أربعينية أخر العنقود سالم حسين
فقدت الاوساط الفنية والثقافية يوم السبت 29/8/2015 الماضي الفنان الرائد وعازف القانون المعروف الموسيقار المعروف سالم حسين الامير الذي توفي خارج الوطن العزيز في احد مستشفيات العاصمة البلجيكية بروكسل بعد معاناة المرض والغربة عن عمر تجاوز التسعين عاما .
وبعد رحيل هذا المبدع الكبير واحد رموز واعلام الفن والابداع في العراق والوطن العربي خسارة كبيرة للمشهد الفني والثقافي كونه يعد اخر العنقود في سلسلة الموسيقيين والملحنين الرواد ومن المبدعين الاوائل في عالم الموسيقى الشرقية والتلحين والغناء حتى توج اميرا لها لما حققه من انجازات فنية رائدة ومتميزة في هذا المجال الى جانب امكاناته الابداعية الاخرى في مجال البحث والتدريس ونظم الشعر والقصائد الغنائية التي قام بأدائها اشهر وابرز المطربين والمطربات العراقيين والعرب على مدى سنوات طوال ونالت شهرة واسعة وبشكل لافت ومنقطع النظير لما تميزت به ألحانه من اصالة وذوق رفيع لقد تحدث لي الامير في حوار مطول اجريته معه قبل سنوات خلال لقائي به في احدى ضواحي العاصمة السورية دمشق وتسمى (قدسية) عن حياته ومسيرته الفنية وارائه وتراثه الفني الفريد الذي تمتد حصيلته كما قال لسبعين عاما من عمره وتحدث لي عن عشقه اللامحدود للموسيقى والغناء العربي الاصيل منذ نعومة اظافره .
لقد امضى الفنان الراحل سالم حسين الامير بصحبة ابنته الوحيدة السيدة الفاضلة (سوسن) والتي تعيش معه وترعاه منذ مغادرته العراق بعد عام 2003 سنوات طوال في سوريا ثم غادرها بعد تفاقم الاحداث فيها متوجها الى العاصمة البلجيكية بروكسل ليمضي هناك ايامه الاخيرة من حياته بعيدا عن معشوقته الاولى التي احبها بشكل لايوصف (بغداد) والتي طالما تغنى بها والتي كانت له زيارته الاخيرة لها خلال دعوته وتكريمه خلال مهرجان الزهور الدولي الذي اقامته امانة بغداد عام 2009 .
وكان الصديق الفنان الامير على تواصل دائم معي من خلال مهاتفتي عبر الموبايل بين فترة واخرى ليسأل عن بغداد واحوالها وعن أصدقائه ومحبيه من المثقفين والادباء والفنانين واذكر انه قال لي في اخر مكالمة له بأنه لديه مسودتي كتابين الفهما مؤخرا عن الموسيقى والغناء وتمنى ان تتولى وزارة الثقافة او احدى الجهات المعنية طبعهما ليشكلا حتما اضافة جديدة للمكتبة العراقية في مجال الثقافة الموسيقية والغناء .
ولعلي اجد من باب الوفاء والعرفان لهذا الفنان المبدع في ان نفي له بعض حقه علينا وجدت ان استعرض من خلال هذا الموضوع ملامح وجوانب من حياته ومسيرته الفنية الطويلة والتي ابتدأها بالحديث قائلا :
المحطة الاولى :
{ سالته ان تكون محطتنا الاولى في هذه الرحلة الاستذكارية الممتعة والشيقة هي التعرف على ملامح البدايات الاولى من مسيرته الفنية وحياته وعمره المديد الذي يمتد لخمسة وثمانين عاما ..
– فقال : وان كان الفنان لا يقاس بعمره الزمني وانما بحجم عطائه الفني والابداعي .. فانني من مواليد شتاء عام 1923 في قضاء سوق الشيوخ في مدينة الناصرية والتي كانت ضمن لواء المنتفك حيث امضيت طفولتي وصباي هناك , وقد كنت انذاك دائم التردد على منطقة ريفية جميلة تابعة للقضاء تسمى العكيكة , كنا نذهب اليها بواسطة زوارق صغيرة ممتعة تسمى ( المشحوف) و (الجليكة) و (الكعد).
وبعد وفاة والدي عام 1927 وهي الفترة التي اكمل فيها اخي الاكبر مني سنا دراسته في دار المعلمين في بغداد , واتذكر انني ذهبت مع عائلتي لاستقباله في محطة اور التي كان يتوقف فيها ليلا القطار الذاهب الى البصرة فلفت انتباهي شيئا غريب الشكل مغطى في كيس من القديفة كان يحمله في يده ولم اجرؤ لحظتها على ان اسأل اخي عن ذلك اللغز وفي مساء اليوم التالي ذهب اخي الى احد بيوت اصدقائه وكان يعمل طبيبا واصطحب معه ذلك الشيء وبعد لحظات تبعته الى ذلك البيت فأخذت استرق النظر والسمع من وراء سياج الحديقة القصبي واذا بي استمع الى صوت عزف موسيقي جميل من تلك الالة التي جلبها معه اخي الكبير ولكن نباح احد الكلاب هناك واقترابه مني قطع علي لحظات الاستمتاع بالموسيقى فوليت هاربا باتجاه منزلنا يجتاحني شعور غريب يدفعه الفضول بأن اسأل اخي عن هذه الالة واسرارها . فأنتهزت في اليوم الثاني فرصة قيام اخي بالعزف عليها فأخبرني انها تسمى العود وقد درس وتعلم العزف عليها خلال وجوده في بغداد .
ثم اخرج لحظتها آلة اخرى من حقيبة كبيرة سوداء جلبها معه ايضا واذا بها كما اخبرني هو جهاز الكراموفون او (صندوق اليغني) وقد وضع فيه اسطوانة لام كلثوم وكانت الاغنية على ما اذكر (مالي فتنت بلحظك الفتاك) ولم تكن سوق الشيوخ تعرف الكهرباء بعد لانها وصلت اليها في الثلاثينات .
فحفظت اغلب اغنيات ام كلثوم وعبد الوهاب والشيخ سلامة مجازي وانا ما زلت صغيرا في السن .اضافة الى استماعي الى اسطوانات مطربين عراقيين من بينهم ناصر حكيم وحضيري ابو عزيز .
وفي عام 1929 دخلت المدرسة الابتدائية في الصف الاول في مدرسة سوق الشيوخ , وكنت انا واخي الاصغر مني داود نمتلك صوتا جميلا في قراءة الاناشيد والتي كان معظمها تركية ولم تكن جميلة في حينها ولكني كنت اصر على حفظ اغاني ام كلثوم وعبد الوهاب من الاسطوانات وحاولت اكثر من مرة ان اجرب العزف على العود الا انني بحكم كوني كنت ما ازال صغيرا في السن كان ثقيلا وحجمه كبير لا يمكنني السيطرة عليه .
فجلب لي اخي الة موسيقية هارمونيك صغيرة يعزف بها بواسطة تحريكها بالفم وكذلك الفيفرا , وكان اخي الكبير شاعرا وموسيقيا جيدا وملما بالادب والفن و في عام 1932 حضرت احدى الحفلات الشعبية في سوق الشيوخ واستمعت فيها للمطرب والشاعر ملا شنين والملا جادر وصادف وجود احد الاشخاص وكان يرتدي زي الشرطة ويحمل في يده بندقية فجلس في الصف الامامي بعد ان وضع بندقيته وسدارته الى جانبه وبدأ يغني بصوت جهوري جميل في اغنية كان مطلعها على ما اذكر :
“لا طاير ولا حاط خلاني احومي”
فعرفت فيما بعد انه المطرب الريفي حضيري ابو عزيز الذي اشتهر باجادته لطور الحياوي .
واود ان اشير هنا الى ان اول اسطوانة ظهرت كانت لشركة نعيم , تعود للمطربة مسعودة العمارتلي والتي تطلق على نفسها اسم (مسعود العمارتلي) وهي اغنية (سودة اشلهاني) والتي غناها ايضا المطرب ناصر حكيم .
وهنا اود ان اذكر ان هذه المهرجانات الغنائية التي كانت تقام في سوق الشيوخ انذاك كانت تقام في اوقاتوموسم جني التمور وكبسها , وهي مشابهة لما يقام في مدينة تستور في الاندلس اضافة الى اوجه التشابه بينها وبين مدينة سوق الشيوخ من حيث الابنية والطراز البنائي لمعالمها .
ملامح النهضة الغنائية :
في عام 1925 بدأت ملامح النهضة الغنائية تظهر على الساحة الفنية من خلال تسجيل الاسطوانات بأصوات المطربين الرواد والذين من بينهم محمد القبانجي وناصر حكيم ومسعود العمارتلي , ثم اعقبهم حضيري ابو عزيز وداخل حسن والمونولوج الذي اداه المطرب ملا عبد الصاحب الذي يعد من اوائل المطربين الذين قدموا هذا اللون من الغناء .
وفي عام 1933 ظهرت اسطوانة لسليمة مراد لاغنيتها المشهورة “كولوله مبي لوله” والتي نالت حظا وافرا من الشهرة واعجاب الناس انذاك , فقد استبدلت يومها هذه الاسطوانة مع احد معارفي مقابل اعطائي اسطوانتين لام كلثوم وابي العلا لكوني كنت اميل انذاك الى الغناء المصري , وكنت يوم ذاك ما ازال في مرحلة الدراسة الابتدائية .
