د. حسن الخاقاني : دراسة تحليلية في ديوان “الفراشة والعكاز” لحسب الشيخ جعفر (2/2) (ملف/25)

hasan alkhakaniإشارة :
في عيد ميلاده الثالث والسبعين ، يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف احتفاء بالمنجز الإبداعي الفذّ للشاعر الكبير “حسب الشيخ جعفر” وإجلالاً لمسيرته الإبداعية الرائعة . وتدعو أسرة الموقع جميع الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تتعلق بمسيرة مبدعنا الكبير . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية انطلاقاُ من حقيقة أن لا زمان يحدّ الإبداع . تحية لشاعرنا الكبير حسب الشيخ جعفر .

الدراسة : 

الشيخوخة : قدم حسب معظم شخصياته شيوخا وشيخات اثقلت السنون خطاهم يعيشون في السأم فهم في ارذل العمر وقد غادرت نفحة الحياة اجسادهم الهرمة فتركتها كأنها اشباح متحركة او ساكنة , ففي قصيدة “الشيخ والفراشة” يقدم حسب الشخصية بضمير المتكلم متحدثة عن الزمن الماضي زمن الشباب الي لم يكن يأبه فيه لاهمية الحياة ممثلة بصورة الانثى الرمز :
آنذاك
في المقاهي الظليلة او في الكهوف
لم اكن عابئا انذاك
بانحدار المعاطف في مثل لون الليلك مهملة
فوق ايدي الملاح
لم اكن اترقب في مكمني
غير كأس الصباح
لم اكن عابئا
باندفاعتها نحو طاولتي
وتريثها
في انتظار اللفافة والنار
واللفافة والنار تدل على التوهج وفورة الحياة وقوتها وهي صفة تندثر في آخر العمر
لينقلب معها الموقف الى النقيض :
غير اني فيما تلا من سنين
لم اعد اترقب اي وجه سوى وجهها
وانحدار القطيفة في مثل لون الليالك عن يدها واندفاعتها نحو طاولتي
او تلفتها بين حين وحين !
وكثيرا ما تكررت صورة الشيخ لدى حسب في هذا الديوان اذ يقدم وصفا اخباريا في مقطوعة اخرى :
شيخ اضاع الظل والقرنين تحت الشمس
hasab 4تخطو به عكازة المنفى على الساحل
منفردا , تحثو على آثاره الرمل الرياح الخمس
ولكن حسب يستعمل في مقطوعة “سهرة شاي” اسلوب اللوم والعتاب الموجه الى الشيخ :
حتام يا شيخ التلاهي ؟
ما للشيوخ والملاهي؟
والى متى منك التوله بالمفاتن والكؤوس ؟
شاب العريس ولم تزل في ميعة العمر العروس !
انها المفارقة الجارحة حين يكتشف في نفسه انطواء صحيفة العمر امام دنيا مازالت متجلية لسواه فالعلة فيه وليس فيها , وشعوره بالخراب خاص به ايضا :
فاطوي (الصحيفة) واقتعد كرسيك الخرب المهيض
متأملا في ما يدور
واستفرغ (الابريق) نهلا والتقط (عظة الوميض)
اغفى الطهاة وامعنت قطط الازقة في القدور !
فدع الصبابة غير لاح
ما للشيوخ وللملاح ؟
لكن حسب ينتقل الى النصح بمواجهة الحقيقة المرة حين يستعمل اسلوب الاخبار الواضح :
هبط الشتاء , اقفر الممشى وآذن بالخواء ..
والنصح مني باعتناق العاويات من الرياح
وبالعواء
فالى العواء , الى العواء !
وقد تكون مقطوعة حسب هذه من اشد ما في الديوان قسوة على النفس والقبول بالحقيقة الجارحة , ولكنه يقدم الرجل في صورة اشد ايلاما وتلك هي حال العجز ازاء الحياة الماثلة بين يديه , وهذا ما تظهره “الخيط المقطوع” فالفنان الذي يحاول رسم المرأة يعجز عن بلوغ الغاية , وهو يعترف لها بالفارق الشاسع , فبينما الحياة في ثباتها على الاستمرار والتفتح يغزو الشيب رأسه ويشيخ :
لم تنل منك السنون !
بينما استوطن الشيب رأسي ومال
بقناتي التقوس , وانتهبتني الغضون
بمخالبها المائلات الطوال
بل ان الحياة نفسها ممثلة بصوت المرأة تصب غضبها وتقريعها على الفنان العاجز , آسفة على ما انفقته لديه من وقت وساخرة من عجزه وشيخوخته المذلة :
ما دمت اخرس كالجدار !
اولم تجد غيري فتسألها لقاءا او حوار ؟
ذهب النهار وانت من حولي تدور !
وآوت الى اعشاشها الخضر الطيور
وخلا الممر … وضوأ القبو الفنار !
فلم التسكع دون قبعة كبحار طريد ؟
أغفى القراصنة الشيوخ , وطوق الملح الحبال
فالريح تلهو باللحى البيض الطوال !
ولذلك تغادر المرأة صالة الفنان لتتركه وحيدا يعض اصابع الندم ويجتر الحسرة والخيبة :
(.. في هذه الاثناء تختفي المرأة الشابة غير ناظرة اليه .. فجأةيشعر الفنان بالندم المرير وقد وجد المصطبة والممر خاليين من المرأة ..وها هو قابع على المصطبة الباردة تحت الاشجار الصفراء .. التعاسة واضحة على وجهه وهو قانط متألم .. ومع الموسيقى المعبرة عن وحدته وندمه يعلو صوته بعيدا كالصدى البعيد بينما هو صامت جامد كالتمثال ..
صوت الفنان : (من بعيد بطيئا واضحا)
ستظل تبحث في المتاحف والوجوه
عن وجهها .. في الاخريات العابرات !
ما النفع فيما سوف تخلط من حنوط
وتخيط من خرق وتبدأ وتعيد ؟
ستظل طيلة عمرك الخاوي البديد
كالفأر يقرضك التردد والقنوط !
انه قد بدأ خطواته الاخيرة نحو الموت بعد القنوط ودليل ذلك ما هيأه من حنوط وخرق وهي بعض جهاز الجنائز الراحلة الى قبورها , وهذا ما يبدو مواضحا في قصيدة “العكاز” , اذ يقدم الشيخ على الانتحار شنقا :
لم يبق في الضوء المضبب غير طاولة اخيرة ..
يتذمر الساقي العجول حيالها
ويجيء بالقدح الاخير ..
سترن في الصحن النقود
ويرتدي الشيخ الدثار
ويدق عكاز ازفته الى الباب الثقيل
وستفتح امرأة ملول
(سئمت طوال اليوم في النزل الرنين)
غضبى يفوح النفتلين منها , ويثقل وجهها البالي الذرور
ويضيء حجرته , ويرقى مقعدا
ويشد في الوتد المدلى
حبلا سيرمي من تأرجحه به للارض ظلا !
وهذا ما تؤكده بالطريقة اخرى مقطوعة “القحط” :
كما تتراكم فوق الصحون الصحون
وتركن مرمية للغبار
اكوم في النفس , في حفرة او قرار
قصائد قد حفّرتها الغضون
وانبش آنا فآن
اضابيرها البالية
كما ينبش الديك في كومة خالية
فلا حبة من زؤان
ولا شيء غير الحطام الهشيم !
أباطيل قش قديم , قديم ..
المكان والزمان :
منح حسب عنصري المكان والزمان اهمية خاصة في ديوانه هذا اذ وظفهما ليعبرا عن واقع ماثل في ذهنه يخفيه ولا يود ان يظهره , بل يبعد المقصود به الى مسافة بعيدة وراء الاداء الشعري الخبير، هذا من جهة , ومن جهة اخرى استطاع حسب ان يعطي هذين العنصرين – كعناصره الشعرية الاخرى- امكان التأويل باكثر من اتجاه , فهما قد يبدوان واقعيين وقد غطتهما طبقة كثيفة من الشعرية احيانا كما يمكن ان يبدوا ذهنيين لا يمكن الاستدلال عليهما الا بدلالة الشعرية نفسها , فقصيدة “الجثة” تدور في مكان محدد هو الحجرة التي تدل على الحجر والانحباس في زمن هو الليل المظلم :
صرت لا اتنفس في حجرتي
غير رائحة غثة قادمة
من قرار سحيق
تحت ارضية المنزل القاتمة
قبل ان اتلمس في الظلمة القفل
منقلبا , عائدا
اتنفسها في هواء الممر العتيق
وفي قصيدة “بيت الرياح” يتعاضد عنصرا الزمان والمكان في تنمية اهمية الحدث فالزمن هو الخريف والخطا تتردد في الطريق :
منذ ان تعرى الشجر
وتولى الخريف الاخير
والخطا , تحت نافذتي تتردد ذاهبة آتيه
تتردد في هدأة الليل ملء الطريق
فاذا انحدر الطرف مني , وجاب الطريق
لم اكن اتبين من احد او ارى
غير اعمدة الضوء موغلة
في امتداد الطريق
بيد ان الخطا
لم تزل تتردد , في هدأة الليل , ملء الطريق !
ان الممر والطريق وما يرادفهما تكاد تكون من المفردات التي تتكرر في معظم قصائد الديوان ولا شك في ان لهذا دلالة قوية يمكن فهم المقصود منها بحسب اتجاه القراءة فقد يكون المقصود هو الحياة الدنيا التي هي ممر او طريق الى الخلود في الاخرة لان الدنيا معبر ومن فيها على سفر وهذا ما نجده واضحا في قصيدة “حفل في العراء” اذ يرتبط الممر بمر السنين بعد السنين :
أفرغ (العابرون) المؤونة , وانحدرت
بعد تلك السنين السنون
ثم جاء (المسافر) تثقل خطوته
في انحدار الطريق السنون
الممر الموشح بالثلج يطوى الى نصفه
والصبايا النحيفات يلهون بالثلج ,
والريح تمحو الخطا والسنون
والقطار المصفر في الافق
تنأى به كالدخان السنون !
ان هذا التكرار الظاهر للسنين وارتباطها بالعابرين والمسافر والقطار والممر تدل كلها على ان الحياة رحلة باتجاه مصير آخر , ولكنها رحلة على غير هدى , وهذا ما تظهره قصيدة “الحافلة” اذ جعل حسب الناس في رحلة في هذه الحافلة التي تترنح بهم في ارض مقفرة الى غير ما جهة , ركابها نيام , وسائقها نائم , وهي تترنح في كل اتجاه كسفينة تعبث بها الرياح :
عندما ايقظتني الزوابع مرعدة , ممطرة
كنت في الحافلة
عائدا مثلما اعتدت بعد انقضاء النهار
الى البيت في الحافلة
انما الحافلة
لم تكن في المدينة ,
او في تخوم المدينة
او في مداخلها المقفرة
مرهقا كنت , والحافلة
في عراء من الارض
تجري الى غير ما جهة
متزعزعة الجنب ,
مظلمة , غافلة !
وفي “آخر الطريق” اختار حسب الفندق مكانا جاءت اوصافه مفصلة ليكون المعبر عن المكان الارضي الذي يقضي فيه الانسان رحلة حياته البائسة , او هو الوطن البائس نفسه , اما الزمن فهو الليل وهو الزمن الغالب على قصائد حسب مقرونا بما يقويه من صفات الظلام كالغبرة والريح والمطر :
في الغبرة الليلية المتوانية
في الفندق البالي الرثيث
في الفندق البالي المطل على الدكاكين الرثيثة
في غرفة متحفرة
تلهو الظلال بها , وتزعق عبر كوتها القطط
ويشب بين حثالة السطح الصفيق لها اعتراك
ويلح خلف رتاجها الواهي على المرضى السعال
ويكابد الربو الشيوخ
في الغرفة المتحفرة
انها صورة تذكر بصور مسرح اللامعقول التي نجد مكانا نظيرا له هو “المقهى” الذي يبدو مهجورا من رواده , وصاحبه اكتهل فاراح المخبرين , وآثار المحيطين به تبدو صورة شاحبة لا تظهر الا في مخيلة الشاعر وذاكرته المجهدة :
بيع (للسماكة)المقهى القديم
وابتنى البانون اسواقا مكانه
وتوارى الصحب او ماتوا ومات
صاحب المقهى (اكتهالا) فاراح المخبرين !
وانطوى النرد وايدي اللاعبين
غير اني لم ازل اغدو على المقهى
والقى الصحب فيه
ليدار الشاي من حين لحين !
اما الوصف الاكثر قسوة فهو جعل الحياة مصحا للمجانين , وهذا ما صنعه حسب في قصيدة “الضيفة” والزمن هو الليل ايضا :
سمعت فحيح الريح في شجر المصح , وقد غفا
في الردهة العاوون والمتصارخون
والتف في اطماره (ملك) واودع (فاتحون)
ايدي الرعاة الخيل , وانقطع الصهيل
فتسللت كالطيف في افوافها البيض الخفاف
من ثغرة في (السور) اهملها الطهاة المهملون
وقد ارتمت في ضوئها القمري اخيلة النخيل
وتلامعت في باحتي الفجوات , واختتم المطر
فصلا , وشف الليل وانقشع السحاب !
واتت الي تجوز ميلا بعد ميل
وتدق نافذة وتسألني الدخول !
وفي مسرحية “الصفارة” جعل الاحداث تجري قرب مستشفى للمجانين وكان لهؤلاء دخل مؤثر في احداثها حتى انهم في النهاية (يقتحمون الحديقة يحيطون بالسكير المنفرد دائرين حوله كالراقصين محتفلين حفلتهم الليلية المتكررة المعتادة .. السيدات بشعرهن الطويل المحلول , والسادة برؤوسهم الحليقة !) .
وقد يورد حسب طرائق اخرى في الدلالة على المكان كالتحديد الدقيق لمكان الحدث كما في مسرحية الصفارة في الحديقة الخلفية لاتحاد الادباء لكنه لا يلتزم هذا التحديد الواقعي في الفعل الذي يجري في المكان نفسه وهو ما يجعل المكان وسيلة مؤقتة في الدلالة سرعان ما تتغير بحسب متطلبات مجرى المسرحية نفسها , او يحدد مكان الحدث ايضا بالخمارة التي يصف موقعها بدقة في “الخيط المقطوع” ثم ينتقل الى شقة الفنان لاستكمال بقية الحدث , او يجعل المكان مجهول الاصل كما صنع مع ” الشيخ الساهي بن يقظان” الذي جاء الى سواحل بحر البلطيق ثم يحدد المكان بالعاصمةالاستونية تالن , وهذه كلها طرائق يستعملها حسب لاغراض فنية ذات ابعاد دلالية تظهرها قصائده واضحة .kh hasab 6
أهم التقنيات المستعملة :
استعمل حسب الشيخ جعفر في ديوانه هذا عدة تقنيات فنية كان القصد منها اثراء الاداء الشعري والارتقاء به الى مستوى رفيع من المكنة والتأثير , وقد تحقق لهم ذلك ما يستحق الاشادة والاهتمام , وهو امر لا يمكن ان يفر من بين يدي شاعر خبير امضى بضعة عقود في الممارسة الفنية المتقنة ويعد من الرعيل الاول في الساحة الشعرية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الان , وما يغذي تلك القدرة من ذاكرة فنية مكتنزة وسعة معرفية وثقافية متنوعة المصادر والموارد , لذا ظهرت قصائد حسب في ديوانه هذا على الدرجة العالية من الاتقان الفني الرفيع وانتفاء الحشو الفائض عنها مع تنوع دلالتها واحتمال تأويلها باكثر من اتجاه , فضلا عن تماسكها واحكام بنائها حتى لا يكاد الناقد الخبير ان يتدخل في تكوينها زيادة او نقصا .
لقد توافرت لدى حسب عدة تقنيات منها ما كان استعماله مألوفا لديه للدرجة التي تغدو معها الحاجة الى الاشارة لها غير ماسة , ومنها ما كان له اثر في الاداء والدلالة معا وهو الذي يرى البحث وجوب الوقوف عنده لاستجلاء بعض ملامحه , ومن ذلك نذكر :
– الايهام والتماهي : نقصد بالايهام الانحراف الذي يوقعه الشاعر على ذهن المتلقي اثناء تأويله عناصر الاداء الشعري فيبعده عن المعنى القريب او الواقعي الى معان متخيلة او العكس حين يغلف الشاعر المعاني المقصودة بالاداء الواقعي ويمكن ان نستشف ذلك في كثير من قصائد حسب في هذا الديوان ومن ذلك قصيدة “الحافلة” التي تسير وركابها نيام , فالصورة الواقعية لا تعدو ان تكون صورة سيارة كبيرة مملوءة بالركاب تترنح ذات اليمين وذات الشمال في ارض قفراء ولا ينتبه الى امرها سوى الشاعر نفسه اذ السائق نفسه نائم ايضا كبقية الركاب , فهل يمكن ان يقف المتلقي عند هذا المعنى المحدود وحده ؟ وكذلك الحال مع قصيدة آخر الطريق حيث صورة الفندق البالي الرثيث .
ويقع ضمن هذا التحول السحري للشخصيات اذ تنتقل الشخصية من صورتها الواقعية الى صورة سحرية , وهو ما يلتقي مع الواقعية السحرية من جهة ومع الف ليلة وليلة خاصة من جهة اخرى وهذا ما يظهر في قصيدة “صندوق الدنيا” فالمرأة المستجدية المقعدة تظهر في النهار بهذه الصورة البائسة , اما في الليل فتتحول الى اميرة ساحرة تقص الليالي الالف , وكذا الامر في قصيدة الضيفة التي تدخل على الشاعر من حيث لا يعلم وتتدثر في اغطيته هربا من البرد لكنه لا يعرف عنها شيئا , وفي قصيدة “الجنية” تتحول لفافة الدخان الى امرأة بصورة (قينة) ثم تختفي من دون اثر :
خرجت الي من اللفافة والدخان
جنية في مثل اردية القيان
في الركن من حان تخافت ضوؤه وخبت كواه
تقتات من صحني , وتقترح الكؤوس بالاعتدال
وتميل ما انعطف النعاس بها ومال
حتى اذا ارتحل السكارى , وانتضى الندل الحواه
بيض القلانس والمسوح
نبهتها بيدي فما اجدى العتاب والسباب !
فحملتها وهنا اجوب بها الازقة والضباب
واتى الصباح فادركتني الشمس اهذي او ابوح
واضم اردية خلت منها كاردية القيان
وهذا ما فعله حسب في قصيدة “الخفاش” كما في قوله :
(انا) قال
وانبثق الدخان من الزجاجة وهو فيه :
كهل مشى الوخط المفضض في سوالفه الطوال وقد انطوى بيديه معطفه البليل !
(انا) اقل ثانية , ونفض قطرة عن جانبيه
واستلها حمراء قانية (تداخلها البلى)
وعلا نسيج العنكبوت اكتافها , فازاح شيئا منه , وانتزعت يداه
فلينها عنها ففاح شذى عجيب !
اما اكبر عملية ايهام صنعها حسب فهي تلك التي تتعلق بخلقه عدة شخصيات لا وجود لها في الحقيقة وابرزها شخصية الساهي بن يقظان الذي ادعى حسب بأنه مجهول الاصل ثم يدعي بأن سيدة روسية قد عثرت على اوراق الشيخ الذي مضى منذ زمن وقدمتهاالى الشاعر الذي التذ بالاختفاء في طوايا شخصية الشيخ .
اما التماهي فهو جزء من تقنية الايهام ولكنه ينماز منه باندماج شخصيتين او اكثر في شخصية واحدة وهذا ما فعله حسب في عدة قصائد اذكر منها “الجثة” , فالجثةالتي يتحسسها في المنام تعانقه هي نفسها جثته التي تخنقه :
جثة اتحسسها في المنام
في اعتناق معي , في اعتناق طويل
او اطيل التلبد كالخلد منكمشا تحت اغطيتي
في اختناق ثقيل
في اختناق الى الفجر مرتعدا لاهثا لا انام
وتولى الشتاء
وتفتحت الارض عن زرعها , عن براعمها ..
فجأة , في انشغالي بتهيئةالشاي , اوقفني
بالهسيس الحجر
وهو ينشق بين الخزانة والمنضدة
عن اصابعها , عن يديها , وعن وجهها
وابتسامتها المجهدة
بينما الشمس جانحة
تتخضب بعد انصباب المطر !
وفي قصيدة “الخفاش” يماهي حسب بين الخفاش وظل المروحة على السقف فالظل نفسه هو الذي يصبح خفاشا ثم يعود الشاعر الى انتباهه فيرى ظل المروحة يقلب صفحات كتاب .
اما في قصيدة “الزائر” فيجعل حسب التماهي بين شخصيتين هما شخصية المتحدث بضمير الانا وشخص يماثله قد يكون هو نفسه استدلالا بعنصري الزمان والفعل ، فالزمن واحد هو (منذ عام) والفعل واحد هو الخطو الليلي وآثاره :
وتتبعنا الاثر :
طارئ في النزل مثلي منذ عام
(طالما ادركه الجيران في جولته قبل المنام
سائرا, متئدا تحت الشجر !)
لم يزل تحت الثرى يتدلى
ناشرا ظلا على الارض وظلا
كلما اطللت من نافذتي ليلا الى الشارع
ابصرت به تحت الشجر
سائرا , متئدا قبل المنام !
– التكرار : من التقنيات التي عرفها حسب في شعره مبكرا في مسيرته الشعرية , ولكننا نجده في هذا الديوان يعمد اليه بقصد فني واضح فظهر لديه على صعد مختلفة منها صعيد الكلمات مفردة او مضافة وهذه تأتي اما في القصيدة نفسها او في قصائد مختلفة مثال ذلك قوله (السلم العالي) فقد استعمل هذه الكلمة المعرفة الموصوفة عدة مرات وهي جميعا تكاد تشير الى المقام الرفيع الذي يمثل هدفا تريد بعض الشخصيات الوصول اليه او هبطت منه , وكذلك استعمل بعض المفردات بكثرة , مثل : الممر , الطريق , الشجر , الثلج , المدينة , الخطا , الاخير , الليل , النافذة , الستار , الجدار القطار, الشرفة , الخمر , الصباح , المطر , الجسر العتيق , السنين , السطح , الظلمة , الكأس , وغيرها من الكلمات التي تنتمي الى حقول دلالية متنوعة وجرى توظيفها لاغراض دلالية مختلفة كحقل الرمز الحيواني مثل : الصقر ، القطط ، العثة ، الخلد ، الذئب ، الدراج ، البوم ، الخفاش , وغيرها .
اما على مستوى التراكيب فقد جاء التكرار متنوعا ايضا ، فقد يكرر استعمال حرف الجر ايضا كوله في قصيدة “آخر الطريق” :
في الغبرة الليلية المتوانية
في الفندق البالي الرثيث
في الفندق البالي المطل عى الدكاكين الرثيثة
في غرفة متحفرة
او استعمال حرف العطف الواو لغرض التراكم , او تكرار عبارة مع الاضافة اليها لتطويلها بعد توكيد المعنى كما في قوله في قصيدة “بيت الرياح” :
فتتبعت آثارها في انحدار
في انحدار بطيء الى منزل لم يعد قائما منه
بين التفاف الصنوبر والشوح
الا بقايا جدار
وقد يرد التكرار لتوكيد الفكرة او المعنى وهذا ما يبدو عاما لدى حسب في ديوانه هذا اذ عمل على تعميق فكرة الخراب والموت في مختلف نصوصه ومختلف مكوناتها لذا قد نجد القصيدة تختلف في موضوعها ونمط ادائها ولكنها تلتقي مع غيرها فيما اراد الشاعر التعبير عنه .
– السرد : من العناصر الرئيسة التي تكاد تكون ثابتة في معظم نتاج حسب الشعري عبر مسيرته الطويلة تتجلى بانماط عديدة فمرة يكون حضور السرد جزئيا ومرة يكون رئيسا حين ينتظم القصيدة كلها , وقد جاء في ديوان الفراشة والعكاز بهاتين الصورتين في القصائد القصيرة التي انتظم بعضها بهيأة حكايات , وكذلك في الاعمال التي اتخذت طابعا مسرحيا مثل “الصفار” و”الخيط المقطوع” , وليس من شأن هذا البحث دراسة قضية السرد تفصيلا وانما الشأن في الاشارة الى هذه التقنية وبيان أثرها في الديوان .
واول ما يلحظ في قصائده بدء اغلبها بالفعل الماضي وهو فعل الاخبار والحكي والسرد , وهذا يعني ان حسبا يريد ان يروي حكاية ينظمها في قصيدة ليتآزر الجنسان الشعري والسردي على ايصال الدلالة وتعميق اثرها .
وثاني ما يلحظ استعمال حسب الاشارة الى الزمن الماضي ببعض الادوات مثل آنذاك , او مذ ومنذ , او قبل عام وغيرها من الادوات التي تفتح امامه باب الحكي الذي تستلذه ذاكرته الطفولية المشبعة باساليب القص والحكي التي اتسعت بها مخيلته , ولو دققنا في اي من قصائد حسب لوجدناها تنطوي على حكاية يمكن عزلها ودراستها بوصفها اسلوبا سرديا .
اما اعماله الطويلة في الديوان ولا سيما “الصفارة” والخيط المقطوع” فهي اعمال تنطوي على عنصر السرد بما فيه من تفصيل وبما يتبعه من عناصر كالشخصيات والاحداث والوصف والحوار وغيرها من العناصر التي تكون بمجموعها كيانا سرديا واضحا فهو قد يسمي بعض الشخصيات ويوهم المتلقي بأنها شخصيات حقيقية او يعطي لبعض شخصياته الادوار التي تناسبها كالنادل والحارس والراقصة وغيرها , ويوضح ملامح الشخصيات النسائية بالوصف واعطاء بعض التفصيلات او يبدأ الحدث من نقطة انطلاق ليتصاعد به نحو الذروة فينميه بالحوار والصراع حتى يهبط به نحو النهاية والحل , وهذا كله من مقومات السرد الذي اختاره حسب مفيدا من معطيات القص والدراما ليقدم عملا شعريا فاعلا .
– التناص : يتجلى التناص في شعر حسب في هذا الديوان بانماط عديدة منها :
الاستمداد من الذاكرة :حاز حسب – وقد امضى ما ناف على ستة عقود في الحياة – ذاكرة مشبعة بتفاصيل الحياة وتشعباتها الواقعية والاجتماعية والثقافية , لذا يمكن تقسيم هذه الذاكرة على روافد ثلاث رئيسة اولها حقبة الطفولة والصبا وهي ذات مسحة ريفية خالصة بكل ما فيها من حكايات الجن والسعالي والارض والزرع والماء والحيوان والناس البسطاء , وثانيها حقبة الشباب التي امضاها في الاتحاد السوفييتي السابق وهي تشتمل على جانبي العاطفة حيث النساء الكثيرات ممن علق بهن او علقن به , والثقافة حيث الاطلاع الثقافي الواعي على الادب والادباء الروس الذي بلغ حد الترجمة والمشاركة في الحياة الادبية .
اما الثالث فهو رافد عام يتصل بالحصيلة الثقافية الواسعة التي تواردت على ذهنه من شتى مصادر التراثين العربي والعالمي القديم والحديث , وهذه الروافد تبدو اثارها واضحة في مجمل النتاج الشعري لحسب ولو شاء دارس ان يتتبع كل اثار هذه الروافد في شعره لما استطاع لها حصرا لانها غالبا ما تأتي مضمرة , مذابة في مجمل النسيج الفني للقصيدة وابرز مثل على ذلك ما صنعه حسب في ديوانه الموسوم بـ”رباعيات العزلة الطيبة” اذ جاء هذا الديوان على نسق واحد تقريبا من القصائد القصيرة جدا التي تندرج تحت اسماء شخصيات شتى من فنانين وادباء وفلاسفة ومتصوفة وشهداء وغيرهم , وقد قال حسب انه املاه من ذاكرته في عزلته من دون الرجوع الى مصدر او استعانة بأحد سوى هذه الذاكرة المكتنزة .
يمكننا تتبع آثار هذه الذاكرة في ديوان الفراشة والعكاز , فمن الحقبة الاولى نجد ميله الى ذكر مكونات بيئته الريفية كما في قصيدة “القفص” حيث الانثى القاتلة , تقفز الذاكرة الى العرائش والنخيل :
وهناك في الظل الظليل
تتلقف الموتى الحفر
ويهال بالرفش الثرى
تحت العرائش والنخيل
ولكنها قفزة لها دلالة مهمة في النص فالقتل يجري في منطقة هي رمز الحياة تحمل اشارة الى المكان العراقي الذي ميزته الاولى النخيل ليجعل دلالة القتل محصورة في نطاق محدد دال .
وتلح على حسب ذاكرة الطفولة وتمده باحدى الحكايات المختزنة فيها وهي حكاية الانثى (عوفة)التي تجوب البساتين في الليل فتشتبك صورتها في صورة الغول والسعلاة وعواء الذئاب وذلك في مقطوعة “تنويمة طفل عنيد” :
نم , نم ! فلم يعو ابن اوى
بل تلك (عوفة) في خرائبها تولول اوتنوح
جرداء تطوي السهل عكازا وظلا
في الشمس تقصر او تطول
الريح تلعق خطوها العاري المملا
والجوع يأكلها فتقضم ما تجود به الحقول !
فاذا اكفهر الليل وانتشر الضباب
عادت تضيء بكل بستان تئن الريح فيه
احداق تنين فيلثم الضيوف
الغول والسعلاة والمعزى , وتزحف او تطوف
في هذه العرصات لا تدري بخطوتها الكلاب
نم , نم فلم تعو الذئاب
بل تلك (عوفة) في خرائبها تنوح
ومن الحقبة الثانية نجدد اهداءات حسب واضحة فقصيدة “العودة” مهداة الى (لينا) وكذلك “الخيط المقطوع” مع ايضاح في تحديد المكان والزمان (ذكرى النورس خريف 1964) , واذا علمنا ان اهداء الشاعر احد مفاتيح القراءة والتأويل امكننا تبين اهميته في النص .
اما الحقبة الثالثة وهي الثقافة الواسعة فهذا مما لا يمكن حصره اذ نجد الشاعر يستمد من , او يشير الى اعلام كثر مثل دستوفسكي كالاشارة الى روايته الجريمة والعقاب في قصيدة الجثة , او كثرة الاقتباس منه في تصدير القصائد , وبودلير الذي كان له حضور في الاسم في قصائد حسب واستعمال بعض مفرداته كالخلد والبوم والقطط وغيرها .
المعارضة الساخرة : اذا كان الاستمداد من الذاكرة ينطوي ضمن مصطلح التناص فاننا نجد نمطا اخر ينطوي ضمنه ايضا هو المعارضة الساخرة اذ استعمله حسب في ديوانه هذا وكان منه ذلك عن قصد مسبق فقد هيأ في مسرحيته الصفارة الشخصيات المناسبة التي سيجري على لسانها ما يريد ولاسيما شخصيتي السكير والساخر فهما اللذان توليا هذه المهمة اكثر من غيرهما , وابرز ما انصبت عليه المعارضة ما تجود به الذاكرة من تراث شعري محفوظ ومن ذلك ما يتصل باوزان القصيدة التقليدية اذ يخاطب الشاعر , وهو احدى شخصيات المسرحية , ابا نواس بقوله :
قل لي رجاءا يا ابا نواس , أما تزالون في هذا العالم الرابع غير المأسوف عليه , تكتبون القصائد المقفاة الموزونة ؟ ألم تكفوا بعد ؟ لقد انفجرت قنبلة النثر الذرية , وتطايرت اوزانكم في مهب الرياح العاتية !
قطط , قطط ولها ذنب
ويحاكي السكير ابيات جرير النونية بقوله :
ان (النجوم) التي في طرفها حور
ادرن بالشيخ (دولاب الهوا) فلكا
افرغن بضع كؤوس واقترحن له
كأسا : فلم ندر اغفى الشيخ ام هلكا ؟
ويعود السكير (ممازحا, مداعبا الشاعر) :
صمتا ابا الهيف ! هل مرت بك الابل !
شط المزار , وافنى تمره هبل!
مازالت الخندريس البكر معجبة
أخف ما يتولى اهلها الخبل !
أما الساخر فيقترب من بعض شعر ابي العلاء المعري بقوله :
عللاني احطكما
خبرا بالثرى الدفين
انا بالعبء عنكما
حامل دفة السفين !
ويفيد حسب من ثورة بعض الشعراء في العصر الاموي بقوله :
ابانا التستري مسخت فارا
وقد ولدتك في زحل جبال
فياليت اللحى اخضرت حشيشا
فترعاها الاباعر والبغال
ومن المعارضة الساخرة شيء من التهكم الخفي كان يورده حسب في ديوانه مبثوثا بين طيات القصائد ومن ذلك قوله في احدى مقطوعات “الساهي بن يقظان” :
الراقصات اضعن ارجلهن
في مخلاة شحاذ طريح
ورقا خريفيا وريح
وانا .. انا !
اطعمت تمر يدي تمارا
او مريت نوى وماري
في الصحو مخمور وصاح في خماري
الهو بأوراقي ,
وتلهو الريم بي ورقا خريفيا وريح
هذا تهكم بالشيخ الصوفي الخائب يقابله تهكم بالفلسفة واهلها اذ الحكمة كالتصوف لا تجدي في عالم خرب كقوله :
خوفو وسقراط استدلا بالدليل والاحاجي
فسألت كناسا يزيح العفر في المترو
ويعجل بالرواح وبالنفاية
عما يقال , فقال :
(اثقل راسي الواهي الحكيم
وابهظ الوالي قفايه !
دعني ومكنستي , فما انتفعت يدي بالقول
او ادركت حاجي !
فعساك تلحق آخر العربات
فاسرع واسأل الغافين في العربات
وابتكر الاحاجي ! )

الخاتمة :
لقد ظهر من هذا البحث ان الحاجة تدعو الى تعميق الدراسات في شعر حسب الشيخ جعفر اذ لم ينل هذا الشعر , بما فيه من امتداد زمني متنوع في العطاء , ما يستحق من الدراسة العلمية الحصيفة اسوة بما جرى لسابقيه او اقرانه من الشعراء , ذلك بأن حسب لا يقتصر اثره على كونه واحدا من اهم شعراء الجيل الذي تلا جيل الرواد وانما يمثل تجربة مختلفة لها سماتها المميزة التي جعلته ينفرد بمكانة فنية رفيعة يختلف بها عن سواه من الشعراء بل حتى عن افراد جيله جيل الستينات وهذا امر ايده ابرز دارسي تلك الحقبة فافردوا حسبا وحده انموذجا مختلفا في الرؤية والوعي وربما ايثار العزلة على الضجيج وحب الظهور الذي اغرق سواه .
ان تنوع تجربة حسب الشعرية لا يقتصر على مراحله العمرية حسب وانما يقترن بانماط الاداء الفني الرفيع الذي كان يرتقي بتقدم تلك التجربة علما انه قد بدأ اصلا من درجة رفيعة في الاداء والتكنيك فهو الذي عزز تجربة القصيدة المدورة واعطاها ملامحها الفارقة وهذا ما جعل دارسي التدوير يقفون عند تجربته فيه وليس لاحد ان يغفلها , وهو الذي جعل الحكاية مدمجة في بنية القصيدة غير مفترقة عنها او متضادة مع السياق الشعري الذي وقع فيه سواه , وهو الذي حافظ على انسياب القصيدة الموزونة لتقف قوية مؤثرة بوجه كل الموجات التي حاولت تفتيتها او تهوين شأنها ذلك ان الامر لديه لا يتعلق بالاطار الخارجي للنظم وانما يعتمد الانبثاق الحر للتجربة ومدى انفعال الشاعر بها حين تستجيب لذلك قدرته الفنية وموهبته الشعرية المثقفة .
لقد بدا جليا ان ديوان الفراشة والعكاز عمل فني محكم الصنع يرتقي في سلم الشعرية الى رفيع الدرجات منها ويفتح ابواب التأويل واسعة امام العقول المثقفة والنفوس المرهفة لتستقبل هذا الشعر فتنفعل به وتتفاعل معه بالاتجاه الذي يحلو لها من دون ان يؤثر ذلك في الاتجاهات الاخرى او يلغيها , وهذا وحده من سمات السداد والتألق في الصناعة الفنية التي يصبو اليها عشاق الفن ومتذوقوه .

*عن موقع د. حسن الخاقاني

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *