عرفتهُ هنا بعمّان منذ عشرين سنة . كنت أسكن شرق المدينة وبليلة وجدتُ نفسي أدعوه صحبة الشاعر عبد الوهاب البياتي إلى بيتنا هناك ، وما ترجحّه الذاكرة هو أنّ رابعنا كان نصيف الناصري ، مع انضمام سائق التاكسي البلدي لتلك الجلسة الحميمة من أجل ضمان إعادتهم إلى بيوتهم بعد آخر طقاطيق وأغنيات ومواويل الراحل الطيب المثقف المتواضع البسيط عبد الجبار الدراجي ، الذي غادر الحياة الأسبوع الفائت بعيداً عن بغداده التي تغزّل بها وبها خلّص الأغنية الرافدينية الحلوة من بعض نواحها ونحيبها وبكائها المرّ الأبديّ .
لمْ أرَ كائناً لطيفاً من المشتغلين في باب الفنون الجميلة ، وقد استضاف جسده وحش السرطان التالِف ، أشجع من أبي عليّ . يومها قلتُ له سأكتب عنك علَّ الطرشان ينصتون إلى وجعك وحزنك الصائح الآن ، بعد أنْ أطربتهم وأشجنتهم بأعذب الأغنيات والطقاطيق والأناشيد الشجية العذبة المدوزنة على سلالم الفرح وشيء من الحزن . قال لا أريد أن أتوسّل أحداً . غافلتُهُ وكتبتُ وعندما قرأ المكتوب ضحك ضحكته المميزة واستأنس بتأويلي لوحشته .
وقع هذا قبل نحو أربع سنوات هنا بعمّان . كنتُ كلما جئت على سيرة مرضه ، شدَّ على ألمهِ وتضاحك وقال يا عليّ لقد ترك السرطان كلَّ جسدي ونام بحنجرتي وهذا ما يحزنني لكنْ لا يؤلمني . لم يتبدّل صوته أبداً وكأن لسانه الطاهر كان يشتهي أن يصيح بالمرض
من تكون أيها الجبان الخرتيت ، ها أنا أغنّي للصحب وللناس ، فاذهب أنت الى مثواك ومَحبَسَك بحنجرتي القوية التي لن تكترث لوجودك الثقيل .
لم يحدودب أبداً . ظلّ طوله قوياً مستقيماً واقفاً ، مثل رقم واحد رسَمَهُ تلميذٌ شاطرٌ على لوحٍ ابتدائيٍّ أسود وحاز على تصفيق الأولاد الأغضاض . لنْ أمحو رقمَ هاتفك أبداً يا صديق . سأجرّبُ رنّةَ كلَّ ليلةٍ كما عوّدتكَ قبل صياح الديك بقليل . سأنطر صوتك الرحيم حتى لو خدَعَتْني امرأةٌ بصوتٍ مغناج
نأسف ، رقم الهاتف المتنقّل المطلوب غير مستعمل . ربما سأُنصتُ لصوتك الشجيّ بهذه القطعة الموحشة مثل نبوءة مبكرة لشتات كان مؤجلاً
صبّرتْني بكلمة حلوة مِنْ مشيتْ
وعلى أحَرِّ من الجمر بعدكْ بُقيتْ
مِنْ ِكلِتلي إسبوع أغيبْ ،
وأنا بِبْعادك غريبْ
على الفَرْكه شهر مَرْ وماإجيتْ
حِلتْ بعيونك الغُربة لو نسيتْ
علي السوداني : مكاتيب عراقية ـ عبد الجبار الدراجي .. كتابة أُخرى
تعليقات الفيسبوك