شوقي يوسف بهنام : البسطامي متآلهناً (5)

  • shawki  5مدرّس مادة علم النفس/ كلّية التربية/ جامعة الحمدانية
  • قال البسطامي ” أسألك ألا تحجب الخلق بك عنك ، وتحجبهم عنك بي ، إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون ” (1) . يورد المحقق الفاضل المناسبة التي دفعت البسطامي الى قول هذه العبارة وكما يلي ” دخل ابو يزيد مدينة فتبعه خلق كثير ، ثم خرج ورآهم خلفه فقال ، ما هؤلاء ؟ فقيل له يصحبونك ، فقال أسألك الا تحجب الخلق بك عنك ، وتحجبهم عنك بي ، ثم صلى الفجر والتفت اليهم فقال ، إني أنا الله لا إله الا أنا ، فقالوا جن َّ أبو يزيد وتركوه ” (2) . لننطلق من الرواية التي يذكرها المحقق والتي دفعت البسطامي الى النطق بعبارته هذه . في هذه الرواية نجد تصويرا سايكولوجيا عميقا لظاهرة البطل Hero . لا يهمنا كثيرا ماهية هذا البطل . اعني كون البطل سياسيا او دينيا او ثقافيا . المهم هو حالة التبعية والانتظار والتوق له . من المحتمل ان صدى البسطامي كان كبيرا لدى اهل هذه المدينة قبل مجيئه . والا لم يكن احد خرج من بيته لرؤيته او لمشاهدته قبل اللحاق به . هذا يعني ان في المدينة جوع روحي الى منتظر او مخلص او صورة مشابهة لذلك !! . وبالفعل فان البسطامي ترجم حاجة تلك المدينة لإشباع ذلك الجوع . سؤال البسطامي عن ماهية هؤلاء الذي ينتظرونه يدل على ان هناك مسافة نفسية بينه وبينهم . هذه المسافة ، متأتية ، و لاشك ، من صورة الانا لدى (3) البسطامي ولدى اولئك الذين ينتظرون مجيئه واللحاق به والانضمام الى حلقات خطابه . لقد رآهم خلفه بصورة غوغاء جمعي إن صح الوصف . صورة الأنا عند البسطامي هنا تضخمت وتنرجست الى اعلى مستوى ممكن من التضخم والنرجسية . ويعود السر في هذه الصورة الراهنة للانا لدى البسطامي الى حالة الجوع الروحي لديهم والشبع الروحي لديه . من هنا استيائه من الموقف الذي بدا له . سبق للشافعي ان اعلن مرة هذه الصورة عن الذات عندما قال :-
    ولولا خشية الرحمن لقلت ان الناس كلهم عبيدي
    *******************
    والشافعي فقيه وليس بصوفي . لا نريد المقارنة بين صورة الانا لدى الصوفية ولدى الفقهاء . هذا موضوع اخر لا شأن لهذه السطور به . من هنا دعوته تلك :-
    ” أسألك ألا تحجب الخلق بك عنك وتحجبهم عنك بي ”
    *********************
    في هذه الدعوة البسطامية وهي سؤال يفيد الرجاء ، وهنا نجد تناقضا سايكولوجيا يعيشه صوفينا الكبير ، على الاقل في لحظة نطقه لهذا الدعاء . السؤال بحد ذاته دلالة على الحاجة والنقص واللامعرفة . رغبة البسطامي في هذا السؤال هي ان يكون الوحيد في هذا الوجود . يعتقد البسطامي ان الآخر او العقل الجمعي برمته (الخلق) هو اعاقة للتواصل او الاتحاد مع تلك الذات . ويعتقد بأنه هو سبب ذلك الحجب بينه وبين الخلق . يريد ان يبقى الافرد .. الواحد .. الاحد . ومن هنا التفاتته اليهم ليعلن الشق الثاني من عبارته التي تعبر عن اوج النرجسية وقمة تضخيم الذات والانا لديه .
    ” إني أنا الله ، لا إله الا أنا فاعبدون ”
    *************************
    التفاتته تلك كانت بعدما صلى صلاة الفجر . هذا ايضا له دلالته النفسية لأن الصلاة هي تعزيز لمشاعر النرجسية ودعم لها ، وربما سمع ما سمع !! ليعلن ذلك الاعلان الذي يعد بحق انموذجا للشطح الصوفي . من هنا رد الفعل الذي اعلنه الوعي الجمعي بقوله :-
    ” فقالوا جنَّ ابو يزيد وتركوه ”
    **********************
    ما كان هذا هو الذي ينتظره الوعي الجمعي من البسطامي حين خرج للقائه بعد انتظار طويل متخما بالرجاء والامل لصورة عن الذات الالهية ، فغيبت تلك الذات وهيمنت الذات البسطامية و يا لها من ذات !! .
    الهوامش :-
    1- عباس ، قاسم محمد ، المصدر السابق ، ص 45 .
    2- عباس ، المصدر السابق ، ص 117 .
    3- د. الحداد ، عباس يوسف ، 2009 ، الأنا في الشعر الصوفي : ابن الفارض انموذجا ، دار الحوار ، دمشق ، سورية ، ط2 ، حيث يعالج مفهوم الانا لدى ابن الفارض فقط والكتاب محاولة فنية لغوية اكثر منها سايكولوجية .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *