*مدرّس مادة علم النفس/ كلّية التربية/ جامعة الحمدانية
قال البسطامي :-
– أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى ، وأنا ما أردت أن أرى الله ، هو أراد أن يراني ” (1)
رؤية الله !! شوق انساني لا يمكن سبر تاريخه او غوره . ويمكن القول ان لا شوق اعظم من هذا الشوق . تلك الرؤية هي جواب لكل الاسئلة التي تراود الذهن الانساني . في التوراة مذكور ان موسى قال لربه ” ارني وجهك ” فجاءه صوت من العليقة وقال له ” لا تقدر ان ترى وجهي ، لان الانسان لا يرى وجهي ويعيش ” . معنى هذا ان رغبة موسى تمثل رغبة الانسانية على مدى تاريخها الطويل لرؤية وجه الله . وعندما ترى الانسانية ذلك الوجه فسوف ترى كل شيء من خلاله . من هنا عذاب الصوفي . وانا لا اعني صوفيا ما بعينه ، انما انا اعني الانسان عموما قبل ان يكون صوفيا ينتمي الى هذا الخطاب او ذاك . لم يك موسى نبيا بعد عندما مر بتجربة وجه الله . صعد الى جبل حوريب ليتأمل . لكي يبحث عن سر الوجود .. عن وجه الله . وعلى اثر معاناته وانطلاقا من سرائره ، جائه ذلك الصوت الرهيب .. المجلجل الذي اخترق اذان العالم !!! ” انا هنا من تبحث عنه .. لا تقدر ان ترى وجهي .. لأن الانسان لا يرى وجهي ويعيش . إذن سوف يبقى ذلك الشوق الانساني مستمرا مادام على وجه البسيطة . إذن ثمة ذات كونية كانت تراقب موسى .. تلاحقه .. تتعقبه . بل تطارده لتصطاده . اخيرا وقع في الشبكة .. وما اجملها من شبكة وما اعظمه من صياد . سوف يتحول موسى من مصطاد الى صياد يحمل شبكة وينزل من الجبل ويحطم العجل الذهبي . سوف يعتبر خلفاء موسى انفسهم امتداد لموسى . وهذا ما يفسر العبارة ان اهل العلم والعارفون هم ورثة الانبياء . وهذا الاعتقاد قائم على مفهوم حسد النبوة بل والالوهة عند الانسان الذي ذكره استاذنا زيعور في هذا الخصوص (2) . هكذا نجد البسطامي يتماهى مع موسى لا شعوريا . على الرغم من اعلانه بانه ليس مثل موسى . بل افضل منه لان الله هو الذي اراد ان يراه . وليس العكس . وفق نظرية الاختيار او الاصطفاء فان البسطامي هو المعني وفقها . كلاهما .. الله والبسطامي على طريفي نقيض . البسطامي الانسان .. العالم .. الهو .. الرغبات والنزوات .. الضياع . سوف نجد عند قراءتنا لشطحة اخرى مسيرة البحث عن الذات عند البسطامي . الوجهان محتملان في حالتنا هذه . فإما نرجسية مطلقة وكينونة قائمة بذاتها وإما ذات مهمشة منكسرة تحتاج الى الترميم والتركيب والصياغة . من دعوته .. البحث والتفتيش عنه لأنه جدير بالتفتيش والبحث . البسطامي حر في اختيار احد التأولين . لم يبحث البسطامي او لم يرد ان يرى الله لأنه يعتقد انه غير مستحق لتلك الرؤية . يذكرنا هذا بصرخة اطلقها اشعياء النبي ، احد انبياء التوراة ، عندما رأى الله وهو جالس على كرسي عالي في الهيكل ، وهو في رؤية فصرخ وقال ” رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع، وأذياله تملأ الهيكل … 5 فقلت: ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس ” . من وجهة النظر هذه لا يحس البسطامي بجدارة الذات ولا قدرتها لتنعم بتلك الرؤية الفريدة . قد لا يروق البسطامي مثل هذا التأويل . التأويل الاخر قائم على اجتياف الالوهة عند البسطامي . وهذا وارد لأنه الاساس وراء كل شطحاته . هنا الذات ليست جديرة بالاعتبار فقط فحسب بل هي الجدارة ذاتها . هي الاستحقاق كله . عند هذا المستوى او عند هذا المقام ، اذا استخدمنا تعبيرات الصوفية انفسهم ، يكون البسطامي القطب الاخر لله . النظير له !!! . الذات عند البسطامي ، وفق هذه الشطحة ، امتدت زمانا ومكانا وصارت ذات لا كونية . لقد رأينا كيف ان هذه الذات قد طارت في الليس لعشرة سنوات . مَن من الناس استطاع ان يطير في الليس لهذه المدة غير البسطامي . لقد غاص في الضياع والليسية . موسى فقط وقف امام عليقة لا غير . شتان ما بين خبرة موسى وخبرة البسطامي وقدراته الإطلاقية . واذا كان موسى بحاجة الى ان يرى وجه الله ، فالبسطامي اصلا كان يطير في الليسية ويرى ما لم يره انسان وسمع ما لم تسمعه اذن بشر . الليس بهذا المعنى هو هذا الصمت الممتد من اقاصي الازل الى غياهب ومجاهيل السرمدية . من حق البسطامي إذن ، وفق هذا المستوى ان يلتف حول ذاته ، مثلما فعل ابليس عندما استكبر وعصى . انه مخلوق من مارج من نار وذاك من طين وصلصال . من هنا كانت غيرته من هذا الذي سوف يخلق اعني الانسان . لقد ” زعل ” ابليس ومازال في ” زعله ” . بهذه المناسبة يعتقد الايزيديون ان الله سوف يصفح ويسامح ابليس يوما ما ! وسوف يعود ابليس الى المملكة الالهية باعتباره رئيس الملائكة . وعندها يسود السلام الكون برمته . نحن هنا امام مشاعر الغيرة وقد ضببت العلاقة ما بين البسطامي والهه . كل منهما يرى في ذاته المنبع والاصل لهذا الوجود . هل رأى الله البسطامي وناداه مثلما نادى كليمه موسى ؟؟؟ .
الهوامش :-
1- عباس ، قاسم محمد ، 2006 ، المصدر السابق ، الصفحة نفسها .
2- راجع الحلقة الاولى من مشروعنا المتواضع هذا .