مازال يتخبط بسيارته (التاكسي) على غير هدى،مثل حيوان جريح ضل في الغابة فهذا المكان الذي أنزل فيه الراكب الأخير ،،مجهول لديه،إذ لم يسبق أن قصده،ولاحظ إن بيوته مشيدة كيفما اتفق فهي من الآجر والطين والصفيح ،وقد بدت مهجورة وطرقاته،ترابية كثيرة المطبات،خلت من السابلة والشمس في الغروب والجو بدأ يبرد مع حلول الظلام وهو يدور بسيارته في متاهة،ليس لها منفذ،فما أن يدخل طريقا ويسير فيه حتى يسلمه لآخر يشبهه،ولا سبيل إلى الشارع الرئيسي المعبد بالإسفلت ،ومخاوف جمة باتت تعتمل في رأسه مادام في ضياعه هذا ،وحوادث القتل والسلب التي شاعت في الآونة الأخيرة ،راحت هذه الساعة تترآى أمام عينيه ،فقد بات يحسب أكوام التراب والنفايات وبرك المياه الصغيرة التي تعترضه أينما مر جثثا ودما متخثرا بفعل انعكاس حرائق غروب الشمس وهي تغطس وراء الأفق،وهو مازال هائما على وجهه فوق مطبات طرقات لا يجد لها نهاية،وجرب أن ينحرف إلى جهة مغايرة ودخل طريقا مختلفا فوجد نفسه في طريق عراء راح يسير فيه وتهيأ له ، وكما في حكايات السلب إن رجلين يعترضان طريقه وامرأة مريضة معهما تجلس منبعجة على الرصيف ،وكاد يكذب بصره ،ويلعن خيالاته لولا أن سيارته توقفت بعنف وأخذت تهتز في مكانها وأفاق من الصدمة ،حين رأى ما حسبه وهما رآه حقيقة تمثل أمامه : شابان يقفان أمام سيارته وسط الطريق فاتحين ذراعيهما وهما يشيران إليه بالتوقف وامرأة،متلفعة بعباءة سوداء افترشت الرصيف كان الأول يرتدي(دشداشة ) بيضاء وسترة كالحة،طويلة ، كان بارز الأنف عيناه تلمعان،أما الثاني فقد بدا ببذلة رياضية مهلهلة مكونة من قطعتين،سروال طويل وجاكتة، ملامحه تدل على فجاجة وجهل.اقترب منه الأول ومد عنقه خلال نافذة السيارة،إلى يمينه وقال: ـ إلى مستشفى الطوارئ.
وتذكر إن حوادث السلب تبدأ هكذا على الأغلب، فتوجس شرا وشاء أن يعتذر إلا إن الشاب الثاني لم يمهله إذ فتح الباب الخلفي للسيارة،واصعد بتمهل المرأة،فمالت بجلستها على المقعد ثم جلس إلى جانبها وصعد الأول إلى جانبه ،فرأى وهو يحتضن مقود السيارة بكفيه انه أصبح أمام الأمر الواقع ،وليس عليه إلا الرضوخ ،رمى الجالس إلى جواره بنظرة متفحصة وتطلع من خلال المرآة الصغيرة التي أمامه إلى الشاب والمرأة،اللذين استقرا في المقعد الخلفي،ودفع بمخاوفه جانبا أطلق للسيارة العنان ،كان الجميع صامتا وكان الشاب إلى جانبه يوزع نظراته بين المقود والطريق ،وقد بدا ساهما كما لو يـدّور أمر ما في رأسه ،أما الثاني،فقد شاهده يجذب المرأة ويسند رأسها إلى كتفه،ويعود يختلس النظر إليه بين الحين والآخر مما أثار هواجسه وجعله يفكر بالعصا التي يخبأها تحت مقعده،وندت عن المرأة آهة ألم،وضغط الشاب الذي في الخلف على كتف صاحبه وسأله : ـ بقي الكثير..؟؟
فالتفت الشاب إليه وقال بصوت منخفض:
ـ دقائق معدودات..
زادت ريبته وكاد أن يوقف السيارة ويصرخ طالبا النجدة،لولا انه لم يجد أحدا على الطريق،فقد بدا مقفرا تماما،وأراد أن يستدرج الشابين إلى الكلام لعله يكتشف ما يبيتان فألقى بسؤاله: ـ مم تشكو..؟
فرد عليه أحدهم : ـ انتابها الدوار..ثم تقيأت مرتين.
قال له مطمئنا: ـ ربما برد أصابها.. ـ ربما.!!
وعاد الصمت يلف الجميع.وهاجمه قلقه ثانية وخشيته من أن شيئا ما يدبر له ،والطريق الموحش بدا أمامه طويلا لا ينتهي،والظلمة جثمت بسوادها،والبرد يزداد حدة ،يلفح ريحه وجهه من النافذة إلى يساره،ومرت بخاطره زوجته وهي تؤكد عليه بالعودة إلى البيت قبل حلول الظلام ،وتعيد على مسمعه ما تعرضه القنوات الفضائية من مآس تجري في الشارع.ولمح من بعيد رجلا وعربة بيع صغيرة يعلوها فانوس،وامتدت قدمه لتضغط موقف العجلة إلا انه تراجع في اللحظة الأخيرة،وراح يهدأ انفعالاته،ويحدث نفسه بأن الأمر مجرد افتراض،إذ لم يبدر من هؤلاء الأشخاص ما يشير إلى خطر فعلي،كان فكره مركبا تتقاذفه عواصف شديدة،وباله يجوب آفاق مجهولة،وحواسه تترقب،حدثا ما يفاجئه، وإذا بصرخة قوية يطلقها الشاب الذي إلى جواره وهو يشير إلى الأمام: ـ قـ ـ ـ ـ ف. !!!
ضغط على الموقف بسرعة فاهتزت السيارة وتهاوى من فيها على المقاعد ،نظر فرأى رجلا يمرق من أمامه بسرعة خاطفة ،دق قلبه بعنف،وتلفت إلى ما حوله وحين استعاد هدوءه تحرك بالسيارة من جديد،انتبهت المرأة من إغفاءتها وتمتمت: ـ الله ستر..الله ستر. وأحس بقلقه غبارا علق في ثياب روحه راح يتطاير عنها ذرات فذرات وعادت الحيوية إلى المرأة فراحت تتكلم بحرية،فبدا على ملامح الشابين البشر والارتياح ،وفارقهما جمودهما الذي لازمهما منذ صعودهما .وتفتق الكلام بينهم،،وشرع الجميع يبدي رأيه بما يسمعه ويراه من مآس تحصل كل يوم في أنحاء متفرقة من المدينة،وتعدا الحديث إلى أن باح كل واحد منهم بمشاكله الخاصة وأحزانه، وكانت المرأة أوفرهم شكوى..هاهو أخيرا يتحرر من قيود أوهامه تماما،وتلألأ داخله مرح طفولي بات يغويه فراحت السيارة من تحته ترتفع فجأة بالهواء وتحلق فوق إسفلت الشارع فتنهبه نهبا في طريقها إلى المستشفى .
عصام القدسي : المتاهة
تعليقات الفيسبوك