حامد سرمك حسن : جمال الفن وجمال الطبيعة

hamed sarmak 4أولاً: فلسفة القيمة الجمالية في الطبيعة والفن:
لقد شغلت مسألة العلاقة بين الفن والطبيعة عقول المهتمين بالجمال، فكانت أبرز النظريات التي تجسدت فيها نوعية العلاقة الحميمية والصميمية بين الفن والطبيعة متمثلة في نظرية المحاكاة، وان الفن في جوهره محاكاة للطبيعة.
ما يهمنا في هذا المبحث هو دراسة صفة الجمال في كل من الطبيعة والفن من حيث القيمة وطريقـة تجسدها فـي هذين المجالين وماهية الفروق بينهما. لأن فهم هذه الأمور يعين على وضع التحديد الدقيق لمفهوم الجمال وبالتالي إلى المساهمة في إدراك الإشكالية الإبداعية ووضع التصور الأمثل لفهمها وحل تداخلاتها.
الجمال الطبيعي، كما يقول “كنت” هو الشيء الذي تتوافر له صفة الجمال، أما الجمال الفني فهو التقديم الجميل للشيء، ونلحظ في هذا الكلام بوادر لتوفر الشرط الأولي للفن بوصفه تعريفاً للتجربة. وفي هذا الأمر لا تشترط القيمة في التجربة لكي يتحقق شرط الفن “النوع” بل أن التقديم الجميل للشيء يضمن إطلاق صفة فن على هذا العمل “التقديم” حين تتحقق شروط النوع، ولا يعني التقديم الفني أن الشيء حاو على قيمة أو غير حاو لها، وإنما هذا التقديم الفني “الجميل” يتيح لنا أن ندرج هذا العمل ضمن الأعمال الفنية كتقدير أولي.
وتفهم الصلة بين حالتي الشيء ـ الموضوع ـ بوصفه أولا شيئاً طبيعياً ثم شيئاً فنياً يعيننا على فهم ماهية الجمال فـي الفن. إن أفضل إدراك لمعنى الفن يتم، كما يرى “أرسطو”، إذا ما قورن بالطبيعة. فما كان قبيحا مؤذيا في الطبيعة قد يصبح سارا وجميلا وممتعا في الفن وذلك بفعل عنصر المحاكاة الجميلة التي تستهوي الإنسان فيسره أن يرى صور الحيوانات الخسيسة أو مما يؤذي منظرها، كالجيف، فيما لو كانت محكمة التصوير.
ولا يعني وجود الشيء الجميل في الطبيعة حين يتناول كموضوع لعمل فني انه سيضمن الجمال لذلك الأثر الفني، لأن المرأة الجميلة في الطبيعة قد يكون تصويرها في الفن قبيحاً، إذا لم يكن ذلك التقديم حسب قواعد الفن. فلكل من الجمال في الفن وفي الطبيعة حقيقته التي تميزه عن الآخر؛ إن مفهوم الجمال من الممكن أن يشمل الأشياء الطبيعية والفنية، فكل فن جميل ،وليس كل جميل فنا.لكننا قد نجد عند النظرة الفلسفية المتعمقة،إن عكس هذه المقولة صحيح أيضا، فيظهر لنا بشكل أكثر لمعانا إن كل جميل فنا وليس كل فن جميل.
وعلى الرغم من تحقق صفة الحسية في كلا الجمالين، الطبيعي والفني؛ إلا أن الاول يفتقر الى الوجود الذاتي والآخر يفتقر الى الوجود الموضوعي.
ولقد دأب الباحثون على التمييز بين الجمال الطبيعي والجمال الفني وقاموا بتعليل أحكامهم تلك بأسباب عديدة وكانت معظم الآراء تشير إلى تفضيل القيمة الاستطيقية للفن على الطبيعة، ولكننا سنرى أن لا مجال لعمل المقارنة التفضيلية بين الاثنين لأنهما ليسا من النوع نفسه،فالفرق بينهما ليس فرقا في الدرجة بل في النوع.
ويعرض “جيروم ستولينز” في كتابه “النقد الفني” ( 1)الحجج المؤيدة لتفوق القيمة الجمالية للفن على جمالية الطبيعة، فيذكر عدة أسباب لهذا التوجه منها: (1) إن الفن نشاط إبداعي يقوم به البشر، على حين أن الطبيعة حسب تعريفها ليست كذلك، وهذا ما يؤكد الثقل الاجتماعي للفن (2) ثبات الأعمال الفنية وبقاؤها، وسهولة محاكاتها وعمل نسخ منها، أي توفر عنصر المشاركة فيها (3) وفي مجال التذوق الاستطيقي فان الفن أعظم قيمة مـن تذوق الطبيعة بفعل توفر الإطار في العمل الفني وانعدامه في الطبيعة، ولا تنكر قيمة الإطار في تنظيم التجربة ولم أطرافها مما يسهم في إغناء عملية التذوق، ثم إننا في مجال الفن يمكننا استبعاد الشوائب والعناصر الزائدة وهذا مما لا نستطيعه في المنظر الطبيعي حين نتأمله في الطبيعة، ثم إن العديد من المناظر الطبيعية الخلابة لا يتسنى للجميع فرصة مشاهدتها، وعلى الأقل تلك اللحظات التي يقتنصها الفنان ليجسدها خياله في عمله الفني حين تكون تلك اللحظات الطبيعية متغيرة وغير قابلة للمشاركة فيها كما هي الحال في معظـم الأعمال الفنية …
ولا يخفى الأثر الذي ينشأ عن نوع التوجه في التعامل مع الأثر الطبيعي أو الفني في تحديد القيمة الاستاطيقية لهما عند المتذوق. فنحن، على وجه العموم، نفتقد إلى الاهتمام النفسي السليم في تعاملنا مع الطبيعة لأن القدر الأكبر من اتصالنا بموضوعات الطبيعة هو اتصال “عملي” مما يؤدي إلى صرف انتباهنا الاستطيقي عنها، حيث إن توفر هذا الاتجاه النفسي يؤدي، كشرط، إلى إدراك القيمة الجمالية في المناظر الطبيعية والخروج من تأملنا لها بأبدع النتائج؛ هذا ما نلحظه عند المتصوف الذي يستطيع أن يرى عالما كاملا في ذرة من الرمال.

ثانياً: إثبات ونفي القيمة الجمالية للطبيعة:
تواضع الباحثون على بعض الحجج التي تؤيد أفضلية جمال الفن على جمال الطبيعة وذلك بفعل توفر عنصري الانتخاب والتأليف في الفن، وان جمال الفن واع متأثر بالصنعة على الخلاف من الطبيعة اللاواعية(2) ، ثم إن قيمة الفن ذاتية لنفسه، بينما لجمال الطبيعة قيمة عملية نفعية. وزيادة على ذلك ما يمتاز به الفن من الإيحاء والقوة على إثارة الفكر والعاطفة والخيال بصورة لا تتوصل إليها الطبيعة.
ويمكننا تلمس بعض الفوارق بين الطبيعة والفن من خلال إدراك التباين بين منطقي النشاطين، الفرق بين منطق العقل وبين منطق القلب والعاطفة والوجدان. وعلى ضوء هذه الفوارق يمكننا تصور ((الاختلاف بين منطق العقل عندما يرى ذو العلم حظيرة الحيوان، وسبحات الخيال عندما يرى الفنان نفس المشهد فيحوله إلى لوحة تفيض بمعاني الجمال والشاعرية والألفة)).( 3) فالإبداع الفني يستند في الدرجة الأساس على عنصر التعاطف مع الموضوع والحدس الوجداني الذي يخلق عنصر الاتحاد بين الذات والموضوع للكشف عن الجوانب الخافية من جواهر الأشياء.
