علي لفته سعيد : بنية الكتابة ؛ رواية (الطريق الى تل مطران) ؛ انبهار الفكرة وضعف في إدارة المتن السردي

ali lafta saeidتحاول رواية ( الطريق الى تل مطران ) للروائي علي بدر أن تبحث عن قارئ يبث سؤاله ويضع أجابته الخاصة مثلما تحاول ان تجعل من السؤال أسئلة تشبه قراءة كفٍ لا تفك طلاسمه إلا من يعانون من كبرياء الأسئلة المحصنة بدهاليز التابوات..الأسئلة التي يستقيها القارئ من الرواية.. ما هي الطريقة التي يتخلص بها الناس من الحروب والخدع وتأثير الدين والسلطة والإشباع من الجنس وتأثيره والاحتيال والاستغلال؟ وهذه الأسئلة التي تشبه شجرة لبلاب ستحمل متناقضات الأجوبة ايضا وتناقضات الحياة كلما تسلق القارئ غصنا من سؤال لأنه سيجد نفسه أمام سيل من الاسئلة..
في الرواية ثمة فرد من المجتمع.. فرد متناقض وإن كان مثقفا وقد اختير بعناية ليمثل حلقة الوصل بين القمة السلطوية والقاع الفقير المستلب العقل والارادة ..هذا الفرد / الراوي / البطل في الرواية تسرحّ من الجيش وعاطل عن العمل يقرأ كثيرا ولا يستقر في مكان وربما همه الذي يريده هو عمل ونساء وخمرة وسيكارة ومكان استقرار لا يزاحمه أحد ..لكنه في لحظة يجد نفسه أمام فرصة عمل والعمل يتحول الى فرصة للسؤال والتأمل والبحث والاستقصاء الى المكان الذي يريد منه إيجاد الأجوبة أو طرح الأسئلة المهموم بها.. هذا الفرد المعذب المثقف المتوارد الخواطر الحالم المتذبذب المستغل للأشياء الشبق، يصطدم بواقع جديد تعشش فيه الريبة رغم تماسكه الظاهر.. الرواي الذي يرحل صوب الأعلى الى الشمال من الأرض والعاصمة الى ( تل مطران ) الدلالة والأسم والتأويل والثريا التي يمكن إيجاد دلالتها في عملية حصاد التأويل والقصد ولملمة أجزاء الحكاية.. عالم متناقض ربما هو يدرك من قبل لكنه لم يجد من يهديه الطريق ليجد نفسه أمام المكان الذي ينير له السبيل، أو أنه أراد أن يكون له معبرا لكي يضع أشجار أسئلته في طريق القارئ.. المجتمع الجديد ربما هو يشبه المجتمعات الأخرى المغلقة على الدين والكهنوت والانتظار واللغة.. مجتمع ضيق في المكان متسع في الإدراك يخضع لإرادة سلطة دينية أكثر منها سلطة مدنية رغم إن العنوان كان في العراق وهي كناية بما يمكن ان يتحكم في العقل.. وهناك أيضا ثمة متمردون على هذه السلطة وإن كانت خفية تبحث عن لحظة إعلان.. الفرد المثقف يكتشف في رحلته حتى نواقصه فيندمج في الحل أو الخديعة أو استمرار التسلط ذاته بثوب جديد.. لأن الحال يدوم كلما ماتت سلطة ولدت أخرى,…تل مطران مكان له دلالة وقصديات عديدة ويبني الروائي/ المنتج حكايته يدير كفة الصراع ويبحث عن أسئلة ليبثها .

إدارة الفكرة.. احتمالية الصراع
أن الرواية تخضع لمقدرة الروائي في إدارة بينتها الكتابية وعلى استمالة السرد الى حثيثات المدونة، وهو أسلوب تمكن من مزج الراوي وروج لأفكاره من جهة والرواية والسارد / الأنا من جهة أخرى.. ولهذا فهو قد وضع كل شيء في السرد مثلما وضع إمكانياته ali badr 2السردية في كل شيء ومن أجل كل شيء بهدف كل شيء لإعلاء كل شيء.. لتخرج رواية كبيرة في صفحاتها تحاول الإجابة على السؤال الأزلي الذي لم يجب عليه أحد.. من يخدع من؟ الفرد أم الدين؟ الدين أم من يتخذ من الدين طريقة للحياة؟ ..الفرد أم قادة الدين؟ ثم من يعبث مع من؟.. الحرب أم السلطة؟ التاريخ ام المؤرشفون والمؤرخون؟. الحياة وصعوبتها أم ضعف الفرد واستسلامه للغيبيات؟.. ولأن منطقة الروائي خطرة إذا ما أراد الخوض في أحد التابوات وفي المساحات الضيقة من هول الاضطراب اللفظي والحركي لكثرة الألغام.. فقد ذهب وجنح الى منطقة أخرى قابلة لمناقشة الفكرة بلا تعصب وقابلة لهتك أسرار الضعف البشري، لتشابه الكيانات القائدة للفرد وهي منطقة أيضا تمنحه القدرة على بسط سيطرته على أدواته وأفكراه ورؤاه، من خلال مجتمع يرتبط بالمكان / العنوان ( تل مطران ) وله دلالة عنونة ودلالة ضوء ودلالة ميتافيزيقية ونفسية وتأويلية ومكان لصيد سهل لتأويل القارئ .. ليصل الى محنة الحياة وفكرة المخلص التي يضمرها رجال الدين والمتمثلة بالقس والتي يتم فيها التعلق الى حد التشبث بها والدفاع عنها حد الموت والمتمثلة بالإنسان، ولأن القس يمثل السلطة الدينية فهو قادر على إخراس الآخرين وقادر على إنهاء حياة معارضيه أو الذين يفكرون حتى بصوت خفيض بطرح أسئلة، لأنهم يعرفون إن كل ما حولهم عبارة عن خدعة للسيطرة على العقول.. حتى إذا ما تمكن المعارضون من الإطاحة به بذات الطريقة وبذات التفكير لأن الناس لا تصدق الا ما هو متراكم في العقل البشري الجمعي الغيبي.. وهنا تسجل هذه الطريقة لصالح الروائي من أن النتائج دائما ما تكون صعبة والخوض فيها ربما لا يبحث عن الإجابة فقط بل ربما لا يجعل للأسئلة مكانا ملحوظا في الخارطة القرائية.. فتكون الخطايا سلسة مترابطة لأنها بدأت بفعل الخطيئة الأولى، ولهذا فأن المواجهة دائما ما تكون بين الخديعة والنفاق لتكون هي بوابة الحياة فيما تتراجع الطيبة الى مناطق منخفضة وهي أسيرة سلطة غاشمة مستغلة السماء بكل ما يمكن ان يجعلها مرآة لهم وحدهم والناس تنظر الى الله من خلالهم، فلا طريق الى الله سوى حروفهم والتاريخ/ الكتب،لأن هذه السلطة تمتلك وثائق التاريخ وقدرة الاقناع والجرأة على القول وصناعة الشعر حتى لكأن الروائي يريد طرح سؤال حين وضع الشعر على إنه الأهمية الكبرى في صناعة كل شيء حتى إنه وصل بالشعر الى المنطقة الأولى العالية جدا والتي تمتلك المرايا التي تضيء المكان، ولا أحد يتمكن من معرفة أسرارها وطرق صناعتها إلا من كان بمقدوره الوصول الى منطق القول وصناعة الشعر وهو ما يشكل عنصر المواجهة.
الرواية رغم انها لا تصل الى لحظة الاجابة لكنها في النهاية وتهربا من كل شيء وأولها التأويل والمماحكة.. جعلها الروائي عبارة عن حلم يوم بدا في مكان معلوم لتنتهي به لتعود الى اليقظة ذاتها التي عمدت كل الماضي بماء الانتظار والبحث عن إجابة ضائعة.. ومن ثم الوصول الى منطقة الوهم من جديد للإمساك بجمرة الأسئلة الأخرة الاتي تنطلق من ( تل مطران)
مستويات السرد
تعتمد الرواية في بنيتها الكتابية على ثلاثة مستويات رئيسة من مستويات البنية الكتابية فهي تعتمد على المستويين الإخباري والتصويري بشكل فاعل وهما ينتجان المستوى الثالث القصدي.. لكن المستويات الثلاثة الأخرى لم يغفلهما الروائي/ المنتج كعامل مهم من عوامل السرد.. فالمستوى التأويلي هو حامل جميع المستويات.. فيما يكون المستوى الفلسفي هو المنطقة الشعرية والثقافية في جسد الرواية الذي يعتمد على حوارات فلسفية بين البطل والشخصيات الدينية وأهمها ( القاشا).. فيما يقبع المستوى التحليلي بين ثنايا المستويات الأخرى إذا ما احتاج الروائي الى تقريب ما يريد طرحه من مفهوم العلاقة بين السلطة والفرد وبين الدين والعبد وبين الحب واللذة والحياة وبين الجنس والحاجة وأهميته.. ولأن الرواية هنا في ( تل مطران) هي رواية إخبار ونقاش فإن الروائي جنح الى الإعلان منذ البدء على ما يمكن تأويله بطريقة تشبه قراءة الكف التي لا يمكن التحقق من تفسير ظواهرها حتى لو صدق المنجم الرائي للأحداث، كما جاء في الاستهلال وهي عتبة أولى لفهم منطقية النقاش التي ستبنى عليها الرواية وحكايتها ومنطقة العمل ونقل الأدوات الداخلة في فكرة الرواية مع الرواي.. وهذه المنطقة تبدأ بلقاء بين اثنين لتنتهي في منطقة الحلم بين الإثنين في يقظة الرواية وليس انتهاء حلم الراوي/ البطل.. كاستنتاج تأويلي يذهب بنا الى إن الغريزة هي أحد أهم مسببات كل صراع وقوته وضعفه والخنوع ونتائجه المدمرة والقبول بكل مغريات هذه الغريزة حتى لو كانت النتائج النهائية خسارة للوعي والفرصة المواتية للتقدم.. كونها لحظة لذيذة من جهة ولحظة عاطفية من جهة أخرة فتسيطر على العقل حتى لو كان صاحب العقل مثقفا.
إن المستويات السردية في بنية الكتابية ربما تكمن علاقتها مع العنوان الذي يأخذ تلابيب الحكاية التي سيطر عليها الروائي بشكل مطلق، فكل شيء يسير باتجاه العنونة ولذلك فإن ما يغلب على الرواية هو لجوء السرد الى ابراز ثقافة الرواي من جهة وجعله نقطة الضوء الكبير لإبراز لمستوى التحليلي، كواحد من طرق التوصيل وهو مستوى يبرز ثقافة المنتج من جهة ومحاولة بث أسئلة خارج سيباق الرواية الى عالم آخر عالم يقبع بين المتلقي النخبوي وبين النص ذاته وهو عالم خاص في تلك المنطقة المتعلقة بثقافته وقراءته لكل الكتب، حتى تلك التي غير قابل للحصول عليها بسبب ندرتها من جهة وحساسيتها من جهة والتي لا يطلع عليها إلا الخواص المتنفذين في الحياة وهو ما يعني انه الراوي/ البطل كان يعرف كل شيء من كتب مكتبة القاشا.
اعتمدت الرواية على المستوى الإخباري كما قلنا والذي يسيطر عليه المستوى التصويري أو انه يزاحمه عنوة بتدخل الروائي في رواية الحدث ،وخاصة في حالة إبراز الشخصية المهزوزة من حالتي الراوي/ البطل.. خاصة وإن الروائي / المنتج استخدم طريقة الأنا المتكلم لكي يكون قريبا جدا من كل شيء ويضعه أمامه تماماً ..وهنا يذهب الروائي بعيدا في الأخذ بيد الراوي في طرح سرد طويل جدا ويصف كل شيء.. حواراً أو سرداً.. حتى أن بإمكان القارئ أن يقفز على السطور فلا يجد فرقاً في متابعة الحكاية أو قيادة القراءة الى منطقة القصد أو الوصول الى منطقة الدهشة التي يريدها الروائي/ السارد.. خاصة وإن الحكاية هي المهيمنة هنا وهي المهمة في الادخار الأكبر لمستوى القصدي وحتى المستوى الفلسفي.. لأن ما وراء التحليل قصدا، وما وراء القصد تأويلا، وما ينتج عن التأويل فلسفة يفرزها الواقع الذي استلته الحكاية، وهو واقع خلفته الحروب والسلطة والقوة الدينية.. ولهذا فان البنية الكتابية هنا رغم جمال الفكرة وأهميتها وهو ما يحسب للروائي علي بدر إلا إن الحكاية وفكرتها ودهشة اللغة ولذتها وانسيابية المفردة وسهولتها لا تكفي إذا ما كانت الإدارة قد تفلت من عقالها لصالح الإهتمام بأشياء أخرى.. ومن تلك التي نراها قد جلبت الأذى للرواية هي ما يتم طرحه من أسماء أدبية معروفة راحلة او متوهجة في عطائها الأدبي والثقافي والفلسفي وحتى الديني، وهنا فان ذكر الكتب أو الكاتب لا يعني الارتقاء بالبنية الكتابية أو المساهمة في إدارة الحدث بقدر ما تؤدي الى خدش السرد خاصة وأن تلك التي يسرد فيها الروائي بتحريك من الروائي كتباً عديدة في جلسة واحدة لا تتعدى ساعة او أكثر حتى لو كان هناك ما يصطلح عليه الزمن الميت أو موت الزمن، لكن لا يكون زمنا متوقفا في السرد الطبيعي لأحداث الرواية، بل إن هذه الفترة الزمنية القصيرة التي يتم فيها قراءة كتاب تشهد أيضا مناقشة لأفكار الكاتب وما يمكن أن يضيفه الكتاب من معلومات لا علاقة بالموضوعة مثلا.. لذلك فقد أدى ذلك الى تراكم الزمن أو نسيانه على حساب المعلومة التي لا تغني الحكاية ولا تؤثر عليها ولا تشبع السرد ولا تمنحه أهمية.. لأن حياكة المعلومات التي جيء بها حوار بين اثنين ووضعها في جسد الرواية لا يضيف إحسانا للمتلقي، بل إنها لم تكن محكمة وهو ما أعنيه بتشويه الإدارة التي يتمتع بها علي بدر.. يضاف الى ذلك إن السرد أغرق كثيرا في تفاصيل جنسية أو وصف لأجساد النساء حتى لا نكاد نتخطى وصفاً لجسد على لسان الرواي/ البطل، حتى وهو في أحلك ظروف التفكير او الخوف وهو ما يعني سيطرة الروائي/ السارد / المنتج.. ولأن التفاصيل الأخرى مهمة في موضوعة وصف الجنس أو الجسد الأنثوي وعلاقتها بتذبذب البطل المثقف الحياتي لكنها كانت أوسع من نهر الرواية الذي امتلأ بالماء، ولم يعد يتحرك بحرية بين ضفتي التأويل او الدهشة.. لان الروائي هنا يراقب كل شيء وليس الراوي الذي يتصادف مع الأحداث، بل ان الإغراق في الوصف شمل حتى الملابس وبأسماء أجنبية او السكائر والعطور (ثلاث صفحات للعطور وأخرى لواجهات المحال والمكتبات ووصف الثلج والحوذي ومكان القاشا وأغلبها تتكرر) وكل شيء وهو ما ينعكس على وصف المكان حتى أن القارئ بإمكانه أن يجد تكرارا للوصف في صفحات أخرى رغم إن كل هذا الوصف يندرج تحت عباءة المستوى التصويري إلا إنه لم يخرج من كونه دفع بعربة الجمال الى الأمام لجذب المتلقي إليه..

ضعف الوصف والتكرار
kh ali badr 3تشهد الرواية على صفحاتها التي تتعدد 350 صفحة بحسب طبعة دار الشروق في متنها الروائي ضعفا في الوصف حتى لكأن القارئ يتساءل: كيف لعلي بدر أن يكتب هكذا جملة سردية في رواية كبيرة في فكرتها وسلسة في سبيلها وطرحها؟. وهو هنا وهو ما يخيل لي إن الروائي/ المنتج يعاني كما يعاني أي منتج أو كاتب للرواية في الكتابة التي تأخذ وقتا طويلا وأشهر عديدة تنسلخ منه جمل ركيكة تقضي الى الانزعاج لحظة الكتابة رغم إنها غير محمودة بالنسبة لكاتب مثل علي بدر.. فهو لا يُعذر إذا ما جنحت جمله الى التكرار أو الضعف في الوصف وركاكة في المفردة والجملة.
( الاكتساح العاتي الذي شلني وجعل من يدي أمامها مفتوحة وهي تنقل بعينيها من نقطة الى أخرى، وبع لحظات…وبينما كانت يدي اليسرى أمامها مفتوحة راجفة متعرقة، أخذت تسرد الأحداث الأكثر حميمية في حياتي ) ص16
وهنا نرى تكرار جملة (أمامها مفتوحة) وضعفها في تنقل بعينها
وكذلك ( ( لم أدرك لحظتها أي خطأ ارتكبت بنسيانها، أي خطأ تذكاري ارتكبت عليّ دفع ثمنه فيما بعد، ولم أكن أدرك لحظتها ما قالته بشأن العداوات) ص18
وأيضا (تناول مني حقيبتي وألقيت بنفسي بكليتي إلى جانبه) ص36 وكلمة ( كليتي ) زائدة
(فحاولت أن أجد لي مكانا قريبا وأجلس عليه، وبالفعل سحبت كرسيا قريبا مني وألقيت بنفسي عليه ووضعت يديّ كلتيهما على الطاولة المغطاة بشرشف أحمر اللون خشنا ووسخا أيضا.) ص73
ولو دققنا بهذا المقطع على إنه جملة سردية سنجد إن المحاولة تعني وقتا وجهدا وتبين ان الكرسي قريب ثم يضع يديه كلتيهما، وكلتاهما زائدة هنا إضافة الى لا معنى هذه الجملة في جسد الرواية.. وكذلك:
( ارتدى الطاقية الفارسية وذهب قريبا من الوجاق وجلس على كرسيه ساقا على ساق، فتبعته وجلست على مقربة من الوجاق ،ثم أخرجت من جيب بنطلوني الغليون وعلبة التبغ والقداحة، فتحت العلبة وأخذت أعبئ الغليون بالتبغ وأرصه بإبهامي، واشعلته سريعا، ووضعت ساقا على ساق، وأخذت أطلق في الفضاء نفثات الدخان حلقة حلقة، ففاحت رائحة التبغ الشذية في الصالة الدافئة) ص 81
ولنلاحظ تكرار الكلمات وطريقة رصفها في الجملة السردية وهو ما يحصل في المقطع 37 في الصفحة 116 ايضا حين يعيد تكرار الكلمات البنايات والأوتيلات والمتاجر ومحلات الحلاقة ( الاصح محال ) والمجبراتية ومصلحو الساعات.
وكذلك:
( “هل تذهب بنزهة في الربل كما وعدتك بذلك…؟” قالت هذا وهي تفتح الزر العلوي من قميصها بأصابعها وتغلقه.لم أجبه)
وهي هنا جملة ركيكة أيضا بزيادة كلمة أصابعها لان لا سبيل آخر لفتح الزر غير أصابعها ..

أسئلة لأجوبة حاضرة
أن بنية الكتابة اعتمدت أيضا على طرح الأسئلة المتناسلة التي يريد الروائي الوصول إليها والحصول على ملامحها كما أسلفنا لكي يضعها أمام القارئ لتكتمل الصورة.. وهو ما جعله أيضا يحصل على متن سردي متسع أكثر من الحصول على فرصة البحث عن الإجابة ..وهو هنا ربما بلعبة سردية أراد جعل البنية الكتابية تأخذ منحنيين مهمين ..الأول إن الإجابة والوصول إليها تعني موت الحقيقة والاكتفاء بما طرحته الرواية من أسئلة ولذا يفقد فرصة البقاء معه في داخل شرنقات المخيلة التي تتسع مساحاتها كلما مضى بعيدا في عمق الحلم والتغلغل في المدينة وأعماقها ..والثاني إن الإجابة تعني أيضا التوقف عن سرد الحكاية وتوقف منبع اللغة ومناقشة أهمية كل ما له علاقة بهذا الخدر المواجه لقوة وطغيان السلطة الدينية.. لأن في الرواية لم نجد أثرا للسلطة المجتمعية أو سلطة الدولة إلا بما ذكره في كون الراوي/ البطل إنه جندي في زمن حربٍ انتهت وهو يبحث عن فرصة عمل.. لهذا يجنح الى شرح كل شيء متخذا من مقولة قديمة مفادها إن (الرواية كيس منفوخ تضع فيه كل شيء ) لذا فان في هذا التكرار ربما هناك قصدية لها نافذتان الأولى انه يريد إقناع القارئ إن ما يقوله هو الواقع وهو الفن وهو الأصح لكل هذه الأفكار وبالتالي يدخل الى النافذة الثانية وهي الإنصياع الى الأفكار سواء كانت عقائدية او كهنوتية وإن تداخلت المفاهيم في الهرب الى الأمام ..وهو ما يتوضح ذلك من خلال ما طرحه في ص102 عن رؤية طفلة كردية مسلمة رغم إنه قال أنها تسكن قصبة المسلمين ليخبرنا ان المتوالية الفكرية الدينية شاملة وهي ذاتها في الاستغلال والتفوق.

القصدية والتأويل
إن القصدية الكامنة التي أطلق عليه لب الرواية يمكن استنتاجها: إن الروائي وضعها في الثلث الأول من جسيد الرواية ذاتها ليبدأ بالدوران حولها ذهابا الى الأعلى.. وهو ما يعني لملمة التأويلات وحصاد فلسفتها
( في تلك اللحظة شعرت بخوف حقيقي، شعرت بأني مهما ابتعدت عن عيني القاشا فأنا مراقب، وثانيا أنه عازم على أمر خطير لا يقبل التنازل عنه ، فسالتها:
” هناك أمور غريبة حقا.. الأب عيسى اليسوعي راعي البيعة.. أينه…”
” أنه يحتضر.. لن يعيش طويلا.. وسيكون توقيت الأمر في وفاته.. أنا واثقة إن تأخر طويلا على القاشا خوشابا سيقتله…”
“ماذا..؟”
” سيقتله..القاشا مستعجل على ظهور النبي…”) ص 131.
وكذلك نرى القصدية وإمكانية حصاد التأويل في صفحات أخرى ومنها:
( فإذا كان بناء الدين بالأساس بناء شعريا فسيكون الخيار الأخير بسبب شعريته بناء سرياليا، ومن هنا سيعتمد فكرة ظهور المخلص كتحقيق سريالي للفكرة الشعرية عنه.) ص104

(لقد شعرت بصدق وحقيقة ما قاله القاشا: كي تنتصر لفكرة صحيحة وحقيقية ومتكاملة عليك أن تطرق على رؤوس الذين لا يفهمونها، أن لم يكن عليك أن تهشم رؤوس الذين لا يفهمونها)ص 294
وهو الأمر الذي تأثر به الرواي الذي كما قلنا في أحد شخصياته متذبذب وفوضي وسرعان ما تأثر بفكرة القاشا الذي يمثل السلطة ويتأثر أيضا بفكرة شميران التي تمثل التغيير نحو إبقاء الأمور ذاتها دون حصول ثورة مهمة وحقيقية أيضا.. ولهذا فان الراوي يعترف بقوله
( كيف بزغ هذا الحقد وهذه الكراهية مرة واحدة في نفسي، لا أعرف. لقد حقدت على المدينة تماما وكانت لدي رغبة حقيقية بتدميرها. كيف برزت هذه المشاعر وبشكل صلب في نفسي ، الى الآن لا أعرف.) ص 295
ولهذا فان الروائي يسير في طرح رؤاه وتحليله للواقع ليصل الى منطقته الاثيرة في فضح تلك العلائق الجامدة من جهة والمخدرة من جهة أخرى والقابلة للخديعة والحقد من جهة أخرى وإن كان ذلك مضمرا وصامتا ..والمجتمع الذي يراه له محمول دلالي على كل المجتمعات الأخرى التي تسيطر عليها التابوات.. ولهذا فهو يرى وجها آخر من وجوه المدينة والشخصية الأخرى فريدة.
( لقد كان مزيجا من الكذب والخيانات والدعارات، لم أكن ممتنا أبدا أنما شعرت بقوة بتلك العلاقة الناقصة التي تلطخني ولم أكن أزدريها وأحتقرها، كما ازدريتها واحتقرتها تلك اللحظة) ص 296
وهو هنا يعطي نموذج لمثل هذه المجتمعات كما اسلفنا من أنها موبوءة بالعداوات والخديعة وتركض وراء الجنس على الأقل ليس في قاع المجتمع بل في قمة الهرم.. لذلك فان القصديات التي تمنحها الرواية هو إن القاشا يمثل الاستلاب وإن كانت حكيمة والفكرة وأن كانت مستحوذة بطريقة سلبية وايضا الراوي الذي يعني بالضرورة في بعض الأوجه الروائي الذي يتأثر ليس فقط بطريقة سلبية لفوضويته بل ايجابيا لأنه يريد الجنوح بالجمال الى منطقة طافحة وليست غاطسة وهو حالم بحياة مليئة بالجمال والقادم من العاصمة التي تخف فيها حدجة التأثير بالتابوات رغم انها لا تختفي نهائيا لكنها أخف وطأة.. فهو يكتشف التبشيرات التي تجريها السلطة حتى لو كانت كاذبة وهي هنا قصدية أخرة مستغلا العقول.
( سيقتل القاشا عيسى اليسوعي وسيقول للناس بأن النبي موجود في إحدى حجرات الكنيسة وبعد ذلك يخرج للناس بين آونة وأخرى ليكون وسيطا بين الناس وبين النبي.. وسيفرض على الناس كل ما يريده باسم النبي) ص315
حتى أن الروائي يطرح مفهوما آخر يولد تساؤلا: هل الشعر هو المخلص وهل الشعر هو المؤثر ..بمعنى ان كل ما يتم طرحه هو بسبب الشعر أو إنه مجرد شعر لذلك سيكون الشعر مهما في تلبية جموح السلطة والقابلة على تخدير العقول أو انه المنقذ من نبوءة سماوية.. أم هو الهروب من مسك الحقيقة لأنه شعر.. أم إن المخيلة تسعف لإيجاد بديل يقابل نبوءة تتجاوز الكتاب وتاثير.
(“مثل ماذا قاشا..جئنا معك.. أنا من جانبي لا تهمني حقائق الشعر.. ما يهمني هو الفضيلة في الشعر.. وكما قلت أنت.. أن الله قد خلق البشر في إطار حكاية شعرية.. وهو الشاعر الأعظم.. إذن هو الذي زرع الفضائل فينا.. وأنا جئت اتبع صوت الفضيلة فيك قاشا..وما أريده هو تحقيق هذه النبوءة الشعرية.. وأن يحيا الناس في فضائل معممة”) ص327

الفكرة والاستدلال
لذا تبدو فكرة الرواية مشحونة بقدر كبير من فلسفية قصدية يريدها الروائي أن تصل بمفهومها وتحليلها الى القارئ/ المتلقي الذي يريد معرفة العالم الآخر الذي يحفزه لكي يستنتج ما لم يره من قبل أو يسمع به أو سمع به ولم يحلله.. لأن الأذن تعودت على الإستماع والتصديق المباشر كفعل جماعي.. والمتلقي هنا بحاجة الى التفكير في كيفية ولوج المنطقة الفلسفية التي تخضع الى القدر، وكذلك الى مفهوم الخلود ومعناه في الذاكرة المجتمعية.. ولكن المناقشة الروائية هنا تنتهي على أنها حلم.. مجرد حلم ..الروائي استغل الحلم ليقحمه في معترك خوض المعارك الفكرية ليصل الى مفهوم تلك الحياة القاتلة للعقل.. حياة خطط وخيانات ويأس وسرقة وتبعية وفساد واستغلال السماء والتاريخ وحتى الشعر والثقافة والأخلاق.. ولكن ما يمكن الاستدلال عليه أن الجامع الأكبر لكل هذا الذي تمر به الحياة هي المرأة والصراع مع الرجولة أو مواجهتها.. هي صراع الطبقات كما سيأتي عند تناول أهم شخصيتين في الرواية
( بين هذا الشاعر وهذه الحسناء آلاف من الضحايا، ولكن من هو الجلاد ومن هو الضحية؟
هل هؤلاء الحمقى أبرياء حقا؟
طيب ما دخلي أنا، ما هي قصة النبوءة؟ قس يحتضر….) ص241
الرواية أيضا تحقق هدفا جوهريا في البحث عن مضمون الكنوز التي تستغل من قبل رجال الدين والأعراف والحكايات والتاريخ والتعاويذ.. الراوي الذي هو بوصلة البحث عن نقطة ضوء أو إزالة عتمة وعن الفوضى في المكان لإعادة صياغته، فيكون شريكا في الفوضى ذاتها ليتحول الى قطب موثوق به وهو الغريب.. والحاجة إليه تكون نابعة من نقطتين لاستكمال مخطط التغيير والإطاحة والإنقلاب دون حصول تغيير.. الأولى إن الجمهور لا يصدق بما ستؤول إليه الأحداث وما يمكن أن يطلع عليه من أكاذيب أو خزعبلات أو حقائق، لأنه مصدق لها كونها خارج الإدراك العقلي وإنها مرتبطة بالسماء والإيمان والعقيدة.. والثانية لأنه المثقف والغريب الذي طرح نفسه ليكون معلما وسبق لمعلمٍ أن جاء الى هنا ولم تكتمل الخطط في إشارة الى استمرار الصراع بين كل هذه المؤسسات التي تخدع الانسان.. وهو أيضا العاشق لمن تخطط وهي شميران ليجد نفسه مدفوعا الى الإنغماس في مجتمع مغلق وإن توسع فهو مجتمع مقموع وإن كانت كل مسببات التمرد والحياة متوفرة.. وهو كذلك يناقش القاشا الذي تكون الخطط متركزة للإطاحة به بعد حصول النبوءة التي يكتشفها هو في المكان الذي ترك له أن يكتشفه ما لم يتمكن أحد غيره أن يصله.. وكان الحوار أكثر غلبة بين الإثنين وخاصة بما يتعلق بأهمية الشعر في الحياة وإذا ما كانت السماء تحب الشعر وإنه الوسيلة الأقرب الى فهم نخبة وليس العامة في هذا تأويل كبير.
( أي خبيث وشيطان ومحتال هذا الشاعر، أي ماكر هو، ومن أي نوع، قلت في نفسي، مسحت يدي ووجهي بالمنشفة المعلقة بخطاف على الجدار وعدت للكرسي الذي يقابل طاولته، فابتسم لي ابتسامته الماكرة) ص 278
وفي موقع آخر نجد الصراع والخداع أيضا .
(الأمور في تل مطران طبعا…وصلت الى درجة خطيرة…الكنز أمر خطير… وشميران إذا حفرت اليوم…ستصطدم مباشرة مع جدها) ص279

الزمان المكان
هناك تفاوت في الزمن ..تفاوت بين أحداثه ولو تمت مراجعتها لوجدنا إن الزمن في بعض مفاصله لا يبدو متماسكا سوى إنه جاء بعد الحرب في حين نجد أن هناك من هو هارب من السجن في زمن الحرب وخروجه لنتبين أن الحرب لم تنتهِ بعد.. وكذلك لحظة تسرحه من الجيش وسفره والشتاء والصيف والمطر والشمس والذهاب الى القصر بناء على موعد ظهرا وتناول العشاء مساء. ربما لأن الأحداث متسارعة وانتباه الروائي / المنتج الى الوصف والإغراق به والتحليل وطرح الأسئلة والإخبار ربما ضيع عليه مسك خيوط الزمن مثلما هو في وصف المكان الذي يتكرر في حالات كثيرة ويتيه معه القارئ في أحيان أخرى حتى لكأن المدينة التي يريد حفظ تفاصيلها لن تكون بمتناول اليد لأن الشوارع تعددت وحركة الراوي تنوعت واتسعت.. وزاوية الروي تختلف بين مقطع وآخر..وأن مساحة الزمن قد تبدو على إنها حلم قصير لليلة واحدة لكنها بكل تأكيد أخذت عمرا من الروي والرجوع والتقدم والمتن الحكائي الذي تولد على مكان له خارطة مكانية التي وإن بدت محصورة ما بين مدينة وكنيسة وقصر وبيوت وفندق وملهى ومشرب ومحال تجارية وأسواق وحوذي إلا إنه تعبير عن دلالات اجتماعية قابلة لمعرفة الهدف الذي يسعى الروائي الى الوصول توضيح ملامحه.
الشخصيات المحورية
أن شخصيات الرواية مهمة جدا حتى تلك الثانوية منها وان كانت مجرد كومبارس حركي لاستكمال المشهد الكامن للمدينة وقاعدها وكيف تتحرك.. وهي عناصر تقترب من الدراما في تفعليها السردي إن كانت بالنسبة للملتقي حالة من رؤية داخلية لمشهد السرد.. وبالرغم من الإغراق الوصفي كما أسلفنا وإدخال العناصر الثانوية عنوة وأن بعضها كان مجرد استكمال مشهدي لأن لا بداية لها ولا حضور نهائي في المشهدية الا إذا ما خلصنا إنها ترتبط بالحركة اليومية للراوي/ البطل.. ونجد إن بطل الرواية/ الراوي شخصية غير ثابتة.. فهي تارة واعية مقتدرة وتارة نراها مهزوزة ومتقلبة لكنها في الأغلب الاعم شخصية لا تمتلك الثقة بالآخرين حتى في التصرف يتنازعها الخوف من الجهول رغم حزة التمرد والمجازفة ..لذا فهو لا يعطي مطلق الثقة إلا الى نوازعه.. فهو رجل خارج من الحرب يبحث عن النشاء والخمرة يتسكع في شوارع بغداد وحاناتها يبحث عن صديقات كمثقف يحب مثل هذه الهالة حوله ورغم أنه يراد له أن يكون معلما للغة العربية في قرية مسيحية بصفته مثقفاً ومنتجاً ثقافياً وشاعراً إلا إنه أيضا مثقف يتعرى في كل لحظة احتجاجاً على المأساة ولذة من قبح المجتمع.. لذلك نجد إن هناك شخصيتين تتداخلان مع بعضها في السيرة السردية.. الأولى شخصية الراوي الذي يبحث عن الحقيقة ومناقشة الأمل وكذبه، وأكذوبة الأمل والمخلص في ذهنيات المجتمعات مهما اختلفت الديانات، وانتهازية الشخصية واستغلالهم للسماء والأديان وملاعبة العواطف لإبقاء الخنوع.. وهي شخصية تشارك أيضا في التغيير الذي يجد له فرصة وإن كانت بطريقة الخداع ، لعل التغيير ينتج واقعا آخر.. وهي الشخصية التي تقوم السرد في مناقشات ومجادلات الحوارات التي تحتاج الى وعي ثقافي وإدراكي بما يحيط الانسان في البلد، وهي المتعلقة بثلاثة أطراف هي إضافة الى الراوي والقاشا وشميران المرأة التي تمثل كل تناقضات الواقع واسبابه..والثانية الشخصية المهزوزة الباحثة عن الجنس واللذة والتي تمثله كل الحبيبات والخائبات وبائعات الهوى والجائعات للجنس والمتمردات التي يريد ان الراوي أن يكن كلهن بين احضانه وهي شخصية مهمومة بغرائزها.. لذا فإن الروائي هنا يصف كل شيء في الجسد حتى إنه وبسبب هذا الوصف الزائد سبب ارباكا للسرد نفسه
وهناك شخصية القاشا التي لا يمكن معادلة حضوره الذي يعد حضوره كونياً ومعادلاً موضوعياً عن الغلبة العاطفية والعقلية للسلطة الدينية.. وهو معادلة فكرة الخلاص وهو الشخصية المحورية الأهم في البحث عن الإجابة، أو منح فرصة لطرح الأسئلة وكذلك توضيح العلاقة بين السلطة والفرد، وبين الدين والعبد، وبين المثقف والاستلاب، وبين الحرية والحلم.. وكذلك بين شخصيات لو تم تجاوزها كلما حصل شيء كأصحاب المحال أو النساء اللواتي يمرن من أمامه وينتهي مشهدها.. أو الرجل الذي يشرب الخمر في بار أو حتى بعض الخدم. ولأن العمل الروائي يحتمل تواجد مثل هذا.. فان ما يهمنا هو الشخصيات الرئيسية.. فنعود الى شخصية القاشا الذي يعد نقطة الارتكاز وفكرة تلاقح الأفكار ومنطقة الالتقاء في كل الديانات كونه يمثل في ظاهره المخلص وفي باطنه القوة الخفية السالبة للعقول.. فيكون في حديثه المنتظر والأمل والمخلص والإنتهاء والمعادلة الكونية في العودة الى إصولها والعوالم السفلى والعليا.. وكأنه مجند لكل هذا، ويكون بإمكانه قاتلا لأنه يدافع عن فكرته التي وجد نفسه فيها من خلال استلام الأفكار التي وجد فيها هيمنته على العقل. لذا يكون باتفاقه مع المثقف وهو اتفاق من نوع آخر موبوء بالخوف والتقرب منه لمعرفة ما يدور في رأسه.. لكنه من جهة أخرى يعلن تصادمه مع المثقف الواعي في الشخصية الثانية من الراوي / البطل.,. الذي تحول الى باحث ومستكشف عن الحقيقة والشاعر الذي يدون العالم ويجعله في مكانه عاليا.. فيكون النقاش ثمرة اختلاف الأذواق والانسياق نحو حقيقتها وبيع الوعي من أجل الجنس والمال والقوة والمكانة العليا لتحقيق المآرب وتطهير الشعر لتلميع الوعي..
شخصية القاشا ربما هي المعادل الموضوعي.. لكن شخصية شميران المرأة التي تعد ايضا معادل كينوني للواقع والحياة والتأثر والتأثير وهي عنصر الارتكاز بين الوعي والجنس..وهي يمكن ان تمنح جسدها لكي تحصل على مخطط ناجح للوصول الى السلطة ذاتها بعد مقتل القاشا.. شميران هي اللوحة الأخرى من هذا العالم الذي يتوزع بين حالين أيضا حال الوعي الظاهري بالجمال والمكانة العالية في تحقيق معادلة الحياة بأناقة الأخلاق والتقوى والطاعة ..والثانية هي حالة الاستلاب الذي يعيشه الناس في تمكن الجنس من أن يكون هو القوة المسيطرة الجديدة او المغيرة للتخلص من القفوة السابقة.. فكانت شميران بين أن يكون جسدها محطة وعي لاستلاب مجتمعي وبين قدرتها على استخدام جمالها وعقلها المخططاتي ودهائها من خلال الوسيط الأكبر جسدها فتكون الطهارة التي تغير المجتمع متراجعة أمام الوازع وهي ضربة هنا تحسب لفكرة الرواية وحكايتها.
ولهذا فإن العمل لا يستند فقط الى الفعل الدرامي للشخصيات الرئيسة كما الراوي والقاشا وشميران بل جعل من شخصيات أخرى فاعلة أيضا وبدرجات متفاوتة وهو أمر طبيعي، كشخصية إيلين كونها فكرة التأثير السردي وتحريك الواقع وتسليط الضوء على موت العقل موت الزمن وموت المستقبل وترك الماضي وحده يتحرك، وهو تنشيط صراع كل المجتمعات التي تمضي الى الحروب او التي تذهب إليه بسبب الماضي وتاريخه وهو ايضا تنشيط لعنصر الصراع في الرواية.. وهنا تكون إيلين ليست مجرد فكرة أيضا حتى في موتها لأن هناك من ماتوا وجعلت الراوي يبكي وكأنه ينطلق من مفهوم جديد ولكن كما أعتقد أن فكرة الموت هنا اقحمت اقحاما من قبل الروائي دون وجود سوابق أو معادل موضوعي أو معادلة سردية تؤدي الى نتيجة منطقية..رغم انه بالإمكان التأويل لصالح الروائي وهو إن الموت نتيجة منطقية حتمية أو إنهاء وجود الشخصية في الرواية.. ولكن إعادة ذات الوصف للأشياء والإغراق به جعلت هناك إرباكاً في الحصول على قصدية منطقية منتجة لتأويل الفكرة أو جامعة لفلسفة الوجود ذاته في جسد الرواية.

خلاصة
إن رواية ( الطريق الى تل مطران) تمثل حقيقة الواقع الذي نعيشه جميعا.. واقع التأثر والتأثير بالغيبيات وما يمكن أن يطرحه الآخرون المسيطرون على الوعي والحركة والتنويم.. ولذا كانت الفكرة كبيرة في مفهوم اسقاطاتها.. وكبيرة في قصديتها وتأويلها وطريقة سردها، وامتلاك الروائي المقدرة على تحريك الراوي وفق المستويين التصويري والإخباري.. لكن الإغراق في الوصف أفقد لذة المتابعة المدهشة وأضاع القدرة على إدارة الحدث بصورة متوالية ومتصاعدة.. لأن المتلقي هنا سيجد نفسه أمام سيل من الوصفيات لكل شيء حتى لو كان زر قميص أو مزهرية وكذلك إعادة التفصيل وتكرار المفردة في الجملة الواحدة. لذا تبدو خطيئة الرواية هو إن الروائي/ المنتج يطرح سؤالا واقعيا.. وهو سؤال المباغتة.. لكن الحلم ينسف كل شيء حلم وجود وشعر وتابوات وفلسفة غائبة يراد لها حضور قوي أو هروب سريع من وقائع هذا الحلم.. لذا نجد إن الحلم ليس له ما يبرر حضور سوى الهروب من الفكرة ذاتها وكان بالإمكان ان تنتهي الرواية بما انتهى عليه مصير القاشا، لكي يتمكن المتلقي من حصاد التأويل من إن كل شيء سيبقى على حاله.. رغم إن الحلم ليس جديدا على السردية الروائية والقصصية وحتى المسرحية لكنها أصبحت غير واقعية في متن هكذا فكرة كبيرة وزمن الرواية الحديثة التي يمكن لها أن تحمل الهروب الى الأمام وبطريقة المراوغة وما ينتج من تأويلات لما بعد القراءة.. لذا فان الروائي يأخذنا الى طرح مفهومه عن الشعر على لسان قس مرة وعلى لسان الراوي البطل مرة أخرى بدلا من الولوج الى منطقة فلسفة الخلق وتأثير الاستغلال الأكبر لهذه الفلسفة الكامنة وراء فكرة وحكاية الرواية.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *