هي رواية الإحساس المفرط بالأشياء , حدسا لا لمساً … قرطبة مدينة مستعادة .. مدينة فاصلة بين مرحلتين , مرحلة الرخاء والجمال والرفاهية والحرية والعشق والعلم , لم يمر بها كاتب تأريخها الوجدي , سلام عبود … مدينة لمرحلة جديدة , منتهكة متراجعة في كل شيء , ترمز لكل خراب في الارض والنِعَم الربانية … مرحلة الخراب هي تلك التي إستعادها الروائي سلام عبود في ” يمامة , في الألفة والألاف والندامة ” ـ دارالحصاد , سوريا ,2001. * انها رواية تأخذ اوصالها المبتورة والملمومة من أوصال الجسد البشري الذي قدَّ من طينها وصخرها وعشبها ومائها وعيون نسائها ! هي رواية الحيز الموصوف , والمميز , والمرتب , بحسب بيئة تقارب بين الوجد والفكر والوهم والتعيين .. ترى أية مواضعات للفهم منغرسة في موصوفات ” يمامة , قرطبة “؟ نرى … أولا : االتركيب الوجدي شبه الحر للوصف ما يميز الرواية من هذا الجانب هو / 1ـ الرواية تختص بالوصف المركب متعدد الوحوه , أول هذه الوجوه هو المكان , ثم الزمان , ثم التأريخ الاجتماعي والسياسي , ثم الفكري لمتواصلات فلسفية , معتزلية وجودية مادية سفسطية . [ سماء قرطبة العالية دائما , تبدو دانية , دانية لكأنها تكاد تلامس هامة جبل العروس , أو كأنما لو أنها تهم بأن تسحقه بكتل غيومها السود المتدافعة . ألقى عبد الله بن يعيش نظرة حزينة , حاول فيها أن يختزل المشهد الماثل خلفه , حيث ولد وتربى وترعرع , ويقارنه بالمشهد القابع في روحه , الذي ولّده الفراق في نفسه . أراد أن يوحِّد الزهراء التي في قلبه مع الزهراء الهامدة خلفة , وان ينسج منهما لوحة من كلمات ] ( 1) . المشد الصوغي المتقدم يُشْهِر لنا عدة أطباق من المحتويات ، منها : ـ الوصف الذي يهتم بالمكان المجرد من آليات الفعل الروائي , مستعيناً بالمسميات الجغرافية فقط , وهي ثلاثة , ( قرطبة وجبل العروس والزهراء ) . ـ الوصف للمكان المجرد كونه تعبير عن عناصر بيئية , إذ هو سماء , وغيوم وبشر وتضاريس أرض قرطبة , مودوعون عند لحظة زمنية حرجة , لحظة إفتراق بين تهجير قسري وعودة في زمن فوضى وضياع . ـ الزمن ذاته هو تأريخ سياسي وإجتماعي لهذه المدينة التي قلبها الزهراء , وظهيرها جبل العروس , ونديمها عبد الله بن يعيش . ـ الفلسفة كإسلوب غائي لإحياء الجمال متوفرة في المشهد كثيمة للتوحيد الوجداني الذي لا يقيمه سوى الفلاسفة , سوى المعتزلة , سوى أهل السفسطة للعصورالوسطى الإسلامية . ـ الوجودية الحديثة في المشهد , ” أن ينسج لوحة من كلمات ” جعلت الخلجات النفسية لإبن يعيش سلطة قيمة للطهر والتنزه عن كل حاجة مادية تتبعاً للمتجهات الوجودية الخليطة بالأفاهيم الجدية للموضوعية الفنية . 2ـ تحتوي المنظومة السردية على ماديات مصاغة لأجل إحتواء المنظور النفسي الإجتماعي للعلائق الأرومية بين الفرد والأصل والوجع الإنساني الأعم . [ السحب الممطرة ظلت ترافقه منذ الصباح .فمنذ أن غادر قرطبة باكراً بعد صلاة الفجر والسماء تنث
رذاذاً خفيفاً , من حين الى آخر , كما لو أنها لا تريد أن تضحي بدموعها دفعة واحدة . مما ضاعف في نفسه مشاعر الحزن وصعّب عليه مهمته الشاقة , التي تعهد القيام بها , وهي تَفَقُد بساتينهم في ربض قرطبة الشمالي الغربي ] ( 2) . يسحبنا الروائي من هنا (المشد) الى (هناك) العلائق المُرَحَّلة من مادياتها (مدينة ومطر وتبكير) الى مأثوراتها التي هي : ـ الترافق , وسكب الدموع , كونها آلية نفسية . ـ الحزن الفردي والتصعيب للمهمة , كمآثير لإشارات إجتماعية , بمظهر فردي عن منابات جمعية . ـ يحتل الموقع الخاص بالأصل والمولد وأرومية الحنين إليهما , مكانة أساسية في التحفيز على الحدث في المقطع , محددا بذات الموضع الذي يخص ابن يعيش ” البستان , في , المربض الشمالي لقرطبة . 3ـ تختزل الرواية هموم الأفراد بتسبيب الوعي وتجهيل الإرادة , بالأسماء والعلامات , للعلماء والتقاة والعشاق . [ توقف إبن يعيش قرب سوق الوراقين , وهو يزمع أن يقوم بزيارة قصيرة الى صديقه إبن حيان , وليشم رائحة الورق والحبر , ويسمع رنة الكلمات الكبيرة , وأسماء العلماء والأدباء تتوارد على الألسن . وربما هو مدفوع بدافع آخر , فهو يود أن يثبت لإبن حيان وأبي محمد أنه كعهدهما به , قوي , صابر , لا تمسه عوارض الأشياء ] ( 3) . تتمثل هموم الأفراد ـ حصراً ـ بالوعي الثقافي , أو الأدبي رمزاً لجميع المعارف , وهي هنا تنقسم على شكل موجودات مرائية , والمشد هنا إستباق لما سيحدث من التجهيل العمد وإضاعة فرص الصفاء الإجتماعي , كما أنه تلويح لما سيكون عليه بعض العلماء والفقهاء في زمن الفوضي والإرتياب من كل شخص , حتى العالِم منهم “هو محط شبهة . لعل أدوات التعبير عن ذلك أخذت بعلائق مظهرية مثل / ـ دور سوق الوراقين الثقافي الذي يشابه أسواق بيع وتجارة الكتب حديثاً . ـ التقابل والتبادل الجدالي , وما فيه وعليه من مخاصمات وهفوات وتفسيرات غرضية , كما سيحدث بين أصدقاء ابن يعيش واعدائهم . ـ إثبات قيمة الاستقلال بالرأي والإتجاه الفكري , بدلالة رغبات ابن يعيش التي تؤكد ذلك . ـ التصاعد بالوعي من ” التوقف بسوق الوراقين ” الى ” الزيارة لإبن حيان ” الى ” الشم لرائحة الورق والحبر” , الى ” سماع رنة الكلمات ” الى ” التعرف على أخبار العلماء ” , ثم أخيراً الاستقلال بالرأي . ـ مثلما يُرى أن الموجودات التي ذكرت هي موجودات في ذهن إبن يعيش , لم تحقق وظيفتها المعلنة تدوينياً , ولن يقصد بوجودها ان تتحقق , إنما هي وسيطة للتضليل والتمويه لأجل أن تكون الوقائع القادمة غير محزورة من قبل القاريء فتزيده اصراراً على المتابعة .. لذا سميتها موجودات مرائية ! 4ـ تمكن الفهم من التوصل الى القناعة بالمنطق ” الحس المفرط بالأشياء بالحدس لا باللمس ” . [ زوجة أبن يعيش خولة أم يحيى , إستقبلته بقلق … تملك قلقاً جماعياً … وهي بسبب ما عانته في صباها , تحس إحساسا مفرطاً بالأشياء المفجعة … تحاول معرفة حاله ووقع خروجه الى قرطبة على نفسه . وكعادتها لم تبادر الى السؤال كما توقع . ستساعده أولاً على إبدال ملابسه التي لم تجف تماما بعد , وستسعى الى تدفئة جسده وروحه قبل ان تسأله ] ( 4) . هذا المشهد يحدث عند وصول ابن يعيش الى بيته قبل أن يتكلم أي من أفراد البيت , إنه توقعات ليس إلّا , فموجوداته كلها حدسية , كلها متخيلة .. وكونها كذلك فمن المتوقع أنها ستحوز على / ـ تعبر عن أفكار لا أحداث . ـ ليس للهيئات أهمية سلوكية إلّا بقدر إستجابتها للمتخيل السلوكي . ـ الإحساس بالتوجع المتوقع , وليس الإحساس الحقيقي للمعني الموجه إليه القول , وهو صورة للمدفون من حاجة القائل على لسان ابن يعيش لا للمتوهم من الحاجة المطلوبة من الآخر ” أُم يحيى”. ـ الإفراط في التوقع المبهج هو معكوس للفرض الذي يتوقعه القائل , كون أُم يحيى تحس إحساسا مفرطاً بالفجائع , لا بالمبهجات . ـ المهم أن فلسفة الإحساس المفرط ” هنا ” في هذا المشهد تحديداً , الاحساس بالحدسي لابالملموس , هو إجتراح للروائي سلام عبود , وهو من موضوعاته المخترعة فنياً وفلسفياً . 5ـ التحسس المبهر باللاملموس بعد التلامس . * لنتجه الى بُعْدٍ مكمل : [ ـ هنا منفاي يا خولة . هذا منفاي الذي إخترته بنفسي لنفسي , حتى أعود الى قرطبة أو أُدفن هنا . هنا سأكون مبعداً ومنفياً لكنني لن أكون غريباً . من هنا أرى سماء قرطبة , ألمس حفيف ريحها , وأشم ضوع خضرتها , وأرى أنوارها مرتسمة في الأفق البعيد . أتعرفين : أن الأحجار تكون أكثر ثقلاً قبل إقتلاعها من الأرض !] (5 ) . المنفى ليس مكاناً فقط فهو عزلة , وهو بُعد عن الأحبة , وهو البحث في الباطن المخفي عن مضمرات … هو تفريق بين الذات الحرة والذات المستفزة المستلبة .. أي المنافي إذاً هي الأقل وطأة على الفرد المفرط العاطفة ؟ .. لأننا لا نبغي تسويغ فكرة النفي الإيجابي فسنتقيد بما يريده الراوي .. ترى ـ فعلاً ـ ماذا يريد ؟ نراه يلوّح للترويج لعدة أفاهيم منها / ـ ان منفاه إختياراً بين منافي كلها مؤذية , وموضعه ذاك أقلها بعداً وضرراً , فهو خيار المضطر لا ” الحر ” ! . ـ انه المنفى المؤقت الذي ستتبعه عودة نهائية . ـ المنفى جعله يتعمق بعشق قرطبة ويكتشف فيها غنائم من مُصيغات جمال العشق , كالسماء والرياح والخضرة والأنوار والأُفق البعيد . ـ هي قرطبة التي وضعته في منفى اختياري اضطراري وعظَّمت حجمه حتى صار ابهى من أعدائه , أعداء قرطبة , فهو ليس غريباً كونه أثقل حجارة فيها غير قابلة للإقتلاع . ـ إذاً تحسسه لما هو فيه وعليه جاء بعد ملامسته المنفى وتعرفه على قدراته في الصبر والعلم والعشق . ثانيا : التلامس البصري للمجسودات لعل هذا التلامس كياني متكاثر الوجود لمخصوصات من مثل / * حجر الجامع : [ صوت شجي لبث يصل الى مسامع إبن يعيش . صوت لاهو رجالي ولاهو نسائي , لاهو غناء ولابكاء , لاهو حديث ولاهو إنشاء , لاهو بشري ولاهو سماي . صوت يعرفه ويجهله . شيء أملس مثل حجر المسجد الجامع . مثل ليل تطرزه النجوم , وتبحر فيه أقمار من فضة . غبش منير ] ( 6) . الصوت مكون مركّز الوجود في اهتزازات متوالية , له كيان , له إتجاه , له اطار .. تُرى كيف ؟ الصوت هنا متسع من التغيرات فهو مرة يصل الى المسامع , ومرة يجمع مستحيلات المعرفة , ومرة هو حجر .. في مثل هذا الصوت نرى : ـ أنه ليس صوتا دونما رسالة , دونما قناة , دونما سر , دونما بلاغ .. ـ القاريء سيفهم جيدا أن مثل هذا الصوت واحد من ثلاثة , إما غناء وإما كلام وإما موسيقى .. ـ وإذ يعتقد السامع ـ متلقي الرسالة ـ أنه هكذا سيضيع منه المعنى لأنه صوت مركز للأشياء المادية والهلامية .. ـ السامع قد يتوصل الى أنه تلاوة لآيات من الذكر الحكيم .. ولكن حتى لو توصل الى هذه النتيجة سيظل ” السر ” شبه مغلق عليه .. قد ابالغ إن رأيتُ فيه جسداً متمماً لتلامس ” بصري سماعي ” .. فالحس السمعي وعاه فضاء , والحس البصري تهيأت له قناة , والتجسيد باللمس أعطاه حدوداً , وبذات الحال أطلقه الى اللاحدود … لأقرر ثانية مواصفات روائية للعلاقة بين الصوت وحجر الجامع بالشكل الآتي / 1ـ حجر الجامع مكون روائي لأهم الذوات التي يعيشها ابن يعيش كونه فقيه مسلم . 2ـ السطح الأملس لحجر الجامع
طبيعة مصنوعة لها أهمية في تسكين ألم المنتخين بالإرادة الربانية , سواء عند الصلاة أو في الإتكاء والجلوس في بيوت الله في أوقات أُخر . 3ـ التمويه للقيم جميعاً يبدأ عندما يأخذ الرفاه شكل موجودات ملساء , حتى الجامع فحجره أملس لإرتباطه بالمكون العمراني للرفاه الإقتصادي . 4ـ الحجر الأملس يرخِّم صوت التلاوة في الجامع , والصوت يرخِّم قيمة الانتماء ويوسعها في صدور عشّاق المدينة , أي مدينة جميلة كقرطبة . 5ـ هو رمز يحمله بطل الرواية في كيانه ووجدانه أينما حل أو رحل … حجر فيه بَرَكَةُ جمال الصخر والبشر , الطين والماء , الروح والجسد . 6ـ الإبصار في هذه المجسودة النصية هو في المزج بين خلجات النفس وإيهام العقل والنظر , ولكن بوساطة قدسية الصوت الذي يرتل الآيات الكريمة . 7ـ المُشِعُ الروائي له مسربان , الوصف المركب متعدد الأغراض , والثاني وصف المشاعر الحسية ببصيرة الهائم نحو وجه الله , بصوت الله , بمحسوسات سر الجمال الرباني ! 8 ـ الحديث والإنشاء إشارتان الى أن المنصص السابق للمقطع هو الذي يغني القراءة بالمعرفة التي تخص القول الموصوف , أي أن ” إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون” هو الحدث والحركة , وهو السرد الأول الذي فاض بالسرود المتتالية لما بعده . * أجزاء الجسد البشري يرى محمد بوعزة ” إتخذت السرديات منهجاً إستنباطياً , يقوم على صياغة نموذج إفتراضي للوصف … ستخط السرديات مسارها المنهجي في إتجاه مخالف للنماذج التفسيرية , يعيد الإعتبار لبنية السرد بوصفها محدداً لأدبية الخطاب السردي ” ( 7) . تلك مباديء تخص الوصف كونه / ـ جزء من منهج استنباطي أي محدد بنموذج مفترض . ـ الوصف هو القدرة السردية الفاعلة لنقل النموذج الى الشكل السردي الحيوي . ـ المنهج هذا يخالف عملية التفسير المبسطة القريبة للمتون الملغزة في الادب . ـ بنية السرد هي المتسيدة لما هو فني وفكري . ـ الأدبية ” جماليات لغة الأدب ” ترتقي بالبنية الى مستوى الخطاب ذي الرسالة التبليغية والتأويلية في آن واحد . * نحن هنا نقر بوجود تلك السمات جميعاً في المشهد أعلاه , ولكن الرواية في وصفها للجسد تأخذ بالتقسيط والتجزئة لأجل غايات عديدة . لنتابع / [ في الصمت والظلمة يصغي إبن يعيش الى عصف الالم المشتعل في بدنه : ألم المعدة الثقيل الذي يشبه تلالاً … ساحقة كل ما يعترضها … أما ألم الجوانب والأكتاف فهو يشبه ضربات حارقة من البرق … ألم اللسان والشفاه أبغضها , أبشعها , وأكثرها إثارة للإشمئزاز , فهو يشبه فعلاً مخجلاً … على مرأى من الناس … عشب متعفن ينمو في مستنقع … ألم الخصيتين هو طرقات متلاحقة من مكبس حديدي … أما آلام العينين فهي بهار حار ذر في المحجرين . حريق وإشتعال وأزيز ودخان ضبابي , لَبَنِيّ القوام , يسيل من دون انقطاع على لوحة الرؤية ] (8 ) . المشد المشهدي يتحمل الكثير من فرائض محمد بوعزة السيميائية كرؤية ثقافية , والكثير مما لم تمر به هذه الفرائض . ـ لقد تحدد المقطع في كونه نموذجاً نصياً يوجّه الدرس النقدي نحو فرائض موضوعية وأُخرى ذاتية مستنبطة من قوام المضمون الكتابي . الفرائض الموضوعية تتعلق بنتائج سرد الحوادث السابقة الذي أدى الى وجود هذا القدر من سادية التعذيب , ولربما تأخذ موضوعة السرد عمومها من الوصف الإعتباري الذي يتعلق بالشخصية الإعتبارية , ومما تتفنن به قوى الظلم في كل زمن . أما الفرائض الرؤيوية السيميائية الذاتية فهي ـ برأينا ـ تتعلق بالتمتع بتعذيب النفس جزءاً جزءاً , ـ طبيعة المعذِب الفردي تتقن صنعة الموت على شكل جرعات , كل واحدة تعادل الموت مرات ومرات . ـ يصف الراوي البطلَ , يصف ويصف , حتى أن المشهد كله لا يتضمن سوى وصف للألم المجزّء , الألم المُدَمِر , المتقطع , المتخيل . ـ لكأن الراوي يرى ويحس بما وراء السلوك الحقيقي من نتائج قاتلة ممضة , كل ما فيها مؤشرات وإشارات تصوغ السرد المروي . ـ بالوصف فقط تتضافر قوى التدوين لتكّون المروية . ـ المتتبع لا يمكنه أن يغفل تلك الإشارات والمعالم الدلالية المضمرة وهي تتفاعل مع المقرر السطحي لـ ” متون الكتابة ” , وحتما سيهتدي الى ضروب من القيم السياسية والاجتماعية المصدرة لكل هذا الألم . ـ التفسير المباشر مضيعة وتضليل وابتعاد عن الجمال في المعنى والدلالة , وحتى سيُضحى بجماليات البناء الجملي للمشهد .. ـ منهج التتبع النقدي سيقرن متجهه بالتحليل السيميائي الخازن للمعنى البعيد والمركب وحتى النسقي المتعلق بالتفسير لاالتأويل . ـ سينحاز المتلقي الى فنية دمج المُضمر القولي بالمُظْهَر من آليات التحكم السلطوي الباني لمؤسسات القوة الرادعة لكل صوت للحق وأهله وسنسجم مع موجبات السرد السطحي المغلوط. ـ النظر لبنية السرد وما فيها من تداعٍ وتراكم قولي سيستنتج وجود تسارع مقصود في بث الألم والوجع المقهور , وسيلحظ أن الراوي متعجل ومتبرم وليس له وقت للخوض بالتفاصيل , وهذا التعجل هيمن على عملية تصميم وبناء السرد فكرياً وفنياً , بحيث جعل اللغة تقترب من لغة البرقيات المشفرة , وأما من الناحية الفكرية فقد تأثر المشهد بتلك المهيمنة ” عجالة البث ” وكأنها وصية لابد من تبليغها قبل الرحيل الى عُلى الأرواح في السماء . ـ تلك العجالة سوغت وسوقت ” الرسالة التبليغية كبنية جمالية ” أدبية ” للنص ضمن خطاب الروي , والرسالة هذه أخبرت التأريخ الخالد بمحتواها , وبكونها جمالاً وموضوعاً وقناة تصلح للتداول على مستوى التبليغ والتأويل . وأن أقل ما فيها هو إدانة مضمرة وعلنية للقبح البشري سلوكا ومظاهر تفكير . * النقاط التي إختبرنا بها فرائض محمد بوعزة ليست وحدها ما يؤلف أدبية المشد المشهدي لما تم تنصيصه من رواية يمامة , إنما هنالك شؤون أُخرى يمكننا الأخذ بها لتوطين الفهم الدقيق , لا للنص المدون أعلاه , لكن لفهم الدلائل الأساسية للرواية كلها … لدينا بعض ترتيب يحيل الى موجودات لم يدلنا عليها محمد بوعزة .. نراها مبينة في الوظائف الروائية الآتية / 1ـ أن تجزئة الجسد يعني تجزأة القول وتأجيل الأحداث لما سيأتي لاحقاً , أي أن هذه الطريقة السردية مخاتلة لأجل بيان نموذج الجودة الروائية , بالشد والتشويق . 2ـ أن الأجزاء الجسدية تضمنت تدرجاً من الأعلى الى الأسفل بإستثناء العين , ففي الرواية تسمل العين أولا ثم يعتدى على بقية أعضاء الجسد , ليقول الراوي أن العتمة تسبق أي عمل للرهاب الجمعي والفردي . 3ـ التقسيم المتدرج للألم بتوزيعه على الأجزاء يعني أن الحوادث سيباح لراويها توزيعها بحسب قدرة الوعي ليتطابق التجزيء الجسدي مع التجزيء الفكري والفني للرواية . 4ـ التنويع لمرارات الألم الجسدي وإعطاء كل نوع صورة يقرَب الروي من الشعر , وفي هذا مفارقة عميقة الأثر , يمكن جسها عند كل قراءة أو إعادة قراءة للمدون أعلاه من الرواية . 5ـ الوجع والسرد المتسارع كثف اللغة , والإشارة الى الحد الذي يجعل القاريء ينسى أنها رواية عن تأريخ قديم للعصور ما بعد الوسيطة .. سيراها صورة حياة معاصرة . 6ـ أن موجودات الفعل بائنة على الجسد لكن وصفها جميعاً بطريقة التشبيه أبعدها عن المجسودات المادية ليلقيها في متجه الحس البصري الذي يمس أو يلامس , او يتناغم مع الملامس الناعمة مثل حجر الجامع والأشياء الأخرى المنسابة من الأجزاء والأعضاء المادية الى الملامح الناعمة الناغمة المنسابة شعراً وتنفساً موسيقياً يعيد النظر بكل قول ليحيله جمالاً مبهجاً على الرغم من سواده وغُله . * تلامس الأنفاس تَروّى القائل للروي كثيراً في زج الأنفاس الى الوجود حتى لكأنها الرائحة , لا الشم , ولا استنشاق الهواء المُدِيم للحياة .. الأنفاس هى التي تشمُّ وتلمسُ وتتلذذُ , تعطي الإشارة الى بقية أعضـاء الجـسم أن تعمل لتحرك الدم في الجسد المغلق أمام أية حركـة للهرب أو للبحث عن منفذ ! . لهذا الحيز ” الانفاس ” مظهر خلفي يمثل الذات الموضِّعَة للنَفَس والشّم عند الكلم غير المباشر ” نطلق على المظهر الخلفي للحيز المظهر غير المباشر ” ( 9) . [ حينما إنفتح الباب دخلت رائحة الوقيد مصحوبة بهفهفة الثوب , وبصوت أقدام الخفيض … هسهسَ ثوبها ورنّت أساورها … إقتربت أكثر وبركت الى جواره , فشم بقوة رائحة ماء الورد… راحت تمسح الشفتين اليابستين بإهمال موجع . توقفت برهة , فتوقف العالم من حوله . لاشيء من حوله سوى أنفاسها العالية , مضمخة بعطر ثيابها , وهو يختلط برائحة الوقيد ]( 10). * من البدهي ألّا يذهب الكاتب نحو ملامسات تجس التحسب المسبق لكل شيء , ولكننا نجده ـ هنا ـ فعلاً يقصد , أن تكون حاسة الشم هي التنفس المعنوي لما هو خارج السجن , عند ثنايا الحياة … لقد تميز التلامس للأنفاس بـ : ـ ثنائية ” الشم , التنفس = الحياة ” , و, ثلاثية ” الرائحة , الشم , التنفس = الحياة “. ـ الحياة مؤول غير مباشر عن لا ماديات التنفس متمثلة برائحة الوقيد , وهفهفة وهسهسة الثوب , وصوت الأقدام , ورنة الأساور , ورائحة ماء الورد , وعطر الثوب . ـ ماديات التنفس , العالم والأنفاس فقط . ـ مكملات العالم الحسي المتماسس, تحتوي , الموجودات الحقيقية مثل :ـ قبو السجن , الباب , الثوب , الأقدام , الأساور , ماء الورد , الوقيد . ـ التأويلات الأساسية ثلاثة ـ كما نرى ـ تتمحور حول الاقتراب والبروك والشم . ـ المعترضات للتأويل تتمركز في المسح والتضميخ والتوقف والاختلاط . ـ المهيئآن لفعل التلامس هما , الشفتان والمرأة . ـ التفرد الإنزياحي كله يفيض به الراوي وحده كلياً لأنه العليم بكل شيء, وبوسيط منطقي واحد هو , المرأة هي وجود المطلق للحياة في العالم . * الوجه الآخر للفعل الروائي الخاص بالمشهد أعلاه يؤكد على / 1ـ الحيز الموصوف ” مظهر لغير المباشر للخلفية الدلالية المضمرة للنص . 2ـ تدرج التماس سردياً من رصد الحركة الى الإقتراب بها , ثم تواصل ليصير جس لمواضع الألم , ثم المشاركة الوجدانية من خلال الثوب وعطر الأُنثى . 3ـ ينتج عن التطور السردي تفاهم كالتماس بين أنفاس المرأة ـ رائحة ماء الورد ـ وأنفاس الرجل ـ رائحة الموت . 4ـ الشم والسمع والتخيل , هي المنظومة التي شكلت مظهر التماس , وبها غذى كل الحواس لتندمج بالتنفس المتلمس طريقه بالصوت والرائحة وخبرة الراوي في تصور الطبيعة التي تحيطه بشكليها المادي الانثوي , والمادي الكوني .. 5ـ بلاغة عناصر السرد توحدت بإسلوب الوصف المكاني الضيق ” السجن ـ الألم ـ المرأة الحياة ” . * جسدانية بدن المرأة قدر الجسد الإنثوي أن يكون بدء الجمال الروحي ومنتهاه , لكن البدن , الجسد الملموس الموحي باللذة , موهوب من عند المرأة بكرم لايضاهيه أي عطاء , الى من يستحقه . بدن المرأة في الرواية كلها عطاء نوراني لمطلق الحب والتضحية والجمال , كل نساء الرواية جميلات جداً , ذكيات جداً , مضحيات وواهبات بشدة , كل النِعَم والترف والنعومة والرائحة , في أبدانهن وأرواحهن وصبرهن .. نرى التماس الجسدي بين الرجل والمرأة ” في الرواية ” ولبعض المشدات المقطعية , غاية في الإمتاع والطهر خلقياً وفنياً … لعلي حقا أُبالغ عندما أجد لذة الرجل بالمرأة هي حيز شبه مستقل يؤثث وجودا مثالياً , على المستوى التجسيدي والمتخيل! … لنتابع : [ أنتَ كلما لمستني أو قربتُ منكَ أحس بكَ تصول وتجول في كياني . لم أعد بِكراً , رغم قفل إبن منصور . وإمعاناً في كرهه , ونكـاية فيه , كما تقول , جس بنفسك لتعلم ما قررتُ يوم أمس . نطقت ذلك وجرّتْ يده إليها , ومرّرتها بين فخذيها . فخفق قلبه , وهو يلمس نعومتها , ويجس المجرى الرطب , الحر , المدوّخ , الذي فقد أغلاله الخشنة , الظالمة . ـ لله درك , من مارقة ! نطق ذلك وراح يعانقها عناق الزوج المشتاق , وهو لايقوى على التفكير في شيء سوى بنعمة تحسس جسدها المعطاء , الواهب , الذي كان يرتجف وينقبض وينبسط , يتصارع ويتطاحن , ينزلق ويعرق , يبكي ويضحك , وهو يحتك بكل بقعة سليمة من جسده . فيختلط لهيب الألم بدفقات اللذة إختلاطا عظيما ] (11 ) . المشهد المنصص يبين لنا النعمة التي جيء بها في ظلمة سجن عبد اللة بن يعيش .. تتصف تلك المماساتُ بما هو غير مسبوق من روايات , إذ أن / 1ـ الغزل بين امراة لم ترَ الرجل غير مرة , والرجل لم يرها غير مرة . 2ـ الغزل بينهما جسدي محض روحي تماماً , جزئي مؤكد , كُلّي مرجو . 3ـ الجسدي والروحي في ممارسة طقوس العشق تأخذ أدق مواضع اللذة عند المرأة (بضر الفرج) , وأقل مواضع اللذة عند الرجل (لوامس الأصابع). 4ـ اللذة المتبادلة شاعرية بفخر مؤدب منسجم اللهفة والعمق والتحدي , متساو مع روح التمرد لكل منهما. 5ـ الملامسات السطحية إفاضت بمتعة حقيقية تعلو بلذتها على متعة المواقعة التامة . 6ـ إختلاط الألم باللذة هو أبلغ وأكرم أنواع اللذة السامية كعقد بين فردين تزاوجا أمام الله والضمير قبل البشر والمجتمع . 7ـ الشوق والانتقام والتفجر بالمكنون المكتوم من رغبة الجسد لم تعمي العاشقين عن أهدافـهـما ” نشدان الحرية ” .. 8 ـ بكل ما حدث ويحدث ظل العشق نور الخلاص والمقاومة والأمل بمستقبل أثرى وأمثل . 9ـ ليس اللمس سوى تعبير يُراد له أن يهيء القاريء لتَقَبّل ضلالة الروي لكونه حدث عدة مرات سابقة ولم يثر مثل هذا الفعل العميق . 10ـ الملامسة حيز إطاري لقرارين من أصعب قرارات الثوار هما , فك قيد المرأة وتجاوز الخوف بالرجولة الحقة . * إذاً الطهر في هيأة النجاسة , والمرأة بهيأة الولوج , والرجل بهيأة النكاح السطحي , تلك هي القيمة التي مررت موجبات السلوك البدني ذاك , وسوغت له مبررات إزالة الظلمة عن النفس والجسد … اليست هذه الأسباب كافية ليحيل البدن الإنثوي الى إزاحة قولنا : المرأة طهر وإمتاع , وخلق فني متجدد الى درجة الخلود!. * مماسات وحدانية الحيوان لنبدأ , قبل أي فرض , بالمنصص الآتي / [ هذه الليلة … لم يسمع حوافر الفرس . صديقه في الوحدة وأنيسه . يسترق السمع في محبسه الى بهائم الأرض , مثلما ينصت والهاً الى صوت من يحب . ينتظرها بفارغ الصبر يراقبها وهي تقف فوق محبسه , تنتظر سائسها أو فارسها , أو حينما تعود لتخلد الى الراحة … تحلوره بسنابكها الخرساء , بهمهماتها البهيمية , فيحس بها قربه , أكثر أُنساً من الأُنسيين , خالية من الشر , بريئة مثله … يظل يترقب حركتها , حمحمتها … وحتى أنينها … لكنها لاتفعل ذلك الآن … الأشياء جميعها تواطأت عليه …. حور , يمامة , قرطبة …. ]( 12). نحن هنا بإزاء متجه آخر للفهم , هنا طقس جديد للوحدة والحلم والقيم . إنها مملئات الوجود بمكنوناتها من / ـ السكون المتكلم : الأنا خلقت شكلاً من التوافق البيئي المصطنع لأجل الإحتفاء بالسكون كشخص مهاب وفرد مسهم في تأطير الوجود شبه الحيوي كون البطل هو الخالق لحيويته بإشراك السكون معنوياً بمواساته … وهو ليس الحيوية المطلوبة إنما المصاغة تخيلاً لذا فهي شبه حيوية , الى حد ما . ـ الشدو المميت : التعابير كلها والإيماءات تدلل على أن المكان شدو لشخص سيموت غريبا إلّا من أصوات يختلقها … كانت موجودة , وهو بلحظته الآنية , قد فقدها .. ها هو إذاً يشدو لنفسه أُغنية الموت في ظلمتي السجن والعمى , وعزلتي البشر والحيوان .. ليس أمامه سوى أن يكلم البهائم الصغيرة , الحشرات التي ستفتك بجسده القريب من لحظة الموت . ـ الأصوات الهاربة : لزيادة الأثر الكارثي للعزلة والسجن فأن البطل إبن يعيش كأنه إبن لن يعيش ! ولأنه كذلك فهو سينال حصته من الإهمال التام , فحتى الأصوات تبتعد عنه , أيما أصوات , بشرية , حيوانية , حركة أعضاء الفرس , حركة مسارات الذكرى ليمامة وحور وقرطبة . ـ التمني : يتمنى السجين أقل وجود حي يُشْعِرُ المحبوسَ بالتنفس المجاور , فلا وجود للضياء ولا للمخلوقات المصطنعة ولا حتى للأحاسيس التي تنقل الفرد الى أفق بعيدة عن ظرفه المميت , حتى الأماني , تلك الطاقة التي تهذب لحظة العذاب وتبرر أكاذيب الخلاص , فهي بعيدة بعداً شاسعاً , فأي ذل وأي أسى يحيطان بالإبن الذي كان مقرراً أن يعيش ! . ـ الفقد : العزلة فقدان للأصعب منها فقدان الفروسية والأُنس , والحب والإنتماء , للأمل بقرطبة متحررة , فاتنة , غيداء , لن تلين إلّا لفارسها الشهم القادر على حمايتها بسيفه وصولجانه وحمحمة أفراسه … ذلك فقدان يعادل فقدان الأرض لسماء الغيم والنور . * المقارنة بين الحيوان المتوحد بالمكان والسجين المتوحد بالسكون وبحدود أضيق مما متوفر للحيوان , تلك الثنائية جيء بها فنياً على أساس أنها ستحقق / ـ تبيان قدرة الراوي على جعل الوحدة المطلقة (لعناصر البيئة والبشر) ممكنة التحقق . ـ جيء بها لقول سينبني عليه تركيب لموجودات آنية متحركة من زمانها الى زماننا . ـ المشهد يقرر لنا المؤاخاة بين الفعل الوقائعي والفعل الروائي بما يفيد التناسق المتساوق بين عمومية عناصر الروي عامة وخصوصية عنصر الوصف . ثالثاً : موضعة حيز موجودات التطبب هنا نبتغي وضع ترسيم مهم في الروي ذلك هو ” موضعة ” الأشياء الموصوفة في التطبيب الشائع تراثيا , لكنها ليس للتطبيب الجسدي فقط , إنما لتساعد حاسة اللمس على الغور بعيداً في موضعة النفس العالقة بين اليأس والأمل . ثم تلك التي يكتمل بها مثل هذا التطبب / [ لبثت يمامة الى جواره الليل كله , ولم تغادر إلا قبل أذان الفجر بقليل . ثم عادت صباحاً مصحوبة بمجمرة الفضة مملوءة بفلق العود الهندي , مشوبة بقطع العنبر الفستقي . وراحت تطيبه وتدهن جسمه , وتلمس مواطن الصحو فيه . وظلت تعود إليه على فترات متقاربة . وفي كل مرة تأتي فيها إليه , تُحضِر معها الغوالي الزكية ,المُتَّخِذَةَ من المسك التبتي , ومحض العنبر المغربي , ورشح البان البرمكي . ظلت تقطر في فمه عصير الرمان والأعناب , وسقته بفمها عصارة التين واللوز , قطرته من فمها قطرة قطرة , كما تسقي الطيور فراخها ] ( 13) . أ ـ قدرية المرأة الطبيبة : ـ مهمة المرأة هي مهمة الطيور في حنوها وحنانها , مهمة الأمومة المختلطة بعفوية العطاء وفطرية التطبيب الروحي والجسدي .. ـ تلك الطريقة هي مؤول لشيئين , عالمية العطر , الدواء , عالمية عطاء الطيور , الإنثى . ـ يصير بإزاء هذا أن العطور مع المرأة دواء متكامل . ـ في المشاركة الحقّة تتحول الأشياء النباتية الى محفزات لدوافع الفعل العملي والجمالي منسابة مع كونية الإنسانية ومثاليتها الوجدانية . ب ـ قدرات المؤلوف الخارقة : هنا نجد المكونات النباتية ولوامس الأنثى وفم الأنثى وتبدل الوقت موجهات للفعل الخارق , إحياء ما كان في حساب الموتى . فليس سوى تلك المجسات , الأصابع من فعل حقيقي , لكنه أدى الى خوارق الشفاء شبه التام خاصة , الشفاء من جراح العزلة الذاتية كأوحش وحوش النهش في الإرادة . تجيء المرأة بأنواع المطيبات لتحيي في إبن يعيش رغبة الصحو … تلك الحمامة اليمامة هي شفرة السلام لحياة محتمل مجيؤها مستقبلاً … كل هذا تحدثة آلة جسد تسمى يد وآلة حركة تسمى وقت وآلة حب تسمى حور , وآلة تطبب تسمى فم اليمامة .. أحقا سيظل الظلام والضيق مثلما هما بوجود إمرأة خارقة دونما أدوات خرق حقيقية .. إذاً الفعل الخارق يعود لمألوفات غاية في بساطتها , إمرأة وعطر , وفم ينتشي بمعجزة زق الغذاء بطريقة الطيور .. رابعا : معالجات خاصة تعالج الرواية عدة مواقف بخصوصية شبيهة ببصمة النبؤة . منها / 1ـ الإلهام المنحسر الى لحظة خالدة : [ ما أن داهمه هواء قرطبة حتى إختل توازن الأشياء في داخله . فجأة , رُفع غطاء القدر … سمع أولاً فوران الأشياء . شم رائحة إحتراقها …راحت الأشياء تسيل فائرة من دون ضابط … صور تأتيه… طالبة منه أن يلمحها قبل ان تختفي , وهي ذاهبة الى العدم ] ( 14). 2ـ الدق في الذاكرة حد تصليد وتخليد الفانيات من الموجودات المستحيلة : [ قطرات من الماء تتدفق , تدق , ثم تدق , تدق, وهي تتقطر من زير الماء الفخاري في بيت جدته . أحمد مصبوغ بالدم … والنخلة نخلة الأمويين الحزينة تهفهف … نمنمات المسجد تتحاور موشوشة , هامسة … نمش يطرّز عيني يمامة … أساور حور ترن في الظلمة .. اللمسة الخاطفة … التي جس فيها ضفاف حور … فإنطلق في قلبه ضجيج الكواكب ] ( 15). 3ـ تناص مستحدث لليمامة التراثية بثوب الإستسلام الذي يرفعه الأسرى مثل البائسين المجانين: [ أغمض عيني أو أفتحهما , فلا أرى سوى مشهد الموت أو الجنون . الغابة البعيدة , آتية صوبي , رافعة أغصانها أذرعاً , وأوراقها أذرعاً . شجر من جنون , تقدم صوبي , حاملاً غصوناً مميتة , وورقاً تذرفه العيون ] ( 16). 4ـ فلسفة الإيماء الجزئية التي أوقفها الراوي على العين : [ كيف سيفهم نهيها إذا لم ير إشارتها … ويفهم فجيعتها وأسفها حينما تديم النظر إليه ! وكيف له أن يلمس فرحها الخفي , الذي آيته كسر نظرها , ويعي تهديدها بإطباقها عينيها , وتنبيهاتها له بقلب الحدقة , وسؤالها الخفي بمؤخر العين , ونهيها بترعيد الحدقتين من وسط العينين ؟ ] ( 17). 5ـ غائية الإرتجاف في تناثر الصوت : [ مد إبن يعيش يدا جريحة , مرتعشة , نحوها . كما لو أنه أراد أن يلمس صوتها المتناثر حوله مثل نافورة سحرية , تجمع في ثناياها تقلبات الفصول والمواسم , تتطاير منها ألوان زهرات المشمش , وضوع المسك , وطعم الرمان] ( 18). 6ـ تجاوز الزمن المحدد بتأريخ : [ تمنحه الحياة الهاربة من بين أصابعه فرصة لئيمة , جارحة , فرصة إضافية من الإمتداد في الزمان … ذائبا في تربة العدم ] ( ). خامسا : تأويلات أ ـ التأويلات الكبرى : هي من حصائل تقابل ثيمات الرواية المتناسلة الجامعة بين الأحداث الماضية كدراما موضوعية , والأحداث المعصرنة كتوسيع خطابي لخطاطة الروي متداخل لسياقات الترحيل من الفائت الى اللاحق الى المتنبيء به . ونراها أربعة تأويلات كبرى هي : 1ـ الطغاة على الارض هم خالدون في أذاهم ووسائل تحكمهم , وطرائق تحقق أطماعهم . 2ـ السلطات الشرقية كلها ظالمة , وفردية ومنهضة لكل علم وجمال وترف لعداها. 3ـ الطائفية والتوزع الأثني هي مشاكل سياسية واجتماعية لها ذات الاسباب وذات النتائج , على مدى التأريخ . 4ـ ابن يهيش هو الشعب الذي لن يندثر حتى في أعنف وأعتى حالات الدمار والتضييع . ب ـ التأويلات الصغرى : هي متفرعة من تلك الاصول , ومن ثم هي تتفرع مرات ومرات , مثالها , الانحلال الامني وما يلحقه من فوضى اقتصادية وجتمعية , السلب والنهب وانتهاك العرض , الهجوم على قصور الامراء المقتولين والمخلوعين , القضاء على مؤسسات العمران العامة والخاصة , الهزوء والتسفيه لأراء وشخصيات العلماء وتصفيتهم جسديا , نبوغ طلائع التمرد الايجابي الذي تقوده القوى التقدمية مستثمرة الخلل العام لتوصيل فكرة الثورة المنظمة التي هي الحل الأخير بعد تجاوز الخوف من بطش السلطات الفردية … وغير هذا كثير خاصة ما يتعلق بالجوانب الفنية التي بها أتم الروائي تنفيذ تلك التأويلات نصياً ومشهدياً .
هوامش :
[1] رواية يمامة ـ في الألفة والألاف والندامة , سلام عبود , 2001, ط1, دار الحصاد للنشر والتوزيع , سوريا2 رواية يمامة , سلام عبود , المصدر السابق نفسه , ص9
3رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص 14
4 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص20
5 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص59
6 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص87
7 سرديات ثقافية ـ من سياسات الهوية الى سياسات الإختلاف , محمد بو عزة ,منشورات ضفاف , منشورات الاختلاف , دار الأمان , المغرب , 2014, ص26
8 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص97
9 في نظرية الرواية ـ بحث في تقنيات السرد , د.عبد الملك مرتاض , 1998 , ص144, المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت .
10 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص79[1] رواية يمامة , سلام عبود ,مصدر سابق , 144
11 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص182
12 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص115
13رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق ,ص197
14 رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , 197
15رواية يمامة , سلام عبود , مصدر ساب, ص229
16رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص209
17رواية يمامة , سلام عبود , مصدر سابق , ص224
18رواية يمامة , سلام عبود , مصدر ساببق , ص228