الشعر الأرضي احتفالٌ في الجحيم
ثمة أغنية قديمة تستيقظ الآن بروحي
جمعوا جسمي دخاناً ليودعوه قبراً
شاعر مغربي من مواليد مدينة الدار البيضاء سنة 1960 تصدر قائمة الأسماء في تحديث الشعر في بلاده . اشتغل بالصحافة.حصل على جائزة إتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب سنة 1990 . وفي سنة 1994توفي نتيجة مرض عضال بإحدى المصحات المغربية . صدرت له مجموعتان شعريتان هما : ـ أبدا لن أساعد الزلزال،منشورات اتحاد كتاب المغرب،1991 ـ دفاتر الخسران،منشورات اتحاد كتاب المغرب،1994
المقدمة والحوار:
بين تلك الطبقات الرمادية المفعمة بالهدوء والضجر،لم يستغرق البحث عنه سوى ساعات قليلة من زمن تلك السموات .بعدها خرج علينا الشاعر أحمد بركات من نومه،تاركاً السرير والمعدات التكنولوجية التي كان تنتجُ له الأحلام الاصطناعية، ليستخدمها من أجل الوصول إلى أهل الأرض، كما أخبرتنا بذلك السكرتيرة الخاصة به .
كان وجه الشاعر أحمد بركات في تلك الأثناء، أشبه بساحل رملي يتمتع بحركة مستمرة من المدّ والجزر.لم نكن نتوقع رؤيته بالصحة الكاملة ،على الرغم من أن القلق بطابعه الرومانسي، ما زال بارداً ولم يغادر ملامحه العامة.
أدركنا ضرورة تجنب مخاطر سوء الفهم المتبادلة،وحاولنا الدخول في الحوار ،لولا تمنعه وإصراره على أن يرافقنا بزيارة ((الحديقة الفيزيائية)) الواقعة فيما وراء التخوم الحمراء. تلك كانت رغبته،ولم تجد ممانعة منا.
ذهبنا معه داخلين بمجرى شعاعي حادّ،لنجد ماكينات وآلات عملاقة وهي تشفط مواد مختلفة من تراب تلك الأجساد البشرية التي كانت خاضعة للعمل أو التجربة.
ووسط ذهولنا ،قال أحمد بركات :
هنا يتم تنظيف البشر مما عَلِق بهم من غبار وخطايا وآلام ،يوم كانوا على أسطح تلك المجرات القديمة. لنجلس هنا ونتمتع .
جلسنا على أريكة مُطيلين النظر فيما كان يجري من أعمال.وما أن امتلأت الأعين بتلك الألعاب السحرية،التفتنا نحو الشاعر أحمد بركات وسألناه:
س/بعد عشرين عاماً على غيابك.كيف خرجت من الأرض إلى هنا؟
ج/ إلى هنا..ماذا تقصد باسم الإشارة هذا ؟
س/ليس غير السماء طبعاً .ألمْ تشعر بوجودك هنا بعد ؟!!
ج/هذه المناطق التي ننتشر على أراضيها ليست سوى عوالم بخارية لإنتاج النصوص الشعرية وبعض الجماليات التي كان يفتقدها البشر .
س/وما عملك هنا؟
ج/أنا أسرعت باستكمال تمارين التجريب على الشعر بلغة ما بعد العدم.هذا كل ما وراء السفرة التي قمت بها منذ عشرين عاماً.
س/وكيف هي لغة ما بعد العدم التي يشعر بها أحمد بركات الآن؟
ج/هي اللغة التي لا تكتب ولا تقبل التشكيل في النحو والصرف .لأننا غير قابلين للإعراب في هذه المناطق المفتوحة على الآخرة.
س/وثمة آخرة أخرى غير هذي التي أنت فيها ؟!!
ج/ أجل .فالسماء مثل اللغة،كلما وصلت إلى آخرتها،سرعان ما تكتشف أن آخرة تقعُ وراء الآخرة الأولى.وهكذا تستمر اللعبة.
س/من أجل إنعاش النصوص أم من أجل هدف آخر ككسر للعادة؟
ج/لا من أجل هذا ولا من أجل ذلك،بل لغاية أخرى تماماً: أن يستمر الشاعر بآلامه للأبد.
س/ألا تكفيك عذابات الأرض،لتخبرنا بهذا ؟
ج/العذاب في الشاعر طاقة ،قد يتحملها فينتج منها المزيد من الدراما اللغوية دون الحديث عن العذاب نفسه،أو يسرف بالعذاب،فيعذب شعره .
س/ وماذا فعلت أنت بذلك العذاب؟
ج/ كسرتُ الأرضَ بهزال جسدي،لأتبخر من أعلى نوافذها.هكذا شعرت وأنا أرمي بجميع قطع غياري كالحطب في تلك اللحظة الخالصة من وجودي على تلك الأرض.
س/يوم كنت قلقاً ؟
ج/لم أكن أكثر قلقاً من سرير المستشفى البائس الذي نُقلت منه إلى مصحة “الحكيم” في بلاد المغرب. القلق لم يعد بالأمر المخيف ،بقدر ما كنت أعاني من هبوب تلك الريح السوداء بداخلي.
س/ريح الشعر تقصد؟
ج/ لا .بل هي ريح الموت السوداء التي تحيط بشعراء بلداننا.كل شاعر هناك،تلٌ من تلال الرماد.والريح تكنس وتشطب وتمحو إهمالاً وقسوةً وجوعاً .ومتى ما استمر هبوبها التعسفية،ينتهون طيراناً إلى المجهول.
س/قد لا يجوز التعميم.فربما كان ظرفك غير ظروفهم الآن.
ج/أشكُ بذلك.
س/ هل يراسلك أحدٌ منهم الأيميل أو الفاكس أو يكتب إليك على الانستقرام أو توتير أو الفيسبوك مثلاً ؟
ج/لا أحد .
س/ربما يكون ذلك بسبب لغتك المختلفة الموغلة بالتجريب،مثلما يقول عبد الواحد مفتاح: ((لغة أحمد بركات التي تحضر دائما في نصوصه معتدة بقلقها ونبيذها، والتي طالما حاول نقاد كثيرون فك شيفرتها التي يَدسّها من غير تخطيط، وهي شيفرات رَوّضت الخطاب النقدي على ترك مسلماته وتقنيات أدواته وإعادة صياغة مقولاته من داخلها.)) مثلاً؟
ج/لست معقداً إلى ذاك الحدّ.وقد يصح هذا الكلام على شعراء مرحلتي آنذاك.أما الآن ،فيوجد في المغرب شعراء استخلصوا من التجريب شعراً مختلفاً عما كتبته أنا في زمني.
س/وإذا ما عدت للأرض مرة أخرى،هل ستنجز قصائدك بنفس القسوة الحادّة التي سبق وأن مارستها على لغتك الشعرية فيما كتبته ؟
ج/لا حلم لي بعودة من باب اللزوم الضروري.فأنا استبدلت قطع غيار جسدي بقطع مختلفة تماماً،وهي غير قابلة للزواج أو للمرض أو للكتابة مرة أخرى.
س/ ولم تعد صالحاً حتى للكتابة ؟!!
ج/الشعر الأرضي بالنسبة لي ،احتفالٌ في الجحيم.كنت أدخل في ذلك المجرى وأختفي دون وعي مني،حتى أصبحت غائباً عن نفسي وعن تلك القصائد التي أكتبها.
س/ربما كنت تقلّد رامبو ؟
ج/اعتقدت بهذا الشاعر العملاق .جعلته توأم روحي،وكان خياري الأعظم في كل ما كنت أكتب وأحلم وأمرض وأحب .رامبو مثل سفينة ،ما أن صعدت إليها حتى بدأت أغرق وبشكل سريع.
س/أنت غرقت على متن سفينة رامبو ،وليس في بحره كما أظن.أليس ذلك صحيحاً يا أحمد؟
ج/ربما يكون في هذا شيء من الصحة.ولكن لم تكن عندي القدرة على بلوغ طقوس شاعر مثل رامبو.لذلك كان يمر بخيالي كالبخار الذي تعجز الأصابع على التقاطه أو الاحتفاظ به.
س/ وماذا تفعل فيما لو احتفظت برامبو في ذاكرتك أو في بيتك على سبيل الافتراض مثلاً ؟
ج/ لكنت قد أطعمته ما أطعمي الشعرُ منه.
س/وجبةً من السل تقصد؟!!
ج/ليس السل وحده،بل جميع الأمراض الوطنية التي كانت تعيش برأسي،والتي طالما كانت تدفعني للجنون أو الانتحار. الشعر كان حوضاً لجمع ولملمة كل تلك الأمطار السوداء التي غسلتني،دون أن تبلل ملابسي.
س/ماذا كنت تظن بالشعر؟منقذاً من الزلازل ؟
ج/كلا.الشعرُ هو الزلزال بعينه.العاصفةُ الذي تنظف أشجار الغابة من الأوراق الصفراء.هكذا كنت أظن بأن الحياة ستكون بعد حركة تلك الزلازل غابةً رومانسية.إلا أن كل تلك التصورات ،وكل تلك الأحلام سقطت على الأرض ميتةً،كمجموعة ضفادع .
ج/ أحدهم يكتب عنك ما يلي:
((نصوص بركات شقراء الروح بالضرورة كرغوة “البيرة”، والتي أنظر إليها – كرجل رائع حديث العهد بالحانات. فالشعر يأتي من المنسي والمِفجاج والابْتعاد ما أمكن عن البلاغة وعَضلاتها، أما هنا فَهو مَحض نِيابة عن الذات. ذات الشاعر التي تَحضر كسند لقصيدته، وهو حضور مُصاحب لرؤية تستطيع أن تستأنس بإضافة صفة خلاقة لها.)) ما رأيك؟
ج/قد يكون ذلك صحيحاً.فأغلب ما كتبته كان يخرج ممهوراً بحبر الروح.أنا كنت أكتب وأهرب من قصائدي.وطالما تمالكني الإحساس بالأرنبة .أجل كنت أشعر كما لو أنني أرنب يقفز على ظهور الكلمات،وخلفه جمهرة من بنادق الصيد.
س/ وهل ما زلت تعاني من تلك الأمراض وتلك التصورات بعد غيابك عن الأرض؟
ج/الأمراض هنا ،تختلف عن الأمراض هناك.بل ولا يجوز المقارنة بينهما.تصور أن الغربان هم الأطباء والمعالجون للأرواح التي لم تتخلص من اضطراباتها أو أمراضها القديمة بعد .خاصة وأن بعض الأمراض هي جزء لا يتجزأ من الأتكيت .
س/كنت حادّاً على خارطة وجودك المغربي القديم، وتحاول على الدوام أن تُسمِعَ نفسك صدى تلك الوحدة .لأية أسباب ترجع ذلك؟
ج/عندما كنت أمتلئ بالأعشاب اليابسة،وهي تسيطر على خارطة جسدي بأكمله،لم أجد ما يمكن فعله سوى إشعال عود ثقاب .
س/هل كان تراودك فكرةُ الانتحار ؟
ج/نعم.فليس ما يمكن فعله غير ذلك بعد أن غمرتنا ظروف البلاد بمياه العدم.لست وحدي من كان يفكر بالانتحار،بل جيل عربي بأكمله.جيل لم يجد من يأوي أرواحه أو كلماته بمنزل فيه أمان وخبز وخمر وجنس وحواس نظيفة من البكتريا القاتلة.
س/ولكنك رفضت مساعدة الزلزال ؟!!
ج/لا أتذكر لمَ رفضت ذلك وعلى ماذا؟
س/كان على شاعر من طرازك، أن يطيح بمختلف سلطات الخراب،أو بما كنت وجيلك تتمنون أن يطاله المحو أو التغيير على أقل تقدير !!
ج/ربما لأنني كنت خائفاً من الموت انتحاراً في بداية الأمر،فأبعدت جسدي عن زلزال من ذلك القبيل.
س/وهل تندم على عدم مساعدتك الزلزال ؟؟
ج/بالتأكيد.وهو عار لا يمكن غفرانه حتى لو كانت الجائزة دخول الجنة..
س/بسبب زلزال مرض السل الذي ضرب جسمك،وأنهكك بطريقة خالية من البطولة التي سبق وأن أقدم عليها كثيرون من أمثال الشاعر الروسي ماياكوفسكي !
ج/إنك تشعرني مرة أخرى بالاختناق.أنا هنا،ومنذ وصولي أعاني من عقدة عدم الانتحار.لقد سبق إرادتي المرضُ،فحطم حلُمي بالصعود إلى حبل المشنقة أو القفز من قمة جبل توبقال.
س/وهل ترغب بأن تفعلها هنا مثلاً؟
ج/هنا لا. بينما على الأرض،فقد كانت حشود الكلمات هي التي تدفع بي إلى الجنون والانتحار. الأمر مختلف هنا تماماً. فليس ما يمكن أن يُعوّل عليه وسط طقس الراحة والاستقرار .لا يوجد في السموات حبل لتشنق نفسك.ولا وجود لرصاصة لتطلق بها ناراً على جسدك .
كذلك ليس ثمة سكين حادّ أو شفرة حلاقة لتنفيذ ذلك العمل.لقد أفرغنا الربُّ هنا من كل توتر يدعوك إلى الكتابة أو إلى الاضطراب.
س/تعني أنك تعيش سكينة منظمة، لا شعر فيها ولا طقوس للكتابات الخاصة؟!!
ج/لا أعرف.ولكن ثمة شعراء وصلوا إلى هنا من قبل،يشهدون بأن لكل شاعر دوراً ينتظره.وعلى ما أظن فأن دوري سوف يطول ،وربما إلى سنوات ضوئية كثيرة.ولكنني أجرّب الآن.
س/هل لأن تقييم أحدهم لشعرك كان سلبياً مثلاً؟
ومن هو رئيس لجنة الحكام الشعريين في هذه المناطق السماوية ؟
ج/على ما اعتقده، فأن التأخير مرتبط بمساحات الأمكنة السماوية الهائلة .ففي هذه المتاهات الشاسعة ، تضيع قبائل وشعوب بأكملها .أما من هو رئيس لجنة الحكام الشعريين،فأظن بأنه الشاعر (( ابن الفارض )) .
س/ هل قرأت ما كتبه الشاعر عبد الدين حمروش عنك في كتابه “المكان الفني في شعر أحمد بركات “؟
ج/لم يصلني الكتاب بعد .سأفتش عنه في غوغل.
س/قال عنك : «لقد عاش شاعرنا حياة قصيرة جدا، لكنها مكثفة في شعريتها ورمزيتها. فلكأن حياة الشاعر، بقدريتها تلك، كانت شرطا ضروريا لكتابه نص متميز في عمقة واختلافه، والملاحظ انه بالرغم من بساطة ذلك النص ظاهريا، لم يكن يخفي انه يجوز سرا يجعله ينفرد بشخصية، آسرة مثل باقي النصوص العظيمة وذلك لعمري هو مكمن أصالة شاعر يسمى احمد بركات» .
ج/هذا شيء كبير.فأنا لم أنل في حياتي مديحاً بالقدر الذي يوفر لي القوة على أن أطلق صرخةً ترفع مستوى البحر نصف متر إلى الأعلى .
س/هل تعني بأن موتك السريع هو من أدرجك على قوائم بعض النقاد ؟
ج/بالتأكيد .فأنا كنت في المكان المغلق نفسياً أولاً. ومن ثم في المكان القابل للتقلص الميكانيكي على جسدي بشكل هادئ وبسرعة بطيئة.
س/ولكن شعراء كثر من جيلك ما زالوا مستمرين بعيداً عن الأمكنة المغلقة المعتمة، أو تلك التي تتعرض للزلازل !!
ج/أعرف ذلك. أغلبهم يأتي إلى هنا في زيارات سرّية خاصة،يأخذون استراحات ويحملون بعض التموين ،ومن ثم يقفلون عائدين إلى أماكنهم الضيقة على الأرض .
س/ولم ينم عندك أحد منهم؟
ج/البعض فقط.كان يفعل ذلك بهدف القيلولة ،بعيداً عن الزوجات .وهنا لا تسمع منهم شعراً ولا نثراً،يصبح أغلبهم من عمال الفلسفة التي تغوص بالجنس الحلال المتوفر هنا مع أصوات ((ناس الغيوان)).
س/كنت صاحب مواهب في الرياضة والمسرح والغناء .هل تغني هنا بصوتك الذي يقال أنه كان جهورياً؟
ج/لم أغنِ بما فيه الكفاية.لقد سُدّت حنجرتي بصخرة سيزيف،وتكسرَّ قصبُ الصوت ،بعدما بلغ به الجفاف الموضع الخطير.لذلك تجدني هنا،وأنا أستجمع شيئاً من ذلك القصب المتكسر،عسى أن تشتعل في فمي أغنية دون رنين عظامي المتألمة.
س/ما الفرق بين الدار البيضاء ودار الآخرة؟
ج/ ربما هو نفسُ الفرق ما بين الشعر العمودي وبين قصيدة النثر.فالناس في مدينتي القديمة تعيش بنظام الأوزان تحت الأعمدة.فيما البلاد سائبة في هذا المكان الإلهي .
س/هكذا رأيك بقصيدة النثر :حيوان سائب ؟!
ج/ليس بالضرورة أن يكون الشعر سجناً أو خاضعاً لنظام بعينه.وإذا فهمت من كلامي بأن قصيدة النثر حيوان سائب،فأنت تمنحه قوة إضافية من خلال الفضاءات المفتوحة التي تقوم بشحنه بطاقات استثنائية من خلال ما تولدّهُ الحركة.
س/ بعد رحيلك ظهرت بثياب “دفاتر الخسران” .هل هي رغبة الآخرين بفضح ما أرادوا قوله عنك.أم ظهرت أنت لتمنتج صرخاتك بطريقة ما ؟
ج/بل من أجل أن أبلل صوتي من جديد ،بعد تجفيف صرخاتي القديمة.فكل ما خرج من حنجرتي ضد البؤس البشري وإرهاب الحريات وتحجير الحواس الإنسانية ،ما زال حاضراً في وجودي المتوفى .فما من شاعر ميت ،وليس له شبكة صوتية واسعة من الاتصالات بالآخرين :موتى وأحياءً .
س/بواسطة بعض الشطار من سحرة المغرب تعني؟!
ج/لا .ليس بواسطة أولئك المشعوذين قط،بل عبر الفيسبوك واللاسلكية التي تتمتع بها المخيلات في عمليات التجلي والتخاطر والخيال والتجسس .
س/التجسس قلت !!
ج/ ولمَ الاستغراب؟ فالشعراء جواسيس يعملون ضد بعضهم.فما من شاعر باطني بالأصل ،إلا ويناضل ضد الظاهر في حقول الشعر.كل منهم يحاول تمزيق الشاعر الآخر بأنيابه السرية.
س/كأنك تحاول الانتقام من الخسائر التي منيت بها ؟
ج/الخاسر جسداً ، لا يُعلق كثير الأهمية على الانتقام من شعراء جمعوا جسمي دخاناً ،ليودعوه قبراً، ترفضُ الزهورُ النمو بترابه.
س/هل ما زال التشاؤم ممسكاً بتلابيب عقلك يا أحمد؟
ج/ليس التشاؤم وحده.هناك الحب أيضاً.كل الذين تعرضوا لشعري،اغفلوا الحب كعنصر رئيسي في تكويني الشعري حتى الشغف والتمزق.
س/ولكنه كان حباً خفياً .من الصعب النظر إليه على أنه كائن يساهم في بناء النص،بقدر ما كان يُعلّق لي للشاعر المشنقة داخل القصيدة .أنت بدأت عذرياً كما الشعراء القدامى،وانتهيت مثل كبيرهم قيس بن الملوح عموداً فقرياً من اللحم والجنون ،تحمله عضلات الصحراء.
ج/لماذا لا تشبهني برامبو ؟أليس هو الأقرب لي وأنا الأقرب إليه ؟!!
س/لا رغبة لنا بخوض طقوس التشابه والتشبيه .فمتى ما تشبه شاعرٌ بآخر،جاز رميّه بالهاوية إن لم يكن شطبه من التقويم الشعري ،لأنه يفقد توهجه الخاص.
ج/ولكن أرثر رامبو شيء آخر،وكل تشبه به ،يمنح الآخر قوة من كثرة التأثر به على سبيل المثال.وأنا لا اشعر بالعار من وراء تعلقي بشاعر فريد مثله.
س/ لماذا لا تفتش عنه وتلتقي به هنا؟
ج/حاولت وفشلت من شدّة الخوف والتبدد.
س/لماذا ؟؟
ج/قيل لي أنه يسكن في شبه جزيرة معزولة مع طاقم من العبيد والنسور ،بعد أن اختطفه صديقه الشاعر بول فيرلين ،وأعلنهُ أول رهينة رومانسية في العهد السماوي الجديد .لذلك عاد يملؤني اليأس ،ولكن من الحياة الثانية في هذه المرة.
س/كن حذراً.فربما لن ينفعك اليأسُ بشيء، أو قد لا تليق بك الكآبة في هذا المكان.
ج/ليس مهماً.فأنا بطل الخسارات أرضاً وسماءً.وربما تتعمق تجربتي مع المأساة في هذا المكان مرة أخرى.وأمام الله بالضبط.
س/وهل ترى أنكَ تُشغل الله بشيء يا أحمد بركات؟!!
ج/رعاية الرب للمكتئبين المحزونين جيل الميلودراماتيكيات تكاد تكون هي الأعظم هنا.فكل ما كان سعيداً في الدنيا،أنما هو قشرة آدمية تطفو على السطح دون انتباه من أحد.والله لا يرى العبد إلا بأثره وبنصّه.
س/تقصد أن الإنسان الدراماتيكي هو المطلوب عند الربّ؟
ج/ أن الله لا يحب إلا العمق.وأما المسطحات،فليس من عمله.أنه عادةً ما يتركهم للسكرتارية بالضبط.
س/وهل تعتقد بأن السماء التي تسكنها الآن، ليست سوى مجموعة مستشفيات للعلاج وتثبيت الدعم الصحي للمرضى من أمثالك؟
ج/لا أريد الإجابة على هذا السؤال.
س/لماذا ؟
ج/لأن ثمة أغنية قديمة تستيقظ الآن بروحي.