د.حسن الخاقاني : دراسة تحليلية في ديوان “الفراشة والعكاز” لحسب الشيخ جعفر (1/2) (ملف/24)

hasan alkhakaniإشارة :
في عيد ميلاده الثالث والسبعين ، يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف احتفاء بالمنجز الإبداعي الفذّ للشاعر الكبير “حسب الشيخ جعفر” وإجلالاً لمسيرته الإبداعية الرائعة . وتدعو أسرة الموقع جميع الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تتعلق بمسيرة مبدعنا الكبير . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية انطلاقاُ من حقيقة أن لا زمان يحدّ الإبداع . تحية لشاعرنا الكبير حسب الشيخ جعفر .

الدراسة : 
قيل : ما بال شعركم في الشيب احسن اشعاركم في سائر قولكم ؟ قالوا : “لأنا نقوله وقلوبنا قرحة” .
المبرد
المقدمة :
امتدت تجربة حسب الشيخ جعفر على مدى نصف قرن من الزمان او تزيد , فكانت تجربة غنية متنوعة في مساراتها بعيدة في غورها الى اعماق النفس والروح تستجلي مخبآتها فتظهرها محاطة بهالة من الشعرية الراقية التي ترتقي بنفس قارئها وتزيد لذة متذوقها , ولكن , وبرغم هذا فأن شعر حسب لم ينل من الدراسات العلمية الرصينة ما ناله سواه من شعراء الحداثة , فما زال امام الباحثين والدارسين المخلصين مجال واسع للخوض في هذا النتاج بمختلف وجوهه وتقنياته ودلالاته , لذا لم يجد الباحث امامه ما يستند اليه من دراسة نافعة معتمدة الا نتفا من بعض الدراسات التي تشمل غيره معه , ولم يتيسر للباحث الحصول على كتاب “ايتام سومر” للناقد المغربي عيسى بوحمالة برغم كثرة البحث والتقصي والمحاولة بالانترنت وغيره فاعتمد البحث اسلوب التحليل الفني للشعر بعد التأني في الفحص والقراءة باكثر من وجه .
يفتح حسب الشيخ جعفر في ديوانه هذا ” الفراشة والعكاز” افقا جديدا في مسار رحلته مع الشعر ذلك بان حسبا وقد بلغ اعتاب شيخوخة رائية يتجاوز برؤيته ورؤياه حدود الواقع وما فيه من قيود لينفذ من صلادة المادة وقسوتها الى شفافية الروح ورقتها فيستثير جذوتها الخافتة ويبث فيها وجد الوجدان المتحرق بمرارة الحقيقة الجارحة , غير ان هذا التجاوز لا ينفتح الا على عالم مادي خرب يقيد الروح ويحبسها في وثاق غلائله الثقيله .
ضم هذا الديوان انماطا مختلفة من الاداء الشعري الذي اعتمد على جملة من التقنيات المختلفة التي استطاعت ان تمنح هذا الشعر ابعادا دلالية متنوعة قابلة للتاويل باكثر من اتجاه , ولذلك لا يستطيع باحث ان يقطع باي من هذه الاتجاهات مهما امكنه ان يجمع من ادلة وشواهد مرجحة , فحسب الشيخ جعفر ليس من اولئك الشعراء الذين يقطعون طريق لذة التأويل ومتعته على المتلقي , وانما هو يحلق في عالم الفن الرفيع فيدعو قارءه معه الى تلك الرحلة الشفيفة .
ليس في ديوان حسب ما يقطع بترجيح اتجاه في التأويل على اخر , فرؤية الخراب والموت التي استند اليها وجعلها معتمد ديوانه يمكن ان تشير الى الحضارة الحديثة القائمة التي تسحق الانسان لتجعله نسيا منسيا , ويمكن ان تشير الى خراب الروح التي غادرها زمن الاستمتاع بلذائذ الحياة ليحل بعده زمن عاهة الشيخوخة الموجعة , وفوق هذا يستطيع القارئ المتصل بقسوة الواقع العراقي الحديث وما اكتنفه من ويلات وآلام ان يوجه الدلالة بهذا الاتجاه ولاسيما اذا ضم الى ذلك زمن كتابة هذا الديوان وهو منتصف تسعينات القرن الماضي القاسية بجوعها ورعبها , وشهادة شاعر قريب من السلطة آنذاك هو سامي مهدي الذي بين لحسب انطواء ديوانه على البعد السياسي وبرغم هذا يبقى امكانا واحدا من بين مجموع الامكانات فهو وان كان راجحا بهذا المرجح لا يمكن ان يلغي سواه لان شعر حسب نفسه شعر مكتنز الدلالة متعدد الابعاد مختلف الرؤية متباعد التأويل , غني الامكان به .hasab 8
لقد كان من الصعوبة البالغة ولوج هذا البحث او الخوض فيه قبل الاستغراق العميق في القراءة المتعددة الوجوه والاغراض , لذا انفق الباحث زمنا في استجلاء كوامن هذا الديوان وخفاياه قبل ان يقدم على مغامرتي التحليل والتأويل فبدأ بالكشف عن بنية العنوان ” الفراشة والعكاز” لما لها من اهمية في الكشف عن بعض المراد ولأن العنوان مفتاح رئيس من مفاتيح القراءة الحديثة .
ثم تبين بأن حسبا يغترف في شعره من مصادر عديدة تمثل في مجموعها مناحي الثقافة الانسانية القديمة والمعاصرة , لانه شاعر مثقف حقا , لذا حاول البحث الكشف عن تلك المصادر لكونها مفاتيح مهمة في التحليل ايضا ليتجه بعدها الى الكشف عن ابرز مظاهر الديوان التي انقسمت على قسمين , الاول : جاء متعلقا ببعض القضايا الرئيسة التي عبر عنها ، وابرزها : المرأة والشيخوخة والموت والخراب وهي كلها تصب في مرجعية واحدة هي سوء هذا الواقع والعجز عن تغييره او اصلاحه , والثاني : يتعلق ببعض التقنيات التي استعملها حسب في شعره وكان منها التكرار والسرد والتناص بما فيه من انماط .
لقد وجد البحث بعد الدراسة والتمحيص ان حسب الشيخ جعفر يتقدم خطوة كبيرة في ديوانه هذا ليصطف مع كبار شعراء العالم وفنانيه وفلاسفته الذين بلغوا النتيجة نفسها بعد طول تجوال وقرع لابواب مختلفة بايد مختلفة , يحمل حسب عكاز حكمته ويجر اذيال شيخوخته المتعبة ليجول في مختلف بقاع النفس الانسانية المحطمة ويطل على مستقبل موصد الابواب كأنه معتقل للروح احاطت به شراك الواقع الخرب , وليس لدى حسب في هذه الرحلة المجهدة سوى فراشة طفولة ذاهبة وعكاز شيخوخة قائمة , وهو بين الاثنين معلق بين سماء حلم لا يتحقق وارض واقع لا صلاح له فتعبث به رياح الخيبة والعجز والقنوط جيئة وذهابا .

عنوان الديوان ودلالته :
بنى حسب عنوان ديوانه على علاقة العطف بين متغايرين لفظا ومعنى , وهي علاقة تلتقي في نقطة الضعف لتفترق في مفترق النقيض بين الطيش والحكمة , ويمثل الطرف الاول الفراشة فيما يمثل العكاز الطرف الثاني , ولابد لنا من الوقوف عند دلالة كل منهما منفردة قبل ان نتبين نمط العلاقة ودلالتها .
الفراشة : لانريد ان نتجاوز جهد الدكتور حاتم الصكر في دراسته لمدلول الفراشة وافادته من المعنى اللغوي الذي جادت به معجمات اللغة التي ربطت بين الفراشة ومعاني : الحمق , الجهل , الطيش , الضعف والصغر فضلا عن المحمول الجنسي الذي يدل على الانثى , واقترن طيش الفراشة بالضعف والخطأ فقيل في الامثال : أطيش من فراشة , واجهل او اضعف من فراشة وأذل ، اخطأ من فراشة واخف، واخذا لغزالي (ت505هـ) الفراشة شبها للانسان وجعل جهل الانسان اعظم من جهلها , بل صورة الانسان في الاكباب على الشهوات والتهافت فيها اعظم جهالة منها لأنه لايزال يرمي بنفسه فيها الى ان ينغمس فيها ويهلك هلاكا مؤبدا , فليت جهل الآدمي كان كجهل الفراش فانها باغترارها بظاهر الضوء ان احترقت تخلصت في الحال , والآدمي يبقى في النار ابد الآباد , وروي عن الرسول (ص) قوله : انكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وانا آخذ بحجزكم , وفسر قوله تعالى : “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث” بأنه تشبيه للناس بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة .
ولكن الفراشة من حيث صورتها الظاهرية تقترن بصفات الجمال والبراءة ايضا , فهي تجول بين الحقول تمتص رحيق الازهار وتنتقل بين الورود , وضم هذا المعنى الى ذاك يعطينا دلالة جديدة هي دلالة البراءة والغفلة عن مصائب الدنيا وما فيها من شرور بنيها , حتى انها ترمي نفسها في النار ولا تحسبها الا بعضا من نعيم , وهذا المعنى يمكن ان ينفعنا في تحليل عنوان ديوان حسب , لانه اراده واشار اليه او قريبا منه في احدى قصائد الديوان كما سيأتي في الدراسة لاحقا , وللفراشة معنى اخر يجعلها بديلا عن القصيدة التي فرت من بين يدي شاعرها فصار يطاردها ولا يكاد يمسك بها كما رأت ذلك بعض الاساطير الصينية وجعلتها اساطير اخرى تمثل الروح ايضا .
العكاز : اما العكاز فقد جاء بصيغة المفرد المعرف المذكر ليقابل تأنيث الفراشة وكان بأمكان الشاعر التأنيث ولكنه لم يفعل اذ التذكير أصل والتأنيث فرع عليه .
والعكاز عصا يتوكأ عليها الانسان عند حاجته اليها ولا تظهر الحاجة الا بظهور العجز لمرض او لكبر مثلا وقد اختار حسب الكبر الذي عادة ما يقترن بالحكمة قبل ان يبلغ المرء من العمر عتيا , ولو شئنا ان نستقريء معاني هذه العصا لوجدنا لها تأريخا طويلا لعل اشهرها عصا موسى التي وردت في قوله تعالى :”وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي اتوكأ عليها واهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى” وعصا موسى لم تقتصر على إبطال السحر وحده فهي اصبحت (جامعة لكل شيء وهي حصيلة لعدة تصورات اسطورية متفاوتة , فهي عصا آدم الاصلية , وهي تفعل كل شيء كخاتم سليمان وتصير كل شيء , اذ تقول اسطورة عربية ان العوسجة او الشجر ومنها عصا موسى ، او عصا موسى من آس الجنة وتوارثها الناس حتى شعيب , واسماؤها : ماسا , نفعة , غياث , عليق , اما الادوات والتحولات الاسطورية التي يحكى عنها فهي : شعلة ضوء , دلو ماء , افعى رهيبة , شجرة تثمر مايراد , اداة حرب , جرافة , فلق البحر , ناقلة في الاسفار , قارورة عطر , الكلام , الارشاد ..وبكلمة : لهذه العصا دور اجتماعي , زراعي , بحري , بري ، حربي , ترفيهي , ثقافي ..) .
ومن ناحية اخرى يمكن ربط مدلول العصا العكاز باسطورة اوديب , فهي جزء من اللغز الذي القاه ابو الهول على اوديب في السؤال : من هو الذي يمشي في الصباح على اربع وفي الظهيرة على اثنتين وفي المساء على ثلاث ؟ انه الانسان الذي يعود الى الضعف بعد القوة فيستعين بالعصا ليتوكأ عليها حتى تكون رجلا ثالثة له لا يمكنه الاستغناء عنها والا سقط ارضا وعاد يزحف على اربع .
واذا كان العكاز يلتقي مع الفراشة في دلالة الضعف فأنه لا يلتقي معها في صفاتها الاخرى كالجهل والطيش والحمق , بل يقف في النقيض منها تماما فهو رمز الحكمة والتاني والتؤدة في النظر الى تصاريف الحياة لكن هذا التناقض لا يعني انبتات العلاقة بين الاثنين اذ يحكمها الجدل , ونجد لدى حسب حنينا الى عهود الصبا وخفة الحركة وهذا ما يجعل الفراشة رمزا الى بدء الحياة , والعكاز الى انتهائها , وبين الطرفين يقف الشاعر راصدا .
ان اختيارنا معنى الحكمة والتأني للعكاز لم يكن اعتباطا وانما هو اختيار ترشحه سلسلة من القرائن التي تؤكد هذا القصد لدى حسب في ديوانه هذا بل هو يبدا ديوانه بأشارة واضحة الى الحقبة الزمنية التي بلغها من العمر في اول القصيدة الاولى اذ يقول :
قبل ان اتوخى الحذر
قبل ان يتقوس في الحبس ظهري
ويبيض مني القذال
وهذا تحديد واضح للصورة التي بدا عليها اللسان المتحدث في الديوان , والسطر الاول يعني الاندفاع والطيش في زمن الصبا والسطران الاخيران يحددان الزمن والحال التي هو عليهما الان , ثم يسند ذلك بتكرار الفاظ الشيخوخة وما رادفها بكثرة هذا فضلا عن اشارة حسب نفسه الى اسطورة اوديب ، وهو لا يريد ان يتبع اسلوب الحكيم التفليدي الواعظ ، فانما هو يعرض الحال ، والوعظ بالحال ابلغ من الوعظ بالمقال ، فهو لا يعبر عن شيخوخته هو ، بل شيخوخة الواقع الموضوعي الذي يحيا فيه مع سواه ، او ان هذه الشيخوخة هي رمز لما آل اليه الواقع ، لذا نرى ان عصا حسب ليست عصا موسى السحرية القادرة على التغيير والتحويل ، وانما هي عصا سليمان ، العصا المنخورة التي لا يمكن الاستناد عليها كما بين ذلك في مقطع من قصيدة ( النهر الدفين) : عصا يرتعي السوس منها
وترعى القصائد فيها
وتلقى على الارض ، يلقى بها والبلى والملوك
وتخضر في اي كف هلوك
فمن كان في صحبة الصاحبين السفيها ؟kh hasab 6
محتوى الديوان : وصف “الفراشة والعكاز” بأنه ديوان شعر على غلافيه الخارجي والداخلي وهذا ما ينبئ بأنه مثل سائر دواوين الشعر , ولكن حسب ضمن ديوانه هذا انماطا اخرى سأقف عندها وهي كالآتي :
– بدأ الديوان بأهداء غامض بالصيغة الآتية : اهداء الى جلال … , ولم يتح لي ان اتبين المقصود بهذا الاسم العلم غير المعرف .
– اورد حسب لديوانه تصديرا من غير عنوان مستمدا من حكايات التراث في ثلاثة نصوص , يبدأ الاول بـ(سمع احد الاولياء هاتفا يقول …) والثاني : (وسمعوا الدراج وهو يصيح : ) والثالث : (وقال الطائر ..) وتجمع هذه المقتطفات على امر الانفراد والغربة والاستيحاش من البشر , وقد استجمع هذا التصدير مرجعية بناء الديوان كلها , فهذا هو محوره , وكله تفصيل له ونسج على منواله من حيث الفكرة الرئيسة والغاية التي يريد توكيدها .
– احتوى الديوان سبع عشرة قصيدة من شعر التفعيلة الموزون جاء اغلبها متقاربا من حيث الحجم اذ وقعت ما بين صفحة واحدة الى صفحتين مسبوقة بعناوين واقتباسات دالة .
– ضم الديوان محاورة شعرية مسرحية بعنوان “الصفارة” قدم لها بتصدير استقاه من شعر ابي نواس هو وقوله : ( سهوت وغرني املي وقد قصرت في عملي ) وهو اختيار ذو طابع صوفي ربما يعود الى اخريات حياة ابي نواس , واردفها بعنوان فرعي هو “محاورة شعرية في ذكرى موسى ولطيف وسلمان” , وهي اسماء اعلام غير معرفة ولكنها شخصيات تمارس فعل الايهام والتوهم في مكان واقعي هو الحديقة الخلفية , حديقة اتحاد الادباء العتيقة المهملة وخلفها مستشفى المجانين , وقد جمعت بين النثر الذي يقدم ويصف وبين الحوار الشعري السردي الذي يجريه الشاعر على لسان شخصياته , وقد جعل الصفارة صفارة الحارس الليلي تنذر بانتهاء رحلة الحياة والافاقة من وهمها , وقد وصف حسب عمله هذا بأنه اول عمل مسرحي شعري له .
– وقد صنع حسب ما يشبه العمل المسرحي بعنوان “الخيط المقطوع” وهو خيط الحياة الذي لم يعد بالامكان ايصاله و بدأه باقباس من الفيلسوف الالماني نيتشه , يقول فيه : (ليست الاعالي هي التي تخيف بل هي الاعماق!) ثم اورد اهداءا : الى لينا ذكرى “النورس” خريف 1964 , ولينا هي صديقة الشاعر الاثيرة اثناء اقامته في موسكو في تلك الحقبة , وقد ساق حسب في عمله مقدمات وصفية نثرية بحسب المناظر التي قسم اليها عمله ثم ادار الحوار الشعري على لسان الشخصيتين الرئيستين وهما الفنان والشحاذة .
– ضم الديوان مجموعة من القصائد ذات المقاطع القصيرة التي تعتمد مبدا الاثارة والمفارقة , جعلها تحت عنوان “من صحائف الشيخ الساهي بن يقظان” وهو اسم يقوم على مبدا التناقض الدال لا يمت بصلة الى شخصية حي بن يقظان التي ابتدعها ابن طفيل كما صرح الشاعر بذلك وان كان التقارب اللفظي بينهما واضحا , وقد حاول حسب الشيخ جعفر ان يتبع طريق الايهام في هذا العمل اذ نسب هذه القصائد الى حزمة اوراق تركها رجل غريب منذ زمن عثرت عليها امرأة وسلمتها الى الشاعر عله يعرف صاحبها او يتصل به من يعرف عنه شيئا وقد افاد حسب من صفة الشيخ وصوفيته ليسبغ على قصائده لبوس الحكمة الشرقية المتأملة .
– اما العمل الاخير فهو بعنوان “اغنية السنونو البيضاء” واردفه بعنوان فرعي هو “تخطيط تلفزيوني” وهذا يعني – ظاهرا- انه ينوي تقديم عمل يفيد من تقنيات التلفزيون في العرض والاخراج ولكنه يقدم عملا شعريا يعتمد الحوار بين شخصيتي الشاعر والراقصة يتخلله عبارات او فقرات نثرية توضح بعض المفاصل .
ان هذا التنوع الذي زخر به الديوان يرجع الى رغبة حسب في كسر الانماط المألوفة والسعي الى اغناء القصيدة بتقنيات الفنون المجاورة , وقد كتب حسب ديوانه هذا في منتصف تسعينات القرن الماضي وهي حقبة لها دلالتها السوداء في تاريخ العراق المعاصر .
مصادر حسب :
يقف حسب في ديوانه هذا موقف الرائي المتأمل الذي ينظر الى حركة الحياة برؤية تختزن تجارب رحلة طويلة افضت في نهايتها الى اللاشيء اذ يقف العالم الخرب على حافة هاوية سحيقة لا مناص من السقوط فيها , ولودققنا في رؤية حسب هذه التي تبدو جديدة في مسيرته الشعرية لوجدنا لها اصولها المتنوعة التي استمدها من مكونات ثقافته الفلسفة والادبية الواسعة بعد عمر افناه في التلقي الحصيف , وسواء امكننا ان نصل الى حقيقة مصادره بالاحالة ام بالاشارة فاننا على ثقة من التقاء تلك المصادر مع روافد ادبية ذات اصول فلسفية شاعت في القرن العشرين وكانت لها اثارها في مجمل نتاجه , وسنذكر منها ما كان له ظهور واضح في ديوانه ويمكن الاستدلال عليه بالقصائد التي تؤكد تلك الرؤية او تتجاوب معها ولو من بعيد ؛ ولعل من الصعوبة البالغة فصل تلك المصادر او الاشارة اليها منفردة ذلك بأن حسب لا يستعملها عن وعي او قصد انما هي منصهرة في حصيلة واحدة لا تكاد تنماز من بعضها .
-ا حسب ينطلق من ديوانه هذا , مستندا الى المصادر التي استمد منها و من شعور عميق بالخيبة لما آل اليه حال الانسان المعاصر (ولا شك في ان مثل هذا الشعور بخيبة الامل , وان مثل هذا الانهيار لجميع المعتقدات التي كان الايمان بها راسخا اصبحا من الصفات التي يتميز بها عصرنا , والاسباب الاجتماعية والروحية لمثل هذا الفقدان للمعنى عديدة ومعقدة منها : تضاؤل الايمان الديني الذي ابتدأ مع عصر التنوير وادى بنيتشة الى الحديث عن تلاشي الايمان بالله في الثمانينات من القرن الماضي – التاسع عشر – وانهيار الايمان الليبرالي بحتمية التقدم الاجتماعي وذلك في اعقاب الحرب العالمية الاولى وخيبة الامل في ثورة اجتماعية راديكالية تنبأ بها ماركس وذلك بعد ان حول ستالين الاتحاد السوفييتي الى استبدادية جماعية , والردة الى البربرية وذبح الجماهير والمجازر البشرية خلال حكم هتلر القصير لاوربا اثناء الحرب العالمية الثانية , والى ما تلى هذه الحرب من انتشار الحخواء الروحي في مجتمعات غرب اوربا والولايات المتحدة التي هي في ظاهرها مزدهرة في بحبوبحة من العيش , ومما لا شك فيه ان عالم منتصف القرن العشرين قد فقد معناه في نظر كثير من الناس الذين يتمتعون بالذكاء ورهافة الاحساس وانه بكل بساطة لم يعد له معنى .
لقد انحل ما كان يعد يقينا من قبل وانهارت اسس الامل والتفاؤل الراسخة وفجأة وجد الانساننفسه امام عالم مخيف وغير منطقي اي بأختصار لا معقول وسقطت فجأة جميع عهود الامل وجميع تفسيرات المعنى الغائي فاذا هي سراب خلب وهراء اجوف وصفير في الظلام , واذا حاولنا ان نتخيل مثل هذا الوضع في الحياة الاعتيادية فسوف يكون ذلك معادلا لتوقفنا فجأة عن تفهم حديث يجري في حجرة ملأى بالناس , وان ما كان له معنى في لحظة قد اصبح في اللحظة التالية عجمة وهذيانا بلغة اجنبية , وان ما كان يعد مشهدا مألوفا ومطمئنا قد تحول في الحال الى فزع وكابوس احلام)
– الفلسفة الوجودية : اذا كانت الوجودية قد ابرزت الحرية بوصفها الغاية التي يسعى اليها الفرد فانها قد جعلت بمقابل تلك الحرية ضريبة قاسية وهي الشعور بالهجران والقلق الذي يقود الى العبث والغثيان , واذا كانت الوجودية قد جعلت الوجود يسبق الماهية فانها رهنت ذلك بالانقياد الى العدم (والعدم عنصر جوهري اصيل يدخل في مقومات الوجود وهو يكشف عن نفسه في حال القلق التي هي الحال الوجودية من الطراز الاول) وقد يكون شيوع هذه الرؤية وليد ظرف زماني محدد هو الحربان العالميتان الاولى والثانية وما نتج عنهما من تحطيم لكل المبادئ الانسانية والمثل الاخلاقية ولكنها وجدت تمثيلها الفكري الناضج على يد الفرنسي جان بول سارتر (ت1975) فيلسوف الوجودية الاشهر الذي (ربط الحرية بمفهوم العدم فذهب الى ان الانسان هو الموجود الوحيد الذي يستطيع بفعله ان يقحم العدم على الوجود وقرر ان حريته لا تخرج عن كونها مظهرا لوجوده الناقص الذي يتخلله العدم من كل جانب ومعنى هذا ان الحرية السارترية قد ارتبطت في ذهن صاحبها بذلك العدم الذي يفصل الانسان دائما عن ماهيته , وكأن الانسان هو الموجود الوحيد الي يملك القدرة على افراز ذلك العدم الذي من شأنه ان يعزله عن باقي الموجودات) .
– اللامعقول : مصطلح مسرحي في اصله ( يطلق على جماعة من الدراميين في حقبة 1950 لم يعدوا انفسهم مدرسة ولكن يبدو انهم كانوا يشتركون في مواقف بعينها نحو ورطة الانسان في الكون) وقد شاع مسرح اللامعقول في الظروف نفسها التي ساعدت على اشاعة الفلسفة الوجودية فهو يستمد منها مبادءه ورؤيته مجسدة في اعمال تطبيقية , ويشتركان في اثارة المشكلات نفسها التي تواجه الانسان في محنة وجوده (كالحياة , الموت , العزلة , التوصيل) والشعور بالقلق الذي يمثل مبدأ من المبادئ الرئيسة التي يشتركان فيها .
غير ان المؤمنين باللامعقول ركزوا على مبدأ مهم هو العبث فزادوا على ما قالت به الوجودية واصبح العبث هو المآل الاخير الذي يغمر شعور الانسان نتيجة القلق , والشعور بالعبث (يمكن ان يصفع اي انسان يقف على ناصية اي شارع , ولادة الشعور المباشرة هذه تأتي عادة في واحد من طرق اربعة او في عدد منها) ويمكن تلخيصها بالطبيعة الالية للحياة التي تقود الى التساؤل عن قيمة الوجود وغايته والاحساس الحاد بمرور الزمن , وان الزمن هو قوة تدمير واحساس المرء بانه متروك في عالم غريب يؤدي الى الشعور بالغثيان , فضلا عن شدة الاحساس بالعزلة عن الموجودات الاخرى .
ويعرف البير كامي(1913-1960) العبث بأنه (غياب التواصل بين حاجة الذهن الى التماسك وبين فوضى العالم التي يعانيها الذهن , والجواب الواضح يكون اما بالانتحار او على النقيض من ذلك طفرة في اللايقين) ولعل افضل تجسيد لذلك نجده في مسرحيات صموئيل بيكت (1906-1989) سواء في شخصياته المسرحية ام اللغة العاجزة التي ادارها على السنة تلك الشخصيات .
ويفيد البير كامي من التراث اليوناني في جلاء الشعور بالعبث حين يشبه الانسان بسيزيف الذي حكم عليه بحمل صخرة شقائه الى الابد (فالانسان يشقى في غير جدوى , ويجهد نفسه بالغ الجهد وجهده ضائع ويعمل اناء الليل واطراف النهار ولا يبلغ من عمله شيئا “كل ما في الوجود عبث” وياليته شقى واجهد نفسه وعمل دون ان يشعر , اذن لما احس بالعذاب ولما ادرك ان كل شيء عبث , ولكن مصدر العذاب هو هذا الشعور او الوعي الذي ينتاب الانسان في بعض اللحظات النادرة في حياته , اعني تلك التي يخلد فيها الى نفسه ويفكر في قيمة ما يعمل , هناك تزلزله هذه الحقيقة الاليمة الرهيبة : “كل ما في الوجود عبث” ) .
– فلسفة التشاؤم : يمثل التشاؤم احد طرفي ثناية يقابل بها التفاؤل , وقد آمن به بدرجات مختلفة كثير من الفلاسفة والادباء والفنانين , وقد يكون شاعر المعرة ابو العلاء المعري (ت4) احد ابرز هؤلاء الذين كانوا في متناول ثقافة حسب الشيخ جعفر الادبية والفلسفية على السواء , ولهذا الاتجاه ما يسوغه اذا نظر المرء الى طبيعة الحياة وما فيها من شر , وما تؤول اليه بعد الجهد والعذاب في نهايتها الى الموت الذي لا بد منه , فالحياة هي رحلة الم تفضي الى السأم ثم الموت لذا هي (شر يشهد به النظر في ماهية الالم واللذة , الالم انفعال ايجابي هو ترجمة مفيدة للحياة , واللذة هي ارضاء هذه الحاجة وتلطيف مؤقت لها) وهذا ما يؤكده , بعد ان آمن به الفيلسوف الالماني شوبنهاور (1788-1860)الذي يعد فيلسوف التشاؤم في الفلسفة الحديثة فهو يرى ان (الحياة شر لأنه لا يكاد الانسان يشعر براحة الالم والحاجة حتى يتملكه شعور بالسآمة والملل مما يدفعه الى البحث عن شيء يعوضه عن شعوره بالملل والسآمة ويبدأ في مواجهة المزيد من الالم … والحياة شر لأنه كلما صعد الكائن العضوي وارتقى زاد ما يقاسيه من الالام وان زيادة معرفته لن تحل مشكلة آلامه) لانها تعني مزيدا من الاطلاع على هذه الالآم وقسوتها (وكلما زكا العقل ودق الشعور اشتد الاحساس بالالم فالم الانسان اكثر واشد من الم الحيوا ن , لذا يتفاوت الناس في عدد الامهم وقوة شعورهم بها) ويتعزز الشعور بالتشاؤم كلما تقدم العمر وآذن بالافول (فالشيخوخة تحرر صاحبها من العاطفة الحيوانية التي استبدت به ولم تتوقف عن تحريكه حتى ذلك الوقت , ومع ذلك لا يجوز لنا ان ننسى انه بعد خمود هذه العاطفة فانها تأخذ معها حبة الحياة ونواتها ولا يبقى سوى القشرة الجوفاء , وتتحول الحياة عندئذ الى مهزلة بدأت بممثلين حقيقيين وانتهت اخيرا باشباح آلية ارتدت ملابسهم وحلت في مكانهم) وهذا ما يفسر لنا ابتعاد الشباب عن الشعور بالموت (ففرح الشباب ومرحه ناجم عن اننا لا نرى الموت عندما نكون صاعدين الى ربوة الحياة لأن الموت في اسفل الجانب الآخر من الهضبة , فاذا اقتربنا من نهاية الحياة فأن كل يوم يمر بنا يبعث فينا نفس الاحساس الذي يحس به المحكوم بالاعدام في كل خطوة يخطوها في طريقه الى المشنقة) .
وأظن ان حسب قد قادته خطاه الواهنة الى الجانب الآخر من الهضبة وواجه الموت واحس به ، ان لم يكن في واقع الحال ففي رؤية الفنان والفن مهرب مؤقت من الشعور بالموت في اقل تقدير .
– الشعراء السابقون : كل شاعر هو نتاج اسلافه السابقين , واذا كان من غير الممكن عمليا تفكيك ذاكرة الشاعر واستخراج ما اختزنته من الشعراء السابقين فأن من الممكن ان يحاط ببعضهم بالاستدلال على ابرز آثارهم في نتاج الشاعر اللاحق , وحال حسب حال غيره ، غير انه ينماز من سواه بأنه يحسن إخفاء ما تجود به ذاكرته , بل هو احيانا لا يقدم شيئا واضحا يمكن رده بنصه الى مصدره فهو مثقف يعيد انتاج مقومات ثقافته بما تمليه عليه رؤيته واسلوبه الفنيان , لذا نجد حسب يلتقي مع كبار شعراء العصر على سبيل التمثيل لا الحصر : ت.س.اليوت (1888-1965) الشاعر الانكليزي الذي ربما يعد من اكثر الشعراء اثرا في الحركة الشعرية العربية الحديثة (على ان تأثير اليوت الاكثر اهمية في شعرنا الحديث لم يقف عند حدود الاقتباس والتضمين بل جاوزه الى الاثار البعيدة غير المباشرة التي منحت القصيدة العربية الحديثة اداءها الجديد فقد كانت قصائد اليوت اهم الصوى التي استعان بها شعراؤنا في الطريق المضبب المتعثر الفاصل بين التراث وبلورة المصطلح الشعري الجديد كلافادة من الاساطير والثقافة ورشاقة التصوير ودقته والتكرار الموحي والمفارقات الدرامية والمنولوج واسلوب الدعاء والصلوات واستعمال نغمة الحديث والالفاظ الدراجة جنبا الى جنب مع الالفاظ المحافظة والتداعي السريع بين اللقطات وتقسيم القصيدة على مقاطع وحتى شذوذ التراكيب الظاهري والجمع غير المتوقع بين مواد من تجارب متباعدة بقصد احداث اثر كلي يوحي اكثر مما يقرر) ولكن حسب لا يلتقي مع ما التقى معه الشعراء العرب حسب , بل يجاوز ذلك الى نقطة اكثر اهمية هي شعور اليوت بخواء هذا العالم وحطة وخسته واليأس من صلاحه اذ ينصب جل همه على الموت والشيخوخة وانعدام المحبة وتفكك الروابط الاجتماعية وهو ما يجعل حسب – في ديوانه هذا في اقل تقدير – ينظر من الزاوية نفسها التي نظر منها اليوت الى الحياة وما فيها من الخراب يقود الى الموت الاليم , لذا نجد في الديوان مفردات كثيرة يمكن ارجاعها الى اليوت مثل : السأم والضباب والقلق والحديث عن شيخوخة العالم وغيرها .
ويلتقي حسب مع الشاعر الفرنسي الرجيم شارل بودلير (ت ) ولا سيما في ديوانه “أزهار الشر” حيث الغضب على هذا العالم الدنس والثورة عليه , فيستمد منه حسب بعض استعمالاته , لذا تكررت لديه رموز الخراب كالعثة والجثة والبومة والخلد والمرأة القاتلة وغيرها , ويعزز هذا ذكر حسب نفسه للشاعر بودلير في اكثر من مرة في ديوانه .
ويمكن ان نعد الروائي الروسي تيودور ديستوفيسكي (ت ) مصدرا ذا اثر واضح لدى حسب يتجلى في الاقتباسات التي صدر بها بعض قصائده ، وفي الاشارات التي ادرجها في تلك القصائد ايضا ، هذا فضلا عن المضمون الكلي الذي يتناغم معه من بعيد .
وكذلك (الواقعية السحرية ) التي وجدت اوسع انتشار لها على ايدي كتاب امريكا اللاتينية في القرن العشرين ، فهو يبدا من الواقع المرصود لكنه سرعان ينتقل به الى عالم سحري يشبه عالم الف ليلة وليلة ويتناغم معه ، بل هو يذكره وينص عليه ، ولا غرابة في الدمج بين العالمين لان الف ليلة وليلة اصل رئيس من اصول الواقعية السحرية الحديثة .
ويبدو ان حسب قد بلغ هذه المرحلة المتشائمة بعد ان مر بمرحلة روحية فيها قليل من الصوفية جاءته في بعض صورها من ترجمته لقصائد مختارة من الشاعر الروسي الكساندر بلوك ذي الاتجاه الرمزي الروحي , ولو دققنا في المقدمة الطويلة التي كتبها حسب لتلك الترجمة لوجدنا ميلا واضحا لديه في الاهتمام بهذا الاتجاه وابراز الحرية الروحية والبحث عن روح العالم الخالدة المتمثلة بالانوثة الابدية , وفيها (تتضح معاناة الذات الشاعرة لدى بلوك وتطلعها الى الاحساس بالوصول الى الوحدة الكونية الابدية التي تفتح الطريق من ظلام الليلة المدلهمة – الغربة الارضية – الى النور العظيم للنهار الآتي) ولكن يبدو ان حسب لم يستطع الولوج من الظلمة الى النور وظل يجوب في ظلام الغربة الارضية (ولم يزل الشاعر في محاولة العبور الى الشاطئ الاخر , وهو يترقب تدخل قوة ما تضم في اناء عميق واحد كلا من وجدان الفراشة الجميلة وصبر الجمل النافع المثابر وتكشف للعالم عن الضرورة الحرة والوعي بالواجب الرائع) ازاء عالم فرض عليه العيش فيه ومواجهة كل ما فيه من مآس تفتح العين والنفس والعقل على هوة موحشة عميقة .
ابرز مظاهر الديوان
غالبا ما وجد النقاد في تصدير الشاعر ديوانه مفتاحا مهما لدراسة ما في الديوان ، وقد شاء حسب الشيخ جعفر ان يطيل في تصديره الذي اسبغ عليه سمات الغيب واسلوب الحكي في التراث العربي وهو يدور حول فكرة مركزية هي الهرب من مواجهة الحياة واهلها والاعتصام بالانفراد والعزلة استيحاشا منهم , فالهاتف ينصح احد الاولياء بأن يكون في الدنيا فريدا وحيدا طريدا مهموما حزينا كالطير الوحداني , والطائر يقول في آخر عهده في صحبة الناس : (وانا الغريب الطريد الفريد الوحيد قد تزودت من عندكم من الحزن عبئا ثقيلا لا يحمله معي احد) والدراج يتعوذ من شر بني آدم !
وهذا يعني ان حسب قد اعلن بوضوح وصراحة عن اخفاقه في معاشرة الناس في الحياة الدنيا وهو يسعى الى العزلة عنهم لينجو بنفسه او ينطوي عليها , وهذا ما يجعلنا نربط هذا الشعور بما انطوى عليه ادب واحد من اهم قصاصي العراق المعاصرين هو القاص فؤاد التكرلي الذي يدور اهم نتاجه على محور بنية الاخفاق كما بين ذلك الناقد فاضل ثامر الذي وجد (ان اغلب ابطال التكرلي يواجهون تجربة الاخفاق في حياتهم ولهذا فهم يجدون انفسهم في كثير من الاحيان امام طريق مسدود الى الموت او الانتحار او الجريمة او خرق العرف الاجتماعي السائد) واذا كان حسب لا يلتقي حتما مع التكرلي في النهايات اتي يوصل اليها ابطاله او شخصياته فان شخصيات حسب كشخصيات التكرلي من ناحية الاحساس (بهذا الاستيحاش والاغتراب داخل العالم , وهي غالبا ما تظل وحيدة معزولة مقرورة , ومما يعزز ذلك ان قصص التكرلي غاليا ما تعتمد على شخصية محورية واحدة مما اتاح الفرصة الكافية لتسليط الضوء على طبيعة هذه الشخصية وتحليل معاناتها الداخلية وردود افعالها ازاء الواقع الخارجي واهم من ذلك الكشف عن عوالم الاخفاق والفشل والخيبة في حياتها) وهذا ما نجده واضحا لدى حسب الذي يدرج شخصياته في قصائده – وهي ذات منحى سردي سنقف عليه لتواجه مصيرها المحتوم في النهاية الفاجعة , وهو لا يتوانى ان يبدا ذلك من اول قصيدة في الديوان فالظل الوحيد الذي يوحي بامرأة ينتهي الى الموت شنقا :
وهنا انفتح الباب عنها معلقة
كالرداء المعلق في الحبل مائلة , متمايلة
في اتجاه الستار
وانا والمحطة والناس فيما وراء الستار !
والستار رمز العزلة والوحدة بعد ان شنقت المرأة وهي رمز الحياة , وهذا يعني ان حسب ينطلق في ديوانه هذا من لحظة انتهاء الحياة وانطواء ظلها وما ينتج من شعور بخيبة عميقة تملأ نفسه باللاجدوى وما هي الا اباطيل .
ولا يكتفي حسب بقتل المرأة حسب بل يجعلها قاتلة ايضا تستعمل الشنق اداة في ذلك , وهذا ما تظهره بوضوح قصيدة “القفص” فالمرأة تعيش في النهار مع صقر حبيس وفي الليل تتصيد المتوحدين من طرقات المدينة :
في قصرها العالي المطل بشرفتيه
تخلو الى الصقر الحبيس
في عزلة المتعبدين !
ومع المساء تعد مائدة وحفلا
وتخبئ الاقراص عن قرب , وتنتهر القطط
وتلف كالساعي المدينة او تجوب الدرب
كالسكرى بمركبة طويلة
تتصيد المتوحدين !
وقد جعل حسب الصقر ثالثا بين المرأة وضحاياها , وهو دافع لفعلها فهو رمز الرغبة المتوحشة في القتل وافتراس الضحايا :
فاذا استفاق الطير* في القفص المدلى
وتسربل الضيف المخدر بالكرى
شدت الى الوتد المعلق حبلها الضاري الطويل :
وهناك في الظل الظليل
تتلقف الموتى الحفر
ويهال بالرفش الثرى
تحت العرائش والنخيل !
ان مهمة الصقر لا تنتهي في القصيدة عند هذا الحد , وانما هو الدافع الدائم للجريمة فعندما تهدأ رغبة المرأة في الانتقام قليلا اذ تنام في مقعدها الوثير :
يرنو اليها الصقر من حين لحين
ويصيح كالحراس في الضوء الكليل !
فاذا بها من نومها
تمشي كما تمشي المليكة في اختيال
وتشد في الوتد الحبال
وتطيح بالكرسي عن ظل يحوم ولا يرى
وتجره كالكيس في الممشى الطويل !
اما الحبل والحبال فكانت وسيلة المرأة في الشد والجذب ، اي التحكم وانزال العقاب في نهاية المطاف فهي رمز العمر الممتد ولكنها اداة القتل ايضا .
قدم حسب المرأة القاتلة في صورة من الرقي والحداثة فهي تتصيد ضحاياها في سيارتها الفخمة “الكاديلاك” وترخي عليهم ستائرها الوثيرة ! وهذا ما صنعه ايضا في قصيدة “آلة الليل” فالمرأة هنا فتاة غلاف شهيرة تملأ صورها الشوارع والساحات وتظهر في اعلانات لفائف التبغ , هذا في النهار , ولكنها :
ومع انتصاف الليل تخرج في ارتخاء الضوء
من خلل الصور
وبخطوها الليلي ترقى السلم العالي ,
وتكمن في انتظار !
فمتى انثنى متسللا في غفلة منا , وسار
رجل الى اوكارها التفتْ عليه فلا يفيق !
وقبيل ان يتدارك الليل والنهار
تلقي بجثته الى الركن الظليل
وتعود ملء عيوننا المتضببات الى الجدار
يؤكد حسب في هذه القصيدة مبدأ الخيبة والاخفاق الذي كان عنصرا اساسيا في ديوانه هذا , فهو يحاول الثأر للجثة الطريحة ولكنه يلتحق بصاحبه – الذي هو هو – بطريقة اخرى تجعله محل سخرية المرأة الضحوك :
فتعثرت قدمي بجثته الطريحة ,
والتفت الى الجدار :
(سأطيح بالصور الصفيقة عنه)
فالتصقت يداي
برطوبة الورق المثبت ,
واحتدمت اريد نزع يدي عنه ,
فما اقتدرت , ولم اجد احدا سواي !
وتدارك الليل النهار
وانا احدق في الصور
متحجرا لصق الجدار !
لصق السمنت , ولم تزل هي في ابتهاجها الضحوك ترمي الغلائل للرياح
وللمطر !
انها الخيبة واللاجدوى التي تفتح باب التأويل امام استعمال حسب المتكرر للجثة بصور مختلفة ويمكن ان جد لها أصلا في مسرحية “ميديه” ليوجين ينسكو (1909 – 1994) فهي تؤخذ (صورة شعرية , ومن طبيعة الاحلام والصور الشعرية ان تكون غامضة وان تحمل في الوقت نفسه حشدا من المعاني ومن ثم فأن من العبث ان نسأل مالذي ترمز اليه صورة الجثة ومن ناحية اخرى يستطيع المرء ان يقول ان الجثة قد تثير في النفس القوة المتزايدة لاخطاء سابقة او لجرم ماض , وربما ذبول الحب او موت الود اي انها على اية حال رمز لشر ما يتقيح ويزداد سوءا مع مرور الايام , ويمكن ان ترمز الصورة لفكرة واحدة من هذه الافكار او لها مجتمعة ، وان قدرتها على احتوائها هذه الافكار كلها تعطيها القوة الشعرية التي تمتلكها من غير شك) .
صور اخرى للمرأة : قدم حسب المرأة في صور مختلفة , ولكنها تكاد تجتمع عند نقطة دلالية واحدة هي نفسها النقطة المحورية في ديوان حسب كله وهي العجز واليأس والخراب ثم الموت معنويا كان ام ماديا , ومن ذلك صورة المراة الشحاذة او المتسولة كما في قصيدة “صندوق الدنيا” التي تختزل حكاية شحاذة :
أفضى الفضول بخطوتي ليلا الى الجسر العتيق
فبدت حيال المعبر السفلي في الضوء الهزيل
شحاذة دباء تومئ باليدين
(شلل) ألم بها فاقعدها هناك !
لكن حسب سرعان ما يغير هذه الصورة البائسة للمرأة ليدخلها في عالم سحري حين تصل مأواها الرثيث ليتحول الى خدر ذهبي :
قالت : (سترحل فانتزع هذي الثياب
واليك اردية الملوك الغابرين!)
وادارت المفتاح فانفتح الجدار!
وتعود الشحاذة الى مكانها عند الجسر العتيق بعد انقضاء الليل :
ولم تبرح تقص الى الصباح
قصص (الليالي الالف) من يوم ليوم
في خدرها الذهبي , في اثوابها الخضر الفساح !
ومع الصباح
تعود ظالعة الى الجسر العتيق !
اما في قصيدة “ممر الزيزفون” فيقدم حسب شحاذة عراقية الملامح ترتدي العباءة وهي تصطحب طفلة تهدي اليها النقود وتعود لتبتسم في ارتياح كما بدأت ولا شك في انها صورة واقعية تمثل تماما عصرها في تسعينات القرن الماضي وان استطاع حسب ان يخفي انتماءها في ظلاله الشعرية الكثيفة , وهي تظل دليلا على عالم الخراب الذي يبرزه حسب في الديوان .
المرأة الشيخة : جعل حسب نساءه ينطوين على صفات الخيبة والعجز , وتحمل الشيخوخة هذه الصفة , لذا قدم حسب بعض نسائه في زمن شيخوختهن , ومن ذلك ما اورده في قصيدة “العثة” اذ جعل المرأة في الثمانين وحيدة , منعزلة يهيمن عليها الفتور وثقل الحركة فيجعلها كالنائم اثقل جفنيه النعاس , او كالمريض المخدر , وحين يكسر هذا السكون بطرقات على بابها الموصد تصيبها الخيبة ايضا اذ لم يكن الطارق سوى طفل طيرت قدمه كرته !
وفي “حفل في العراء” يقدم حسب امرأة شيخة تستجدي شيئا من علامات الحياة من دون جدوى :
وهنا اقتربت شيخة
يلفح النفس الوجه من مثلها ويفوح الكحول
ساعة امتقع الضوء في الثلج
والتم , في حانة , بالصحاب الكحول
وهي تسأل (نفحة)
يتساقى بها في الزوايا السكارى الكحول
في النثيث القروي
والريح تلتف ملتاعة تتشهى الكحول !
ثم يتجه حسب بالمرأة نحو الموت , فبعد ان قدمها عاجزة خائبة يوردها الموت , ومن ذلك ما اشار به الى النسوة الاموات في قصيدة “البلدة الزائلة” :
وتمر النسوة الاموات في السوق ظلالا مبهمة
يتلمسن العباءات ويمضغن العلوك
ويطففن حبالا لم تزل تعلو وتدنو
بالموازين انتظارا كالمشانق
وبافواه الحوانيت التجار
يتلوون خيوطا كالدخان !
انها صورة واقعية اخرى للسوق العراقية المحاصرة بالتجويع والغلاء .
لقد انتهى حسب بالمرأة الى الموت من حيث بدأ بها من العجز والخواء والخيبة والقنوط مثلما فعل مع الرجل ايضا , وبهذا يكون حسب قد احكم طوق الموت على طرفي الوجود المرأة والرجل فلم يبق في الحياة الا صور اشباح نخرة , واجساد بالية لا حياة فيها او لها , فالخراب يعم الوجود ويشل حركته .
الخراب : من المهيمنات الرئيسة في ديوان الفراشة والعكاز , فبعد ان انهى حسب الحياة ممثلة بالمرأة وحولها الى قاتلة بدأ يسرد آثارها , وتمثل قصيدة “المنقار” واحدة من تلك الآثار , فالرمز الذي استعمله حسب هو بومة محشوة بالقش , والقش رمز الفراغ , فهي في اصلها مجرد لعبة لا اكثر لكنها تتحول الى وحش قاتل مفترس اداته في ذلك المنقار المدمى :
وارى البومة من فوقي تحوم
ساعة قبل اعتكار الضوء في الكوة فجرا وتعود
(رمة) محشوة الجلد بقش وخيوط !
انما اربكني منها الخروج
وعراك القطط الحمقى ببابي وانتثار
اعظم الفئران في الحجرة والريش المدمى
لا تبعد هذه القصيدة عن بعد سياسي واضح فهي تشير الى السلطة في العراق وضحاياها الذين لا حول لهم ولا قوة , واما الحجرة فهي هذا الوطن المحجور فيه اهله كالاسارى العاجزين .
ان التخلص من البومة لا ينجح , فالمحاولة الاولى بيعها لاحد الصبيان :
وسريعا ما تخلى
عائذا بالله من منقارها الدامي الملطخ
واتقاد الشر الاصفر في احداقها الزرق الصقيلة !
وكذا المحاولة الثانية , اذ تعود البومة ليس على الخرائب وهو مكانها المعتاد ولكن :
بين اطراف القرى والنخل ليلا في المزارع
وهي تحت الكوة المنفتحة
لم تزل تنفض عنها القطرات الدبقة !
اما رمز الخراب الاخر الذي استعمله حسب فهو (العثة)* وهو عنوان القصيدة التي تتحدث عن امرأة في الثمانين :
تتمطى الثمانون من حولها
يتمطى الفتور
صورا في اطاراتها اكلتها العثث !
وامتلاء الحقائب , في ظلها , كانتفاخ الجثث !
ومن رموز الخراب المهمة لدى حسب (الخفاش) فهو الطائر الليلي الذي يأنس بالظلام , وقد جعله حسب مرادفا لروح الشر التي انتزعت الحياة من الشاعر , ويشير الاهداء الى روح (فاوست) الى امكان المقايضة نفسها التي اجراها الطبيب فاوست مع الشيطان بأن منحه القدرة السحرية العجيبة , لكن حسب يجعل (الضروس) وهي رمز الفتوة والقدرة بدلا من الروح في حكاية فاوست مقابل الخمر , اي التمتع بلذة الحياة وسكرة الشباب , ويظهر الخفاش في قصيدة حسب بصورة مصاص الدماء :
ملقى وفي الضوء الكليل المروحة
تلقي على السقف المخطط ظل مصاص الدماء !
فضت قماقمها الرياح , واوغل الليل المطير
ويظهر الخفاش كما يظهر المارد الجبار منبثقا من الدخان :
وانبثق الدخان من الزجاج وهو فيه :
كهل مشى الوخط المفضض في سوالفه الطوال وقد انطوى بيديه معطفه البليل !
لقد خدعه الخفاش بالصفقة ومضى , وظل المخدوع يستزيد حتى نهاية العمر ليدفع الثمن الباهض :
أعب واستزيد
منها , وفي القدح الاخير وقد خلا ,
ابصرت اسناني كأصداف الحصى البالي الكسير !

*عن موقع الدكتور حسن الخاقاني

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *