من عتبته الأولى، عنوان النص السردي “بحر الصمت” الصادرة عن دار الاداب في بيروت 2001 والحائزة على جائزة مالك حداد في نفس السنة، يتولد المعنى الذي سيفرض افاضاته السكونية في النسيج العام للنص، “بحر الصمت” نص سردي محفز لذائقة المتلقي /القاريء. لإعادة قرائته من جديد، ليس قرائة استنباطية، بل قرائة مشاطرة الكاتب، وإعادة استشعار لقيّم متصارعة بوعي مغاير، بعيداً عن مشروطية وعي المؤلف.حفل النص بشخصيات فردانية Lonely” ” كانت في الغالب نتاج مرحلة استعمارية صبغت الثقافة الجزائرية بمسحة ولون ثقافتها فرجال مثل حمزة وقدور وبلقاسم الذين كان لهم الأثر الكبير في تشكيل المراحل الأولى من شخصية سي الحليل كانو نتاج هذه الثقافة حيث “الاغتصاب فكرا فرنسيا.ص12”. بولاداتهم الاستثنائية الشاذة، وكذلك بنهاياتهم الكارثية أو المرواغة/ حمزة وولده قدور يقتلان بظروف عامضة، بينما يتحول بلقاسم القاتل الى مناضل في صفوف جبهة التحرير- وإن كانت هنالك بعض التحفظات على هذا الطرح الذي يبدو وكأنه يغض الطرف على ثقافة عربية محايثة لهذا الفكر.
في النص أيضا هناك محاولة لخلق مقاربة يتبناها كلاً من الكاتبة ياسمينة صالح وبطل الرواية سي السعيد، وهي ما يسميه رولان بارت “تشييد معقولية لعصرنا” وذلك من خلال ربط ما انقطع من خيوط بين ما كان وما سيكون، محاولة خلق تسويات أو مصالحات مُهادنة.”طريقة يجعل بها البشر العالم معقولاً”. بعد صراع سلبي بين أجيال وثقافات فشلت في بناء أسس أو بنى تحتية صحيحة في تعميق التواصل، أو كبح لجام الفواصل التي انتجتها مرحلة ما بعد التحرير، بين أجيال الثورة وما بعد الاستقلال، والتي كانت أبرز نتائجها الملحمية على المستوى المحلي محنة” العشرية السوداء”، لكن الكاتبة هنا تحاول وضع حلول متأخرة لهذه الأزمة، من خلال النهاية التصالحية أو التوافقية التي رسمتها لنصها بين سي السعيد وابنته المتفرنسة المتمردة، معتمدة على طرح شاعري للحظة أخرى كان الموت فيها شاهداً على عمق الحياة وحيويتها” ثمة ما ينتظرنا في الجهة الاخرى” كما قالها الشاعر الاسباني لوركا وهو على مسافة يوم من الموت، وهذا ما يحاول سي السعيد الوصول اليه أو الايهام به، في شهادته التاريخية في كلية الفنون – ما الذي ينتظرنا هناك وما الذي فعلناه لنصل الى هنا؟ وما هو حجم الخسارات والمكتسبات التي حصلنا عليها؟
رغم حدة الصراع، واتساع الفاصلة الزمنية والمكانية، بين أجيال الثورة والحرب ضد المستعمر، الذي خاضه رجال ونساء من طبقات مختلفة، فرضت حرب التحرير انخراطهم في ساحته، أما للهروب من تهمة الخيانة للوطن كما يحصل مع سي السعيد، أو للاندفاع نحو حلم رومانسي، أن تظل أبديا في ذاكرة الاخرين “من نحب”كما هو الحال مع الرشيد وعمر؛ وبين أجيال ما بعد التحرير الذين عليهم وحدهم أن يدفعوا ثمن فاتورة تلك الحروب، من ذواتهم وعلاقاتهم ومستقبلهم، جيل متمرد، جيل يتعامل مع الاخرين بلغة عارية واضحة، بلا تزويق أو مهادنة، جيل لم تعد في قائمته مفردات جيل ماقبل الحرب، كما يحصل مع الرشيد والابنة وعثمان.ص173. سي السعيد الذي عليه ان يمثل جيل الثورة والمقاومة خاضع كلياً لموجّهات “أقنعة” تاريخية وايدلوجية تُشيّء وتُسيّر له حياته، وهذه هيّ مشكلة البطل الرئيسية التي تنتج عنها إشكالات أخرى منها علاقته بولده وبأبنته حين يجد نفسه أمام شرط الثورة”لاوقت للتراجع ،يجب ان نتقدم مهما كانت الخسائر ياسي السعيد وأنت أكثر من يعرف ذلك” وكان ذلك الاصرار على التقدم قد ساهم بخلق الفجوات بينه وبين محيطه، علاقته بجميلة، علاقته بإبنه وبنته، وبرفاق السلاح.
على المستوى الشخصي، لايسعنا إلا أن نتعاطف مع سي السعيد، فليس هناك من إدانة موجهة لسي السعيد، في كونه يكتشف وطنيته من خلال امرأة عشقها بصدق، فقادته الى الايمان بمفاهيم “الثورة” التي لم يكن يؤمن بها، لأنه أصلاً لم يكن يجد مبرراً لقيامها”رغم الفقر والجهل والحرمان، تجد الناس سعداء جداً، فرحين باللاشيء الذي يصنع عالمهم الغريب.ص8″. فلقد كان المجتمع القروي يعيش ما يمكن تسميته بجدلية الخضوع والتوافق، بين طبقاته، القرية تخضع للوجهاء، الوجهاء وابناء القرية يخضعون للعمدة، والعمدة بدوره يخضع للملاكين وأصحاب القرار، سلطة الاحتلال “إدجار دي شاتو”، وهذا ما جعله يدخل غمار الثورة، فالرجل كان ثورياً بالخطأ، كما يعترف هو في وقت متأخر، وذلك ليس عيباً. فلقد كانت هنالك على الدوام مفارقة في صنع حالة من التماهي بين من يمثل السلطة والمجتمع الذي يحلم بالثورة ضده” كنت أمشي متفاخراً بنفسي عظيما في قناعتي أنني سيدهم جميعاً … لكم كانوا يكرهون في مظهري فقرهم وضعفهم، ومع ذلك، عندما كنت أمر بجوارهم يقفون جميعاً لتحيتي بأفواه باسمة ووجوه راضية بالعجز.ص9″. فشخصية سي السعيد كانت شخصية قلقة مراقبة وحيادية أغلب الاحيان، حياته سرية كامنة غير مباحة حتى لأقرب الناس اليه حتى يلتقي المعلم “عمر” القادم من العاصمة الى “قرية معدمة ليعيد أطفالها الى مدراس نسوا شكلها. ص35″. في محاولاته التي تشبه النحت في الحجر، وهو”يرسم على لوح المدرسة كلمات أكبر من عقول التلاميذ.ص22″.تلك الكلمات التي كانت ايذاناً بانطلاق ثورة برعت فيها الكاتبة بانشاء التقديم الجيد والمبهم، لمقدماتها، كثورة قومية يقوم بها الفلاحين”في قرية معدمة جعلت من الثورة سوطاً قومياً.21″.لم تكن ثورة ضد الفقر والعبودية بل ثورة مسيّسة بسمات آيدلوجية.
حين يفاجئه عمر بقوله”هل تراهن على أنك لست فرنسياً في اعتقادك ان الثورة لن تصمد أمام جبروت الفرنسيين؟هل أنت جزائري حقاً؟ص50”.تلك لحظة تاريخية في حياة سي السعيد يجد فيها نفسه أمام خيارين أما الاستكانة الى حالة العزلة التي طوّق بها نفسه، حينما وجد نفسه ومنذ السنة الاولى من حياته وحيداً وسط”عالم موحش”، لتترسخ لديه القناعة”انا لا أحد، سوى هذه المسافة من الشعور بالقرف، داخل وحدتي.ص4″. أو أن يتخطى جدران هذه العزلة لينخرط في غمار عمل ثوري غريب عن سمات حياته الشخصية، تلك الحياة التي كانت تفتقد للحياة الأسرية التي تمتاز بالطقوسية والحميمية، لتحمل اليه الثورة أولى حلقات الإنكسار بعد لقائه الأول بجميلة، ولأول مرة في بيت عمر وفي حوارهما عن القهوة العاصمية.ص61″.
ما يؤخذ على النص هو الإفراط في لغته الشعرية وبعض فصوله النثرية التي امتازت بالبلاغة العالية والصور الشعرية الاخاذة التي تأخذ على عاتقها توليد المعاني من اللغة ذاتها وليس من الوقائع اليومية، كما في الفصل التاسع عشر.
فيما يكمن النجاح الحقيقي للكاتبة ياسمينة صالح في نصها السردي”بحر الصمت” أنها خاضت غمار تجربة خطيرة ومتكلفة، في تبنيها لصوت السارد الذكوري، بكل مايحمله من مكنونات نفسية وبايولجية، وفي مرحلة خطيرة من تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، لتصنع نصاً حاولت بكل جهد ومثابرة أن تقفز به فوق الكثير العوائق الايدلوجية والشخصية، لتتبنى من خلاله حالة من التسامي والتوافق الفكري، بين أجيال عجزت كل المحفزات التاريخية والمشتركات الوطنية، في لم شتات شملهم في جزائر علمانية وطنية حداثوية، ضامنة وموحدة للجميع.
خضر عواد الخزاعي : رواية”بحر الصمت” للروائية الجزائرية ياسمينة صالح محاولة خلق المعقول في عالم مضطرب
تعليقات الفيسبوك