اعتادت أن تجلس في المطبخ ، وعيناها تتطلع بقلق إلى الساعة أمامها ، وسكون المساء يلف المنزل ، بينما يجلس هو، هناك خلف باب موصد ، منكبا على ملفات يقرأ فيها . عند التاسعة تماما موعد شربه الشاي، وقد حاولت مرة أن تذهب به إليه قبل هذا الوقت ، فغضب وكرر عليها القول بعصبية . وبرغم ما حصل فهي لا تحمل في نفسها أية ضغينة تجاهه ، بل هي التي من يقع عليه اللوم ،إذ يجب عليها أن تعي ما يريده جيدا..حتى العام الماضي كانت تظن أن زواجهما خطأ فادح . وفي أوقات سابقة تمنت لو يفترقا ، ولكنها تجفل لمجرد التفكير على هذا النحو، فتطرد الفكرة من رأسها ، وتنزوي تذرف الدموع، ولكن قناعتها تغيرت فيما بعد ، وأحست أن من السعادة أنها تعيش معه تحت سقف واحد. ولا تعلم سببا لهذا التغيير..منذ ليال وهو يوليها ظهره وينام ، ولم يكن كذلك من قبل، وبرغم ذلك فلا شيء يدعوها لأن تقلق . ثم صار يتأخر مساء ، بالعودة متذرعا بمشاغله في المكتب،حتى ما عادت تعرف له موعدا محددا لوقت رجوعه إلى البيت . اجل يتأخر ، ولكن ليس لحد الساعة التاسعة وهذا لا يقلقها أيضا فهي تجد له مسوغا، بأنه دليل نجاحه المتزايد وهو ما يسعدها. كما أنها تعودت أن لا تتدخل بعمله فلا تسأل عن سبب تأخره أو القضايا التي يتوكل بها ولا أسماء زبائنه رغم علمها إن بعض زبائنه من النساء الجميلات اللواتي اختلفن مع أزواجهن وجئن يطلبن الطلاق..
مازالت تجلس ساكنة ، وصوت التلفزيون الصغير،أمامها،في ركن من المطبخ يوشوش سمعها ، وما يعرضه يصافح بصرها دون أن يلامس أحاسيسها . إنها متوترة الآن تترقب ، وهذا شأنها في مثل هذا الوقت ..الساعة الآن هي التاسعة إلا عشر دقائق ومن باب الدقة إلا تسع ، وكل شيء سيكون جاهزا فالإناء يغلي ببطء شديد ، وسترفعه عن النار بعد ست دقائق ، وتجهزه قبل دقيقة واحدة أو دقيقة ونصف وتضعه أمامه بالوقت المحدد تماما . وعادت تنظر إلى الساعة . وتوهمت أن عقرب الثواني قد توقف ومالت برأسها قليلا ، ثم أدركت إن الضوء المنعكس على زجاجتها سبب توهمها . فهذا المارد النحيف يدور نشيطا، وعقرب الدقائق يزحف للأعلى ، وان بدا عقرب الساعات نائما ، غافلا عما يدبره له العقربان . وتفكر برفع صوت التلفزيون، ولكنها تخشى أن تكدر عليه خلوته . وتذكرت أمنيتها ، التي ألحت على نفسها في الأيام الأخيرة ، وهي أن يشتري لها زوجا من طيور الحب ، في قفص لتكتمل سعادتها . ذات مرة باحت له برغبتها هذه، ورأته ينزعج ولم تعد تجرؤ أن تكرر طلبها خوفا على مشاعره أو ربما إنها لم تجد الفرصة المناسبة ، فوقته موزع بين العمل في المحكمة والمكتب والنوم ودراسة الأوراق التي يجلبها معه ، ولا فرصة لها إلا وقت الغداء ، ولكنه يجلس على المائدة ساهما وما أن ينتهي حتى يذهب إلى النوم، فترى من الحماقة أن تفضي له بما تفكر به عموما . وتنتظر دقائق ليدعوها إليه فلا يفعل ، فتشعر بفطرتها الأنثوية انه نام ، وهذا أمر لا يسبب لها الإزعاج مطلقا، فتنصرف إلى غسل الصحون وترتيب المطبخ ، بعدها تستلقي على أريكة في الصالة تغفو عليها بعض الوقت ، وما أن تفيق حتى تهرع بعد خروجه عصرا ، لرفع الملابس التي غسلتها ، عن الحبل وقد جفت لتكوي ما يحتاج للكي ، وترتب الآخر وتضعه في الدولاب ثم تتهيأ بعدها لجولة العشاء ، عندها يكون قد عاد من مكتبه ودخل إلى غرفته وشرع بمراجعة أوراقه في الغرفة ، وبعد العشاء ـ ولطالما عزف عن تناوله بحجج واهية ـ تنتظر الساعة التاسعة تماما لتحضر له الشاي وتذهب به إليه وهي تسير بحذر شديد كي لا تحدث صوتا وهاهي الساعة الآن تشير إلى التاسعة إلا خمس دقائق، ومشاهد رومانسية تتحرك أمامها على الشاشة ، فتتذكر المصادفة الرائعة التي جمعتهما .. حين تقدمت للعمل في مكتبه كانت مهمتها الاهتمام بكل ما يتعلق بالمكتب فهي من يستقبل الزبائن وحينما يتأخر أو يغيب تكون الوسيط المهم بينهما. كان عملها يتطلب الحرص والانتباه ، فهي تقوم بالحفاظ على القضايا وترتيبها في خزانة المكتب ، وتدوين مواعيد المرافعات الجديدة بدفتر، وإبلاغها لذوي الشأن. كما عليها إعداد الشاي والوجبات السريعة له في بعض الأوقات ، وتنظيف المكان. ومرت بخاطرها صور جميلة من الأيام الأولى لزواجهما ، وتتحير بين أن تقول كم كانت هي حمقاء تلك الأيام ، أو تعزو ذلك لقلة التجربة . فهي لم تفهم يوما ما كان يرمي إليه بكلماته القليلة المتوددة ، ولا تجد معنى لاهتمامه غير الواضح ولم تع كل ذلك إلا حين طلب منها الزواج صراحة . وتذكرت صديقتها سلمى ، وكيف تضحك حين تروي لها ما يجري بينهما ، وكيف كانت تحاول مساعدتها . لقد تزوجت سلمى وزارتها مرتين فلم تجد ترحيبا من زوجها ، فكفت عن المجيء . وأحست بالشوق إليها ، وتساءلت وهي تتطلع إلى الساعة ، فيما إذا ستعاود زيارتها ثانية . وانتبهت من شرودها ، على قلق يباغتها . لم يبق على التاسعة سوى ثوان ، وشعرت بوخز الضمير ، فهاهي تخطيء تقدير الوقت ثانية . وشرعت على عجل تسكب الشاي في القدح ، ثم تحمله وتتوجه إلى الغرفة الموصدة ، بخطوات حذرة . عند الباب وقفت مترددة وراحت تصغي . لعله يلحظ الوقت فينادي عليها. وأحست بالخجل لوقفتها بهذا الشكل . طرقت الباب بهدوء ، فلم تسمع ردا ، ضغطت على مقبض الباب وانتظرت لحظات. ثم أشرعتها ووقفت وسط الغرفة تجيل البصر بأرجائها فاكتشفت انه لم يزل خارج البيت.
عصام القدسي : التاسعة تماماً ..
تعليقات الفيسبوك