شوقي يوسف بهنام : حلية البسطامي (8)

shawki  5*مدرّس مادة علم النفس/ كلّية التربية/ جامعة الحمدانية

قال البسطامي ” أكبّر بالتلبية ، وأقرأ بالترتيل ، وأركع بالتعظيم ، وأسجد بالتواضع ، وأسلم بالتودع … ليس بي يتمسحون ، لكن يتمسحون بحلية حلانيها ربي ، فكيف أمنعهم من ذلك وذلك لغيري ؟ ” (1) .
****************
واحدة من معاني الحلية هي ” صفة الرجل وخلقته ..” . يستعرض البسطامي مجاهادته المختلفة والتي سلكها عبر تجربته الصوفية التي يراها بمنظار غير المنظار الذي يراه غيره . وهذا الاستعراض هو بحد ذاته استعراض نرجسي له ملامحه التي لا يمكن التغاضي عنها . وحتى لو انطلقنا من المفهوم الحرفي لمفردة ” الحلية ” . انها ” ما يتزين به من المصوغات أو الاحجار الثمينة .. ” علاوة على تضمينها لمعنى الحلو والحلاوة . من هنا يمكن القول ان البسطامي هو ” الحلو المطلق ” او ” الحلاوة بحد ذاتها ” . فعل التزيين ، هو دلالة على الاعتزاز بالذات . واحدة من مقومات الصحة النفسية هي الاهتمام بالمظهر appreance والهندام . الا ان التهندم المفرط دالة من دلات الاستعراضية والنرجسية او في حالات الهوس وهذاء العظمة (2) . وفق هذا الحساب ، سوف ننطلق لنقرأ النص الراهن . لنتخيل البسطامي وهو يمشي في المدينة .. اي مدينة . جبته التي تلف او تخفي الله ان صحت العبارة . هذه الجبة محلاة بمختلف الحلي . ولكن ليست حلي انسانية ، اي ليست مصنوعة بأيدي انسانية . بل بأنامل الله !! . هنا لحظة زهو يعيشها البسطامي ولا ندري ، وهو في تلك اللحظة هل تذكر او هل غزت ذهنه النص الذي يوشوش في ذهنه ” ولا تمشي في الارض مرحا … ” ؟؟؟ . ان هذا النص نص رادع . نص محجم ومقولب للسلوك انه امر نهي . هنا يمكن ان نجد ان ثمة صراعا عاشه البسطامي عندما تجول في المدينة بحليته السماوية وبين ذاك النص الرادع المقولب له . الصراع يتمثل في انتفاخ الذات نتيجة ارتداء البسطامي لجبته المحلاة وبين ذلك الصوت او الهاتف المنبعث من رياح ذلك النص . انصافا للرجل هو يعيش حالة استبصار نفسي سليم ، على الرغم من انه سوف ينتهي الى الخيلاء وانتفاخ الذات . وعلى الرغم من تناقض هذا الكلام الا اننا مجبرون على تقديم هذه الرؤية . في الشطر الاول من العبارة يعلن البسطامي انه يمارس كل متطلبات شريعة خطابه بكامل ابعادها . من تلك المكافأة التي استحقها الرجل . المكافأة هي اكرامه .. او كراماته التي سوف يجترحها . قلنا ان البسطامي يتجول في المدينة .. او قل في العالم وهو محلى بحلية لم يحلى بها لا السابقون ولا اللاحقون . هو وليس احد غيره ارتدى تلك الحلية . صار البسطامي اذن نقطة استقطاب الاخر للتبرك . او لنيل البركة التي تفيض بها حليته . محظوظ ذلك الذي استطاع ان يمسك طرف تلك الجبة ويلامسها بيديه الغائصتين بالإثم والمعصية . هذا الموقف يذكرنا بتلك المرأة التي بها نزف لمدة اثنتي عشرة سنة واعتقدت ان لمس هدب ثوب المسيح قد يشفيها كما تخبرنا بذلك الاناجيل . وفور لمس المرأة طرف ثوب المسيح توقف النزف ، فالتفت المسيح الى حوله وقال ” من لمسني ؟ ” ففي الحال اجابت انا من فعلت ذلك . ذات الصورة تنطبق على البسطامي تماما . هل يمكن القول ان للبسطامي كان على اطلاع على تفاصيل الاناجيل مثلا ؟ (3) . وفي تقديرنا ان هذا الاطلاع لا يعني ان هناك خللا في نوايا البسطامي في رؤيته للوجود بشكل عام . نحن عقدنا هذه المقارنة للوقوف عند موقف نفسي معين عند البسطامي ليس الا . هم .. اعني الآخر يجري ويتراكض ويتسابق للوصول الي البسطامي للمس تلك الحلية التي يملكها لا يملكها غيره . هنا يتجلى الشعور بالفرادة بأجلى صوره . في هذه اللحظة بالذات سوف تفوح روائح انتفاخ الذات عندما يرى البسطامي جموعا غفيرة تتسابق لمس طرف جبته لتبرك بها او لكي يحقق كل منهم امانيه ورغباته وحاجاته . صار البسطامي هنا هو السبب وراء سعاداتهم . من هنا قوله
– ليس بي يتمسحون ، لكن يتمسحون بحلية حلانيها ربي ، فكيف أمنعهم من ذلك ، وذلك لغيري .
****************
اذن نخرج من هذا الشطر من هذه الشطحة بنتيجة مفادها ان التبرك والتمسح ليس له بل لغيره . ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك ان البسطامي ليس بحاجة الى ان يتبرك لأنه ولسبب بسيط صار هو مصدر البركة ومنبع العطاءات . يتساءل البسطامي كيف يمنع هذا الجمع الانساني اللاهث نحوه من التبرك من جبته او عباءته او حليته التي نالها من السماء . هذا الجمع الجائع .. الظمآن .. الى تلك التي لا يملكها الا هو . هو لا يحتاج الى ما يحتاج غيره . هنيئا لك ايها الرجل الذي لا يحتاج الى شيء !! .
الهوامش :-
1- عباس ، قاسم محمد ، 2006 ، ابو يزيد البسطامي ، المجموعة الصوفية الكاملة ، بغداد ، العراق ، ط1 ، ص 45 – 46 .
2- د. زهران ، حامد ، 1978 ، الصحة النفسية والعلاج النفسي ، عالم الكتب ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط2 ، ص 160 .
3- سوف نقف عند الرواية التي يوردها المحقق الفاضل عن البسطامي واقامته لديه في الدير وحواراته معه في حلقة أخرى من مشروعنا المتواضع هذا .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *