ثلاث عشرة قصة، ومئة صفحة من القطع المتوسط، ومن إصدارات دار عدنان في بغداد، قد يبدو الكتاب مختصراً وأصغر بكثير من حجم الذاكرة المبتلاة بالحروب والتصدع والتشظي، لكن قصصه تأخذنا الى مديات أبعد وأوسع وأعمق، إنها قصص المبدع محمد علوان جبر المعنونة (تراتيل العكاز الأخير) القصص التي ما إن تقرأها حتى تعيدك الى تلك السنوات الغارقة في ظلامها، سنوات الحروب التي تولد حروباً وتمتد الى الأحفاد حتى يومنا هذا، ذاكرة تقاوم النسيان، تأخذنا الى الخنادق والرصاص والشهداء والمعوقين وكل ما ورثناه من ذلك العهد من خسارات وما تركته في الأرواح من ندوب لا يمحوها الزمن، فكأن تلك الحروب كوابيس متواصلة يعيشها الإنسان العراقي كل ليلة، وفي وضح النهارات أيضاً.
أقصر القصص في المجموعة هي القصة الأولى (حفارو الخنادق) وهي قصة مكثفة ومعبرة، عن مجموعة جنود من الخريجين يساقون لجبهة القتال قبيل الحرب، ويزوّدون بمعاول ومجارف ليحفروا الخنادق، وحينما تبدأ الحرب يتساقطون واحداً تلو الآخر، ولم تنفع الخنادق التي حفروها لتقيهم من الموت، وبرغم قصرها فإنها تنكأ الجراح وتثير العواطف، والتعاطف أيضاً مع أولئك الشباب المثقفين الذين تكسرت أحلامهم وتشظت بفعل تلك المعاول.
في قصة (ضوء أزرق أسفل الوادي) يعثر جندي عراقي يدعى فخري على دفتر جندي إيراني في أحد الملاجىء، ويقوم بتسليمه لشقيقه الجندي أيضاً، ومن خلال ذلك الدفتر يضع محمد علوان جبر بين أيدينا قصة أخرى لا تشبه قصص المعارك المعجونة برائحة الدخان ولحوم البشر الذين غادروا الحياة، إنها قصة حب مكتوبة على شكل رسائل الى الحبيبة، رسائل يقطر الحب منها وكذلك العذابات ومرارة الحرب، وهكذا سنجد أن الجندي هو الجندي بكل أحلامه وانكساراته، سواء كان منا أو ممن نسميهم (الأعداء) يمسك بسلاحه متأهباً، ينتظر بمرارة وبخوف، أو بشجاعة، قذيفة عدوه، فإذا ما نجا منها عليه أن يرد، وهو نفسه الذي يكتب رسائل حب في الأوقات التي يهمد فيها جسد المعركة ويأخذ قيلولة.
الذكريات تتداعى في قصة (صهيل العربة الفارغة) ذكريات الحرب التي دخلها وخاض غمارها ورعبها، تلك الذكريات تأتي في زمن آخر حيث قادته قدماه الى المحطة العالمية، هناك حينما رأى عربات القطارات فارغة ومهجورة من أسراب الحمام والعصافير، وجه أمه ينبثق على شكل ومضات سريعة وخاطفة، تقبّله وبدلته العسكرية ساخنة بفعل المكواة، ومئات الجنود ينتظرون صعود القطار الذاهب الى الجبهات، كتل حديدية تشبه الكهوف السرية وقد اختفى منها اللون، هذا ما يراه الآن، وربما هو مجموعة أشباح للجنود الذين طواهم الموت.. يختار مقعداً قرب النافذة ويجلس عليه مع ذكرياته، ويرى النساء الوحيدات المنتظرات، ويتمنى في حلم من أحلامه الرومانسية أن تجلس الى جانبه امرأة، أو شاب يشبهه على الأقل، ليتقاسم معها/ معه، الطعام الذي أعدته أمه، يحقق محمد علوان جبر أمنية بطله، فبينما هو غارق في أحلامه يسمع صوتاً أنثوياً يستأذنه بالجلوس الى جانبه، ومع اهتزاز العربة يفكر بفتح باب الحوار معها، لكنها هي التي بدأت وسألته عن وجهته، فيجيبها بأنه ذاهب الى ثكنته العسكرية في البصرة حيث تدور المعارك هناك… طعم الحرب على لسانه ما يزال حين استيقظ من غفوته ولم يجد الشابة التي كان يتحدث إليها، لم تكن رؤيتها حلماً من أحلامه، فها هو حين وصل القطار الى المحطة يراها برفقة رجل آخر.
في قصة (الأوبتيما الزرقاء) يضع محمد جبر علوان بطله مباشرة بمواجهة ذلك الخوف الذي زرعه النظام السابق في نفس كل مواطن، ترى ماذا فعل ليخبره الشرطي بأنهم سيداهمون بيته الليلة؟ وإذا كان بإمكانه أن يتجاهل الشرطي، فكيف يتجاهل تحذيرات فضيلة المرعوبة، التي حذرته أن لا يذهب الى بيته لأنهم يبحثون عن الممنوعات؟ ما هي الممنوعات في بيته؟ إنها آلة الطابعة الأوبتيما الزرقاء، منذ بداية القصة شحن محمد علوان جبر بطله بالخوف، منذ تلقيه خبر الشرطي وتحذيرات فضيلة، وركوبه الباص وسيره في أحد الشوارع، حتى السنة التالية التي تحتدم فيها مشاعر الخوف وتتغوّل، وهو المقطع الثاني في القصة، حينما اضطر لمتابعة إجراءات أمنية تخص شراء بيت، كانت الطابعة قد صودرت منذ أكثر من سنة، وها هو، حين دخل متابعاً معاملته، يرى عدداً من آلات الطابعة بالماركة نفسها، وبينها طابعته التي عرفها من الحرفين المحفورين، أول حرف من اسمه، وأول حرف من اسم ابنته.. وفي المقطع الثالث من القصة ينتقل المؤلف الى زمن آخر، وهو سقوط النظام، ودخول الأمريكان بدباباتهم العملاقة،وما تبع ذلك من فوضى وسلب ونهب لدوائر الدولة، كان هو أيضاً يركض مع الراكضين، لكنه لم ينهب شيئاً وسط هستيريا النهب، بل اندفع الى تلك الدائرة الأمنية ليستعيد طابعته العتيقة، ولم تغره الطابعات الجديدة من الماركة نفسها، إنه يحتضنها بحميمية، يستعيد ذكرياته، ويُبقي على ذاكرته حية من خلالها.
تحت شجرة سدر عملاقة يجتمع فاقدو الأطراف، وتتكوّم الأطراف الصناعية لمن يحتاجها، وهناك مقهى يديره رجل بساق صناعية، هذا ما خلفته الحروب في قصة (تراتيل العكاز الأخير) التي حملت المجموعة عنوانها، وحينما يموت صديقه تاركاً ساقه الصناعية لدى زوجته، يأتي صاحب المقهى للزوجة طالباً منها الساق الصناعية (سيدتي إنه لم يعد بحاجة إليها) ومن خلال الحوار بينهما يلقي المؤلف الضوء على معاناة فاقدي الأطراف، أولئك الذين كانوا حطباً للحروب العبثية، تطلب الزوجة أن يمهلها يومين للتفكير، فهذه الساق المعدنية كل ما بقي لها من زوجها، ثم ينتهي الأمر بالزوجة الى أن تلف ساق زوجها بقطعة قماش وتذهب الى حيث تتجمع الأطراف الصناعية لتقدمها الى ذلك الرجل، لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، وإنما ترحل بنا الى تلك المشاعر العميقة التي تكتنف ذكريات الزوجة مع زوجها ومع طرفه الصناعي، وفي الوقت نفسه تلاحقها رائحة شجرة السدر كما تحاصرها تلك السيقان التي تتجمع حولها، ثم تفاجأ بالرجل في حديقة البيت، لقد عاد ليعيد لها الساق التي وعلى الرغم من أنها مناسبة في مقاساتها على ما تبقى من ساقه المبتورة إلا أنها توجهه الى حيث تريد، وهكذا وجد نفسه يدخل بيت صديقه ليعيد ساقة الصناعية.
هل انتهت الحرب التي كتب عنها محمد علوان جبر؟ هل خرجت من ذاكرته بمجرد أن أفرغها على الورق؟ أبداً، إنها تتناسل كل يوم، تزيل الرماد المكوّم على سطحها لتستعر في ذاكرتنا عبر هذه القصص التي تقبض على الأنفاس، قصص تحفر عميقاً في أعماقنا التي لم تخرج من عباءة الحروب داكنة الوجع، ليست ثمة احتمالات للنسيان، إنها وشم سيبقى على وجه الوطن حتى بعد أن نموت، لقد عزف محمد علوان جبر على أوتار قلوبنا المكلومة فكانت هذه القصص سمفونية الوجع العراقي الخالص.
هدية حسين : سمفونية الوجع العراقي الخالص
تعليقات الفيسبوك