يتوفر الأدب الذي يتناول التجارب الحياتية الشخصية ، على خصوصية كونه أدبا ً ذاتيا ً ينبع من وجدان كاتبه ويعبّر فيه عن هواجسه وعواطفه وأحاسيسه الداخلية وأفكاره وآرائه ويوثق الأحداث التي عاشها أو تأثر بها ، لكن هذا لا يتم بمعزل عن تأثيرات المحيط الخارجي والأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدها هذا المحيط ، بمعنى ان هذا الأدب يجمع بين ما هو خاص وما هو عام في آن واحد .
وضمن هذا السياق ، نزعم ان تجربة الحجز أوالاعتفال أوالسجن أو أية تسمية تدل على مصادرة حرية الانسان ، هي من أسوأ وأصعب التجارب التي يمربها المرء لكنها من أكثرها غنىً بتفاصيل الأحداث التي تتيح لكاتب هذا النوع من الأدب فرصة الكتابة ــ وإن كان ذلك يتم بالاعتماد على الذاكرة في كثير من الأحيان بفعل غياب وسائل الكتابة لديه وهو في الحبس ـ فيعمد الى الكتابة بعد خروجه منه ، وهو ما فعله عبد الزهرة زكي في كتابه ” واقف في الظلام ” بعنوانه الفرعي التعريفي ” كتاب عن الآلام والأحلام ” .
صدر هذا الكتاب عن دار المدى وجاء في 327 صفحة توزعت على مقدمة وأربعة وأربعين فصلا ً قصيرا ً. صمم الغلاف ماجد الماجدي فاقتصد في توظيف الألوان ، مبتعدا ً عن البهرجة اللونية ، وخرج بتصميم راقٍ يتساوق فيه هذا التوظيف مع طبيعة مضمون الكتاب : اللون الأسود الذي يومىء الى الظلام وزنزانة السجن ، وقد غطى مساحة مهمة من الغلاف الأول ، ونقيضه اللون الأبيض المظلل الذي يرمز للضوء ( ضوء الأمل )، وقد غطى قسما ًمن الأعمدة النازلة مثل قضبان زنزانة في سجن يبدو مثل نفق طويل يزداد الضوء وضوحا ً في نهايته بما يعنيه ذلك. وبين الأسود والأبيض يتجلى اللون الأحمر ( لون التمرد من أجل الخلاص ) فيغمر عنوان الكتاب ويغطي مساحة كبيرة من الغلاف الأخير .
يهدي الكاتب كتابه الى روح أبيه في الذكرى الأولى لرحيله والى حفيده في ذكرى ميلاده الثاني , وينطوي هذا الربط بين الموت والميلاد على دلالة تشي بتواصل الحياة برغم كل شيء . أما المقدمة المسهبة بعض اشيء ( وقد جاءت دون عنوان ) فيشير فيها الى تجربته الشخصية في السجن وتستحيل الى بيان احتجاجي ضد مصادرة الحرية الشخصية جاء فيه : ” ما زلت أعتقد ان العبرة الأهم لأي مثقف في مشاركته الآنسانية وفي حياته اليومية والفكرية ، سواء أكان قد مر بتجربة حبس أو اضطهاد أو لم يعشها ، هي في العمل الحثيث من أجل توسيع مدى الحرية وتقليص مساحة الظلم والقمع ” ( ص 15) .
لقد نحا الكاتب بنص كتابه منحى ً سرديا ً حتى ليخيل لمن يقرأه انه ازاء نص روائي بحبكة متقنة ، تحاط عقدته بالتلغيز ، متمثلة بالرسالة التي ظلت محور النص الذي ظل كاتبه محافظا ً فيه على سرية تفاصيل محتواها على امتداد زمن الأحداث ًفشكّل ذلك عنصر تشويق وترقب يسهم في شد القارىء الى النص ويجعل من هذا النص مشروع سيناريو عمل درامي .
يستهَل الكتاب ببداية قد تبدوتقليدية بعض الشيء ما تلبث أن تستقيم في نسق نابض بالحس الانساني . ومن خصائصه ان أحداثه تجري في مكان وزمان محدودين وداخل دائرة مغلقة . المكان هو سجن ” الحاكمية ” في بغداد أما الزمان فهو ـ تحديدا ًـ الأسابيع القليلة التي سبقت الحرب التي أفضت الى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 . ويتمحور الجزء الرئيس من هذه الأحداث حول الرسالة التي أشرنا اليها حيث يتسلم الكاتب وهو في مقر عمله في الجريدة ،من شاب لا يعرفه قادم من كردستان ، رسالة من صديقه القديم سامي العبيدي (يشار الى بعض الأشخاص بأسمائهم الصريحة ويتم التعتيم على أخرين بأسماء مستعارة لاعتبارات خاصة ) . وسامي هذا كان عضوا ً ناشطا ً في تنظيم الحزب الحاكم ، لكنه انشق عنه وصار معارضا ً . ويبدو ان انشقاقه شكّل خطرا ً على الحزب الى الحد الذي جعل جهاز مخابراته ينشغل بقضيته التي كان الكاتب من ضحاياها (هو وأثنان آخران أحدهما ضابط برتبة عالية ) ، وكان قد ألقي القبض عليه من مقر عمله رئيسا ً للقسم الثقافي لجريدة ” الجمهورية ” التابعة للدولة .
تنقسم الأيام التي قضاها الكاتب في السجن الي قسمين: الأيام التي قضاها وحيدا ًفي الزنزانة الانفرادية وتلك التي قضاها في زنزانة أيضا ً ولكن بصحبة ستة محجوزين آخرين ، وله في كل من المكانين ذكريات مريرة . يقول عن الزنزانة الأولى لحظة دخولها لأول مرة : ” لم أر الظلام في الزنزانة المقفلة ، فاستدرت ، يائسا ً , نحو الباب الذي لم أره هو الآخر ، حاولت تلمسه ، خمّنت انه كتلة حديد صلبة وملساء أطبقت عليّ وعلى هذا الظلام الذي سيأخذ شيئا ً فشيئا ً بالتخفف ، ليكشف أخيرا ً عن مصباح صغير أزرق شاحب الضوء وضع على رف هو بقايا نافذة صغيرة في أعلى الجدار المجاور للباب ، أزيلت النافذة بتغليفها بطبقة معدنية صلبة من خارج الزنزانة ، وجرى تثبيت الرف من الداخل بأسلاك معدنية … ” (ص 23 ـ 24 ) ، وقد صممت الزنزانة على هذا النحو، الذي يتقاطع مع أدنى معايير حقوق الانسان ، لتهيأة جو التعذيب البدني والنفسي للنزيل ، ولتكون أمتدادا ًنوعيا ً لغرف التحقيق والتعذيب : ” فرشت احدى البطانيتين على أرضية متربة ، اختلط فيها التراب بحشرات وديدان ميتة . حاولت أن أنظف الأرضية بطرف من تلك البطانية قبل أن أفرشها ” ( ص 35 ) , و ” كانت احدى الحنفيتين لا تحتاج أصلا ً الى فتحها فهي مفتوحة … مددت كفي فاسترجعتها بسرعة خاطفة تحت لسعة الحرارة ، كانت حنفية لماء ساخن جدا ً ” و ” حين فتحت الحنفية الثانية كانت هي الأخرى أيضا ً توصل ماء ً حارا ً بالسخونة ذاتها . لاوجود لماء بارد في هذا الحبس والظلام ” ( ص 25 ) .
وكان على الكاتب أن ينسى اسمه وثقافته ومستوى وعيه بل آدميته ايضا ً بعد أن تحول الى محض رقم منّت به عليه ادارة السجن ، وبالتالي فإنه لم يعد يعامل مثلما يعامل البشر إذ كان محكوما ً، وهو وسط ظلام الزنزانة ، بإرادة السجان المجرد من الانسانية ، ويتلقى طعامه عبر نافذة صغيرة في الباب مفتاحها بيد السجان نفسه ، وصار عالمه محدودا ً تماما ً محددا ً بثلاثة أمكنة كريهة : الزنزانة وغرفة التحقيق وغرفة التعذيب : ” كانت قدم لي على الأرض والأخرى مازالت على الدرجة الأخيرة من السلّم حين تلقيت ضربة وقعت معها الى الخلف ، ارتطم رأسي بالجدار الجانبي للسلّم الذي تكومت على درجاته ، وحين افقت بعد ما لا اعرفه من الوقت وجدتني ممددا ً على أرض لم أتبين معها ما إذا كنت في الزنزانة أم في مكان آخر ، لا أحد في المكان سواي “( ص 153 ) ، و ” بعد عشرة ايام من الحبس الانفرادي في هذه الزنزانة ، بمائها الساخن وحشراتها وديدانها وعتمتها وكوابيس الوحدة فيها ، بدأت أشعر بالنحول والاعياء ” ( ص 161 ) .
أما القسم الثاني من أيامه في ” الحاكمية ” فقد قضاه في زنزانة حشر فيها ستة معتقلين وكانت تتسع لثلاثة فقط . ما يهمه هنا انه خرج من عزلته في الزنزانة الانفرادية الموحشة وهو في مواجهة جدرانها الصماء ، وصار يسمع الصوت البشري ويعيش برفقة بشر وحدّتهم المحنة وصاروا يتعايشون مثل أخوة على الرغم من الاختلاف في الدين أو المذهب أو الانتماء الوطني أو القومي :” وقف الحارس عند باب الزنزانة واراد فتحه ، تردد للحظة ، ثم رجعنا الى زنزانة مجاورة لزنزانتي ، فتح الباب بعدما كان قد تطلع في الزنزانة عبر نافذة الباب الضيقة وقد فتحها أولا ً ، فكانت الصدمة . بشر . بشر يا الهي ! هنا أرى بشرا ً وكأنني لم أر آدميا ً منذ سنين . تبقى لرائحة البشر مهما تلوثت بمكان وظروف ، الفتها . ويبقى للوجود البشري رائحته السرية التي لا تستنشق ولكن تعاش ، تلك الرائحة التي نوّحد الناس في المشاعر والوجدان وفي المصير في ظرف ما ” ( ص167 ) . كان لكل من المعتقفلين الذين معه قصة اعتقاله التي تعرّف علبها ، وكانوا يتسقطون الأخبار عن قرب اندلاع االحرب من الفضائيات التي تقتنصها أسماعهم حين يكونون في غرف التحقيق أو غرف التعذيب ويتناقلونها ويعلقون الآمال على الحرب سبيلا ً لنجاتهم مع انهم يعرفون انها ستقود الى تدمير البلد. لقد وجد الكاتب في شخصية محمد السامرائي هنا ، خير رفيق محنة ، خفف عنه كثيرا ً مما عاناه من آلام جسدية ونفسية لاسيما حين زرع المحقق في صدره بذرة قلق كانت تنمو يوما ً بعد آخر عندما سأله عما اذا كانت زوجته على علم بموضوع الرسالة وقد كانت تعرف كل شيء عنها ، فساورته الخشية من أن يأتوا بها الى السجن وهم لا يترددون في أن يفعلوا ذلك فقد ألقوا بسيدة في زنزانة انفرادية مقابل زنزانته الانفرادية واستبشع أن تحبس امرأة في سجن للرجال ! وبلغ قلقه وخوفه ذروتهما حين سمع صوت امرأة ثانية جاءوا بها الى السجن وظنها زوجته :” استلقيت على الأرض، وكانت أذني تحاول عبثا ً البحث عن منفذ للصوت من أسفل الباب .. ( لقد جاءوا بها ، يا ألله ، ماذا افعل ؟ )، هكذا صرخت في أعماقي ، لترفع صوتها قليلا ً ، لا أميز الصوت ، بالكاد أسمع نشيجها . كان أنفي يتمرغ بتراب أرضية الزنزانة ، وكانت أذني تكاد تلتصق بالحديد البارد للباب ” 0 ص 235 ) . ولم تكن زوجته .
يعمد الكاتب الى توظيف الاسترجاع فيعود بذاكرته الى أيام الحرب العراقية ــ الايرانية التي شارك فيها مقاتلا ً والى أيام الحصار التي عانى منها العراقيون بأبشع ما يمكن وهو بذلك يدين الحرب والحصار معا . ومما يحتسب له انه كان امينا ً في سرد أحداث أيامه في سجن الحاكمية . ففي مقابل صورة مدير السجن ورئيس القسم والسجانين ، بسلبيتهم المفرطة التي رسمها باتقان ، والصورة الكاريكاتيرية التي رسمها لقاضي التحقيق ، فقد رسم في المقابل صورة ايجابية بعض الشيء للنقيب حميد المحقق الذي لم بخف ِ تعاطفه معه على الرغم من حساسية موقعه الوظيفي .
لقد تعامل ، في تحليل سلوك العاملين في السجن ، بمنظور نفسي لاسيما صغار العاملين من سجانين وطباخين وعمال خدمة : ” مرات وأنا أسمع بلاهة الضحكات في الممر ، احس بتلك النشوة المفرطة التي يزهو بها الحارس جرّاء امساكه بالمفاتيح وتحريكها، لتحدث تلك الجلجلة المدوية في فضاء صامت تتردد فيه أصوات الصرير فتنهش القلب والهدوء وتقبض الأرواح . يتلمس لمفاتيح ويرجّها ، وكأنه يبلغ محبوسيه : حريتكم في قبضتي ، وحياتكم رهن هذا الارتجاج الذي تكرهون ( ص 116 ) .
ولأن الشاعر الحقيقي يبقى شاعرا ً حتى حين يكتب نثرا . فقد قدّم عبد الزهرة زكي صورة لما نذهب اليه . ولا نذعي بأنه كتب شعرا ً وانما كتب ما كتب بحس الشاعر المرهف وروح الابداع الكامنة في داخله.
هكذا إذن كان عبد الزهرة زكي واقفا ً في ظلام الزنزانة ، لكنه كان مسكوناً بهاجس التوق للحرية ، وهو هاجس سيظل يرافقه طوال حياته !
ناطق خلوصي : “واقف في الظلام” وهاجس التوق للحرية ؛ السرد بحس الشاعر المرهف
تعليقات الفيسبوك