وفي عام 1934 بدأت بنظم وكتابة الشعر وتلحينه فأعجب بذلك معلم النشيد وشجعني على ذلك وقد اعتبر ما نظمته ولحنته نشيدا خاصا بالمدرسة .
المحطة الثانية بأتجاه بغداد :
{ في عام 1936 سافرنا الى بغداد بطلب من اخي الكبير الذي تم تعيينه كمدرس في المدرسة الجعفرية , وقررت اداء الامتحانات للمرحلة المتوسطة بصفة خارجي .
– وفي عام 1938 كان يقام في بيتنا ببغداد مساء كل يوم خميس مجلس ادبي وثقافي يحضره العديد من الشخصيات الادبية والثقافية من بينهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ومحمود الحبوبي وصادق الملائكة والد الشاعرة نازك وصادق الاعرجي وعبد الرحمن البنا ومحمد حسين الشبيبي وعبد الغني الجرجفجي الذي كان مديرا للمعارف في بغداد .
ويواصل الامير حديثه قائلا : كنت اذهب في يوم الجمعة الى بيت الشيخ محمد رضا الشبيبي لحضور مجلسه الذي كان يحضره العديد من الشعراء والادباء من بينهم الشيخ محمد علي اليعقوبي وحسين الشعرباف الذي اسس هو الاخر مجلسا ادبيا خاصا به , فكنت احفظ الشعر الذي كان يلقيه الشيخ اليعقوبي , كما كان يحضر هذا المجلس ايضا الاديب الكبير جعفر الخليلي وعبد الهادي الدفتري .
الدخول الى معهد الفنون الجميلة:
{ وفي عام 1945 وبعد ان انهيت الدراسة المتوسطة بنجاحي في الامتحان الخارجي دخلت معهد الفنون الجميلة وكان معي من الطلاب سلمان شكر وجميل بشير وغانم حداد ومنير بشير الذين صاروا فيما بعد من عمالقة الموسيقى في العراق , اما من ابرز اساتذتي فكان شخص يدعى نوبار وهو من اصل تركي وكان مع القصبجي وسامي شوا في مصر ولديه اسطوانات معهم اما مدرس الناي فكان الشيخ علي الدرويش من سوريا , وقد كان اسم المعهد في الثلاثينيات (معهد الموسيقى) وكان عميده الشريف محي الدين حيدر , والذي درست العود على يد احد طلابه .
وفي عام 1945 تم افتتاح فرع (للقانون) فدخلت فيه واكملت منهاج الست سنوات وهي مدة الدراسة فيه بسنة واحدة .
وفي عام 1947 تم افتتاح دورة في معهد الفنون في السليمانية , فرشحت للتدريس هنالك وكان معي فنانين اخرون ومنهم غانم حداد وجميل بشير واسماعيل الشيخلي لتدريس الرسم .
وفي عام 1948 درست البيانو اضافة الى القانون على يد الاستاذة بياتريس اوهانيسيان, وكان معي من الطلبة الفنانين رضا علي ومحمد كريم , وبعد ان اكملت الدراسة في البيانو بنفس العام وبأمتياز قمت بتحويل نوتات البيانو الى القانون , على الرغم من انني اصطدمت لاكثر من مرة مع مدرس القانون لانه يرى خلاف ذلك , وبذلت جهودا كبيرة لكي اتميز واتفوق في العزف على القانون مستخدما اربعة ريش وليست اثنتان كما هو المعتاد .
وفي اواسط الاربعينيات تمكنت من تأسيس فرقة موسيقية ضمن شركة سومر السينمائية, وكان من اعضائها عبد الرحمن توفيق الذي صار فيما بعد من مقرئي القران الكريم المعروفين .
الدخول الى الاذاعة :
{ وفي عام 1947 دخلت الاذاعة كعازف مقابل اجور شهرية مقدارها اربعة دنانير ونصف .
– وانا اول من عزف في التلفزيون عام 1954 عندما قامت بتأسيسه شركة باي في المعرض وفي عام 1956 تم تأسيس ستوديو خاص بتلفزيون بغداد , فكنت اقدم حفلات موسيقية على الهواء مباشرة .
اول مشاركة عالمية ولقاء عبد الوهاب :
وفي عام 1959 سافرت الى فيينا للمشاركة في اول حفلة عالمية تقام خارج العراق وكان معي الفنان الكبير منير بشير وقد ارتديت اللباس العربي وقد اكتضت قاعة الاحتفال بالحضور الكبير مما جعلني ارتبك في اول الامر فقمت بتقديم معزوفتين احداها للموسيقار العالمي بيتهوفن مما اثار اعجاب ودهشة الحضور وقد تعالى التصفيق خلال العزف لمرات كثيرة .وقد حصلت على الجائزة الاولى وهي الة موسيقية قديمة ولكنها كبيرة الحجم ولصعوبة حملها معي اهديتها الى احد المعاهد هناك .وفي نفس العام التقيت انا والفنان الكبير جميل بشير الذي كان لايجارى في العزف على العود بالفنان العربي وموسيقار الجيل محمد عبد الوهاب بعد ان طلب مقابلتنا واسمعناه بعضا من معزوفاتنا والحاننا فابدى اعجابه الكبير بنا.
العلاقة بالقبانجي واللحن الذي لم يغنه ناظم الغزالي :
{ ويستطرد الفنان الرائد سالم حسين في جديث الذكريات ليروي لنا جانبا منها بقوله :
– كانت تربطني علاقة وثيقة جدا برائد المقام الفنان الكبير المرحوم محمد القبانجي والذي بدأت معرفتي وصداقتي به خلال حضورنا حفل تتويج الملك فيصل الثاني والذي خلاله تم منح القبانجي وسام الدولة الخاص تقديرا لجهوده ومكانته الفنية كما كنت استمع ايضا الى المطرب حسن خيوكه وهو يغني مقام الرست وهنا لابد ان اشير الى ان هناك عازفين موسيقيين معروفين كان لهم الفضل في المحافظة على الموسيقى والتراث الموسيقي في العراق انذاك ومنهم صالح الكويتي وداود الكويتي والذين جاءوا من المحمرة وسكنوا بغداد.
وعلى الرغم من علاقتي وصداقتي القديمة بالفنان الراحل ناظم الغزالي الا انني لم اقدم له من الحاني رغم اعجابي الكبير بصوته وفي اخر فترة قدمت لحنا جميلا له ليغنيه بصوته وقبل موعد التسجيل بيوم واحد فارق رحمه الله الحياة وبعد مدة من الزمن غنته المطربة العراقية المعروفة خالدة بصوتها.
{ ثم قلت له ومن من المطربين العراقيين والعرب قد غنى الحانك؟ فاجاب قائلا:
– لقد نظمت العديد من الاغنيات ولحنتها وقدمتها للعديد من المطربات العراقيات ومنهن صبيحة ابراهيم ومائدة نزهت ولميعة توفيق وسليمة مراد وخالدة ونرجس شوقي واخريات ومن المطربين والمطربات العرب فقد غنى لي وديع الصافي وسعاد محمد وفائدة كامل واسماعيل شبانة شقيق المطرب عبدالحليم حافظ وقد غنى لي الاغنية الشهيرة (الناصرية) ولعل من الغريب ان اذكر هنا انني على الرغم من علاقتي الوطيدة والوثيقة ببعض المطربين والمطربات لا انني لم اقدم لهم الحاني رغم اعجابي باصواتهم ولربما لم يحالفنا الحظ في ذلك ومن هؤلاء المرحوم ناظم الغزالي وفائزة احمد وعفيفة اسكندر والمطربة راوية التي كنت اعشق صوتها وكذلك رضا علي كما قمت بوضع الموسيقى التصويرية لبعض الافلام السينمائية والمسلسلات الاذاعية والتلفزيونية .
وفي عام 1983 احال نفسه الى التقاعد بعد ان تخرج على يديه الكثير من الفنانين الموسيقيين ليعمل بعدها مستشارا فنيا في معهد الدراسات الموسيقية وبيت المقام العراقي وخبيرا في وزارة الثقافة والاعلام سابقا .
مسك الختام :
{ وفي ختام اللقاء سألته ان يحدثني عن اخر اعماله الفنية التي قدمها الى بغداد في يومها فقال:
– لقد اعددت لبغداد الحبيبة انشودة رائعة هي ابيات من قصيدة نظمها العلامة والشاعر الكبير الدكتور مصطفى جمال الدين رحمه الله ولحنتها وقدمتها بصوت المطربة السورية المبدعة فاتن صيداوي ومطلعها يقول :
بغداد ما اشتبكت عليك الاعصر
الا ذوت ووريق وجهك اخضر
لقد حضرتُ لمهرجان الزهور العالمي الذي احتضنته عاصمتنا العزيزة بغداد التي هي في سويداء القلب والروح والتي ستبقى كما كانت سابقا شامخة لا يداني علوها وكبريائها شئ لانها ستظل ابدا عاصمة للحضارة والابداع والرقي ومناراً للثقافة والفن وهي تستحق منا جميعا الكثير الكثير .. وهنا لابد ان نقول انه فناننا الامير الذي اثرى بعطائه الفني تراثنا الموسيقي والغنائي الاصيل سيظل علامة فارقة في تاريخنا الابداعي والفني الطويل واعماله الفنية الخالدة شواهد حية تتوارثها الاجيال اللاحقة وعلى مر السنين جيلا بعد جيل .
*عن صحيفة الزمان