المبحث الأول
معنى الحكم الجمالي:
يتألف النشاط الفني من ثلاث حلقات متكاملة مع بعضها: الفنان “المبدع” والأثر الفني والمتلقي. وكل من هذه الأسس يخضع لإشكالية متنوعة ومتشعبة تتحكم في كيفية استوائه على ما يجب له من الكمال بأن يمارس وظيفته على أفضل وجه؛ سواء من ناحية العوامل التـي تتحكم في توجيه نشاط المبدع في شكل معين أو تحديد صيغة الأثر الفني المنتج أو نوعية السلوك الذي يلتزمه المتلقي تجاه العمل من حيث الإدراك أو التذوق أو الحكم.
وقد تم لنا فيما مضى من بحوث التعرض لمشكلة الإدراك والتذوق، والآن نحاول التبصر بمسألة الحكم الجمالي ومايتمتع به من أهمية في تعزيز الوظيفة التي يؤديها كل من المبدع والمتلقي وبالتالي ما يصيب الأثر الفني من نضج نتيجة ذينك العاملين.
تُعدُّ عملية الحكم(1) مرحلة متقدمة تأتي في تسلسلها بعد مرحلتي الإدراك “الإحساس” الجمالي والتقييم المتمثل في التفضيل المبهم من حيث وصف العمل بالجودة أو الرداءة بشكل عام بلا تحديد عقلي للسمات الموجبة للحكم. ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الحكم المتمثلة في الاختيار المستند إلى قواعد عقلية.وهي قواعد تؤهل الحكم ليصدر وفقا لمبادىء العقل ليتم تمييز الغث من السمين والجيد من الرديء وكذلك للقضاء، قدر الإمكان، على التقييم المبني على الهوى والميول والترابطات غير الجمالية.
نرى أن من السهولة إطلاق بعض الأحكام من مثل: العمل الفلاني جيد أو رديء جمالياً، ولكن ما أن نحاول تحليل هذا الحكم عقلياً حتى تبدأ الصعوبات بالبروز ونرى أنفسنا في خضم شبكة من المشكلات التي يتوجب الإحاطة بها من مثل : ما الحكم ،وكيف يتحقق؟ وهل يمكن التغلب على الخلافات في القيم، وكيف؟ ولم تتفاوت الأحكام فيما بينها؟. ولا يمكن أن يكون هذا الاهتمام بفلسفة الحكم شيئاً كمالياً أو نوعاً من أنواع الترف العقلي بل هو من أجلِّ الأحكام وأعظمها حيث تقام عليه كل مناحي الحياة والسلوك البشري بشكل أو بآخر.
وفي مجال الدراسات الفنية تتجلى بوضوح هذه الأهمية للحكم العقلي بالنسبة للمبدع والمتلقي. فنلاحظ أن الحكم المبني على أسس عقلية يُمكِّن كلا من المبدع والمتلقي من توظيف امكانياتهما بشكل أفضل؛ الأول في استعمال موهبته في النتاج الفني بصورة فضلى، والثاني في استمتاعه بالفن وفقا للإدراك والتفضيل الواعي .
إن الحكم المبني على العقل يُرسِّخ الاعتقاد بالعلاقة الوثقى بين عملية الإبداع والتقدير الجمالي. فالقوانين المتضمنة في العمليتين هي ذاتها وإن اختلف المسار في إدراكها من قبل كل طرف ، ((لأن التقدير(2) ، أو الإعجاب مبني على توافق الصور الحسية، ذلك التوافق الذي يعيد تمثيل العمليات الداخلة في الإبداع الفني. فالفنان يهدف إلى وحدة تبزغ تدريجياً من إحساسه ومن معالجته بيديه لكمية من المادة، بينما نبدأ، نحن الذين نقدر النتيجة “أو العمل الفني” بتلك الوحدة ثم نصبح على وعي بالكميات المنعزلة التي ترابطت منطقياً لإنتاج العمل الفني)).(3 )
تتجلى أهمية النقد الحكمي في انه يستطيع أن يرشدنا إلى السمات الجمالية في العمل الفني ومدى الأصالة التي يتوفر عليها والخصائص الإبداعية الكامنة فيه.فالعملية النقدية تشتمل كافة مفاصل العملية العقلية المؤدية لإدراك الأثر الفني فضلا عن المناهج والآليات التي تمكننا من الوصول إلى مرحلة الحكم.
والموقفان الجمالي والنقدي يتميز أحدهما عن الآخر من الوجهة النفسية، إذ يعد كل منهما مضاداً للآخر. فالأول رائده التعاطف مع العمل الفني أما الثاني فرائده التحليل العقلي الصارم بعيداً عن العاطفة، لان الأول مجاله الشعور والوجدان والثاني مجاله المنطق الصارم. ولكن هذا لا يمنع أن الموقف الثاني ينفع في تعزيز الموقف الأول ((التذوق أو الشعور بالقيمة)). ويمكن التمييز بين الدراسة الجمالية والدراسة الفلسفية للنقد بشكـل علمي ودقيق، ((فالدراسة الأولى [الجمالية] تتعلق بوجدان القيمة Valuing أي الاهتمام بموضوع ما، والشعور بأنه ممتع، وعلم الجمال يدرس الموقف المتميز الذي يحكم هذه التجربة، و الموضوعات التي يتخذ إزائها هذا الموقف، وتركيب هذه الموضوعات. أما فلسفة النقد فتبحث في عملية التقدير Evaluation أي تحليل الجودة الجمالية للموضوع والحكم عليـه)) ( 4). فهناك في الواقع نوعان من النشاط التقييمي : التذوق والحكم؛ الأول يمارسه الجميع ويتحدد بإطلاق صفتي الجمال والقبح على العمل الفني ،أي يتعلق بنوعية الميل الذي نستشعره تجاه الأثر ولا يعد هذا موقفا نقديا أصيلا. والثاني ، أي الحكم، وهو الرأي المتأسس على الشروط العقلية المحكمة والمنطق الجمالي الرصين والناضج لتحديد مكانة العمل وقيمته وفقا لمناهج نقدية معتبرة. لذا يتوجب على الناقد الالتزام بفلسفة جمالية قيمة تُؤسس عليها أحكامه الفنية، والانتقال من مستويات التذوق إلى آفاق التقويم الاستطيقي للعمل الفني.
أما فلسفة النقد فتعالج منهجية مشكلات الحكم والنقد .وليس الحكم والنقد عملين مماثلين للخلق الفنـي والإدراك الجمالي.
تخضع التجربة الأدبية لفكر وعواطف ووجدان وحضارة إذ هي تجربة ذاتية ـ إنسانية. وبالتالي فهي ليست تجربة مختبريه بمعناها الآلي، وعلى هذا، فان الاستقراء النقدي للنص الأدبي وإن تشابه مع الاستقراء العلمي من حيث المنهج، لكنه يختلف عنه من جهة عدم تعامله مع فكرة مجردة قابلة للتجريب بل يتعامل مع فكرة وشعور. وهذا الاستقراء النقدي للنص هو في مفهومه يشكل الأساس العملي في التمييز بين التقدير النقدي وبين التقييم الجمالي أو وجدان القيمة مـن حيث مدى الميل والاستساغة التي نجدها في أنفسنا تجاه العمل الفني، فالأول يتحدد بالعقل والمنطق والثاني مجاله الوجدان والشعور. فعلى قدر الانشراح أو الضيق الذي نستشعره أثناء التجربة الجمالية يكون تقييمنا للعمل بما يمثل انعكاسا لمشاعرنا من حيث القبول من عدمه . أما التقدير الجمالي أو الحكم بما هو جيد فهو متحرر من نوعية الاستجابة ولا يمكن أن يبتنى على العواطف والتداعيات لما يتخلله من التزام قاس بنوع من المنطق النقدي المتأسس على قواعد صارمة لا مكان فيها للرغبة والميل بل هو نتيجة استقراء علمي وتفكير عقلي وفق منهج تحليلي معتمد بخطوات متتابعة من الممكن أن يكشف لنا عيوبا في العمل لم ننتبه لها أثناء مرحلة التقييم بسبب من هالة الإعجاب التي كنا نقبع فيها آنذاك.
المبحث الثاني
مَلَكَة الحكم:
إذا كان الحكم يمثل المرحلة النهائية من البحث، فان الباحث، قبل الوصول إلى هذه الخطوة، عليه المرور بالعديد من المراحل المؤسِّسة. إبتداءً بالمرحلة الحسية، أي استلام الإشارات عن طريق الحواس، ثم مرحلة الإدراك والتي تعد بحد ذاتها نتاج إشكالية معقدة، وعليه فإن الحكم يستند إلى الأساسـين الحسي والعقلي وإلى الحالة النفسية وغيرها. ونحن هنا، نحاول التعرف على الآلة أو الملكة الإنسانية التي يعتمدها الإنسان في إصدار حكمه الجمالي.
لقد مر بنا أن التذوق هو أساس التجربة الجمالية واللذة الجمالية، بوصفه إدراكاً بطيئاً ومتدرجاً وعميقاً وشاملاً لكـل مناحي الأثر الفني. وإذا كان التذوق هو المقدرة على الاستمتاع بالجمال فان ((الذوق)) هو الملكة أو القوة التي تمكننا من الحكم على القيم الجمالية للأشياء.
يرى “بيرك” أن الذوق هو الملكة العقلية التي نحكم بها على قيم الفنون الجميلة ومنتجات الخيال. والفن بوصفه تجسيداً محسوساً للتجربة فإن الحواس هي المؤهلة لإدراكه، لذلك، تعود جذور الذوق إلى الحواس لكونها الوسائل التي نعتمدها في إدراكنا للعالم الخارجي. ونسبة الذوق إلى العقل عند “بيرك” ناشئ عن انتمائه لجماعة الفلاسفة الحسيين الذين يعتقدون بأن الحواس هي أساس المعرفة الإنسانية.
ويذهب “كانتْ” الى أن الذوق هو قوة الحكم على الشيء، أو على طريقة تمثيله، استحساناً أو استهجاناً، لغير ما غاية عند صاحب الحكم ومن غير قاعدة يقاس عليها. ولقد مرّ بنا إن “كانتْ” برفضه للغاية والقاعدة في الحكم إنما يعارض بذلك العقليين والحسيين على التوالي.
لكن المسألة الأخطر في قضية الحكم الجمالي هي كيفية التحقق من مصداقية الحكم الصادر عن الذوق، من جهة إن كان ذلك الحكم موضوعياً. لذا يقرر “كانتْ” ان الذوق مبني على شعور قابل الانتقال من شخص إلى الآخر، أي أن الشيء الذي نعاينه قـادر بالضرورة على توصيل الإحساس بالرضى أو بالعكس إلى معاينه وهذا الإحساس واحد عند الجميع، فينتج من هذا أن قوة الحكم أمر عام شامل في البشر، لأنها غير مبنية على صور أو تصاميم سابقة. ويضيف قائلاً: كل من يصف شيئاً بالجمال يزعم أن كل إنسان يجب أن يوافق على ما يقول وهذا يستدعي وجود مبدأ ذاتي يعيّن ما يُعجب وما لا يُعجب، بواسطة الشعور لا بواسطة صور أو أفكار في الذهن. وهذا المبدأ الذاتي هو الإحساس العام ولا يصح حكم الذوق إلا بافتراض وجود هذا الإحساس العام .
يبدو أن الأساس الذي قام عليه هذا الافتراض هو الشيء الذي نعاينه “موضوع الحكم” من جهة الإشارات الحسية الثابتة المستلمة من قبل كل شخص يسعى لإدراك ذلك الموضوع. ثم يقرر “كانتْ” ثبات الشعور سواء “بالرضا أو بالعكس” الناشىء عن الإحساس بذلك الشيء. إنه يعتمد الشعور في تحديد المبدأ الذاتي الذي يُعيِّن ما يُعجب وما لا يُعجب، أي ليس بوساطة صور أو أفكار في الذهن والتي قد تقبل الاختلاف؛ فما دام الحس واحداً والإشارات المستلمة واحدة فان الإحساس أو الشعور سيكون واحداً عند الجميع، وبذلك يثبت عندنا شمولية الحكم.
إن أول إشكال يُثار على هذا الاستنتاج هو ما يلزم من صميم هذا الاستنتاج. فنحن نعلم، وقد درسنا هذا في مبحث الإدراك، إن الإنسان لا يتعامل مع الواقع كما هو بل كما يدركه، لان الإدراك يتحدد على وفق عوامل عديدة بحسب نوعيـة الانتباه والموقف والاتجاه والرغبة التي تحدد سلوك الإنسان. وبالتالي فان الشيء وإن كان واحداً لكن الإحساس والشعور الناجم عن إدراكه يختلف من شخص لآخر بسبب اختلاف الإدراك ذاته؛ لذلك لا يمكن البت بثبات وشمولية الحكم اعتماداً على الذوق وفقاً لهذا التصور “الكانتي”. ثم إن ما نراه في الواقع مـن اختلاف الناس في الحكم على الشيء ذاته خير دليل على ما أشرنا إليه. ولكن؛ إن كان “كانتْ” يقصد وجود حالة مثالية حين ينادي بانعدام الصور والمفاهيم المسبقة بمعنى إن الإنسان صفحة بيضاء وأن الحواس بذات القوة والحدة عند الجميع ثم يتعرضون لذات الموقف الإدراكي بكل تفاصيله مائة بالمائة، فمن الممكن حينئذ تحقق ذلك الحكم المتشابه عند الجميع. لكن من المحال تواجد هكذا حالة ما دمنا نتعامل هنا مع شيء متجسد “العمل الفني”، ونتحرك على أرض الواقع بمطباتها وتعرجاتها كافة.
قد يمكننا تلمس المساحة التي يصح فيها هذا الافتراض “افتراض كانتْ” في مجال الإحساس والتقييم الجمالي وليس الحكم، لأن مجال التقييم أوسع من مجال الحكم حتى وإن اقتصر على الميل والاستحسان للشيء . أي أنه يصلح في مجال التذوق فقط. وهذا ما يؤكده “أدموند بيرك” الذي يشترط،حيث تتعقد الاشياء،اعمال الفهم، فضلا عن صقل الذوق بالدرس والممارسة وإطالة النظر،العوامل التي لا بد منها لتقدير الأعمال الفنية وأمور مثل التناسب والتناسق وغيرها(5). ولا يخفى ما يتطلبه الدرس والممارسة وإطالة النظر من توفر للصور والمفاهيم في عملية الذوق وهذا يخالف ما يطلبه “كانتْ” من ضرورة خلو الذهن من كافة الصور والمفاهيم في ممارسة الذوق للحكم، وبالتالي ينتج اختلاف الأذواق في الحكم.
وبالامكان البت في القضية من وجهة منطقية اقرب إلى طبيعة الجمال وماهيته. فقد سبق وإن بيّنا أن جمال الشيء، مبدئياً، يتمثل في مفهومين؛ هما شرط النوع وشرط القيمة. وشرط النوع أو الصيغة يشمل الصفات الحسية الظاهرة من الشيء والتي بوجودها نتمكن من إدراج ذلك الشيء في صنفه أو نوعه، وكذلك يشمل علاقة تلك الصفات الحسية مع بعضها من جهة العمق، ما خلف السطح، والتي تُدرك معنوياً من خلال الصفات والأعراض الحسية ويكون إدراكها ضمن سياق النوع ذاته. وهذه العلاقة ونوعيتها وسماتها تُعرف بشرط التعريف، أي تعريف التجربة، بوصف الفن تعريفاً جمالياً للتجربة بغية الوصول إلى الحقيقة وعلى قدر الطاقة البشرية. وسمة الحقيقة هذه وكيفية تجليها من خلال القيم الإنسانية المعتبرة هي التي تشكل سمة الجمال الحق بصفتها سمة ديناميكية قابلة للتغير وخاضعة لسلوك الشيء وموقعه ضمن السياق الذي يحتويه. فهي سمة علائقية يُعتمد العقل في إدراكها والحكم عليها. وفي ضوء ذلك، يمكننا القول، من حيث المبدأ، أن الإحساس والشعور مجاله الحكم على الجزء المحسوس من الفن وهو شرط الصيغة، أما ادراك شرط القيمة أو الجمال والحكم عليه فمجاله العقل. لذلك، فمن الممكن أن يندرج الشرط الأول ضمن رأي “كانتْ” في الذوق لأنه خاضع للحس والإحساس ومن الممكن ثباته ما دامت السمات الظاهرية محسوسة وثابتة فليس من المستحيل توقع تشابه الحكم في مجال الصيغة. أما في مجال إدراك سمة القيمة والحكم عليها فهنا يكون مجال الاختلاف في الأحكام. وعليه، من الممكن تسمية الذوق الأول “الذوق المشترك” في مقابل “الذوق الشخصي” الذي يخص حكم الجمال المختص بالقيمة.
إن الذوق بوصفه ملكة الحكم الجمالي لا نتوقع منه التشابه عند الجميع، بل هو يختلف في حكمه عند الشخص ذاته بحسب تغير ظروفه، لان الذوق ،إذا أخذ وفقا لمنطلقاته الذاتية، يعد من الأحكام النسبية المتغيرة بتغير البشر حسب العصر والمكان والمذاهب التي يعتنقون . ونستنتج من هذا ثلاثة أسس رئيسية( 6) : (1) ندرة نقاوة الحس الجمالي. (2) التطور إلى الأفضل هو نتيجة تدريب المدارك “عقلياً” والمشاعر “حسياً” على فهم معاني الجمال في الطبيعية والفن على السواء. (3) التذوق الجمالي لا بد أن يقوم على التجربة العملية وعلى أساس علمي معاً، بغض النظر عن موضوع التجربة.
إننا في اعتمادنا الذوق بهذا المفهوم، فسوف لا يمكن اعتبار ثبات الحكم الجمالي واقترابه من الحق، ((إذ أنه ليست هناك بداهة جمالية كما هو الحال في إدراكنا للحقيقة، فالحكم الجمالي يعتمد على أهواء الأفراد وذكرياتهم وتأريخهم الشخصي، وليست هناك قاعدة كلية شاملة لأحكام الذوق، إذ إن “الجميل” لم يبلغ بعد إلى مرتبة العقل، ومن ثم فانه يمتنع وجود مقياس محدد للذة ويصبح الحكم الجمالي خاضعاً لحصيلة إعجاب المتذوقين مما ينفي عنه صفة الموضوعية ويؤكد نسبيته المطلقة)) (7 ).
لا يمكن إخضاع الحكم الجمالي لقاعدة كلية إلا بالرجوع إلى البديهيات والاعتماد عليها في تأسيس البناء المنطقي المؤهل لإصدار الحكم بشكل مطابق للحكم العقلي على الحقيقة. والبداهة لابد أن تستند إلى ماهية الأشياء أو مفاهيمها ومن جهة سلوكها الممثل لتمام وظيفتها المطابقة للناموس الكوني القائم والمتحدد على وفق منهج الحق الذي يفترض أن يكون مبرهناً عليه مسبقاً.
يكون لدينا ذوق بمعناه العام وهو المتعلق بحكم الجمال من جهة القيمة وهو قابل للاختلاف. ولدينا الذوق بمعناه الخاص وهو القابل للإتفاق في الحكم طالما أنه متعلق بالصفات والسمات الممثلة والمحققة لشرط النوع أو الفن من جهة السمات الحسية الذي من المنتظر أن يكون مندرجاً في سياق قواعد معروفة عند الجميع يمكن تحديدها ولا تعدم الاتفاق عليها. فقد لا تجد جملة لغوية قبولا عند الآخرين لدلالتها على معنى فاسد على الرغم من أنها سليمة من الناحيتين اللفظية والمعنوية . وشبيه بهذا الأمر يمكن أن يحدث في الأثر الفني ،فقد تتوافر فيه السمات الجمالية من جهة التقنية الفنية ثم لا يلاقي ترحيبا من آخرين لأنه يتعارض مع ما يؤمنون به من قيم و معتقدات.
إن الذوق بوصفه قدرة على التقدير والحكم لا يمكن أن يتعدى مجاله الحكم في مجال سمات النوع وإن افترض لصاحبه مميزات كبيرة وعميقة . فهو وحده لا يعد نقدا أدبيا يعتد به ما لم يكن مشفوعا بشروط أخرى تؤهله ليكون أقرب للمنهجية منه إلى الاستجابة التأثرية السطحية التي تجعل من الانفعال الشخصي أساسا للحكم الجمالي . فلكي يكون الذوق منطلقا للحكم والتقدير الجمالي وجب أن يتسم بسمات من مثل التفسير والتحليل والتعليل ثم القدرة على التقدير الجمالي القائم على هذه الأسس الضرورية لأي عملية نقدية منتجة. ولا يعني هذا إلاّ التبصر بالسمات والأعراض المصاحبة للأثر الفني المدركة بالحواس والخاضعة للتجربة والخبرة، وان كان أساس حكم الذوق هو العقل، فان مهمة العقل المعرفية هنا مهمة تجريدية تمكننا الانتقال من المحسوس إلى المعقول، أن نتجاوز المظهر للكشف عن جواهر الأشياء والاستبصار بالصلات الحقيقية التي تربط بين أجزائها. ورغم ذلك، فأن دور العقل لا يتجاوز الحكم ضمن نطاق شرط الفن والذي يتمحور في شرطي الصيغة والتعريف.(8)
لا يمكن للعقل بامتلاكه القدرة على التجريد وفهم العلاقات وحسب، أن يحكم على الجمال المتمثل بشرط القيمة، من دون أسس وتصورات مسبقة يعتمد عليها في تحديد مفهوم الجمال. لأنه فقط، حين يتم الانطلاق من مفهوم حقيقي للجمال، يتمكن العقل من الحكم بتجريده للشيء إلى علاقاته ضمن سياقاته للتأكد من مدى تحقيقه لشرط الجمال بوصفه، أي الجمال، قيمة معنوية لا تُدرك بالحواس وإنما بالعقل فقط. لأنها نتاج إشكالية تحتاج إلى بصيرة نافذة ووعي ثاقب بماهية الجمال لغرض إرجاعها إلى علاقاتها الأولية ومن ثم التمكن من إصدار الحكم على الشيء من منطلق مفهوم الجمال الذي يستند إليه العقل في تحليله..
المبحث الثالث
العوامل المؤثرة في الحكم الجمالي:
لقد تبين آنفاً أنه من الصعوبة بمكان ضمان نقاء الإدراك الإنساني للأشياء بحيث يتطابق المُدرَك داخل العقل مع موضوعه الخارجي بشكل تام. وهي من المسائل الخطيرة في مبحث نظرية المعرفة، من جهة أن المعرفة تجريد يقوم به العقل للكشف عن البنى والعلاقات الأساسية المبيّنة لماهية الشيء وحقيقته للإحاطة به بشكل يقترب من الكمال قدر طاقة الإنسان. هذه العملية، في جوهرها، علاقة بين الذات والموضوع. ورغم حيادية الموضوع وتحدده في الإدراك العام إلا أن الحكم الجمالي بوصفه نشاطاً معرفياً، تضاف له اعتبارات أخرى تؤدي – في حالة عدم الاعتناء بها وتشذيبها – إلى عدم نقاء ذلك الحكم بوصفه حكماً على السمات الأصيلة للشيء الجميل من دون تدخل أعراض ومنافع مؤثرة، من الممكن أن تندرج وبسهولة، في مقاييسنا المعتبرة لتحديد جمالية الشيء.
ومردّ تضخم هذه الاعتبارات في مسألة الحكم الجمالي – زيادة على إشكالية الإدراك والحكم العاديين- هو انه في الحكم الجمالي يتم التحدد في نطاق الخبرة الجمالية، المتمثلة في منظومة من القواعد والعلاقات الفنية الكامنة خلف الرؤية التي تؤسس للانفعالات الجمالية للمتذوق، عقليا وشعوريا، وتساعده على اكتشاف قيم جديدة.
يسعى الحكم الجمالي الأصيل إلى تحقيق حاجة أساسية عند الإنسان تتمثل في اكتشاف القيم الحقيقية مما يؤهله لإدراك معنى وجوده وغايته وما يعينه على إتقان وظيفته على أفضل وجه. وهذه الحاجة المهمة والخطرة تؤدي به إلى التبصر بالشروط الجمالية الحقة ليصبح قادرا على فرز الخبرات الايجابية والقيِّمة الزاخرة بتلك الصفات الجمالية عن غيرها من الخبرات الفقيرة قيميا . لذا يتطلب الأمر فصل الخبرات غير الجمالية عن الجانب الجمالي لغرض ضمان صدق الحكم باقترابه، قدر الإمكان، من حقيقة الشيء الجمالية كما هو في واقعه وليس كما ندركه نحن.
وجوهر القضية يتركز في مسألة؛ ما هو الضمان بأننا نتحدث عن الشيء نفسه حين نصفه بالجمال والجودة من الوجهة الجمالية ؟!. فمن الممكن أننا نعبر عما يجول في قرارة أنفسنا بان نمارس عملية إسقاط لا شعوري يعكس استجابتنا الخاصة ومشاعرنا الذاتية تجاه ذلك الشيء بإطلاق سمة الجمال عليه فنؤكد حكم القيمة وكأنه حكم موضوعي.
والشيء في ذاته – بعيداً عن إدراكنا له- أي كما هو في واقعه، يعد حقيقة واحدة ثابتة لا تتعدد، ولكننا، تحت وطأة إدراكنا له، قد نرفع من قيمته أو نقلل منها أو ندركه كما هو. وهذا الاحتمال الأخير هو غاية الإدراك والحكم البشري وهو من أصعب الاحتمالات المتوقعة. ولأن الحكم في ثقله الأكبر يتحدد تبعاً لنوعية الإدراك، فلا يُرتجى في الظروف العامة والطبيعية للإدراك البشري، أن يكون الحكم مطابقاً ومبيّناً لحقيقة الشيء. هذه الصعوبة في المطابقة ناشئة – في بعض من أسبابها- من اعتبارات وعوامل عديدة تؤثر في الحكم، من مثل الحالة النفسية لمتذوق الجمال وروح العصر والطابع المحلي وما يؤثر في توجبه الحكم الجمالي من قيم تتداخل مع الجمال من لذة ومنفعة وغيرها. إن الحكم الجمالي البحت يجب أن يتجرد عن مثل هذه الاعتبارات وأشباهها ليكون أقرب إلى الكمال.
ويبدو أن مسألة تعرية الأحكام الجمالية من سماتها الفردية غدت مطلباً مهماً يسعى لتحقيقه المهتمون بعلم الجمال.هذا ماابتغاه الوصفيون وأتباع المدرسة الاجتماعية والتجريبيون(مدرسة علم الجمال التجريبي)(9) على وجه العموم حين عملوا على تقنين المقاييس المادية
للظاهرات الجمالية لكي يتيسر إخضاع هذه الظاهرات لما تخضع له بالفعل ظواهر الطبيعة من مقاييس مادية.
إن هذه المقاييس المادية التي وضعها أولئك المذكورون، في حقيقتها، لا تُعدُّ تحديداً للجمال كمفهوم مطلق، وإنما تندرج ضمن شرط النوع أو شرط الفن، لأنها تختص بالثوابت المتمثلة في الأعراض والصفات المادية المحسوسة ولا تتعلق بحكم القيمة الممثلة لجوهر الجمال بوصفه سمة “ديناميكية” داخلة في نطاق المعنى وليست “استاتيكية” ضمن نطاق المادة المحسوسة.
ثم إن هذه المقاييس ومدارسها قد أهملت العامل النفسي ودوره في تحديد نوعية الحكم.لأنها “أي المدارس” لا تعنى إلا بالصفات الثابتـة بينما العامل النفسي عامل داخلي لا يخضع للمقاييس الكمية. وهذا العامل الداخلي هو أساس الحكم الجمالي، لأن ثمة رابطة وثيقة بين الفنان والأثر الذي أنتجه، بما في ذلك اللحظة النفسية للفنان وللمشاهد المتذوق لهذا الأثر. وبصورة عامة، كلما استطعنا تجريد الشيء الجميل مما يرافقه من صفات غير جمالية ـ المتداخلة مع صفة الجمال ـ كلما اقترب الحكم الجمالي من حقيقة الشيء. وقد يرجع اختلاف الأحكام الجمالية إلى أن الناس يخلطون دائماً بين الجمال وصفات أخرى. فهم يظنون أن الشيء الجميل يجب أن يكون نافعاً أو مفيداً، والواقع إن الجمال لا يقترن بالمنفعة مطلقاً، إنما يتصادف أن يكون الجميل نافعاً، ولكن تحقيقه لمنفعة ما، لا مدخل له في نعته بالجمال . وكذلك يجب التمييز بن صفة الجمال في الشيء وصفة الإمتاع أو الملاءمة فيه. كما يتعين ألا نخلط بين الجمال والجاذبية الجنسية، فكثيراً ما نحكم على المرأة بالجمال لأنها تمتلىء أنوثة وجاذبية، فيقع التقدير الجمالي تحت وطأة الشعور الجنسي. وأخيراً فإننا قد نحكم على الشيء بالجمال لأنه جديد أو غريب لم نعهده من قبل، إذ أن الألفة قد تنقص من تقديرنا الجمالي للأشياء. ( 10)
يتوجب، خلال ممارسة الحكم الجمالي، التفريق بين الجمال والمنفعة، أن يكون التقدير الجمالي موضوعيا لا يكترث بإغراءات المنفعة.
لقد أغـرى افتقارُ الحكم الجمالي إلى البداهة الجمالية -كما في الحكم العقلي المجرد- كثيراً من الفلاسفة إلى القول بنسبية(11) القيم. كما هو عند السوفسطائيين وبالأخص “بروتاجوراس” الذي أظهر للناس نسبية الحقيقة وإمكانية اختلاف الناس فيها والمقدار الذي يرونه منها لاختلاف زوايا نظرهم إليها، كل ذلك من خلال عبارته المشهورة :الإنسان مقياس كل شيء . فالحكم يكتسب صحته وأحقيته من خلال اقتناع الإنسان به ، ولا تمنع غرابة أي شيء من أن يكون حقا فيما لو قدم عليه الدليل والبرهان . والأصل في هذه النسبية أن الناس يختلفون في إدراكهم للأشياء من حيث إنهم يتعاملون معها ويحكمون عليها ليس كما هي في ذاتها وفي واقعها بل كما يدركونها.
ومن اجل الفهم الصحيح للأسباب التي انبنت عليها هذه النسبية يتوجب التفريق والتمييز بين مفهومين للجمال. الأول هو الجمال في ذاته، أي كما هو في حقيقة الشيء خارج الإدراك الإنساني، والثاني هو الجمال المتمثل في الحكم الجمالي الناجم عن إدراكنا لذلك الشيء. وكما ذكرنا آنفاً، فإن الفرق بين المفهومين يُفَسَّر حسب طبيعة الإدراك الإنساني، حيث إن الإنسان يتعامل مع الواقع على وفق ما يدركه منه وليس كما هو في حقيقته. ثم إن ذلك الاختلاف في الإحكام من جهة نسبيتها إنما ينبع من الأمور الاعتبارية(12) الخاضعة لتحديدات البشر من جهة وجودها في اعتبار الإنسان فقط من غير وجود خارجي عيني متحقق. فلو أن طالبين يدرسان في مدرسة واحدة، أحدهما كـان يعيش، قبل المجيء إلى المدرسة، في قصر فخم وحدائق واسعة غنّاء، والآخر يسكن كوخاً صغيراً، فإنهما في حكمهما على حجم بناء المدرسة من جهة كونها كبيرة أو صغيرة لابد أن يختلفا. فمن البديهي أن الأول سيراها صغيرة الحجم والآخر سيراها كبيرة . الأول بنى حكمه “بالنسبة” لما كان يسكنه من منزل فخم قد اعتاد عليه، والآخر بنى حكمه “بالنسبة” لكوخه الصغير الذي توطن فيه منذ صغره. هذا هو مفهوم النسبية في الأحكام، يرجع إلى أمور اعتبارية وليس لأسباب موضوعية قارة في جوهر الشيء؛ وإلا فإنه واحد في ذاته مـن جهة ماهيته ووجوده، ولا بد أن يتوحد الحكم الصادر عليه فيما لو نُبذت الأمور الاعتبارية وحوكم الشيء محاكمة عقلية تعتمد البديهيات لتحديد حقيقته المطابقة لواقعه الذي يتشكل فيه. وثمة أسباب أخرى لهذه النسبية، من قبيل أن مناشىء الحكم من حيث الحسن والقبح ترجع إلى أسباب عديدة بحسب نظرة الإنسان للكون وطريقة تعامله مع مفردات الحياة، وعلى رأي أبي حيان التوحيدي فان ((مناشئ الحسن والقبح كثيرة، منها طبيعي ومنها بالعادة ومنها بالشرع ومنها بالعقل ومنها بالشهوة، فإذا اعتبر هذه المناشئ صدق الصادق منها وكذب الكاذب، وكان استحسانه على قدر ذلك)).( 13) نلاحظ تعدد الاعتبارات التي تضفي سمة الجمال على الشيء؛ فقد يستحسن الشيء تحت إلحاح الشهوة والرغبة أو ضغط العرف والتعود، أو لاتصافه بصفات موضوعية، أي في اصل تكوينه الطبيعي، أو لان الدين استحسنه أو دعا إليه، أو انه قد تم إدخاله في خانة الجمال لان العقل استكشف فيه هذه السمة.
ويبقى للعامل النفسي أثر كبير في إبعاد الحكم الجمالي عن إصابة كبد الحقيقة من حيث مطابقته الشيء كما هو في ذاته وفي واقعه. ويتمثل هذا العامل في نوعية الموقف النفسي للإنسان حال الحكم، باعتبار ان ((الجهد الجمالي ليس سوى إدراك المرء لحالات نفسه مجسمة في أشياء محسوسة))(14 ). والفحوى؛ ان الإنسان لا يحكم بالجمال على الشيء لأنه جميل في ذاته، وإنما لأنه يتوافق وحالته ومزاجه النفسي ساعة الإدراك والحكم، ونجد هذا المفهوم عند “إبن طباطبا” حيث يقول: ((والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها وتقلق مما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بهـا، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب، وإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت)).( 15)
ومن جملة فاعلية العامل النفسي وترابطات النفس هو تأثير عامل الألفة والتعود على الحكم الجمالي الذي يختلف في وقعه عن عامل الندرة والغرابة. ومن تأثيرات العامل النفسي في الحكم الجمالي ما يحدثه الأثر الفني من سرور في نفس المتلقي بسبب من ارتباطه بحوادث أو مناظر لذيذة وسـارة؛ وحينئذ لا يدل هذا الحكم على جمالية الأثر، بل ما يدل عليه ان يكون الأثر نفسه هو مصدر السرور في كل وقت وعلى كل حال، سواء ارتبط بما يسر أو لم يرتبط.
وتختلف أسباب السرور الذي ينشأ عن تذوق الشيء الجميل من إنسان إلى آخر، ولا تنشأ دائماً عن صفات موضوعية قارة في الجميل ذاته. بل إنها ناجمة عن ترابطات وتداعيات تحدث في دخيلة المتذوق ولا تستمد من الجميل إلا بقدر ما يكون ذلك الجميل سبباً في استفزازها وتجليها. كانت هناك محاولات عديدة أجراها المختصون لدراسة هذه الظاهرة ومعرفة الأسباب التي تدعو الفرد إلى تفضيل بعض الأشياء على بعض وأسباب السرور الذي يستشعره الإنسان حين ممارسته للجميل. وقد تصدى علماء النفس التجريبيون إلى حل هذه المشكلة( 16) ، وكان في مقدمتهم “بولاو”، و”ما يرز”، و”فالنتين”. وقد دعتهم تجاربهم إلى أن الناس في إدراك الجمال وتقديره أربع طوائف سمّوها:
أ) الطائفة الإدراكية أو الموضوعية Objective . ب) الطائفة الذاتية الفسيولوجية أو الجثمانية أو البيولوجية Subjective or physiological Type. جـ) الطائفة الربطية: Associative Type. د) الطائفة التمثيلية Character Type ؛
أ) فأفراد الطائفة الموضوعية يرجعون سبب سرورهم الجمالي إلى صفات يتصف بها الجميل. فيعللون سرورهم من الصورة مثلاً بصفاء ألوانها أو موضوعها، أو إشراقها أو تشعبها، ويميلون إلى مقارنة اللون الذي يرونه بلون آخر يعدونه مثلاً أعلى. ولا يعدون الشيء جميلاً إلا إذا كان مطابقاً لنموذج أو مقياس معين قد حددوه وبينوا أوصافه. ب) وأما أفراد الطائفة الذاتية أو الجثمانية البيولوجية فيقولون إنهم يحبون القصيدة أو الصورة أو القطعة الموسيقية مثلاً لأنها تهدىء أعصابهم، أو لأنها تُحدث في أجسامهم تغيرات عضوية معينة، أو تثير في أنفسهم حالات وجدانية خاصة؛ ولذا يصفون الصورة بأنها منعشة أو محزنة. ج) وأما الطائفة الربطية فأفرادها كثيرون – والربط هو أساس التشبيه الذي يرجع في النهاية إلى ظاهرة تداعي المعاني ـ وقد يكون للربط صفة رمزية فتوحي القطعة الفنية بصور رمزية غير واقعية، كأن تجعل النغمة الموسيقية من يسمعها يتخيل انه ينظر إلى طريق موحش، يكتنفه الضباب. د) الطائفة المشخّصة، وهي التي تجعل من الأعمال الفنية الجمالية أشخاصاً، وتتخيل فيها صفات لو وجدت في الإنسان سُميت طبعا أو مزاجاً أو خلقاً. ويصف أحد هؤلاء اللون أو النغم بأنه خامل، أو عنيد، أو شاب أو نشيط أو رقيق، أو جدي، أو نافر، أو قلق. ويقوم رأي هذه الطائفة على مبدأ النقل أو الامتداد الوجداني وهو أن نُسند إلى غير الإنسان صفات حيوية وجدانية هي أليق بالإنسان.
وقد وضع “بولاو”، عالم النفس الإنجليزي، تصنيفاً “للأنماط الإدراكية” بحيث يمثل كل من الأنماط طريقة مختلفة في إدراك الموضوعات الجمالية والاستجابة لها. فرتب الأنماط تبعاً لازدياد أو نقصان طابعها الجمالي، أي لمقدار “التعاطف والتنزه عن الغرض” في تجربة كل منهما، أطلق “بولاو” على الأنماط الأربعة اسم “لترابطي” Associative والفسيولوجي Physiolojical والموضوعي Objective ونمط الشخصية Characte ، (17)وقد رتب هذه الأنماط الإدراكية بادئاً بالأدنى وسائراً إلى الأعلى من حيث القيمة الجمالية: النمط الفسيولوجي؛ وهو الأدنى لأن الانتباه يتحول إلى “الأحاسيس” الجسمية للمدرك، ثم الترابطي غير المندمج؛ وهنا أيضاً لا يكون الموضوع في بؤرة الوعي، ثم الموضوعي؛ ويدل على عجز عن تحقيق اتصال متعاطف مع الموضوع، ومن الممكن القول أن أفراد هذه الفئة لا تكاد تكون لهم، في بعض الحالات، تجربة جمالية على الإطلاق. ثم “الترابطي المندمج” ونمط الشخصية، وهو أكثر الجميع جمالية. ويضيف أحد الباحثين( 18) إلى تلك الطوائف الأربعة طائفة خامسة يسميها الطائفة النزوعية Conative type وهم الذين يرون أن جمال الفن يرجع إلى ما يثير في النفس من رغبات ونزعات، وما يضع أمام الناس من أماني وآمال ومثل عليا يشعرون باندفاعهم نحوها والعمل على تحقيقها، أو إلى ما يبعث في النفس من هدوء واستقرار، ورضا بالواقع، وقناعة بما قسم الله. والواقع انه ليس بين هذه الطوائف تباين أو تعاند كما يقول المناطقة ، لأنها على تعددها تمثل وجهات نظر مختلفة أكثر مما تمثل صفات متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض تمام الانفصال. فمن الممكن أن رجلاً يقدر صورة مثلاً تقديراً جمالياً لانسجام ألوانها، وتآلف مناظرها فيكون موضوعياً، وقد تذكره في الوقت نفسه ببعض الحوادث أو التجارب السارة الماضية، أو ببعض المناظر التي شاهدها من قبل فيكون من النوع الربطي أيضاً، ومع هذا وذاك فقد تبعث في نفسه الهدوء والاطمئنان، أو تسبب له اللذة والسرور والراحة الجسمية العامة فيكون من النوع الذاتي الجثماني .
نخلص إلى انه من الممكن أن تجتمع في الشخص الواحد أنماط ادراكية مختلفة تتعين وفقا لمدى ممارسته لنوع فني معين وعمق ألفته بالأثر الفني ودرجة الإيحاء الكامنة في ذلك الأثر بحسب ما يزخر به من غموض أو وضوح
هوامش :
(1) حكم Judgement: (1) تصور معنيين، والمضاهات بينهما، وإدراك ما بينهما من نسبة توافق أو عدم توافق. (2) يقصره ديوي على مرحلة الختام من البحث، ويجعله ذا صلة مباشرة بالوجود العقلي. ((المعجم الفلسفي ص 84)).
(2) تهتـم فلسفة النقد الفني بأمرين: التقدير evaluation والنقد. التقدير اطلاق الحكم(حكم القيمة) بالجودة او الرداءة، من دون تعليل او ذكر للاسباب. اما النقد الحكمي Judicial Criticism فهو ما يقترن بالتعليل والتفسير لتاكيد الحكم، وجعله معرفة قابلة للانتقال والاختبار من قبل الاخرين.
(3 ) مغامرات العقل: ص 245.
(4 ) النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية: ص 561.
(5) ومن البديهي ان يختلف الناس في الاذواق من جهة تفاوتهم في عمق الاحساس والوعي والخلفية المعرفية وما يتمتعون به من دربة واستمرار ونوعية الخبرة التي يمتلكونها فضلا عن مقدار تحررهم من بعض الصفات السلبية المضعفة للذوق من قبيل التسرع في الحكم والانغلاق على الذات والعناد والسطحية في النظر الى الامور…
(6 ) الحس الجمالي : ص 50 .
(7 ) فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص24.
(8) نعني بشرط الصيغة عناصر السطح الحسي من الشيء(أي الخاضعة للادراك الحسي)، والتي تعد سمات خاصة بذلك الشيء تؤهله للإندراج ضمن صنفه الخاص به. أما شرط التعريف؛ فنعني به العلاقة الناشئة بين عناصر السطح الحسي وعناصر ما تحت السطح بحسب نوعية الشيء والذي بوجودها “شرط التعريف” يكون الشيء ممتلكاً لتمام صفاته ومؤهلاً لتأدية وظيفته بصورة كاملة. “والشرطان هما ما يشكل شرط النوع”، وسيتم مناقشة هذين الشرطين “الصيغة والتعريف” وبشكل أكثر تفصيلاً في الفصل الثامن من هذه الدراسة.
(9) وهي مدرسة جمالية تعتمد “التجربة” في قياس شدة الاحساس الجمالي التي هي في الاساس سمة ذاتية كيفية وتحويلها الى خاصية كمية يمكن قياسها من خلال التبصر بما يستثيرها من مواضيع قابلة للقياس الكمي…وهو ما ذهب اليه “فخنر” احد دعاة هذ المدرسة الذي وضع منهجا بعديا يعتمد التجربة لقياس لذة الشعور بالجمال اسماه((علم الجمال التجريبي)) او((علم الجمال الاسفل)) في مقابل((علم الجمال الميتافيزيقي)) او ((علم الجمال الاعلى)) الذي هو علم معياري يعتمد منهجا قبليا قياسيا… وكانت غاية “فخنر” من هذا المنهج تحديد ((القطاع الذهبي)) الذي يمثل حصيلة الكم الاعجابي لاذواق الجمهور بخصوص جمالية شيء معين حول ما يرغبونه فيه من نسب وابعاد قابلة للقياس الكمي تحدد جمالية ذلك الشيء بالنسبة اليهم..
( 10)ينظر: فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص-ص 79-81 .
(11) نسبية (مذهب الـ Relativism؛ مذهب يقرر ان المعرفة نسبة بين الذات والموضوع. وقد يكون السوفسطائيون من اوائل الذين اصلوا لهذا المصطلح بقول زعيمهم بروتاجوراس: الانسان مقياس كل شيء. فما كان حقا او جميلا عندك(بالنسبة لك) قد يكون باطلا او قبيحا عندي(بالنسبة لي).ثم ان الانسان نفسه قد يحكم على شيء حكما معينا في وقت ما، ثم نراه يحكم خلاف الحكم الاول في وقت آخر.
(12) الأمر الاعتباري: هو الذي لا وجود له إلا في عقل المعتبر مادام معتبراً، وهو الماهية بشرط العراء. ((التعريفات: ص37)).
( 13) الإمتاع والمؤانسة – أبو حيان التوحيدي – لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة-ط1، 1939: ص150.
(14 ) فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص 81.
(15 ) عيار الشعر – لمحمد بن أحمد بن طباطبا العلوي – تحقيق وتعليق: د. محمد زغلول سلام – منشأة المعارف بالاسكندرية – د. ت، د.ط: ص53.
(16 )ينظر:دراسات في علم النفس الأدبي: ص ص 106-112.
(17 ) ينظر: النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية: ص ص110- 116.
(18 ) ينظر: دراسات في علم النفس الأدبي: ص 117 ـ 118 .