حامد سرمك حسن : الحكم الجمالي (2/2)

hamed sarmak 4المبحث الرابع
الذاتي والموضوعي في الحكم الجمالي:

إن المسألة الجوهرية في مبحث الحكم الجمالي هي كيفية التقريب بين مضمون الحكم وحقيقة الشيء موضوع الحكم كما هو في ذاته. فنحن نرى أن هناك العديد من العوامل التي تتدخل في تحديد نوعية الحكم؛ سواء المتعلقة بشخص المُدرِك أم الشيء المُدرَك أم الواقع المحيط والسياق الذي يوجد فيه الشيء وكذلك المنهج أو التصور الذي يصدر عنه المدرِك في فهمه للكون والحياة والنفس. وعليه قد تكون نتيجة الحكم مبالغة في إضفاء صفة الجمال على الشيء أو في تقليلها دون حدها الواقعي. والحالة الأقل والأندر من الحكم هي أن يكون المعنيان متطابقين، وهذا ما لا يحدث إلاّ في ظروف مثالية يسعى الفلاسفة ورواد نظرية المعرفة إلى تقنين ما يقربّهم من تلك المثالية قدر الإمكان.وتبقى لدينا قضية مهمة يتوجب التعمق فيها وإدراك حقيقتها لأن لها أكبر الأثر في تحديد نوعية فهمنا للجمال وحكمنا عليه. فلقد كان الاختلاف بين الفلاسفة حول الجمال من جهة حقيقة وجوده يتمثل في اتجاهين؛ بين من يرى أن الجمال شيء موجود في عالم الحق والواقع، وبين من يرى أن الجمال مجرد شعور ذاتي لا وجود له إلا في داخل الإنسان، أي انه من عالم الوهم والانفعالات النفسية. لذا اختلف المفكرون في بيان مقياس الجمال وتوزعوا في مذهبين هما المذهب الموضوعي(1) والمذهب الذاتي (النفسي). فالجمال إما أن يكون موضوعياً له وجود مستقل، أي حقيقة واقعية، أو أن يكون ذاتياً يحدده شعور الفرد وبواعثه. ويترتب على ذلك أن الحكم الجمالي قد يكون موضوعه صفة الجمال في الشيء ذاته فيكون الحكم موضوعياً، وقد ينصب على الشعور المتحقق في الذات فيكون الحكم ذاتياً. وعلى وجـه التقريب يقال عن رأى انه ذاتي إذا ذهب إلى أن صدق مجموعة ما من العبارات يقوم على الحالة العقلية أو على استجابات الشخص الذي يصوغ العبارة. وهكذا يذهب الذاتي في مبحثي الأخلاق والجمال إلى أننا إذ نقول عن شيء ما انه خير أو جميل، معناه أن نقول شيئاً ما عن استجابة الشخص القائل بالنسبة إلى ذلك الشيء، فقد يكون ذلك الشيء باعثاً عنده لشعور خاص باللذة، دون أن نقول شيئاً عن خواص الشيء الموضوعية.(2 )وقد يكون السبب الأساس لهذا الاختلاف راجع إلى فكرة قارة عند المهتمين بعلم الجمال مفادها أن الجمال لا يمكن تعريفه ومعاينة كنهه، لان ما هو كائن واقع مشاهد هو الأشياء الجميلة، أما الجمال نفسه فأمر اعتباري ليس له وجود خارجي مستقل عما هو جميل. ولذا اختلف المفكرون في بيان مقياس الجمال وتوزعوا في مذهبين هما المذهب الموضوعي والمذهب الذاتي (النفسي). فالجمال عند أصحاب المذهب الموضوعي صفة خارجية تتحقق في عالم المادة أو في عالم المعنى، يدركه كل شخص عادي، ولا يتوقف إدراكه على وجود استعداد نفسي مستواه فوق المستوى الطبيعي ؛ فمنشأ الجمال عندهم هو الاتساق والانسجام في الألوان والأشكال والأساليب أو النغمات، سواء أكان ذلك الانسجام طبيعياً أم صناعياً. وأساس الانسجام هو الوحدة مع التعدد، أي اجتماع عناصر مختلفة وائتلافها بحيث تكون وحدة مترابطة الأجزاء، متناسبة العناصر، أما أصحاب المذهب النفسي فيرون أن الجمال لا يرجع إلى صفات الشيء، وإنما يرجع إلى حالة شعورية تحدث للإنسان عن اتصال عقله بالشيء، وهذه الحالة الشعورية هي الشعور بالرضا والاطمئنان أو باللذة والسرور.
وثمة موقف آخر يتخذ موقعاً وسطاً من الممكن تسميته بالموقف الموضوعي الذاتي. حيث يرى أن الحكم الجمالي قد يكون ذاتياً وموضوعياً في الوقت نفسه باعتبار أن الحكم يكون نتيجة لتفاعل قدراتنا النفسية والعقلية مع سمات محددة بالذات نحن واجدوها في الموضوع ؛بمعنى أن الجمال يتشكل في المنطقة الوسط مابين الشيء الجميل والعقل الذي يدركه.
ولا يمكننا الاقتصار – في ظل الإدراك الاعتيادي للعقل البشري- على صفة واحدة للجمال سواء الموضوعية أم الذاتية. لأن الإدراك والحكم الجمالي لا يكونان إلا نتيجة لتفاعل الصفتين ، فالموضوع الخارجي من ناحية والإحساس بهذا الموضوع من ناحية أخرى هما وجها المسألة التي لابد من توافرها. فالجمال إذن كقطعة العملة ذات الوجهين أحدهما هو الجانب الذاتي وأثره في الشعور بالجمال، والآخر هو الجانب الموضوعي ومدى جوهريته في إثارة هذا الشعور الجمالي، ولولا الإدراك الذاتي لما توصلنا إلى الموضوعي، وهذا عين ما صرح به “جود” حين شبه الفن بالنافذة التي يمكن أن نطل منها على حقيقة الجمال.
ويعدّ “أفلاطون” من زعماء المذهب القائل بموضوعية الجمال حيث يرى أن الشيء ـ بغض النظر عن الإدراك البشري ـ يكون جميلاً إذا ما توفرت فيـه صفات معينة، وذلك من قبيل وجود سمات محددة توجب الحكم بجمال الشيء إن توافرت فيه. ويعد مثال الجمال بالذات الذي يوجد في العالم المعقول هو أساس موضوعية الحكم الجمالي عند “أفلاطون” أو سمة الجمال التي تؤسس مفهوم الشيء الجميل وطبيعته. وهذا المثال بالذات – لكونه صاحب وجود حقيقي مستقل عن الإدراك ، ولأنه مثال أعلى فقد سُمِّيت فلسفة “أفلاطون” بالموضوعية المثالية. فَسِمة الجمال في الشيء المحسوس ناجمة عن مدى مشاركته في صفات الجمال المتحققة في مثال الجمال بالذات، لأن ثمة مثل أعلى في عالم الروح يصدر عنه الجمال الحسي.
ونجد عند “أرسطو”، أيضاً، حكماً موضوعياً ولكنه يختلف عن “أفلاطون” في ماهية هذا الجمال المحسوس، فقد أرجع الجمال إلى ذات الشيء المدرَك كخصائص موضوعية متأصلة فيه أو في العلاقات بين أجزائه وليس إلى جمال مثالي خارج الشيء.
وعلى الرغم من هذا التأكيد على موضوعية الجمال – وإن اختلفت نوعية هذه الموضوعية بين المفكرين- إلا أن هناك من المعنيين من يعتقد اعتقاداً جازماً بذاتية الجمال والحكم الجمالي لإيمانهم بأن ما في الموضوع الجمالي مـن سمات وصفات هي ما تشعر به الذات تجاهه؛ ونلاحظ ذلك عند “كروتشه” و”باش”. يرى “كروتشه” أنه ليس للجميل أدنى وجود طبيعي، أما “باش” فيقرر إن المهم في التجربة الجمالية هو “الذات” لا “الموضوع”.
من جهة أخرى، فان العمل الفني لم يكن ليوجد من دون توفر شروط معينة تؤهله للاندراج ضمن النوع الفني الخاص به. وهذه الشروط هي، بلا شك، سمات موضوعية في الأثر الفتي وليست من نسج خيال المتذوق.
وعلى الضد من تلك النظرة الذاتية التي يعلن عنها “كروتشه” و”باش”، ما نجده عند “ريمون بايير” في تأكيده على أهمية الصفة الموضوعية للجمال، حين يقرر أن مهمة عالم الجمال أن يبين لنا كيف أن “الذات” ليست هي كل شيء في الحكم الجمالي، وكيف أن ثمة شيئاً يظل خارجاً عن الذات ألا وهو ما في الموضوع الجمالي نفسه من توازن في صميم “بنائه الأستطيقي” وهذا الشيء هو على وجه التحديد العامل الفيصل الذي يظل الحكم الجمالي مشروطاً به دائماً أبداً.(3 )
وهذه الدعوة من قبل “بايير” غايتها جعل الحكم الجمالي موضعياً يستند إلى أسباب نابعة من الموضوع ذاته وليس من إنتاج الذات وما تحمله من طغيان الأهواء والنزوات في الحكم. فلا يمكننا الاستناد إلى شيء ثابت يحقق شرعية الحكم ما دام الحكم ينبع من أعماق النفس العصية على الضبط والتحديد، فضلاً عن اختلاف الميول والأمزجة النفسية من شخص إلى آخر، بل حتى عند الشخص نفسه في ظروف مختلفة. وهذه الضبابية أدت إلى ذهاب بعض الباحثين إلى القول بأن الموضوع الجمالي ((هو في صميمه مجـرد “موضوع سيكولوجي” يعبر عن نشاط خاص تقوم به الذات بإزاء الأشياء. فليس الطابع الجمالي لأي موضوع من الموضوعات بمثابة كيفية باطنة في صميم هذا الموضوع، بل هو فاعلية تضطلع بها الذات، أو موقف تتخذه بإزاء ذلك الموضوع)).( 4) لكن هذا الكلام قد يكون مخالفاً لماهية العمل الفني الذي يتوجب بحسب طبيعته أن تتأصل فيه بعض من العناصر الموضوعية أو ما يتشكل بينها من علاقات تصدر عنها كيفيته الجمالية .
وعلى هذه الكيفية الجمالية وما تشتمل من سمات متحققة موضعياً في ذات العمل الفني، يسعى “بايير” إلى تأكيد موضوعية الحكم الاستطيقي باشتراط مرجعية (الموضوع الجمالي) في توجيه من يتصدى للحكم عليه؛ أن تكون العودة المستمرة إلى العناصر (الموضوعية) التي يكتنزها الموضوع ذاته هي المحددة لنوعية الحكم. والغاية مـن هذه العودة والاستناد إلى السمات الموضوعية المحددة للكيفية الجمالية للموضوع هي التوصل، قدر المستطاع، إلى الحكم الصحيح أو الحكم المطابق Conform Judgement الذي يصدق على الموضوع بتمامه.
إن الذاتية والموضوعية في الحكم الجمالي حقيقتان لا يمكن التغاضي عنهما أو إنكارهما، ولا يمكن أن يتطابقا ويكونا شيئاً واحداً إلا في ظل ظروف مثالية للإدراك والكمال الإنساني. أن يكون الإنسان قد عاش على وفق الناموس الكوني الحقيقي في جميع خطراته، وتطهرت نفسه من الأهواء والانحرافات والميول إلا ما وافق الناموس والحق، عندها من الممكن أن يكون الواقع في ذاته وما يدركه الإنسان منه شيئا واحداً، حينئذ نصل إلى الحكم المطابق الذي يصدق على جمال الجميل بكليته. ولكن، في ظل الظروف الاعتيادية، فان الجمال ذاتي وموضوعي معاً أو خارجي وداخلي معاً؛ لان مما لا تؤيده الخبرة، فيما لو كان الجمال مدركا حسيا وموضوعيا فقط، أن يكون أقوى الناس حاسة(بالأخص حاستي السمع والبصر)، هو الأكثر إحساسا بالجمال.
والجمال، في طبيعته، تابع لحكم العقل الذي له وحده القابلية على إدراك النسب والعلاقات من السمات الجزئية المفردة، ولكن العقل لا يدرك الشيء إلا وفق شروط الإدراك المتحددة بالموقف الخاص للشخص المُدرِك، وبالتالي، فان ما يدركه ليس هو بالتمام ما يقع خارج الذات. وبهذا يكون الحكم ذاتياً بسبب اختلافه، بالضرورة، عن صفة الجمال كما هي في الموضوع خارج الذات. ثم إننا لا ينبغي أن ننفي جمال الجميل في ذاته ، لان تأثير الجميل فينا واستغراقنا فيه ينم عن سمات معينة ونمط خاص من التناسق متوافر فيه. وهذه السمات تتعلق بمظاهر التخاطب (شرط الفن ) وليس بمظاهر القيمة (شرط الجمال). ويستطيع المرء اكتساب سمات الشرط الأول “شرط النوع أو الفن” من جراء الخبرة والمراس بمختلف الآثار الفنية فتصبح لديه بذلك ملكة يستطيع من خلالها تمييز السمات الجمالية من غيرها، كما هي في ذات الأثر أو الموضوع الجمالي.
تعدُّ الحواس هي المحك الأول في التعامل مع هذا الشرط “شرط الفن” لأنها صفات محسوسة يعتمد العقل في الحكم عليها على ما يستلمه من إشارات حسية. أما شرط الجمال فلا بدّ من توفر مثال جمالي من جهة القيمة والمفهوم يستلهمه المتذوق مسبقاً في إطلاق حكمه الجمالي متحدداً بمدى توافق نظام القيم في الشيء مع ما لديه من مثالية للجمال. ومن ثم سيرجع مناط الصدق في الحكم إلى أفكار قبلية “معيارية” يتوجب أن تكون مبرهناً عليها من ضمن نظام فلسفي متكامل قد أُثْبِتَتْ مصداقيته في تفسير الكون والحياة والنفس.

المبحث الخامس
مقياس الحكم الجمالي؛ مقياس الجمال:

إتضح فيما مضى مدى تعقد العملية التي تسبق الحكم الجمالي بوصفها نتاج إشكالية متشعبة تتداخل فيها عوامل مختلفة ويشترك في صنع هيكليتها أكثر من عنصر واحد.
ويمكننا، في ضوء ما تقدم، التمييز بين عنصرين لهما كل الأثر في تحديد مفهوم الجمال وهما “شرط النوع وشرط القيمة”، حيث من المفترض أن يتجليا، بشكل أو بآخر، في أي شيء من الوجود. ولا يعني ذلك وجوب تواجدهما لزوماً لوجود الشيء، بل قد يقتصر الحكم الجمالي على الشيء من جهة شرط النوع فقط كسمة ستاتيكية ثابتة “صفة وليس فعل” أو على شرطي النوع والقيمة “فعل” كصفة ديناميكية قابلة للتغير نحو الأفضل أو الثبات أو الأسوأ أو حتى الزوال من الشيء.
ثم كان ذلك التعارض في الآراء حول أيّ من المنهجين “المعياري والوصفي” يصلح لدراسة الجمال؛ أهو المنهج الذي يعتمد تصوراً مسبقاً عن مفهوم الجمال فيتم الحكم على جمالية الشيء بمقدار ما يتكشف لنا من عناصر جمالية مقرّة سلفاً في المعيار الذي نلتزمه، أم أننا نستنبط معايير الجمال من الشيء ذاته من خلال إجراء عملية استقرائية باعتمادنا المنهج الوصفي لمعرفة العناصر التي أدت إلى إعجابنا بالشيء فنعدها سبباً للجمال مهما كانت. ولا يخفى ما يعنيه هذا التوجه الوصفي من تغير في معنى الجمال بحسب الظروف والأهواء والأزمان والأشياء.
من هنا؛ تبرز الحاجة إلى الجمع بين هذين المنهجين أو المبدأين بشكل لا تناقض فيه. فلو أمعنا النظر في خلافاتنا لوجدنا أكثرها غير حقيقية، من جهة أننا قد نختلف حول شيء ما ولكننا في واقع الأمر نتحدث عن سمتين متغايرتين للشيء أو لنقل عن شيئين مختلفين وليس الخلاف حـول السمة ذاتها أو الشيء نفسه؛ كأن يدور الحديث عن مركبة ما، فيقول أحد أن المركبة مصنوعة من المعدن ويقول آخر أن مقاعدها من الإسفنج والجلد ويعترض ثالث بان إطاراتها من مطاط، والحقيقة انه لا وجـود لخلاف صادق بين الجميع؛ لأن الكلام تم عن شيئين أو أشياء مختلفة من حيث النوع وليس الدرجة. وهذا بالذات ما نراه حادثاً في تفسير الجمال وسبب الإقرار الشامل الذي يبديه المعنيون باستحالة تعريف الجمال ووضع مفهوم واحد له، مما أدى إلى الحكم بنسبية الجمال وتغيره بحسب وجهات النظر والزمن والمكان..الخ.
ودفعاً لهذا التشتت والتباين في الأحكام فقد سعى الفلاسفة وعلماء الجمال لوضع مقاييس ومعايير للجمال يتسنى في ضوئها معرفة الجميل. نستطيع سلفاً تحديد نوعي الأحكام الجمالية من حيث استنادها إلى الذوق، فمنها ما يتحدد بالقيمة القارة في الشيء بوصفها فعلاً وليس صفة “شرط الجمال” ومنها ما يتحدد بالصفات والأعراض الخارجية((شرط النوع))(5)، ومفهوم هذا الشرط متغير تبعاً للحواس والأهواء والرغبات ولا بد أن يكون الحكم من جهة هذا الشرط ديناميكيا متغيراً تبعاً للزمان والمكان والضرورة. فنحن نرتدي ملابس خفيفة في المناطق الحارة بينما في المناطق الباردة نرتدي الملابس السميكة، ولا يخفى عظمَ الاشمئزاز الذي يستشعره الناس تجاه من يرتدي الملابس السميكة في المناطق الحارة أو من يرتدي ملابس خفيفة في المناطق المتجمدة. لأن الملابس هنا شيء عرضي، صفة خارجية لا يمكن إخضاعها لفكرة مطلقة فيشترط على البشر التزامها في كل زمانٍ ومكان وتحت أي ظرف؛ كأن نقرر أن مقياس الحكم هو الملابس السميكة ويجب أن يرتديها الإنسان حتى في المناطق الحارة، وانه في حالة عدم تحقق هذا الشرط سيحكم على ذلك الشخص بأنه خال من شروط الجمالية والعقل. لا نحتاج إلى كبير جهد للاستدلال بان حكماً كهذا مما يخالف الفطرة والمنطق السليم.
والحكم الجمالي يستلزم منا أن نعي مسبقاً نوعين من المظاهر؛ فتحت ذريعة لا مادية الجمال ولا محسوسيته حاول بعض الباحثين الاعتماد على الشعور الذي يحدثه الشيء الجميل في شخص المتلقي، لتحديد الجمال من خلاله . لان الشعور الجمالي لا بد أن يكون ناجما عن وجود سمة معينة في الظاهرة الجمالية أو الشيء موضوع البحث قد تراءت للمتلقي، وبالتالي فانه يمكن إدراك طبيعة الجمال من خلال تحليل ذلك الشعور. وقد سبق القول أننا في حالة التقييم نتعاطف مع الشيء بلا حكم عقلي، وفي حالة رؤية صفات الشيء الجميل نرتكز إلى العقل بعيداً عن العاطفة وان ثمة فارق بين القول “أنا أميل للشيء” وبين القول “إن الشيء جيد” والأمر يحتاج إلى تجريد عال لنتمكن من الحكم بجودة الشيء مع أننا لا نميل إليه أو العكس. وهنا لا بد أن ينتج أن الجمال حالة متطورة غير ثابتة مادامت خاضعة لتحديدات الشعور المختلف من شخص إلى شخص فضلاً عن اختلافه في نطاق الشخص الواحد بين حالة وحالة، مما حدا بأحد الباحثين إلى أن يعرف الجمال من منطلق تلك العوامل المتغيرة وهو في الحقيقة خلط بين شرطي النوع والقيمة.(6)
وهذه المسألة، المتمثلة بإمكانية وضع معيار ومقياس ثابت للجمال، كانت مدار خلاف شديد حيث تجسدت في الاعتراض الذي أثير حول إمكان قيام علم للتذوق الجمالي، من جهة توافر الشروط العلمية من ثبات وموضوعية..الخ.. وهذا، حسب الآخرين، مما يتعاكس ظاهريا ومفهوم الذوق والجمال كما يتوهمون.
ومناط الأمر يتم باعتماد الفكرة والجوهر والماهية في السلوك العلمي لمعرفة حقائق الأشياء ولا يُعنى بالظواهر والأعراض المتغيرة لأنها لا تنفع في وضع القانون الذي ينفعنا، فضلا عن فهم الكون وأنفسنا، في أن نتحكم بالقوى الطبيعية والنفسية وتوظيفها لخير الإنسانية. من هنا كان أهمية الدور الذي أداه “هيجل” في علم الجمال من حيث دفاعه عن إمكانية قيام علم للتذوق الجمالي حين أكد ضرورة النظر إلى الجمال بالذات وليس إلى الموضوعات الجزئية لأن أساس العلم يتمثل في الفكرة وليس الخصائص الجزئية ولا الأشياء أو الظواهر.
إن الحكم الجمالي، بغض النظر عن كونه معيارياً أو وصفياً، يعدُّ عملية صعبة ومعقدة في حد ذاتها لا يتسنى لكل شخص التصدي لها على وفق شروطها، ولا تكفي النيّة والذوق فقط للتوصل إلى عناصر الحكم الجيد. لإن استخراج قيم الجمال يتطلب، فضلا عن الموهبة والبعد المعرفي، دقة وقدرة على التأمل الواعي العميق والمنتج لخلق حالة من الألفة بالنص والاندماج معه لغرض الخروج بدراسة تحليلية تمكننا من إصدار التقدير الجمالي عليه بما يتناسب ومدى أصالته الفنية والجمالية.
وما المقاييس التي وضعها الفلاسفة للجمال إلاّ تذبذباً وتداخلاً بين شرطي الشكل الجمالي “النوع والقيمة”. فكانت تميل أحياناً إلى شرط القيمة من جهة روحانيتها واعتمادها العقل والإدراك الباطن والتركيز على القيم والفضائل، أو تميل إلى الحسية والصفات والأعراض التي تظهر للحس ويدركها البشر ظاهرياً(*2) وهو كالاختلاف في إدراك الجمال من جهة إدراكه روحياً أو عن طريق الحواس.
كان السوفسطائيون(7) – وهم من الذين يقولون بنسبية القيم- قد نظروا إلى الفن على انه ظاهرة إنسانية ولا يرجع إلى أصل إلهي أو مصدر مقدس. كذلك وضح لهم أن القيم الجمالية يمكن أن تتغير بتغير ظروف الحياة الإنسانية وبحسب اختلاف الزمان والمكان. وينطلق “جورجياس” من تحليله لأثر الكلمة أو اللغة LoJos (8) في النفس الإنسانية من جهة ماتتمتع به، فضلا عن قدرة الإقناع العقلي، من طاقة سحرية باستطاعتها إثارة عواطف الإنسان وترويضها وتوجيهها، ودفعه، بسحر الكلام، إلى سلوكيات قد تتنافى أحيانا مع العرف بسبب سلبها إرادته لما تبعثه في نفسه من تخيلات. إن نظرية “جورجياس” في الجمال لا تعتمد القيم الحقيقية ولا تركز على الجوهر وإنما تتحدد على وفق التأثير الحسي العاطفي الذي يحدثه الشيء عند المتلقين، حتى إن نظريته تستند إلى الوهم ، وأضحت تربط القيم الجمالية بالنشوة واللذة الحسية .
ويقرن “سقراط” بين الإيمان والفضيلة والجمال ولا بد من عنصر الفائدة في الجميل بأن يكون مؤديا للغرض منه. أما “أفلاطون”، فسعى لتفسير السلوك الجمالي للبشر انطلاقا من نظريته في المثل التي تستند إلى مفهوم التذكر، باعتبار أن الأحاسيس الجمالية عند الإنسان ما هي إلا ذكرى انحدرت مع الإنسان من حياته التي كان يحياها في العالم العلوي، هناك، بين الآلهة والملائكة. و لأن المُثُل هي الكمال في الأشياء من حيث الاعتدال بين حدّي الإفراط والتفريط فانه يقول بجمالية الفضائل لتوسط كل منها بين رذيلتين، لأن الجمال عنده يتمثل في الاعتدال والتناسب والجميل هو المنسجم المحدود.
ويُعدُّ “وليم هوجارت” من الذين اقتصروا على شرط النوع “شرط الفن” في تحديدهم لمقياس الجمال. حيث ذكر عدة عوامل يراها مؤثرة في الحكم الجمالي على الشيء باعتبارها مقياساً للجمال، وهي عوامل مؤثرة في مجموعها ولا يمكن لأي منها، بمفرده، أن يكون مقياسا أوحداً للحكم الجمالي، وأهم هذه العوامل: (1) التناسب. (2) التنوع. (3) الاطّراد. (4) البساطة. (5) التعقيد. (6) الضخامة(9) .
ويبدو أن مدار الخلاف ليس في عدم أهلية شرط النوع وشرط القيمة لتحديد مفهوم الجمال في الفن، ولكن الخلل يكمن في اعتماد أحدهما فقط والاعتقاد انه هو الممثل الحقيقي للجمال وأن ليس هنالك تأثير لعنصر آخر غيره. والأساس أن العنصرين هما المحددان للقيمة الفنية سواء من ناحية شرط النوع أو شرط الجمال، ويجب اعتمادهما كليهما بشرط اختصاص كل واحد منهما بمجاله ولا يتعدى إلى غيره، لان الفرق بينهما فرق في النوع وليس في الدرجة.
ولعل “كانتْ” من الفلاسفة الذين تعمقوا في دراسة الحكم ووضع المقاييس الجمالية كما في كتابه “نقد الحكم” فنراه يقرر، بدءاً، بأن: ((الحكم الجمالي يرتد إلى أصول سابقة على تكوين التصورات الذهنية(10) وعلى أن معايير القيمة الجمالية لها طابع شكلي)).( 11) ويمكن إجمال التحديدات التي يضعها “كانتْ” بالأمور التالية: أولاً: حرية الجمال من قاعدة سابقة يقاس عليها. ثانياً: حريته من الغاية العملية أو النفعية. ثالثاً: الحكم فيه شامل كوني ينطبق على الجميع. رابعاً: انه صورة اتفاق بين العقل والحسّ أو بين ما يُتخيل وما يرى. والحق إن “كانتْ” وإن تحدث عن الجمال في كلامه أعلاه إلا أنه في حقيقة الأمر لا يقصد إلاّ الفن متمثلاً في شَرْطي الصيغة والتعريف أو شرط الفن، ونرى هذه السمة بارزة في الأمور الأربعة التي وضعها للحكم الجمالي.
يتعلق الأمر الأول بشرط الفن من حيث الصيغة والتعريف لأن المعتمد في القاعدة هو ما يُستنبط من الأعمال الفنية للمبدعين، وهذه تنفع الفنانين والنقاد في وضع المقاييس اعتماداً على الأعمال الفنية ذاتها وليس عن معيار مسبق.
وفي الأمر الثاني يفصل “كانتْ” بين الجمال والمنفعة، لان الجمال هو الذي يرتضيه الذوق دون اعتبار لأية منفعة، أي أن المتعة الفنية لا تتحقق بأهمية الموضوع. وهذا الأمر أيضاً من ضمن شروط الفن بوصفه تعريفاً جمالياً للتجربة على وفق شروط الشكل الفني، وهو مما يتوجب النظر إلى توفر الشروط الفنية ليندرج العمل ضمن صنف الفن وهذا الشرط يتحقق بالتجرد عن الموضوع أو الغاية أو القيمة.
أما الأمر الثالث فيشتمل الشرط الكمّي؛ من منطلق ان اللذات الجمالية لذّات كلية أو عامة. وان المرء يصدر حكمه على الشيء بأنه جميل من منطلق أن هذا الشيء جميل في ذاته وانه لا بد من أن يبدو كذلك في أعين الآخرين . ويرد “سانتايانا” على هذا الرأي بأن الواقع يشهد بخلاف ذلك تماماً فان تنوع الأذواق في الميول وأساليب التربية الفنية دليل قاطع على استحالة الوصول إلى “أحكام كلية” في مضمار الجمال.( 12)
والأمر الرابع يوحي بأنه يتمثل في تجسيد المفهوم حسياً، والمفهوم مدرك عقلي وخيالي فيعمل الفنان على تجليته في عمله الفني بشكل عياني، وبهذا فهو توافق بين ما يدرك بالعقل وما يدرك بالحس، أي بين العقل والحس؛ لأن مـا نتصوره نراه مجسداً أمامنا في أثر محسوس، يتمثل فيه نوع من التوافق بين المدركات الذهنية والمخيلة.
تعدُّ علاقة الجمال بالمنفعة من المقاييس المهمة المحددة لنوعية الحكم الجمالي الذي يلتزمه شخص ما أو مذهب معين. تتمحور علاقة الجمال بالمنفعة العملية في موقفين متمايزين: يعتمد أصحاب الموقف الأول المنفعة أساسا للتقدير الجمالي، فنحن نحكم بجمالية شيء ما لأنه نافع. ويفرق أصحاب الموقف الثاني بين الجمال والمنفعة، فقد تنعدم الفائدة المباشرة من شيء ما من دون أن تنتفي عنه صفة الجمال(13)؛ فلا يجب النظر إلى نتائج القيمة الجمالية كما هو الحال في القيم الدينية والأخلاقية، بل تكون النظرة إلى الجميل نظرة استقلالية، وان يتم الحكم على القيمة الجمالية لذاتها لا لنتائجها، باعتبار أن صفة الجمال لا تتعلق بأية صفة أخرى.
نعم؛ إن الجمال من جهة كونه اكتمال الوظيفة فان قيمته تتمثل في تحقيقه لكمالات الشيء الجميل وهذا في ذاته القمة في الخيرية.
ومن ضمن الموقف الأول أعلاه، ما نجده عند التيارات الموضوعية في الأدب والفن، التي تذهب إلى أن الأخلاق أو الغاية هي ما يمثل الجمال، ولا يعتقدون بالجمال الصافي أو الجمال للجمال.
ويسعى أحد الباحثين لتحديد الفرق الدقيق بين الفنون الجميلة وبين ما هو مجرد مفيد أو صناعي بالقول ((إن الأولى تقدم إحساساً بالرضا المباشر، على حين إن الأخيرة تقدم الوسائل لمباهج أخرى مرضية))(14 ) لأن العمل الفني تجربة مكتفية بذاتها. ونجد هذا التأكيد على المنفعة عند النظرية الاجتماعيةالتي تقرن الفن بالحياة في قيمها المختلفة فتؤكد على أسس الأخلاق والمنفعة والتعليم ، ويتبع ذلك بطبيعة الحال -يتبع مفهوم الجمال- وقد عبر “جويو” عن ذلك حين قال: يجب أن نقول لعبّاد الجمال ما قاله “ديدرو” للأديان الضيقة: وسعوا إلهكم .
وعلى العكس مما في المدرسة الاجتماعية وغيرها من المدارس التي تُولي اهتمامها بالمضمون الأخلاقي والفلسفي للعمل الأدبي، نلاحظ أن النقد الجديد قد انطلق من اعتبار أن العمل الأدبي عالم مستقل من العلاقات اللغوية وكلية قائمة بذاتها مما حدا به إلى الاقتصار على العمل وحده ونبذ كل ما له صلة بما حول النص. فكان أن اشتغل على السمات الفنية للعمل الأدبي من لغة وأسلوب وبناء فني وغيرها لغرض إظهار جمالية ذلك العمل. ولا يعني هـذا إلاّ التركيز على عنصر واحد من عنصري الحكم في العمل الفني ألا وهو شرط الفن، واتخاذه مقياساً للحكم الجمالي من دون النظر إلى عنصر القيمة أو شرط الجمال. وهـذا الاتجاه هو الذي يلتزمه الجماليون الذين يرون أن المدارس النقدية المتداولة، من نقد انطباعي أو نفسي أو اجتماعي أو غيره، لا تنطوي إلاّ على خواء لأنها تولي اهتماما بما حول العمل الفني وتنسى العمل نفسه؛ فتعنى بالبيئة التي ولد فيها ذلك العمل ومعرفة أثرها عليه، أو دراسة نفسية الفنان وسلوكه الانفعالي والعاطفي وتهمل دراسة العمل الفني ذاته.
وهذا الإنكار لما يعبر عنه العمل الفني لا يعني إلا الاقتصار على النظرة الاستقلالية للعمل واعتماد شرط الفن مقياساً وحيداً للحكم، وهذا مخالف لواقع الفن والعمل الفني بوصفه تجربة جمالية تمس المتلقي بالصميم وتتفاعل مع مختلف مكوناته النفسية لان الإحساس الجمالي في حقيقته ليس إلا تعبيراً باطناً. يرى“كروتشه” إن المقياس الجمالي الأصيل يكمن في الصورة الذهنية المعبرة، سواء كانت عند المبدع أو المتلقي، وفيها وحدها يتجلى سر الجمال، وعلى المقدار الذي ترى فيه بصائرنا نوعية الحقيقة المتجسدة في تلك الصورة تتحدد درجة فهمنا وتقديرنا للعمل الفني واستمتاعنا به. هذا الاستمتاع الذي هو، في جوهره، تعبير عن بصائرنا بالذات.فحين اقرأ شكسبير فان بصيرتي هي التي تولد الصورة الذهنية لهملت أو ماكبث، أو أي حقيقة فنية أخرى. ولا يخفى أن الصورة التي تتكون في ذهن المتلقي تعد نتاجاً لما يوحي به العمل الفني وما يثيره لدى المتلقي من ميول وذكريات وأفكار وقيم تتفاعل جميعا بعلاقاتها المتشعبة لتخرج بنتيجة تتمثل فـي الصورة المعبرة مما يعني ضرورة الأخذ بشرط القيمة كمقياس للجمال عند الحكم على الأثر الفني “أي ضرورة النظرة الآلية” ولا يجوز الاقتصار على شرط الفن فقط.
وقد يكون هذا التركيز على النظر إلى العمل الفني بذاته ولذاته قد جاء رد فعل للأحكام المغلقة التي سيقت لتقييم العمل الفني مما اصطلح عليه بالنقد القضائي أو القانوني أو الوقوفي الذي يحاكم المؤلفات على ضوء نموذج جمالي مطلق. فجاءت

هذه ردود أفعال مضادة ومتطرفة، ولعل منها النقد الانطباعي الذي يقوم على منهج يعتمد الحس الذاتي وما يتميز به هذا الحس من عفوية وحرية. إذ يعدّه بعض الباحثين إنكـاراً لإمكان قيام النقد بمعنى الحكم، كما أنه تقرير لضرورة الاستعاضة عن الحكم بالإشارة إلى استجابات الوجدان والتخيل الذي يولدها لدينا الموضوع الفني؛ حتى أصبح هذا النقد بمثابة انتقال من الموضوعية المعنتة التي تتصف بها القواعد الجاهزة والحالات السابقة إلى فوضى الذاتية التي ينقصها كل ضبط موضوعي( 15).
إن ما يُطلب من الفن من ضرورة تحقق القيمة الإيجابية من جهة وظيفته الاجتماعية والمعرفية أو لتعميق الوعي لا يعني أن يصبح العمل الفني مجرد إشارة إلى هذه القيم بلا فرق بينه وبين أي إشارة أخرى. وإنما يتوجب إنجاز تلك المهمة وفق شرط الفن والشكل الجمالي لأن العمل الفني كلُّ مستقلُّ وتجربة مكتفية بذاتها ومحققة لشروطها ليضمن وصفها بالفن وتندرج ضمن هذا النوع. فليس بوسع الفن أن يصون حقيقته، وأن يجعل ضرورة التغيير تنبجس في الوعي إلا إذا انصاع لقوانينه الذاتية المتميزة عن قوانين الواقع، بل المعاكسة لها.والواجب أن يكون هذا الأمر من المقاييس المهمة والضرورية لتحديد نوعية الحكم الجمالي على الأثر الفني، ولا يجوز أن تنكر قيمة العمل في الحكم. يقول “بريخت”:إن عملاً لا يدلل على سؤدده إزاء الواقع ولا يمنح الجمهور سؤدداً على الواقع ليس بعمل فني( 16) .
ومن المؤكد أن الفن لا يستطيع أن يمنح هذا السؤدد للجمهور بمجرد اكتفائه بشرط الفن من أمور شكلية وتقنية، إن خلت من القيمة، يصبح العمل الفني لعباً في لعب، أو كحاطب في نهر، فعلٌ ليس وراءه من طائل.إن عنصـر القيمة ضروري للفن لينجز مهمته في تغيير العالم؛ فمن اجل تغيير العالم يتوجب على الفن، أولاً، أن يغير الناس ، أن يسهم في تغيير وعي وغرائز الرجال والنساء الذين يمكن لهم أن يغيروا العالم .
إن النظر إلى العمل الفني بذاته ولذاته والاكتفاء بمواصفاته الفنية إنما هو اقتصار على السمات الحسية(17) الظاهرة من العمل دون الرجوع إلى روحيته وما فيه من قيمة تعين علـى الاعتلاء بالحياة إلى مستويات أرقى. لأن الجمال قيمة حقيقية في الوجود لها أكبر الأثر في الارتفاع بالإنسان وتكامله. فالجمال والفضيلة مترابطان بشكل وثيق فهما وجهان لعملة واحدة ويؤدي كل منهما إلى الأخر. وليس الجمال، فقط، مجالاً للتلذذ وتزجية الوقت كالذي يحصل في اللهو واللعب. يرى “شيفستبري” إن الجمال مسكوب في الكون كله، وان النقائض التي تظهر لنا فيه تحل بانسجام داخلي عام ، وأن فهم هذا الجمال ليس متيسراً لكل إنسان وعلى من يريد فهمه أن يكون خيِّراً. إن طلب الخيرية هنا يعني أن الجمال سمة معنوية تعبر عن قيمة تُدرك من قبل المتلقي. ويقسم الجمال إلى ثلاث مراحل “درجات” الدرجة السفلى من الجمال مثل ذلك الشيء الذي لا تتخلله الروحية، وبالتالي فهو ميت- كل ما هو مصنوع من الحجر والمعدن: الحدائق، القصور وحتى الجسم البشري لأنه مادي، والدرجة الثانية الأعلى من الجمال وهي ما يشمل الفعاليات الروحية، وأعلى درجة من الجمال هو المصدر الذي يخرج منه كل ما هو حي، ويشكل المباديء، أي هو الله ( 18) .
إن اعتماد مقياس القيمة كشرط أساسي للحكم الجمالي لا يكفي لتحققه أن يكون الأثر الفني حاوياً لقيمةٍ ما مهما كان نوعها واتجاهها ووضعها، بل إن الحكم على ما في العمل الفني من قيم هو ذاته ((الحكم على كل عمل آخر وكل شعور، الحكم المستمد من الناموس(19)؛ هل تؤدي الدور الذي يتفق مع فطرة الكون؟ أم تنحرف عن الطريق؟))( 20).فمناط الحكم ومقياسه أن يكون الشيء على ما يجب له من كمالاته من جهة كونه حقاً ينزع إلى الخير من خلال التزامه تمام وظيفته. فالأصل؛ أن كمال الوظيفة الطبيعية هو الذي يبعث اللذة لصاحب الذوق السليم، فكل عمل يُؤدى على أحسن وجه، وكل حياة يحسن المرء معيشتها، وكل أسرة حسنة التربية، وكل آلة تحسن أداء العمل المهيأة له، كل ذلك يرغمنا أن نقول:هذا شيء جميل، ولو كنا أصحاء بمعنى الكلمة لاعتبرنا المرأة الصحيحة التي ترضع طفلها الصحيح أعلى صورة من صور الجمال في هذا العالم” (21 ) فمن المؤكد أن الإتقان والإحسان هو ما تنشده الحياة عند أداء وظائفها. وهذا الإحسان في الأداء هو عين الجمال مشروطاً أن يكون من جهة مطابقة الشيء لمفهومه الحق، وحينها لا بد أن يكون نزوعاً إلى الخير. وهذا النزوع أو الأداء أو العمل أو الإحسان هو الجمال ذاته، وهو الذي يحدد الخيرية بوصفها نتيجة للجمال ولا تتحقق إلاّ بوجوده. إذن؛ الجمال هو الإحسان في الأداء المشروط بقيام الشيء، وعلى أفضل وجه، بتمام وظيفته المتطابقة مع حقيقته والناموس الكوني العام. فالإحسان المقصود ((هو جعل الشيء حسناً؛ أي الجمال، جمال الأداء وجمال الإحساس وجمال التفكير))( 22). وهنا؛ حيث يتحقق هذا الإحسان بوصفه نزوع الحق إلى الخير، ويلتقي الخير بالجمال، يمكننا القول: إن مبدأ الخير يرتد إلى قانون الجمال. هذا ما توصل إليه العقلاء.

هوامش : 

(1) موضوعي: Objective؛ يقال على ما يوجد في الاعيان، في مقابل ذاتي Subjective. ((المعجم الفلسفي: ص 233))
موضوع: ماله وجود في ذاته، مستقل عن الفكرة التي تكون في ذهننا عنه. ((المعجم الأدبي: ص 272)).
2) الموسوعة الفلسفية : ص412.
( 3) ينظر: فلسفة الفن في الفكر المعاصر: ص 360.
(4 ) مشكلة الفن: ص 218.
(5) والتعريف لصاحب كتاب “الجمال والفن” وهـو: ((إن الجمال حقيقة موضوعية متناسقة توجد في بيئة محيطة معينة وتدرك في ظروف نفسية خاصة فتثير الشعور بالرضا والبهجة؛ فالجمال إذن علاقة تثير الشعور بالارتياح بين عوامل ثلاث هي الموضوع الخارجي المتناسق والبيئة المحيطة والنفس المدركة)). ((الجمال والفن: ص 18)).

(6) يرى معظم الأفلاطونيين ان الجمال في الروح، اما الأرسطيون فيرونه في الصفات الطبيعية “الفيزيائية”.
(7) السفسطة: قياس مركب من الوهميات والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته، كقولنا الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض لينتج ان الجوهر عرض. ((التعريفات: ص ص118-119)).
(8) اللوغوس: 1) اصطلاح يوناني، يعني: الكلام/الخطاب/العقل، وقد أخذت بهذه المعاني الفلسفة الكلاسيكية.
9) ويعضد “هيدجر”، في مقاله عن “اللوغوس”، وجود قيمتين مهيمنتين لهذه الكلمة عند الإغريق هما: أ) المعنى المعروف بـ “القول”. ب) ومعنى آخر هو “الإمتداد”، وبهذا يثير “اللوغوس”، الإحساس بامتلاك الحقيقة. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص 200)).
لوغوس-الكلمة Logos: في فلسفة فيلون اللوغوس هو تارة الوسيط الذي خلق الله العالم به كما يصنع الفنان بآلة والذي نعرف الله به والذي يشفع لنا عند الله. وهو طوراً ملاك الله المذكور في التوراة أنه ظهر للآباء وأعلن إليهم أوامر الله، وهو مرةً قانون العالم على مذهب هرقليطس والرواقيين، ومرة أخرى هو المثال والنموذج الذي خلق الله العالم على حسبه كما يقول أفلاطون. ((المعجم الفلسفي: ص 196)).
(10) حسب هوجارت: (1) التناسب: وهو مراعاة النسبة بين أجزاء العمل الفني واجتلاء التناسب في الموجودات الطبيعية، فالتناسب ضروري-في الفنون والكائنات الحية على السواء- لتحديد معنى الجمال، فهو أساس الحكم على جمال الأشياء باختلاف أنواعها بل هو العامل الحاسم في هذا المجال. (2) التنوع: ويعتبر من أهم العوامل المؤثرة في شعور المتذوق باللذة، والتنوع ضد المماثلة التي تشعرنا بالملل والموات. (3) الاطراد: وهو عامل سلبي، ومن ثم لا يجب أن نلجأ إلى اطراد الخطوط والأشكال والأجزاء، لأن ذلك يعني أننا سوف لا نصف شيئاً بالجمال إلاّ إذا كان ثابتاً ساكناً، بينما تتعلق سمة الجمال -بدرجة أكبر- بالشيء المتحرك. ولهذا يتعين على الفنان أن يتجنب السيمترية وأن يلجأ إلى التباين للتخلص من الاطراد. (4) البساطة: وترتبط صفة البساطة بصفة التنوع، إذ أن البساطة بدون تنوع لا تعتبر من عوامل الجمال.
(5) التعقيد: ويستند عامل التعقيد من الناحية الجمالية إلى أساس سيكولوجي؛ ذلك أن تركيب الشكل من خطوط معقدة يوحي إلينا الشعور بالحركة. وليس تعقد الأشكال في نظر هوجارت سوى خاصية كامنة في الخطوط التي يتألف منها الشكل، وهذه الخاصية أو السمة تستهوي العين إلى ملاحقتها فتحدث في النفس لذة من جراء ذلك، ولهذا نحن نسم هذه الخطوط أو الأشكال بالجمال. (6) الضخامة: وللضخامة تأثيرها الذي لا يجحد على فكرة الجمال. فالضخامة تضيف سمة الوقار إلى الرشاقة ولكن المبالغة في الضخامة قد تقضي على سمة الجمال في الشيء البالغ الضخامة، فلابد إذن من وجود تناسب بين أجزاء الأثر الضخم. ((فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص ص 28-31)).
(11) لا يحبذ كثير من العلماء وجود اصول او مقاييس للجمال فضلا عن انكارهم امكانية تحديده. ومن هؤلاء الفيلسوف “كنت” الذي يذهب الى ان الجميل هو الذي يرضي الجميع بـدون سابق فكرة أو صورة ذهنية، وان ليس هناك قاعدة محسوسة تحدّد بواسطة المقاييس أو الصور ما هو الجميل. ومـن العبث ان نحاول إيجاد مبدأ ذوقي يعطينا بواسطة صور أو تصاميم معينة مقياساً عاماً للجمال لأن ما نحاول إيجاده مستحيل ومناقض لذاته. وفي موضع آخر يقول: ان آثار العبقرية هي قواعد غير صادرة عن التقليد لكنها مقاييس حكم للغير. بمعنى: ان عباقرة الفن ينتجون الآثار الفنية التي تنال إعجاب الجميع على غير قاعدة أو مثال يقتفونه. لكن آثارهم هي شبه منائر تهدي طلاب الفن وذوي الموهبة الناشئة، ومثل عليا يتطلعون اليها لتوقظ وتحرك مواهبهم فينظر اليها الطلاب كمصادر وحي، والنقاد كمقاييس للحكم ويحاولون ان يستخرجوا منها أسرار الجمال..
( 12) الموسوعة الفلسفية: ص 281.
( 13) ينظر: فلسفة الفن في الفكر المعاصر: ص-ص73-74.
(14) ويضرب صاحب “فلسفة الجمال” مثلين عن القيمة الجمالية وان تعارضت مع صفة المنفعة، ولكنهما في حقيقتهما يتعلقان بشرط النوع فقط ولا يمثلان شرط القيمة أو الجمال؛ يقول: “كالعشب السام مثلاً فانه يصل إلى حد الأضرار والفتك بالماشية وبالناس ولكنك مع هذا تعجب من شكل أزهاره وتحس بجمال منظره رغم عدم نفعه بل مع تحقق ضرره، وأيضاً مثل الحية الرقطاء التي نصف جلدها بالجمال ومع ذلك فان الحية في ذاتها مخيفة ضارة، وعلى الرغم من ذلك فإننا نحكم عليها بالجمال”. (( ينظر: فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص 89)).
( 15) الفنون والإنسان؛ مقدمة موجزة لعلم الجمال – إروين إدمان – ترجمة: مصطفى حبيب – مكتبة مصر – د.ط، د.ت:ص38.
( 16) ينظر: الفن خبرة – جون ديوي – ترجمة: د. زكريا إبراهيم – مراجعة: د. زكي نجيب محمود – دار النهضة العربية، القاهرة – 1963، د.ط: ص511.
( 17) ينظر: البعد الجمالي: ص 45.
(18) يقول “دي جورمون” – ناقد فرنسي وروائي وشاعر تمتاز آثاره بالتهكم والنزعة الحسية “سلْ ضفدعاً ما الجمال يجيبك انه انثاه، ضفدعة ذات عينين مستديرتين تبرزان من رأسها الصغير، وذات فم واسع عريض، وبطن أصفر، وظهر بني”. ((مباهج الفلسفة: ص 290)).
( 19) ينظر:موجز تأريخ النظريات الجمالية: ص 128-129.
( 20) منهج الفن الإسلامي: ص-ص108-109.
( 21) مباهج الفلسفة: ص 302.
( 22) منهج الفن الإسلامي: ص 107.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

تعليق واحد

  1. خالدي مصطفى

    أشكركم جزيل الشكر على هذه المقالة، وجزاكم الله خيرا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *