باقر جاسم محمد: لو تهيأ لنا شيءٌ من صراحة عبد الستار ناصر وشجاعته؟ (ملف/5)

baker jasem mohamadإشارة :
رحل المبدع الكبير “عبد الستار ناصر” في الغربة ودُفن هناك .. ومرّت ذكراه شبه يتيمة بلا ذكرى .. وبلا احتفاء ومراجعة تليق بقامته الإبداعية الشامخة .. أسرة موقع الناقد العراقي تقدّم هذا الملف إحياء لذكرى عبد الستار ناصر واحتفاء بمنجزه الإبداعي الفذّ. وسيكون الملف مفتوحا على عادة الموقع . تحية للمبدع الكبير عبد الستار ناصر.

المقالة : 
والآن، هل رحل عبد الستار ناصر حقاً؟
تجيب السجلات الرسمية: «نعم»
وتجيب عقولنا: «نعم»
فهل انتهت حكايته.. وماذا تقول ضمائرنا؟
نقول: كلا، فمنذ أن ولد في محلة الطاطران، كان عبد الستار ناصر، ذلك الفتى الوسيم المسكون بهواجس إبداعية، نغمة عظيمة في لحن الحياة، فهو ما انفك يحدق فيها بعينين جميلتين تشبهان نبعين صافيين في نهار وجهه الذي تشع منه الطيبة. وكان ممتلئاً بالبساطة الآسرة، إذ على الرغم من كونه الفتى الأكثر وسامة بين أقرانه، فإنه ممن لم يركبه الغرور بوسامته الباذخة حد الترف، وفي الوقت نفسه، لم يلتفت كثيراً خوفاً من الماضي ومن صليب تاريخه الأسري، بل كان يعانق ذلك التاريخ بصدق منقطع النظير، فكان أن انعكس بعض من ذلك التاريخ الذاتي في قصصه ورواياته حين صار كاتباً له منزلته بين كتاب الستينيات من القرن العشرين. فكان يسرد بصراحته وصدقه المعروفين أطرافاً من تاريخه الأسري دون وجل أو تردد. وأعتقد أن أكثرنا، إن لم أقل جميعنا، كان يفتقر إلى شجاعة عبد الستار ناصر الآسرة في هذا المجال. ولو تهيأ لنا شيء من صراحته وشجاعته فربما كان دور المثقف العراقي قد تغير على نحو جذري. ولو كتبنا التاريخ النقدي للقصة العراقية فإن عبد الستار ناصر سيكون في مقدمة كتاب القصة الذين تتداخل في كثير من قصصهم العناصر السيرية الذاتية مع العناصر الحكائية المأخوذة من الحياة. ولعل كتابته لسيرته الذاتية في الأدب والحياة التي نشرها في مجلة الأقلام العراقية وفي مجلات ثقافية أخرى، بما تتميز به من صدق وحميميه، شاهد حي على ما أقول، وهي من أهم وجوه إبداعه كشفاً عن ملامحه النفسية والأخلاقية وعن قناعاته الفكرية والاجتماعية.
لا يعاني عبد الستار ناصر كثيراً في كتابة قصصه ورواياته ونصوصه المسرحية القصيرة، فهو يكتبها كمن يمتح من نبع متدفق لا كمن يمتح من بئر عميقة. وهو يحرص على أن تكون قصصه مسكونة بالهموم الإنسانية البسيطة بعيداً عن التعقيدات التقنية أو الأسلوبية حتى ليمكن القول أنه كان يكتب القصة بالسهولة التي يتنفس بها أو يقطع الشارع مشياً، أو يحدق في منظر أو في وجه امرأة جميلة، فهو قد ولد ليعيش الحياة بكل تفاصيلها السارة والمحزنة من جهة، ولينجز فعل السرد القصصي عن حياته وحياة الناس من حوله من جهة أخرى. وشيئاً فشيئاً تحولت القصة إلى واحدة من أهم الأسباب التي تمده بالرغبة بالبقاء ومواصلة الحياة والتحديق فيها بشبق الفتى العاشق، ذلك الشبق الذي لم تخفف السنون من غلوائه. فقد ظلت ينابيع عبد الستار ناصر الروحية تمور بحب الحياة حتى اللحظة الأخيرة.
في العراق، كنا نلتقي في دار الشؤون الثقافية أو في مقهى حسن عجمي، في البصرة أو الموصل أو أربيل، وفي خارج العراق التقينا في عمان، وفي مقهى السنترال، وكنا نتحاور، وفي أحيان كثيرة كنا نختلف، لكن عبد الستار ناصر كان يتواصل مع الجميع بروح من المودة والتسامح تثير الإعجاب، فما أن تجلس إليه حتى يحدثك، وهو منهمك في لعبة ما مع صديق آخر، عن آخر إصداراته، وأنه سوف ينتهي قريباً من العمل في قصة أو رواية. نعم، لقد كان بسيطاً، بل هو الغاية في البساطة، فلم يكن يحمل شيئاً من عجرفة المثقفين في عالمنا العربي الثالث الذي يرتد الآن ليكون عالماً عاشراً.
عبد الستار ناصر، الإنسان والمثقف والكاتب، ابن العراق؛ شهد تحولات البلاد وفجائعها واتساع رقعة آلامها. وفي أحيان كثيرة، امتلك شجاعة التصدي لذلك الانهيار القيمي الذي صاحب صعود الدكتاتورية، فكانت بعض نصوصه القصصية، مثل «سيدنا الخليفة» ذات البنية الفنية المحكمة، نوعاً من القصة المكرسة لنقد الواقع السياسي والاجتماعي في أواخر السبعينات من القرن العشرين، وكان ذلك في وقت انصرف فيه بعض القصاصين إلى تمجيد النظام بينما لاذ بعضهم بالصمت. وكان من عقابيل ذلك أن دخل عبد الستار ناصر السجن الانفرادي، وعاش فيه ظروفاً غاية في الصعوبة حدثني عنها قبل أكثر من عقدين حين كنا في القطار في طريقنا إلى البصرة. ولم يخرج من سجنه الرهيب إلا بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات. ولكن، لأنه ابن الثقافة العراقية الأصيل، فقد عاني أيضاً من الانكسارات التي مرت بالبلاد. وعلى خلاف كثير من الكتاب والمثقفين، فقد امتلك عبد الناصر ناصر شجاعة الاعتراف بتلك الانكسارات والاعتذار عنها مما ينم عن نفس نقية وضمير حي.
والآن، هل رحل عبد الستار ناصر حقاً؟
تجيب السجلات الرسمية: «نعم».
وتجيب عقولنا: «نعم».
«وأين كانت وفاته؟»
نقول: «بعيداً عن شواطئ دجلة التي عشقها و كرس حياته ليحكي عن أهلها».
ولكن ضمائرنا، نحن أصدقاؤه ومحبوه، تقول:
«لم يمت عبد الستار ناصر. فهو باقٍ ما بقيت قصة الإنسان والحياة»
* ناقد واكاديمي عراقي
النص عبارة عن كلمة تُليت نيابةً عنه في حفل أقيم في كندا لمناسبة أربعينية الروائي والقاص عبدالستار ناصر .

*عن صحيفة الصوت

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *