إشارة :
يسر أسرة موقع الناقد العراقي، أن تبدأ بنشر هذا الملف عن الشاعر الكبير محمد حسين آل ياسين ، ويهمها أن تدعو الأحبة من كتّاب وقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق لإغنائه بما يليق بقامة هذا المبدع الكبير.
المقالة :
لان الشاعر محمد حسين آل ياسين موكل بفضاء العلم يذرعه، فلا يدع مسألة خلافية لغوية إلا أحصاها ووقف عندها، مرجعاً الحق الي أهله، إو نافضاً غبار الايهام والأبهام، كاشفاً حقائق الامور، وهذا لا يتأتي إلا لمن أوتي من العلم حظاً عظيماً، و أوتي قسطاً وافراً من الصبر والمصاولة والمطاولة، فهو بعد أن إطمأن لأعادة الحق الي نصابه في معجم العين للخليل، عاد ليناقش قضية نسبة معجم الجيم لأبي عمرو الشيباني، متوصلاً توصلاً علمياً رصيناً وبعد تعب ونَصَبْ الي أن الذي وصل إلينا هو كتابه (الحروف) وإن أسم الجيم الذي أطلق علي هذا
المعجم الذي بين أيدينا لحق الكتاب سهواً من كتاب الجيم الذي لم يصل إلينا، إذ لم تتحدث عنه المصادر القديمة بـ(سوي أنه ضاع بعد أن ضن به مؤلفة علي الناس، ولأن أبا الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) متحدثاً عن كتاب الشيباني ذكر “وأما كتاب الجيم فلا رواية له، لأن أبا عمرو (الشيباني) بخل به علي الناس فلم يقرأه عليه أحد”.
في الفصل الاول من الباب الثالث، الذي تحدث فيه الباحث آل ياسين عن مناهج اللغويين العرب في دراستهم للغة، واقفاً عند طريقتهم في الكشف عن الحقائق اللغوية ووصفها وتقعيد قواعدها، ومدي شمولها للغة العرب، واقفاً عند اراء النحويين واللغويين في النص علي القبائل التي تؤخذ عنها اللغة، شرط ان تكون بعيدة عن أطراف الجزيرة العربية خشية التأثر بلسان الامم المجاورة، ناصاً علي قول الفارابي (ت 350هـ): “الذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم واسد، فأن هؤلاء هم الذين عنهم اكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم أتكل في الغريب وفي الاعراب وفي التصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فأنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الامم الذين حولهم” ص329. نقلاً عن الاقتراح والمزهر 1/211.
لماذا التعويل علي لغة قريش؟
وأتساءل هنا كيف أصبح المعول علي لهجة قريش أو لغتها؟ والمتقدمون ما كانوا يأبهون للفرق بين التعبيرين أي اللهجة واللغة ولا يميزون بينهما كما نميز نحن الآن، فنطلق اللغة علي الفصيحة، واللهجة علي العامية، لان لغة قريش هي لغة الحاضرة والمدن، فضلاً علي وفود التجار إليهم من كل ركن وصقع، وأنعقاد أسواق الأدب، أري أنما جاء ذلك، بسبب نزول القرآن الكريم، بلهجة قريش وأصبحت ــ بسبب الدين الجديد ــ لها السياسة والسيادة وقيادة المجتمع، وإن ذلك إنما جاء (مجاملةً) لقريش صاحبة الدين والحكم كما يقول المستشرق نولدكه في كتابه (اللغات السامية) هم الذين كانوا يقولون: “لم أرَ بدوياً أقام في الحضر إلا فَسَدَ لسانهُ، غير رؤبة والفرزدق” فكيف أجازوا الركون الي لهجة قريش أو لغتها وهم من سكنوا حاضرة مكة، فضلاً علي أن مساكنهم ما كانت في أواسط جزيرة العرب؟!!
كما أنهم لم يحتجوا بشعر ذي الرمة، لأنه طالما اكل المالحَ واَلبَقَلْ في حوانيت البقالين، كما يقول الاصمعي عبد الملك بن قريب (ت 216) كما انه وصف الكميت بن زيد الاسدي بـ(الجرمقاني) من أهل الموصل ولم يحتج بشعره.
بعضهم يجد أن حصوله علي الشهادة، الدكتوراه خاصة، تبيح له أن يستنيم الي بهرجها وما تحققه له من حظوة فيمضي بقية العمر لا يقرأ ولا يكتب إلا لغرض الحصول علي الترقية ولو لا الترقية، لجعل رسالة الدكتوراه مخدة ينام عليها، إلاه هذا الباحث المنقطع لدنيا البحث والكتابة، إنه في تعلم مستمر وبحث دائب، فها هو يتحف المجلات المحكمة الرصينة ببحوثه: المورد. مجلة المجمع العلمي العراقي، مجلة البلاغ المتحجبة، التي كان لي شرف الكتابة فيها بدراستي المعنونة (من أجل تيسير النحو) العدد الثامن. السنة السادسة 1397هـ ــ 1977 وكان رئيس هيئتها الادراية الشيخ محمد حسن آل ياسين، ونائبه أستاذي الدكتور محسن جمال الدين ــ رحمهما الله ــ مجلة الرسالة الاسلامية. مجلة دراسات الاجيال التي كانت تصدرها نقابة المعلمين. مجلة كلية الآداب جامعة بغداد، نشرها في السبعينات والثمانينات الماضيات من عمرنا، وقد وصف هذه الدراسات، بأنها إكمال لما بدأ به في رسالتيه للماجستير والدكتوراه التي أفضتُ في الحديث عنهما بداية دراستي هذه ورسم صورة شاملة للعربية الكريمة تاريخاً ومادةً وظواهر ومصادر في مراحلها الفنية الاولي ولأنه خشي علي هذه البحوث الرصينة أن تبقي ثاوية في أماكن نشرها الاولي بعيداً عن أنظار القراء والباحثين، فأنه جمعها ــ مُحْسِناً صُنْعاً ــ ونشرها في كتاب يقع في مئتين وثلاث وستين صفحة. صدرت طبعته الاولي عن عالم الكتب سنة 1417هـ ــ 1996م وفي الكتاب بحث رصين عن نظريات نشأة اللغة عند العرب، والوقوف عند هذه النظريات ومناقشتها ومنها: نظرية التوقيف والالهام، أي أن الله تعالي ألهم الناسَ لغاتهم وأوقفهم عليها، مستندين الي الأية الكريمة: وعلم أدمَ الاسماء كلها، ونظرية التواضع والاتفاق: أي يتفق الناس فيما بينهم علي أسم لمسمي، ويطلقونه ويؤكدونه ثم يفشو بين الناس، والثالثة نظرية محاكاة الاصوات الطبيعية، أي تنطلق اللغة من محاكاتها وتقليدها لهذه الاصوات،إصوات الحيوانات وإصوات الالات مثل صليل السيوف وصوت الرعد، وعصف الرياح. ورابعة نظرية الوقف، أي الجهل بحقيقة نشأة اللغة، لعدم وجود ما يدل علي ذلك، مما أفاضت به كتب اللغة مثل: (الخصائص) لأبي الفتح عثمان بن جني (ت 392هـ) والصاحبي في فقه اللغة لأحمد بن فارس (ت 395) والاقتراح للسيوطي (ت911هـ) دون أن يقطع الباحث برأي محدد في هذا المجال، والميل الي نظرية من النظريات. ومن الف سنة احتار اللغوي الضليع إبن جني في الاخذ بأحدها وأكاد أميل الي ان اللغة فطرة أنسانية فطرنا الله عليها، وهي أكبر من أية نظرية أو قواعد أو قوانين، وإنها تأخذ من كل نظرية من النظريات آنفة الذكر بسبب ووتد، وإلا لما إختلفت اللغات واللهجات علي مستوي القومية الواحدة، أو الشعوب الاخري.
في المدارس النحوية
في بحثه الرصين (في المدارس النحوية) يدرس الباحث الدكتور محمد حسين آل ياسين نظرية المدارس النحوية واقفاً عند آراء الباحثين أمثال: الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة) والدكتور شوقي ضيف في
كتابه (المدارس النحوية) الدكتور أحمد مكي الانصاري وكتابه (الفراء ومذهبه في النحو واللغة) وإذا كان هناك من يغلو ويغالي، فينكر وجود أية مدرسة نحوية عربية، أو يمدها ليجعلها ستاً، مضيفاً الي مدرستي الكوفة
والبصرة، مدارس بغداد ويمثلها المبرد والرماني والسيرافي والموصل ورأسها إبن جني. ومصر وممن يمثلها إبن هشام الانصاري ومدرسة الاندلس ومن أعلامها إبن حيان النحوي الذي كتبت فيه الدكتورة خديجة عبد الرزاق الحديثي دراسة قيمة نالت عنها الدكتوراه، وإبن مضاء القرطبي وإبن سيده وغيرهم.
وأري أن كلا الرأيين متطرفان، وحقائق الدرس والبحث تقف عند مدرستي الكوفة والبصرة النحويتين ولا أري غيرهما، وهذه الآراء المتناثرة لا تمثل مدارس أخري.
والباحث آل ياسين لا يقف عند هذا الرأي الذي قلته، بل يجعل كل وكده النص علي الذي يقف علي رأس المدرستين، ليخلص الي أن ما سماه الدكتور أحمد مكي الانصاري “بـ(مظاهر النزعة البصرية) عند الفراء، ليس هو نزعة بَصرية، وإنما كان بعضه من طبيعة الدرس الكوفي وبعضه الاخر من خصائص الفراء نفسه (…) كما نخلص من بحثنا هذا كله الي أن مدرسة الكوفة حقيقة لا مناص منها، وإنها لم يوجهها وجهتها الكوفية يونس بن حبيب كما رأي {المستشرق} (فايل) ولا الاخفش كما رأي شوقي ضيف، ولم يكن الفراء المؤسس الحقيقي لمدرسة بغداد كما رأي الدكتور أحمد مكي الانصاري، إنما النتيجة الصحيحة لكل ذلك هو ما ذهبنا إليه أولاً والذي ذهب إليه قبلنا أستاذنا الدكتور المخزومي من أن مدرسة البصرة تأسست علي يد سيبويه ومدرسة الكوفة علي يد الكسائي وكلاهها تلمذ للخليل، وما يونس والخليل إلا علما ن في المدرسة البصرية، وما الفراء إلا متمم لبناء مدرسة الكوفة مع إحتفاظ كل منهم باستقلاله العلمي وآرائه الشخصية”. ص100 ــ ص101
في بحثه الرصين (الاخفش وعروض الخليل) يناقش الباحث آل ياسين مناقشة علمية هادئة ــ ولله دره ــ قضية أصبحت من المسلمات العلمية، لينسفها نسفاً علمياً كما نسف نظرية الاضداد في اللغة العربية، وهي أن الاخفش الاوسط سعيد بن مسعدة هو من تدارك علي الخليل بحوره الخمسة عشر، ببحره السادس عشر الذي سمي مرة بـ(المتدارك) لتدارك الاخفش عليه وما هو إلا بحر (الَخَببْ) وإن هذا الذي ينسب إليه، ما هي إلا اوراق الخليل إنتحلها الاخفش ونسبها لنفسه، بعد أن أودعها سيبويه لديه فضلاً علي كتابه (الكتاب) وهو قد أزمع رحيلاً عن البصرة نحو بلاد فارس، بعد تلك الخيبة التي مني بها في مجلس الرشيد، في المناظرة التي أفاض الدارسون بذكرها، بين سيبويه والكسائي فيما عرفت بـ(المسألة الزنبورية) ومات سيبويه في رحلته تلك، وما أراه إلا مات هماً وغماً بسبب ذلك الانكسار فيعقد الباحث آل ياسين مقارنة ذكية تدل علي بحث وتتبع ومدارسة بين نصوص مما ورد في (الكتاب) لسيبويه ونصوص من كتاب (القوافي) المنسوب للأخفش، ليصل الي نتيجة علمية مفادها: “هذه الامثلة من النقل المباشر وغير المباشر عن (الكتاب) كافية لاثبات قالتنا أن الاخفش استقي علمه في العروض من سيبويه لا من أحد سواه، خصوصاً أنه ليس في أيدينا ما هو أقدم من كتاب سيبويه يمكن أن يكون مصدراً للأخفش، وإلا لوجدنا نقولاً أخري عن كتب أخري.
هل استدرك الاخفش؟
نخلص الى ان الاخفش تَلْمَذَ في العروض لسيبويه لا للخليل، وإنه تلمذ له في النحو واللغة كذلك. فسيبويه هو أستاذه المباشر وهو الطريق الي الخليل، أو بعبارة أخري هو الحلقة المفقودة بين الخليل ــ مستنبط العروض ببحوره الستة عشر جميعاً ــ وبين الاخفش طريق الدارسين الي هذا العروض” ص117
ولأنه يحترم علمه وعلميته، ولا يريد أن يقطع بشيء دون التأكد منه، ولأن الشك يوصل الي اليقين، كما يقول الامام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505)، الذي سبق ديكارت بقرون في إطلاقه قولته وقالته تلك، فأنه يردف توصلاته هذه بقوله: “ومهما يكن من أمر فأن المسألة تحتاج الي بحث أعمق ودرس أوفي، خصوصاً بعد أن يري كتاب الأخفش (العروض) النور {وأري أن دقة العبارة أن نقول كتاب (العروض) للأخفش}، لنري بوضوح مصادره ورواته واسانيده. وليكون الحكم أقرب الي الصواب”. ص117
الكتاب هذا الموسوم بـ(أبحاث في تأريخ العربية ومصادرها) إحتوي فضلاً علي الدراسات التي وقفت عند أكثرها فيما سبق من سطور، أشتمل في بابه الثاني علي عدة دراسات فيما يعرف بعلم (نقد التحقيق) فوقف عند أكثر من عمل في تحقيق ونشر المخطوطات، منها كتاب (الفتح الوهبي علي مشكلات المتنبي) لأبي الفتح عثمان بن جني. تحقيق الدكتور محسن غياض عجيل ــ رحمه الله ــ الصادر في بغداد عام 1393 ــ 1973، وكذلك الجزء الاول من ديوان أبي الفوارس شهاب الدين سعد بن محمد التميمي المولود ببغداد سنة 492هـ والمتوفي سنة 574هـ والمعروف بـ(حَيْصَ بَيْص) تحقيق مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر والمنشور ببغداد سنة 1974.
وكان بودي ذكر إسميّ من شاركه في التحقيق، ذلك أن الدكتور علي جواد الطاهر، كلفهم ثلاثتهم أيام دراسة الدكتوراه أن يقوموا بنقد أثر محقق فأختاروا هذا الديوان.
وثالثاً كتاب (البديع في نقد الشعر) لأسامة بن منقذ الصادر في القاهرة عام 1380 ــ 1960 وقام بتحقيقه ونشره الدكتور أحمد أحمد بدوي والدكتور حامد عبد المجيد، الذي لم أقرأ له شيئاً في عالم تحقيق المخطوطات، ويبدو أن بدوي وضع أسمه مجاملة، كما وضع أحمد صقر إسم أحمد أمين في الكثير من تحقيقاته، ولم نعهد في أحمد أمين مؤهلات في هذا العلم، وربما وضع لزيادة الاهمية والعلمية، وهذا نوع من التدليس في عالم الكتب. وفي العراق حصل هذا أكثر من مرة ولا نريد النص عليه. محقق مبتدئ يضع اسم أستاذه، أو محقق معروف، لتأكيد علمية عمله!! ومادمنا في مجال علم نقد التحقيق، فلا بد لي من أنص علي جهود المحقق الضليع الاستاذ هلال ناجي، وكذلك الاستاذ عباس هاني الجراخ، في علم نقد التحقيق.
جهوده في التحقيق
الاستاذ الدكتور محمد حسين آل ياسين، الذي حباه الله بمواهب عديدة: البحث والكتابة وشاعرية فياضة ثره، حباه الله المكوث والمطاولة علي الدرس، فقدم جهوداً باهرة في عالم تحقيق المخطوطات، ولقد قدم في كتابه هذا، تحقيقين لكتابي (التبيان) لأبي جعفر الطوسي (385 ــ 460) و (متشابه القرآن) المنسوب لعلي بن حمزة الكسائي، وأقف أنا عند رأيه بالنظر بالرسم القرآني، الذي يراه أصبح عائقاً مهماً أمام قراءة جمهرة كبيرة من الناس للقرآن، وصار شكوي كثير منهم، ذلك أنهم لم يتعودوه ولم يألفوه… تراجع ص135، وأري أن لا نتراجع أمام كسل الناس، وتراجع علميتهم، فمنذ سنوات (1988) أطلق الدكتور هادي الحمداني ــ رحمه الله ــ قولته بالغاء الهمزة، لصعوبة نطقها ورسمها والاقتصار علي رسمها هكذا (ءَ) وهذا رأي خطير يمس قدسية اللغة، كذلك تحوير الرسم القرآني، ليوافق النطق وقد بدأ به المغاربة فيرسمون عبد الرحمن، هكذا (عبد الرحمان) فالرسم القرآني الذي جاءنا من الآباء والاجداد، مقدس، ولا يجوز المس به ورسمه بأي شكل من الاشكال. بحجة شكوي الجهال منه، ومتي اعتد أناس يحترمون أنفسهم بآراء هؤلاء؟!!
ولأن الباحث آل ياسين، لا يرغب في ــ مجال العلم والبحث ــ السير في الطرق الممهدة ولأنه جعل نصب عينيه أن كل عمل لابن آدم غير مكتمل البتة لاستيلاء النقص علي جملة البشر، فأنه لم يكتف بهذا الذي قدمه في تحقيقه لكتاب (متشابه القرآن) إذ يحصل علي تفرغ علمي سنة 1991 ــ 1992 من عمادة كلية الآداب ورياسة قسم اللغة العربية فيها، فيواصل البحث، ليقدم للقراء الجادين هذا الكتاب محققاً تحقيقاً رصيناً، جاعلاً من مخطوطة مكتبة جستر بيتي بدبلن، النسخة الاصل، كما أفاد من القطعة المأخوذة من النسخة الباريسية وقد نشر هذا الجهد بكتاب يقع في مئتين وإثنتي عشرة صفحة، صدرت طبعته الاولي عن دار عمار للنشر والتوزيع بالعاصمة الاردنية عمّان سنة 1428 ــ 2008، وقد أقف عنده يوماً بدراسة مفصلة لأني أراه قميناً بها.
ولأنه كما أسلفت في بحث دائب وقد ألزم نفسه منذ أن وضع كتابه (الاضداد في اللغة) رسالة للماجستير عام 1973، للعناية بهذه الظاهرة، ودوام البحث فيها وأعني ظاهرة الاضداد، فقد واصل البحث عن كتاب الاضداد لأبي محمد عبد الله بن محمد التوَّزي المتوفي سنة 233هـ، إذ حسبه ضائعاً ولم يصل إلينا، كما ورد في موضعين من رسالته آنفة الذكر علي الصفحة 313 وثانية علي الصفحة 386، إلا أنه بعد بحث ومطاولة عثر علي نسخته الوحيدة مصورة في معهد المخطوطات العربية في القاهرة، عن الأصل المكتشف في المغرب، فحققه ونشره في مجلة (المورد) الفصلية العراقية ــ العدد الثالث من المجلد الثامن عام 1979، وأعاد نشره في كتاب صدرت طبعته الاولي عن دار عمار بالاردن سنة 1430 ــ 2009، أهداه ــ محقاً ــ الي الخليل الثاني، عالم العربية الكبير أستاذي وأستاذ الاجيال مجدد الدرس اللغوي الدكتور مهدي المخزومي، وفاءً وحباً وأفتقاداً في ذكراه الخالدة.
كما حقق نصاً آخر من نصوص الاضداد وهو (رسالة الاضداد) لشيخ الحرمين جمال الدين محمد بدر الدين محمود المنشي (ت 1001هـ) واصدره ــ هو الأخر ــ بطبعته الاولي عن دار عمار ــ كذلك ــ سنة 1429 ــ 2008.
كما قدم نصاً آخر من نصوص هذه الظاهرة اللغوية، ونشره في مجلة المجمع العلمي العراقي سنة 1987، وأعني به باب الاضداد لأبي عُبَيْد القاسم بن سلام (ت 224هـ) وقد إجتمعت له من هذا النص صور أربع نسخ نفيسة: إيطالية وتركية وتونسية وعراقية، هذا النص الذي وَهِمَ المستشرق الالماني الشهير كارل بروكلمان في كتابه الموسوعي (تأريخ الأدب العربي) وَهِمَ في نسبته الي أبي عبيد، فقد تبين أن هذه المخطوطة برقمها الذي ذكره هي كتاب الاضداد لأبي حاتم السجستاني (ت 255هـ)، وإذ بعد العهد بنشرة المجلة، فقد أعادت نشر هذه الدراسة دار عمار الاردنية بطبعة أولي سنة 1430 ــ 2009. ولأن الباحث الدكتور محمد حسين آل ياسين، يخشي علي جهوده العلمية عاديات الزمن، الذي يعصف دورانه بكل شيء، ولأنه حادب عليها حدبه علي أبنائه، فقد جمعها ــ ليطمئن عليها ــ هذه التحقيقات الثلاثة في كتاب بعينه، لم تفته فيه الالتفات الي الاقدمية، فنشر نص أبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224) ليليه نص التوَّزي (ت 233هـ) مثلثاً بنص المنشي (ت 1001 هـ). وصدر الكتاب عن عالم الكتب بطبعته الاولي سنة 1417 ــ 1996. في الفقرة الثانية والعشرين من باب (كتب معاني الشعر) من بحثه الموسوم (ما وُضِعَ في اللغة عند العرب الي نهاية القرن الثالث) المنشور في مجلة (المورد) العدد الرابع، المجلد التاسع 1400 ــ 1980، والذي أعاد نشره في كتابه (أبحاث في تأريخ العربية ومصادرها) الذي درسناه آنفاً، يرد قوله لدي ذِكْر أبي الحسن بن كيسان (ت 299هـ) له: شرح السبع الطوال الجاهليات: نسخته المخطوطة الوحيدة في مكتبة برلين رقمها (7440). أمللك صورة منه، وأعمل علي تحقيقه.
هذا ما ذكره الباحث عام 1980، ولانه لا يطلق الكلام دون أن يحققه، لكن قد تُشغل الانسان الشواغل، وها هي الحرب الضروس تطحن الناس والحياة، ولأن ما لايدرك كله، لا يترك جله، فقد آن للباحث أن يخرج قسماً من هذا المخطوط، ريثما يتم تحقيق سائر أقسامه، وهذا القسم هو شرح قصيدتي امرئ القيس وطرفة بن العبد، أو ما بقي من شرح القصيدتين، وكان دافعه الي تحقيقها ــ مع نقصها ــ أنها تمثل أقدم ما وصل إلينا من الكتب الموضوعة لشرح المعلقات، مع ما فيها من فوائد لغوية مبكرة، تدّل علي اصالة العلم، ودقة المأخذ، وعمق المنهج، لذا حقق لنا ــ وهو الذي وعدنا بذلك ولم يَعِدنا!! ــ هذا السفر النفيس واصدره بكتاب عن دار عمار بعمان سنة 1430 ــ 2009 أهداه بعبارات رقيقة الي أبنائه: دانية والطيّب وليلي، الي من لا أقدم لهم ــ حاضراً بينهم ــ خيراً من الكتاب ولا أترك لهم ــ غائباً عنهم ــ خيراً من الكتاب. واطال الله بقاءك يا أبا الطيّب كي تخدم لغة العرب والقرآن.
جدوى التفرغ العلمي
جميل هو التفرغ العلمي، يمنح للعلماء الاعلام، وللجهابذة المتبحرين في دنيا الدرس والبحث.
فما بالك بتفرغ علمي يمنح للباحث الاصيل محمد حسين آل ياسين، فقد مَنَّ اللهُ عليه بتفرغ علمي منحته إياه أم الجامعات العراقية، جامعة بغداد مدة عام دراسي كامل (2007 ــ 2008) بقضيه في رحاب الجامعة الاردنية ومكتبتها العامرة، فوجد الفرصة سانحة وليست بارحة لأتمام (رسالة التعريب) للمنشي (1001هـ) وتحقيقها وفهرستها، وتعود صلة الباحث بالمنشي منذ أن عكف علي دراسة رسالته في الاضداد ونشرها في مجلة المجمع العلمي العراقي سنة 1984، كما أسلفت ذكر ذلك، فحقق هذا النص اللغوي الرصين، وتولت نشره دار عمار بالعاصمة عمّان سنة 1430 ــ 2009 أهداه الي الجامعة الاردنية ونجمتها المتألقة: كلية الآداب، وروضتها الغناء: مكتبتها العامرة.
وبعد فهذا غيض من فيض علم الاستاذ الدكتور الباحث الرصين محمد حسين آل ياسين وما أراه ــ هذا المنقطع للعلم ــ سيقف عند هذا الذي أخرجه للناس، فهو سيواصل البحث والكتابة، وستكون لنا معه وقفة ووقفات ــ إن أراد الله ــ ولا راد لإرادته .
*عن صحيفة الزمان