جمعة اللامي كما عرفناه مبدعا يُجْهِد أنْ لا ينسج على منوال ما هو سائد من نصوص في الساحة الأدبية العراقية أو العربية ، وغالبا ما يتجاوز اعماله الإبداعية التجريبية بعمل تجريبي آخر ، في الرواية والقصة القصيرة بخاصة. لكنه ، في هذا النص ، نص – المدّونة التاريخية إنْ جاز لنا التعبير – قصة الشيصباني وتابُعُهُ إبن قرْقرْة القرْواتي ، يبدوأنه وضع محاولة تجريبية سردية مغايرة لأعماله التجريبية الأخرى . فهذا نص يعاين المعطى التاريخي وتلازمه بمعاينة المعطى المعاصر، وإلباس شخصيات الحاضر المعاصر لَبوس شخصيات الموروث التاريخي . بهذا يستنطق المؤلف – الناص Textor ، ذاكرة ومُخيَّلة تلك الشخصيات ليستحضرها لأحداث مَعيشة في الآونة . ومعروف عنه ايضا أنَّه نبّاشة موروث تاريخي بامتياز في خبايا ومطويات ومطمورات التاريخ ، وهذا ما أهّله أنْ يحوز على ثقافة تاريخية – صوفية لا يستهان بها، وبالتالي وظفها في العملية الإبداعية عموما، ونراها واضحة تماما في متن هذا السرد .
ونجد في نص الشيصباني فيضا مِن عناصر تأويل ودوالِ وإحالات وارتحالات واسترجاعات في هذا النص المُركّب المشوب بالغموض والضبابية . فهو قد دُوّن بإسلوب احد العصورالإسلامية المتأخرة ،وكُتبت هوامشه ايضا بإسلوب يشبه تماما اسلوب او طريقة المحققين في الموروث التاريخي ، فضلا عن أنّها تحمل إحالات كثيرة . وهذا ما نلحظة في شخصياته وثيمته وأرضيته المنحدرة من تلك العصور، جعلت ذلك من الصعوبة بمكان هضمه بيسر، ذلك أنّه بحاجة الى متلقِ نوعيّ ، يحيط هو الآخر بثقافة تاريخية متواضعة على الاقل ، كي يبذل جهدا مضاعفا لإستيعاب فحوى النص أو تحليل الشخوص – وعبارة الناص التالية : ” ايها القراء النابهون ” لم تأت جزافا من الناص جمعة اللامي. ” – والبحث في بطون الكتب عن مرجعية اسماء وشخوص ووقائع القصة لأنها تنماز بضبابيتها وغورها مما جعل تناول سردها مركُبا ومعقدا للغاية ، فضلا عن أنّ تبسيط سردها يعني فقدها كثيرا من أصالتها ، ناهيك مِن أنَّ الاحداث في طبيعتها وفي زمنها ، مركبّة هي الأخرى؛ وبعكس ذلك ، فإنَّ القاريء سيقرأ في حافات النص بعيدا عن تلافيف وتراكيب اعماقه . ومن غير هذا يعني أنِّ النص يُعَدّ نوعا من الرطانة ، لغة اخرى ، معنى مغايرا تماما ، سيمياء مبهمة . وانا لا ازعم لنفسي أنني ذلك القاريء الذي يمتلك تلك المؤهلات بكافة لمثل هذا النص ، بيد أنِّ معرفتي بجمعة اللامي وقراءاتي لأعماله أهّلاني أنْ افكك او استوعب ما يريد أنْ يوحي به الينا في هذا النص . ورغم ذلك ، لا اكتم القاريء أنَّ قراءتي الاولي لهذا النص شابها شيء كثير من الضبابية وعتمة في الاحداث وشخوصها بيد أنَّ القراءة الثانية استطعت أن افكك بعض طلاسمه ومغاليقه والثالثة أهّلتني لكتابة هذه المقالة .
