث الكبيرة , صاغ أفعالها كأنما ليتركها أن تبث القول بعفوية تلائم عفوية المتذوق أي ما كانت ثقافته . ومن مسوغات العمل هذا أن يكون قريباً من لغة الإستعمال اليومي , ومختلفاً عنها بقصدية الفواعل والأفعال , وسردية الروي بالقص المكاني النفسي المتعدد المناظير , كتقنية مكانية متضامنة الأداء , بمعنى أن بلاغة السرد هي بلاغة إستثمار العناصر السردية لقوى النفس الوثابة التائقة الى السمو في العلاقات الإنسانية , كما أنه لم يُسرف في محيرات التأويل . لعل أهم ما في هذه الخطوات , هو كونها رؤية للعمق الوجداني الذي ينسرب في طيات القول المنصص أعلاه . ج ـ المكانية منطق ثلاثي المنطق الذي هو أداة للتحصيل المعرفي قد يأخذ ثلاثة طبقات في طبيعته الناشدة لوضع الأساس البنائي للروي , وهذه الأطراف تتضامن مع بعضها لتقيم الدليل المنطقي المهيمن على فن الصياغة , مثلما هو شائع في التأويل والتداول الأدبي حالياً .. وأن الإستعمال اللغوي كغايات دمج المنطق بالهدف أصبح فلسفة ودلالة وحوار فكري , أي أن البحث في الحجاج وتداول الأثر هو ” إستجابة لنظام منطقي قابل للتحليل حسب منظورات ثلاثة كبرى : منطقي ولغوي ومحادثي ” ( 4).. تلك هي محتويات المكانية التقليدية من زاوية المنظور الروائي , ولم تتطور زوايا النظر , من حيث المنطق كثيراً .. إذاً دراسة المكان ستأخذ تلك الغايات لا لكونها مبرراً للتأويل إنما كونها زوايا للمنظور النقدي بالدرجة الأساس . * منظور الإتجاه الفلسفي للمكانية الفلسفة كمنظومة آيدلوجية من موضوعات ستظل مرهونة بوجهة نظر الكاتب كنص ووجهة نظر المتابع كإحتمالات تأويلية , وكثيراً ما تتجه الغايات نحو فعائل نفسية … لننظر / [ في غرفته الخاصة , الملحقة بالقاووش الأحمر , وهي غرفة صغيرة معتمة , لا أثاث فيها سوى منضدة وكرسي , ليست مخصصة لتكون مكتباً أو ما أشبه , بل هي غرفة للتحقيق تضم أجهزة حديثة مستوردة من ألمانيا لتسهيل عمل المحققين , لا يستغرق التحقيق سوى ساعة واحدة , بعدها يغادر النقيب سامح المستشفى الى دائرة الأمن , فيما يظل المتهم في باحة القاووش الأحمر , إذا ما بقي على قيد الحياة , وإن مات فإن حفرة ستأويه في ساحة المستشفى الى الأبد . رائحة الغرفة زنخة على الدوام , تختزن غالباً , روائح البول والغائط , مخلفات الضحايا أثناء التعذيب] ( 5) .. لو حاولنا تقصي البُغى الفلسفية للمشهد لدلنا مباشرة على الآتي / 1ـ أن المكان هو غرفة تعذيب المعارضين لحكومة النظام السياسي . 2ـ أن النظام السياسي غير معني بمصلحة الشعب . 3ـ أن السلطة مستبدة . 4ـ أن أدوات التعذيب هي الأحدث من بين جميع متطلبات العمل الحكومي . 5ـ أن المستشفى ملحق قسراً لتسهيل مهمة الحكومة في السيطرة المطلقة على المواطن . هذه شواهد بسيطة وهي ملاصقة لفلسفة المكان المنعزل .. لكن الفلسفة الأبعد من ذلك تقول ما يضمره القص , نخمنه بالآتي / 1ـ المستشفى سجن للوعاة من كوادر البلد الوطنيين المتخصصين أو العلماء الممثلين للمستقبل الحضاري للبلد . 2ـ أن الإيغال بالفردية والإضطهاد (التعذيب) يعني إقتراب أجل الحكومة . 3ـ قوى التعذيب هي ذاتها قوى الإرهاب . 4ـ أن الخواء الحكومي يعادل خواء موجودات المكان . 5ـ الرائحة لكل أماكن القساة وبكل أدوات قمعها ما هي إلّا رائحة الزنخ وفضلات الغائط . * المنظور الحواري المحادثي في مجمل الحوارات الفنية يستلزم الأمر قدراً من التحكم في مفاصل الحوار سواء كان ذلك في الجدال العقلي أو التبادل المعرفي , وهو , هو ذاته في الإستعمال اليومي الدارج في التفاهم القائم على أساس الإرسال والتقبل .. ترى هل للحوار من زمن ؟ الإجابة البديهية هي نعم , زمن الحوار هو المدة التي تأخذها الرسالة من المتكلم المخاطب حتى وصولها الى المتلقي الذي إختصته الرسالة بالفهم أو الرد . ترى هل هناك حوار وتحادث بين الأماكن , كما البشر , أو على الأقل هل بمقدور البشر من التحاور مع الأماكن ؟ في الواقع العملي هذا الفرض نوعاً من الهراء , لكنه ليس هذياناً وليس مستحيلاً , وفي المنطق الأدبي , هو حوار ممتع , وكلما زادت قدرة المتحاورين على الإفضاء بالأفكار كلما زادت جودة السبك والصوغ , ومن ثم زادت قوة الفعل الإنتاجي في التأثير . يرى ميشيل ريمون ” أن الفضاء ـ يقصد المجال المكاني ـ لا يُرى بالعين وحسب , وإنما هو وسط محمّل بالقيم التي لا شأن لها بذكر الأشكال والألوان … ونقلا عن روبير ريكات : أن للإنغلاق والإنفتاح معنى يتجاوز المنفعة الروائية “( 6) النظرة السريعة للقول الأول تستدعي الفروض الآتية : ـ إذا كانت الفضاءات ـ الأماكن ـ لا شأن لها بالأشكال والألوان فهي لا فائدة منها ولا موجب لوجودها , وهذا عكس الواقع الفني للكتابة الأدبية , الرواية تحديداً … إذاً هي ذات وظيفة فنية , ولا نرى غير الجدال التحاوري وظيفة صالحة لمثل هذا التَمَثُّل . ـ من أين تجيء القيم للفضاء المكاني ,أليس من التماس المفترض بين الكائن البشري وموجوداته , والتي حفظها له المكان , ألا يعني أن التحاور بين البشر والأشياء هو تجارب عملية متبادلة حول الذي يصلح ولا يصلح , وما هو صادق ونافع والآخر الكاذب غير المفيد . أيوجد حوار دون هذه القيم !؟ ـ كما أن الوسط الجامع بين الأطراف هو في تحاور وتجاذب , من الرفض الى القبول أو من القبول الى الرفض .. اليس هذه وسائط الخلط الجدالي وترقيق مجالات نفوذ طبقاته بعضها ببعض !؟ تلك هي مسوغات الجدال التحاوري بين الأماكن على الرغم من أنها جامدة وغير عاقلة .. في قول روبير ريكات منحى جديد , نراه منسجماً مع الإعتقاد بالتحاور بين البشر والأماكن . من الناحية التطبيقية تتطرق بعض مشاهد رواية (جثث بلا أسماء) الى نوع من التحاورات الجدالية .. لنتابع / [ لقد حل المساء وعم الظلام في فضاء الردهة رقم (4) , وقفت هناك , جالت ببصرها بين صف أسرة المرضى … كانت حزينة , حالتها النفسية مضطربة , … ليس لديها أدنى شعور بالخوف … كانت ترى أن كل شيء في الحياة يمضي بلا معنى . قررت أن تكسر رتابة اليوم فعزمت على المبيت في المستشفى هذه الليلة , في غرفتها القديمة .] بموجب فرضياتنا في أعلاه نرى أن التضامن بين الإشياء هو حوار صامت يؤلف المتجهات الآتية / ـ المساء والظلام والردهة 4 هو تبادل فلسفي للمكونات المكانية في توجهها بالزمن المؤقت , كون الموجودان ـ فنياً ـ شبه عاقلات . ـ الـ (هناك) والوقوف تبادل أحالي عبر عملية النظر , وهو تقنية عقلنة البيئة للحركة والسكون. ـ التماسس بين موجات الرؤية البصرية والأسرة هو جزء مكمل لما نراه جدال متعادل من حيث القوى الموجهة لهما . ـ اللاخوف والحياة واللامعنى وكسر الرتابة والإعتزام هي إرادات بشرية تقيم مبررها الجدالي على أساس إستجابة الموجودات (المكانية)المادية للمشاعر اللامادية في تبادل حواري منتظم من الناحية الفنية . ـ المبيت في الغرفة القديمة هو إشارة دالة على جميع ما حدث في هذه الغرفة من ماض حياتي ووظيفي , كأن الغرفة النديم المحاور للفتاة في حميم حساب الخسارات من الفعائل منذ الوجود في المكان وحتى آخر جزء من قيم الوجود الآنية . د ـ المكانية منظور دلالي لغوي الزاوية المنظور منها المعتمِدة على العلاقات الدلالية التي تتضمنها اللغة تكاد تتوسع لتشمل جزئيات الصوغ والمعنى , لكن لأجل الحصر وعدم التشتت سنكتفي بالآتي / × الدلالة الآيدلوجية : نقلاً عن د. سيزا قاسم في كتابها بناء الرواية الصادر في القاهرة عام 2004 عن دار مكتبة الأسرة / ” أن أوسبنسكي يعرف الآيدلوجية العامة أو وجهة النظر أساسية التقييمية التي تحكم العمل الأدبي بأنها : منظومة القيم العامة لرؤية العالم ذهنياً “( 7) تفسيرنا لهذا القول يتضمن المبدئين هما : ـ أن العمل الأدبي قيم منتظمة بوجهة نظر مسبقة . ـ أن الرؤية تكون جامعة بين الطبيعة المادية للعالم والصورة الذهنية المنقولة عنه . لنبين ذلك من خلال المشهد الآتي / [ كانت الأوامر التي تلقاها واضحة , إلقاء جثة أو أكثر في شوارع متفرقة من العاصمة بدلاً من دفنها في باحات مستشفى الشماعية . جثة تبدو وكأن صاحبها تعرض للغدر وهو يمشي في طريقه , على أن يتم الأمر قبل إنبلاج الفجر , حيث ستعلن السلطات في اليوم التالي وعبر وسائل إعلامها , خبراُ عن العثور على جثة مجهولة الهوية , ليظل الناس في حالة رعب ورهاب , فتقل حركتهم ويقبعون في جحورهم ] ( 8) آيدلوجية السلطة , وآيدلوجية المقاومة , والآيدلوجية الفنية . تلك هي مهيمنات المشهد (الفلسفية) الفكرية . + آيدلوجية السلطة : * العنف في تصدير الأوامر . * العنف في تنفيذ الأوامر . * القسوة الشديدة في إظهار عملية الترويع . * القوة المفرطة في تحجيم الضحايا . * السرية التي تخفي الأيادي المًصَدِّرَة للعنف والمُنَفِذة له . آيدلوجية المقاومة تتمثل في الآتي / * الصبر على قسوة السلطة . * محاولة زعزعة ثقة الناس بالقوة التي تتظاهر بها السلطة الحاكمة . * العمل على الحفاظ على قيم الخير التي تريد السلطة إلغاءها . * المشهد يرسل رسالته عن السلطة السابقة بهدف تنبيه المقاومة السابقة لئلا تقع في ذات الإغواء للحفاظ على المصالح المكتسبة بعد التغيير . * المشهد إحتجاج شديد ـ بطريقة روائية ـ على الممارسات اللاإنسانية في كل زمان ومكان ! الآيدلوجية الفنية تنحسر الى / ـ وضوح مظهري الدلالة الأفقية السطحية , والدلالة العمودية العمقية . ـ توفر المشهد على مشد للبناء المتتالي للسرد . ـ بروز المتجه الفكري (القسري ) للتقنية الروائية كحالة ضارة بالفعل الروائي . ـ القيام بتنحية الجهد الثقافي ليقتصر على المعالم البارزة بوضوحها ومُعايناتها المادية . ـ التوجيه اللامتنامي للعناصر السردية الذي خفض القوة البلاغية للسرد . × الدلالة النفسية : الدلالات النفسية تكاد أن تضع مقولاتها جسراً بين كل جملة وأخرى , لكن الطريف في بعضها هو أن قسماً منها يتوازى مع المتجه النفسي للجشتالت .. سأذكر بعضاً من ذلك على وفق المقول الآتي / ” الصورة في أي إدراك هي الشكل (الجشتالت) , وهي الكل الذي يبرز , وهي الشكل الذي ندرك , إما الخلفية فهي الأرضية غير المتمايزة التي تبرز فيها الصورة ” (9 ) . ولتسهيل الفهم يمكن تقسيم المقولة الى جزئيات على الرغم من أن الجشتالت نادراً ما يؤيد التجزئة . 1ـ الصورة إدراك كلي : يمكن فهم هذا المبدأ على الأساس البصري الذي يعطي للأشكال بُعداً علائقياً مباشراً , ودفعة واحدة .. 2ـ بروز الصورة بروز للشيء . 3ـ الخلفية هي الإدراك الملحق المكمّل . في الإشتغال العملي يمكننا أن نجرّب النص الآتي / [ لم يكن لديه وقت للإحتفاظ في ذاكرته بتضاريس وجه والدته … خلايا دماغه المعطوبة ماعادت بقادرة على إسترجاع إي من ذكرياته … لم يمرِّنْ خياله على الإحتفاظ بالصور الأثيرة. لم يكن لديه وقت : فقد باغتيه الحياة في وقت مبكر ودفنته تحت ركام مطالبها وواجباتها . هيلين الآن هي أُمه . هكذا يراها عقله المريض ] ( 10) . * الصور كلية الإدراك هي / ـ تضاريس وجه أُمه . ـ هلين الآن هي أُمه . ـ هكذا يراها . الصور الثلاث لا تحتاج تفسيراً ولا توطئة وليس فيها لواحق مضللة , لذا فهي تعطي لمظهرها شكل المعنى تماماُ , ودفعة واحدة . * الصورة = الشيء , تتمثل في / ـ فقدان الوقت = فقدان الذاكرة . ـ خلايا الدماغ المعطوبة = فقدان قدرة الإسترجاع . ـ العقل المريض = هلين الزوجة بهيلين الأُم . * خلفية الإدراك الملحق المكمل تعمِّدَهُ الصورُ الآتية / ـ لم يكن لديه وقت . ـ لم يمرّن خياله . ـ باغتته الحياة . من الناحية البصرية لعناصر العلائق النفسية يمكن تخطيط مظهر وجوهر الفعل النفسي بالإعتبار الآتي / ثلاثة خطوط مظهرية أُفقية , تساندها ثلاثة قوائم عمودية , على أرضية من ثلاثة متصلات علائقية , تعطي حالة كلية هي / جسدان , المريض والطبيبة مع المستشفى , يكونون الأفق البصري لموجود (الشكل) .. ثم ضروب شيئية مساندة متساوية تتعامد على المجسدات الثلاثة الأُول .. ثم تستقر الأبعاد المكونة للحالة على طبقة الخلفية للمكملات التجريدية (القيمية) .. يؤدون جميعاً الى النتيجة الكلية التي هي : المكان المنعزل جعل الصور شاحبة وإبصارها يبث الفقر الروحي والجسدي والزمني … هذه التوصلات قد تخالف النظرية الجشتالتية من حيث / ـ كون المتابعة أدبية قائمة على أن الأشكال المدروسة ليست سوى كلمات بينما في الجشتالت التقليدي تكون الحالة المدروسة بشراُ مرضى حقيقيين . ـ كذلك أن الفرض النقدي يأخذ مقطع منتقى من كل , وهو عكس ما تطبقه المدرسة الجشتاتية كونها تأخذ الكل لتتصل بالتفاصيل الجزئية . ـ المخالفة الثالثة , أن الكلمات مظهر معين كتابياً لا توحي بمجسدات يمكن إختبار صدق أو كذب النتائج فيها . * أن عملنا يعطي نموذجاً قد يجدد الآليات العامة للنظرية بطريقة نافعة محدِّثة . هـ ـ المكانية منظور مديني المدينة بالوصف الجغرافي الحديث هي : شوارع منتظمة , حدائق عامة , مواقع ترفيهية أسواق متقاربة , مساكن متناسقة الإمتداد , أمكنة خدمات , خدمات وإدارات ـ صحية وعلمية على الأكثر , قاطنون .. المجتمع المتمدن هو الذي يستثمر تلك المكونات لإشاعة الرقي والرفاهية الحضارية بين الناس , من حيت العمل والعلاقات والتفاهم المتبادل , حتى وإن إختلفت الأجناس والمستويات واللغات , أو اللهجات . على الوصف أعلاه تكوّن (مكانية )المدينة علائق تبادل متحرك بين المجتمع والموجودات الحضارية . قد تكون الموجودات الثقافية , المادية وغير المادية , هي الصانعة للهوية . والمؤكد أن الآداب والفنون والمعارف وجميع الطقوس والتقاليد هي مظاهر ثقافية سلوكية يتوجه بها السلوك العام لتصير وسيط لتبادل العلاقات المدينية للمثيولوجيا الحضارية . الناقد ياسين النصير يؤكد قولنا أعلاه , مضافاً إليه , الشيئية الخاصة بتأريخية المكانية .. يشير النصير الى التماهي بين الأمكنة وأرخنتها المثيولوجية / ” المكان شأنه شأن الإنسان لابد له من رحمية كونية تطبعه بخصوصيتها وتضمنه هويتها فليس المكان مكانا مجرداً من هوية ساكنيه وهذه الهوية هي التبادلية بينهما في صياغة اللغة المشتركة للقول . فثمة تركيبة بايلوجية يعرفها علماء طبقات الأرض ـ يقصد طبقات الأرضية الإجتماعية ـ تفرض حضورها على ساكنيها من البشر , وما لغة الأحاسيس والعادات ومثيولوجية العيش والجنس والطعام والسلوك إلّا مفردات من هذه البايلوجيا ـ الجيولوجية الخفية لكن المكان وإنسانه أو الإنسان ومكانه , علامان , أعني مكاننا العالمي نحمله جسداً وبقعة حتى لو كان نهير ” ( 11) .. على مستوى التشكل المديني , يمكن حصر المدينة مثيولوجياً , بكونها / ـ أرضية الفعل الحضاري . ـ مكان التبادل العلائقي للقيم الإجتماعية . ـ أنها مضمون للعمل والطقس والسلوك . ـ هي كذلك الحاضن أو الأرضية للغة القول . ـ أنها مجمع للصفات البايلوجية الكونية للبشر . ـ وأن حالها حال الإنسان الحامل لجسده أينما يذهب . تلك الصفات تعني أن المدينة قيمة ثقافية بإمتياز سواء كانت محتوية على مكونات لمؤسسات تعليمية , أم بدونها . على هدى هذا سنتواصل مع مدينة رواية (جثث بلا أسماء) . إنها المدينة التي تأوي أبطال الرواية , الطبيبة هيلين , والنقيب سامح , والمعلم علي السلمان , والمستخدمة مارلين وأخاها سرجون وأم زينة . هؤلاء , من الناحية المدينية , قد تطبعوا بمجتمع بغداد وثقافته وطقوس عمله وحياة لهوه تماماً, عدا إسترجاعات إعتراضية من باب التذكر والوفاء للأصل . أرى من أبسط الوسائط للوصول الى الخلفيات الثقافية هي متابعة الإنتماءات الإجتماعية والدينية للشخوص الأبطال . أبطال الرواية بحسب مراتبهم في المساحة السردية يتسلسلون بالشكل الآتي / هيلين : إسمها هيكا موشي يكنِّيها زوجها سامح قبل الزواج وبعده بإسم الدلال هيلين .. طبيبة تمريض , مسيحية من مسيحيي دهوك , سافر أهلها الى هولندة خوفاً من التصفيات الأثنية والعرقية التي تتبعها السلطة القائمة كسياسة للإنتقاء العرقي والطائفي , وهي لم تسافر لأجل التمسك بالوطن ومداواة مرضى الشماعية . سامح : شاب من الكوت , مسلم , تزوج هيلين بعد أن حولها الى الاسلام , أباه مخلص لحزب السلطة , إباه عضو فاعل في الدولة , توفي فداء للمباديء التي يحملها , عمل سامح في قوى الأمن الداخلي , مسؤول عن التحقيق مع المناوئين للسلطة , ينتزع الإعترافات منهم بالتعذيب ولو أدى ذلك الى فقدانهم لعقولهم أو أرواحهم , هو وعلي السلمان مسؤولان عن الجثث المرمية في الشوارع بلا أسماء . علي السلمان من الكوت , تخرج معلماً وطُرِدَ من التعليم لكونه أخاً لأحد الهاربين الى خارج البلاد , حيث تعاون مع أخيه الهارب , على توزيع بعض الإعانات الى أُسر كادحة , في فترة شبابه وأول تعيينه , إستدرجه سامح الى العمل معه بالإغراء والتهديد فصار فيما بعد سائق سيارة حمل الجثث المرمية في الشوارع . أم زينة : تعمل قوادة للمسؤولين وتساعدهم على قضاء أوقات هانئة ورخية في بيتها الواقع بمكان متطرف من مدينة بغداد , وقد يكون في الكمالية الشهيرة بإيوائها للغجر . كانت فتاة تسكن جارةً لعلي السلمان ولسامح , وكانا يعشقانها معاً , وهي تعشق علي السلمان لكنها في حياتها عملية . توصلت عن طريق الزواج والعلاقات العديدة الملتوية الى أن تجيء الى بغداد وتعمل بجسدها أولاً ثم , بأجساد الأُخريات فيما بعد , الى أن تحصل على مكانة القوادة الأثيرة والمؤثرة للسياسين المسؤولين ببغداد . مارلين وسرجون : مارلين أُخت سرجون , سرجون أخو مارلين , يعملان في الخدمات البيتية لسكان الحي المسيحي الذي يسكنه على السلمان وهيلين , الواقع قرب نهر دجلة بمقابل القصر الجمهوري . من الإستعراض أعلاه يتبين الآتي / 1ـ المكان حي مسيحي ببغداد يتآلف فيه الساكنون المسيحيون مع المسلم علي السلمان الى حد الذوبان الكلي لـ (علي) بالمجتمع المسيحي دونما أية مشاكل . 2ـ الأقليات المسيحية تتعلق بالوطن وتخلص له أكثر من المسؤولين المدعين بحرصهم على أمن وسعادة المواطنين . 3ـ سلطة الدولة هي سلطة الفرد الذي لايطيق وجود منافسين مطلقاً , ووجودهم يعني إما في الزنزانات أو نزلاء غير أسوياء في الشماعية . 4ـ ان الرواية تخلو من أية شخصية مثقفة , بالمعنى الأدبي , فلا شاعر ولا أديب ولا فنان فيها مطلقاً , وتلك إشارة الى أن السلطة صفتهم جسديا بالنفي أو الموت . 5ـ الثقافة الوحيدة المسموح بها هي الثقافة السياسية التي تمجِّد القائد الضرورة , الملهم الأوحد , وهذا مبرر للروائي لأن يهمل الطقوس والعادات والتقاليد والمهرجانات التي تتعلق بالحركة الفنية والمعرفية والمدينية التحضرية . لعل الشيء المهم في علاقة المدينة بالمكان هو حب جميع الساكنين , من السلطة ومن المواطنين لبغداد , على إختلاف طرائقهم في الحياة والعمل , والمعتقد ! أخيراً / أ ـ محتويات المشاهد تربط بين الزمان والمكان برباط روائي حكائي شبه تأريخي . ب ـ الاسلوب المبسط للقص والروي تقنية مقصودة لكون المواطن يعي تلك المرحلة وهو مايزال فيها . ج ـ المعاناة الكبيرة لمشاكل العراق سببها التفرقة العرقية والأثنية والدينية التي إتبعتها قوى التحكم السلطوي السابق . دـ فقر الرواية بالتعدد للشخوص تعني أن التركيبة النسيجية تركز على الأفكار والحوادث لا على المسميات وهو ما يجعل المكان محتوى واهٍ للأشياء . هـ ـ القيم المدينينة التي هي ذاتها القيم الثقافية وهي ذاتها التي تصنع مثيولوجيا المكان تكاد أن تغلّب لغة الموت على لغة الحياة عاكسة ثقافة الجمهور منذ عام 1963 حتى عام2015 وهي احالة على دلالة المستقبل المجهول للعراق .
هوامش :
[1] جماليات المكان , جاستون باشلار , ت. غالب هلسا , كتاب الأقلام , 1980, ص166, دار الجاحظ للنشر , بغداد [2] رواية جثث بلا أسماء , اسماعيل سكران ,2015 ط1 , دار ومكتبة عدنان , بغداد [3] رواية جثث بلا أسماء , اسماعيل سكران , مصدر سابق , ص14, ص15 [4]لسانيات الخطاب ـ الإسلوبية والتلفظ والتداولية , إعداد صابر الحباشة , 2010 , ص243, دار الحوار للنشر والتوزيع , سوريا [5] رواية جثث بلا أسماء , اسماعيل سكران , مصدر سابق , ص26 [6][7][8] الفضاء الروائي , مجموعة من الكتاب , إعداد وترجمة عبد الرحيم حُزَل , 2002, ص57 , أفريقيا الشرق , المغرب [9] بناء الرواية , د. سيزا قاسم , 2004, ص189 , مكتبة الأسرة , القاهرة . [10] رواية جثث بلا أسماء , اسماعيل سكران , مصدر سابق , ص40 .[11] رؤى وأفكار أدبية بين التراث والمعاصرة , د. نجاح كبة , 2015, ص144 , دار فضاءات , عمان , الأردن .
[12] رواية جثث بلا أسماء , اسماعيل سكران , مصدر سابق , ص161
[13] شحنات المكان , جدلية التشكل والتأثير , ياسين النصير , ط1 , 2011 , الشؤون الثقافية العامة , بغداد