*مدرّس مادة علم النفس/ كلية التربية/ جامعة الحمدانية
قال البسطامي ” أشرفتُ على ميدان الليسية ، فما زلت أطيرُ فيه عشر سنين حتى صرت من ليس في ليس بليس ، ثم أشرفت ُ على التضييع حتى ضعتُ في الضياع ضياعا ، وضعت فضعت ُ عن التضييع بليس في ليس في ضياعة التضييع ، ثم أشرفت ُ على التوحيد في غيبوبة الخلق عن المعارف * ، وغيبوبة العارف عن الخلق ” (1)
ترمز عملية الطيران Flying الى ” السمو ، وتحرر الروح من قيود المادة ، وتحرر روح الميت ، والمرور من احد مستويات الوجود الى آخر ، والانتقال من الحالة المقيدة الى الحالة المطلقة ، والتوصل الى الحالة فوق الانسانية . وترمز مقدرة الحكماء على الطيران او ” السفر على بساط الريح ” الى الانطلاق الروحي وكلية الوجود ” (2) . ويخبرنا استاذنا زيعور عن طيران البطل ما يلي ” .. ان البطل قادر على تغيير حجمه وصورته ، اي على التجكم ببدنه ، فمن الطبيعي ان يتماهى في الطير . فمن المألوف ان يطير البطل الصوفي : الحلاج ، مثلا يلقي بمنديله في الهواء فيطير ، ثم يلحقه بنفسه . والرفاعي والجيلاني والبدوي ، وكثيرون غيرهم ، يطيرون : يأتون من الجو ، او من خرق في الباب ، او من كوة ، الخ . يلتقي الخيال الصوفي ، هنا ، مع اسطورة البساط السحري المعروف في القصص الشعبي العربي ، او اسطورة الحصان الطائر ، وما الى ذلك كالمخلوقات البشرية التي التقى بها السندباد ، وكالجان ، الخ . نتذكر هنا طاقة الاخفاء . وفي ايامنا هذه يطير السوبرمان ، وبطل بعض الافلام ، والولد والراشد في احلامه وامنياته … ولطيران البطل – صوفيا كان ام شعبيا – جانب آخر هو ان الطيور قد تأتي لمساعدته . هنا تعطي المخيلة عقلا ووعيا ورغبات بشرية للعصافير . وذلك الطيران ، الذي هو اسقاط رغبة عند الانسان ، يدل في الكرامة على تمدد شخصية البطل الآخذة بالاتساع والتعمق والانتصارات . فالبطل يطير يعني – كما أحلل – يأمل بالقدرات ، ويحظى بالتفوق والرفعة بالنسبة لمن حوله . صار البطل كالطائر يعني ، عندي ، صار قادرا على التحلق ، أهلا للقطبانية أو للقيادة . وفي لمات أخرى وأكثر ، طيرانه دليل على تجربة التسامي التي حصلت في ذاته ، وعلى التغلب على الجسد وما يمثله من غرائز وشهوات . وفي ذلك ايضا دلالة على انه صار روحيا ، قريبا من الروحي والمثالي وقيم التصوف ، وعلى ان معرفته الهام واشراق وحدس ، وعلى ان قلبه معد لتلقي الانقداح والنور . وماذا يعني ذلك كله ؟ يعني ، ان البطل حقق ذاته ، وبلغ تجربة التفريد ، واستعد لرحلة المعراج لا سيما اذا كان طيرانه على شكل دائرة .” (3) . النص الذي بين ايدينا نص مربك . انه وصف لخبرة عاشها البسطامي لمدة طويلة من الزمن . انها عشرة سنوات من عملية الطيران . ولكنها ليست رحلة سفر في الجو او في عالمنا المرئي بل في الليسية . يعرف المحقق الفاضل قاسم محمد عباس هذا المصطلح في قائمة المصطلحات الواردة في نهاية الكتاب على انها ” تجريد الله من كل شيء ، او تجريد كل شيء عن الله والانصراف عن كل ما في الخلق ، ورؤية مقام ليس فيه ثمة الا وجه الله ” (4) . هذا يعني ان طيران البسطامي يختلف شكلا ومضمونا عن كل انواع الطيران في التجارب او (الكرامات) الصوفية التي ذكرت في كتب التصوف . انه طيران في مجال الله ذاته ان صحت العبارة !! . وليس في مجال آخر ، فيزائي مثلا . هذا يعني انه طيران من نوع آخر غير الطيران الذي نعرفه . لا نرغب في الدخول في تفاصيل حول ماهية الطيران الذي يتحدث عنه البسطامي او اختبره إن صح التعبير . المعروف عن الطيران ، وفق المأثورات الشعبية مثلا ، انه طيران فيزيائي منظور ، وهو لأجل خدمة البطل . بطل الرواية او الملحمة او الحكاية . هو خلاص من الاعداء والظفر بالأميرة . في حالة البسطامي الامر مختلف تماما ، فهو طيران في الليسية أو طيران في اللاهوت ان صح التعبير . لقد دخل البسطامي إذن من خلال هذه الخبرة ؛ خبرة الطيران الى الله ذاته و تجاوز عالمنا او اي عالم آخر يمكن ان نتصوره . انه العالم الذي لا يمكن يتصور . وهذا شبيه بعبارة الحلاج ” ما في الجبة الا الله ” . الا ان البسطامي طار في هذا الليس عشرة سنين . وصار من حال الى حال او من مقام الى مقام . وخرج من هذا الليس فضاع في الضياع . فاختلط الامير عليه ما بين الليس وما بين الضياع حتى اشرف على التوحيد في غيبوبة الخلق عن المعارف . لقد وصل الى المعرفة ذاتها اذن . كما انه اشرف على غيبوبة العارف عن الخلق . لقد توسط البسطامي اذن بين الخلق والعارف . صار في منطقة وسطى .. صار بينيا .. على مشارف الحدود . انسلخ من الناسوت ولبس اللاهوت . تذكرنا هذه التجربة البسطامية بحيرة اللاهوتيين المسيحيين بخصوص تجسد المسيح وفكرة صيرورة الله انسانا . ففريق يرى هيمنة الناسوت على اللاهوت وفريق يرى تناظرهما وفريق يؤمن باتحادهما وتكاملهما دون خلط او امتزاج او بلبلة . استطاع البسطامي ان يصوغ هذه الحيرة بهذه الخبرة الفريدة التي تعبر ان هوس انساني في التوحد او تقمص المطلق . على الصعيد النفسي ؛ هل يمكن القول ان البسطامي ، انطلاقا من هذه التجربة ، عانى او عاش خبرة او عرضا من اعراض حالة فقدان الانية Depersonalization مثلا ؟ . او حالة انشطار الانا Splitting of ego و ” يستعمل فرويد هذا المصطلح للدلالة على ظاهرة خاصة جدا يراها فاعلة على وجه التحديد في (التميتية Fetishism) والأدهنة (جمع ذهان) : حيث يوجد ضمن الانا ، موقفان نفسيان تجاه الواقع الخارجي باعتباره يشكل العقبة التي تعرقل مطلبا نزويا معينا : يأخذ احد الموقفين الواقع بعين الاعتبار ، بينما ينفي الموقف الآخر هذا الواقع مستبدلا اياه بأحد منتجات الرغبة . ويستمر هذا الموقفان جنبا الى جنب من دون ان يمارسا أي تأثير متبادل على بعضهما بعضا ” (5) . وبالفعل البسطامي أو اي صوفي آخر يعيش هذه المحنة نتيجة الصراع بين الانساني او الالهي . فرويد استخدم هذا المفهوم للتعبير عن الصراع الناشب ما بين رغبتين نزويتين . نحن هنا بإزاء رغبتين متساميتين إذا صح التعبير . الانسلاخ من الجسد ، بنظر الصوفي انتصار على النزوات جمعيها ، والوصول الى اللاهوت هو المطلب الذي يتمم عملية الانسلاخ تلك الى المثل او النموذج الاعلى . لقد ضاع البسطامي عشر سنوات بين الليس والتضييع وانتهى الى الغيبوبة . نلاحظ ان استعمال البسطامي لمفردة الغيبوبة هو استخدام عميق يعبر عن فهم لنوازع النفس الإنسانية . يمثل الخلق الى العالم .. الى الهو ، بلغة فرويد ، ويمثل العارف الى الانا الاعلى . البسطامي غاب عن الاثنين ، الخلق والعارف ، غاب في صمت التوحيد ، صمت الانا وحزنها وخرسها لأنها ، على الرغم من خبرة الطيران ، سواء أكانت مختلقة او كانت واقع حال ، فأنها لم تستطع الا ان تجعل من البسطامي بسطامي حائرا بين العارف والخلق !! .
الهوامش :-
* وجدناها هكذا في كتاب المحقق ولعل الاصوب هي العارف .
1- عباس ، قاسم محمد ، 2006 ، المصدر السابق ، ص45 .
2- كوبر ، جى . سى ، 2014 ، الموسوعة المصورة للرموز التقليدية ، ترجمة : مصطفى محمود ، المركز القومي للترجمة ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط1 ، ص 230 -231 .
3- د. زيعور ، علي ، 1982 ، قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 117 – 118 .
ب- د. بدران ، محمد ابو الفضل ، 2001 ، ادبيات الكرامة الصوفية ، مركز زايد للتراث والتاريخ ، ط1 ، ص 122 – 123 .
4- عباس ، المصدر السابق ، ص 156 .
5- لابلانش ، جان – بونتاليس ، جان برتراند ،2011 ، معجم مصطلحات التحليل النفسي ، ترجمة : د. مصطفى حجازي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 222 – 226 .