يُعد نص الشيصباني قصة حدث وقصة شخوص ، يكون فيه الحدث معادلا موضوعيا للشخوص، واهمية الحدث كأهمية شخوصه . فضلا عن تعدد حبكاته وحيثياته وتجليات عوالمه المستقاة من ثنايا ومطويات التاريخ الثقافي والانثروبولوجي، وتداخل خِلل عصور ماضية وعصر حاضر . وتوظيفها بما يخدم الزمن الراهن الذي عاشه المؤلف مما حدا به أن يرتقي باسلوبه الى المستويين ؛ مستوى الحدث ومستوى الشخوص مماجعله يتقن خلق تلك الشخوص وبناء ذلك الحدث بمهارة وراح يسمو بنا الى اجواز رحبة مليئة بالمتاهات .
وسيكتشف القاريء أنَّ هذا النص لا ينأى بعيدا بنفسه عن قصص الخيال الملامس لواقع تاريخي – انثروبولوجي. ومن خلال سرد وحيثيات اللامي ووصفه للتاريخ ، فهو يكتب هذا ويعي مَهمَّته هذه تماما ؛ وهو المسكون بالتاريخ وثقافة الموروث . فهو هنا ، في هذا النص ، يتعرض لتراكمات ذهنية وقعت في وقائع تاريخية حين يعرض علينا تراكماته الذهنية لحالات قد تعرٍّض هو لها شخصيا في مسار حياته ويحاول من خلاله اثبات الذات الساردة. يقول هيدغر بهذا الخصوص ” إنَّ الاشياء توجد فقط داخل الوعي او عند الوعي بها . ” :
أنا ( أيها القراء الكرام) ّالكلمات خَيْلي ، واللغة إِبلي . أمّا مقاماتي وسردياتي فهن اناشيد الآلهة وترانيم النبيين ، وسطوة الملوك والأباطرة ، وأحلام الشعراء والنسّاخين والمجانين والنفّاجين والمصورين . وهؤلاء جميعا ، اجمعهم في القول المتواتر: أرى شُغلَةً هاجتْ وماجتْ وباضتْ وفرَّختْ / ولو تُركتْ طارتْ اليها فِراخُها” .
ويذكُّرني قوله هذا بالبيت الشعري الشهير لأبي الطيب المتنبي أمام سيف الدولة، والسلاطين والحكام والشعراء وحتى الدهماء ليثبت ذاته ايضا والذي يقول فيه :
” الليل والخيل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ”
ولما ألمَّت به الطوائح وزجّت به سلطة النظام البائد في السجون والمعتقلات وناصبته شخصية متنفذة ، قريبة من رأس ذلك النظام العداء ، خططت أن تنهي حياته لولا ارتحاله الى بلدان الشتات … ومن هنالك ، راح يكتب عن معاناة شعبه ومعاناته ، سطّرها في كثير من اعماله الابداعية اذا لم نقل جلّها ، والشيصباني ربما يكون ذلك الشخصية القريبة من النظام البائد التي سنتناولها بايجاز في سياق كلامنا هذا .
“ولله الحمد على بلوائه ونعمائه ، فلقد عرفت يقظتي بقلمي ، وهربت بعقلي وقلبي الى الشاطيء الشرقي من ” بلاد يقال لها ” مصر العُبَيْد” ، يوم ترصَّدني الشيصباني ، فبثَّ عيونه حولي ، وهو يأمر عصابة انتخبها من خاصّةِ خاصَةِ مِلِّته، كانت مخصوصة بالعسِّ على خصوصيات الناس : ” عليَّ به ، وسوف أُخرج لسانه من قفا رقبته ” . ولم يكن هذا الخطاب مزحة او طرفة من هذا الذي ترصد قوافل الحجيج والزوار السائرين من البطائح والأرض الحماد في ميسان ، الى كورة كُوفان وارض الطَّف ومقبرة القرشيين المشهورة اخبارها في رصافة الزوراء، وأعمل في صغيرهم وكبيرهم السيوف ، وجعل من السيف اللاعب على رقاب ضحاياه شارة دالة على رايته الشيصبانية ، حتى لقد بلغ خوف الناس الحلقوم .”
ولو عقدنا مقارنة بين الشيصباني في عصره وما تحدث من اعمال سلفية يقوم بها اتباع الشيصباني لرأينا الصورة واضحة في ممارساتها الارهاب والاستبداد وسفك الدم وما يجري الان على الساحة العراقية والعربية من افعال تنحدر الى ذلك الفكر الجهنمي المرتد عن الأسلام الحقيقي . فهاهو السارد يقول عنه .
وآفة الشيصباني ، إهراق دم النفس المحترمة ( فائدة أولى: عن جابر بن زيد الجعفاني . قال : ” سأل سائل النَجَّاري ” متى يظهر السُّفياني ؟ ” قال المحدث السًنْد محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي أبو عبد الله النجَّاري ” وأنيّ لكم السفياني حتى يخرج الشيصباني فيقتل وفود البطائح الى المَزارَين المُرَبَّعَين ، وبعدها ترقبوا ظهور وليّ العصر المنصور بالرعب والمؤيد بالنقمة . وهذا في اخر الزمان “) وإستباحة خدور النساء ، وإتخاذهن سبايا مملوكات لأبناء فرقته، توكيدا لمذهبه في التفوق على بقية البشر الذين هم في عقيدته اقوام ركبهم ركبهم الكفران ، وهيمنت عليهم الضلالة ، وان وأنّ قتلهم حلال لأبناء طبقته الناجية ( فائدة ثانية : وفي هذا الشان له مقولة يحتفظ بها انصاره ، ويحفظونها عن ظهر قلب ، ويورِّثها الكبار للولدان والغلمان . تقول: ” نَحنُ طينة الله التي عجنها بكفيّهِ الكريمتين . ومن فَضْلةِ ما بقي من تلك الطينة الشريفة ، خُلقَ الملائكة والنبيون “). وخطب ابن قرقرة في انصاره ذات سنة :” نحن القَرقَريَون .. جُبلنا من طينة واحدة”.
ومقابل هذا التطرف في الفكر والدموية وسلب النساء والغزوات والغاء الانسان لأخيه الانسان وتكفير الاخرين وانهاء حياتهم ، ينحى السارد – جمعة اللامي في استخدامه لمثل هذا الموروث التاريخي منحى المعتزلة في الركون الى العقل دون غيره من الفكر الناقل الذي بقي يراوح في مكانه دون ان يقدم للانسانية حضارة او تقدما اجتماعيا يذكر. وهنا لا نريد ان ندخل في التنظير لكن الذي دعانا الى قول هذا هو ما اتبعه السارد في نصه هذا من اسلوب معتزلي عقلاني إن صح التعبير ازاء مَنْ اراد اباحة دمه : وهنا يحضرني قول الإمام علي للمرء الذي يستخدم عقله في مواجهة العاديات وتحكيمه في حلها : ” وتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر. ”
وهذه الفكرة ، أي تفضيل مِلَّة على غيرها من العالمين ، او تكفير ما سوى صاحب فكرة الفرقة المجتباة المرضيّ عنها ( حسب خطاب اهل التقليد) ، هي آفة ابو قَروَة وأشياعه . لكنها ليست من ثقافتي ، لأني اتخذت لروحي غرفة في سُرَّة فضاء العقل ، وعاهدت نفسي على الرجوع الى ما هو مُدوَّن ومكتوب ، بعد محاججة مع القلم ذاته . وفي هذا اقول: ” اليقظةُ مَنطقُ العَقل ”
ويبدو أنَّ الشيصباني لقي حتفه اخيرا على يد عبد الله القصخون احدى الشخصيات المناوئة له، وهذه دالّة قَدَريّة كبيرة ، قد توحي لنا أنْ لا خلاص للإنسانية إلاّ عند اشراط الساعة . وهو أي الشيصباني ايضا مجموعة اقنعة، أنّه شرهان بن بغيل الافرخ الذي مزج في شخصيته صمت العيلاميين وخفة الخصيان العرب وباطنية العبرانيين .وهو شرهون بن بكفاهين السجان الجلاد وهو ايضا ابن قرقرة القرواتي رديف لشرهون.
من هذه الذاكرة ومن تلك الأوابد والتاريخ والمعاصرة يشكَّل لنا جمعة اللامي لوحة فنية مؤطرة بعَبَق الوانها وعتمتها وابعادها وعمق تركيب جمالها الفني لنبحر نحن القراء فيها للبحث عن متاهاتنا الوجودية .
*القصة احتواها كتاب ” اليشنيون ” لجمعة اللامي الذي صدر مؤخرا ..