والقوانين الجمالية للفن ليست هي ذاتها قوانين الجمال في الطبيعة، فلكل شروطه. وهذا يقودنا إلى فرق بارز بين الجمال الطبيعي وجمال الفن، من جهة قدرة الفن على إضفاء مسحة الجمال على ما يعد قبيحا في الطبيعة. فمنظر الرجل المصلوب في الطبيعة قد يخلق حالة من النفور والاشمئزاز لكن المنظر ذاته يستهوينا ويدعونا إلى تأمله حين يصور تصويراً جميلاً في الفن. فالفن يمتلك القدرة على تحويل الشيء الطبيعي الجامد غير الجميل إلى شيء جميل حين يعمل فيه يده ولمساته. لذلك قد يجتمع الجمال والقبح في العمل الفني متمثلاً في التقديم الجميل للشيء القبيح، وهذا التقديم الجميل يتعلق بقدرة الفنان على استلهام أساليب التعبير الجميل وشروط التعريف الجمالي للتجربة. وعلى هذا، فليس بالضرورة أن يكون موضوع علم الجمال دائما جميلا، بل المهم أن يكون الاتجاه الذي يتخذه هذا العلم نحو المواضيع والأشياء، بالضرورة، اتجاها جماليا.
ويفسر “أفلوطين” –في الانياذة- الجمال الفني بان فرَّق بينه وبين جمال الطبيعة حين عد أن مناط الجمال في الحجر هو ما يضفيه الفنان من لمسات عليه. فالجمال، إذن، ليس في الحجر ولكنه في تلك الخاصية التي وهبها الفـن للحجر، فالحجر من أصل واحد، ولكن التأثير نتج عن تدخل يد الفنان في إضفاء تلك الخاصية الجمالية والتي سبق وان أدركه الفنان بخياله.
ويمكننا تلمس الفارق بين الجمال الفني والجمال الطبيعي فيما نجده عند “هيجل” الذي يذهب إلى أن الفن هو من عمل الروح ويوجد للروح . ومن هذه الخاصية الروحية للعمـل الفني ينطلق لتبرير تفوق الجمال الفني بفعل امتناع العمل الفني على الفناء بسبب من امتلاكه عنصر الديمومة، الأهمية الأعظم، على العكس من النتاج الطبيعي الذي وإن كان مفعما بالحياة إلا انه قابل للفناء، فضلا عن قدرة الفن على تجلية الفائدة الإنسانية والقيمة الروحية لحدث ما، لطبع فردي ما، لعمل ما، في تطورها وعواقبها، وإبرازها في صورة أكثر صفاء وشفافية مما في الواقع العادي، غير الفني.(4 )
إن عنصر الديمومة ـ المتضمن في كلام “هيجل” أعلاه ـ في حقيقته، لا يمكن أن يكون سببا لخلود الفن وتفوقه إلا إذا كان من جهة تجسيد ماهية الشيء وجوهره وعرض القيمة الحقيقية للتجارب من جهة صلتها بالروح الخالدة.
وإدراك القيمة الجمالية في الشيء الطبيعي لا تتوفر لكل فرد، بل تتطلب وعياً وبصيرة تترجم إلى قدرة للغوص في بواطن الأشياء والإطلاع على جواهرها، وزيادة على ذلك ضرورة توفـر الخبرة القادرة على تمييز النفيس من الخسيس. فان الجاهل حين يمر بجوهر، كالذهب، ليس له به علم قد يرميه بعيداً كما يرمي أي حجر لجهله بقيمته. وهكذا في مجال التذوق الجمالي واستكناه القيمة الاستاطيقية للأشياء. فالأمر يتطلب عنصر الخيال والخبرة واختيار زاوية النظر المناسبة للتعامل مع الوقائع، أي امتلاك صفات الفنان بصورة عامة. ولعلنا من هنا نستطيع تفهم كلام “كروتشه” الذي ينكر الوجود الطبيعي للجمال،باعتبار الجمال قيمة كامنة في الوجود ولا يتسنى اكتشافه وإخراجه من القوة إلى الفعل إلا لمن يتأمل الكون بعين الفنان. ولا يعني هذا الكلام إنكار الجمال الطبيعي أصلاً، وإنما هو تأكيد على جوهرية الجمال وامتناعه إمام مـن لا تهمه إلا السطوح والأعراض والمظاهر، تحدوه الحاجة والفائدة العملية لا غيرها. وإلا فإن الطبيعة هـي الأساس في إبداع الجمال الفني؛ هذا ما يؤكده جهابذة الفن والفكر حين يوصون بالبحث في الطبيعة عن النماذج الفنية. ولعل “ليوناردو دافنشي” Leonardo Davinci خير ما يؤكد هذه الحقيقة بقوله: ((إن من كان في مكنته بلوغ رأس الينبوع، يعاف الوقوف عند الغدران)).(5 ) ولا يقصد برأس الينبوع إلا الطبيعة التـي جهد عمره في استكشاف أسرارها المتوارية تحت السطوح الظاهرة للأشياء، حيث يصعب على الإنسان البسيط معرفة ما بها من حقائق بفعل طغيان عاملي الألفة والرتابة في التعامل مع أشياء الوجود وهـذا مما يؤكد “لا مادية الجمال” واستحالة إدراكه من قبل من يعتمد الإدراك الحسي فقط، بل إن الجمال صفة جوهرية وقيمة لا تدرك إلا بالعقل والروح.
في خضم تضارب المذاهب حول القيمة في الجمال الفني والطبيعي وعن أيهما أفضل وأكثر تجسيداً للجمال وأولى بالتقدير، نلاحظ أن الآراء وان اختلفت ظاهرياً فإنها عند التدقيق قد يرتد كثير منها إلى أصل واحد. فمعظم الخلافات حول الشيء الواحد إنما ناجم عن عدم التكلم حول صفة أو جهة واحدة من جهات الموضوع وان كـل باحث ينظر إلى ذلك الشيء من زاوية مختلفة، فتتباين آراؤهم بمقدار تباين زوايا النظر وان كان الشيء واحداً لا خلاف فيه؛ كأن يجري الحديث حول سيارة ما فيقول الأول إن هيكلها مصنوع من المعدن ويقول الثاني معارضاً لا، إن إطاراتها من المطاط، ويقول الثالث إن مقاعدها من القماش والإسفنج، ثم يجري نقاش عقيم يوحي ظاهره بوجـود خلاف كبير بين المتحدثين. لذا، يجب على الباحثين عن الحقيقة التمسك في نقاشهم بالبحث في جواهر الأشياء لا في أعراضها وخواصها الظاهرية المتغيرة في كل حال. وعليه؛ فان مناط الحكم في مسألة القيمة الجمالية لكل من الفن والطبيعة تتمثل، أساساً، في وضع مفهوم عام يسيطر على كافة التفرعات ويكون مقياساً للحكم في هذا المجال.

ثالثا:الفرق بين جمال الطبيعة وجمال الفن:
نلاحظ أن أكثر المسائل إثارة للخلاف، ومؤدية إلى تفضيل الجمال الفني على الجمال الطبيعي عند الفلاسفة والفنانين والمفكرين هي كون الفن نتاجاً إبداعياً مقصوداً ، وان الفن بإمكانه تحوير الطبيعة وجمع كل الصفات الجميلة والمطلوبة في نموذج واحد ليسد ما في الطبيعة من خلة ونقص.
. ويمكننا تفحص هاتين المسألتين فحصاً دقيقاً، مستندين إلى أسس الحق والبديهة، لنرى ان كانتا ستصمدان أمام المحاكمة العقلية أم أنهما ليسا سوى محض خرافة اعتمدها الكثير من المختصين في علم الجمال ليبنوا عليهما صروحاً فكانت مع اقتناعهم أنفسهم بها وإقناع الآخرين، أشبه بقصور شيدت من الرمال وعلى الرمال. فنقول، ابتداءً، إن العمل الفني يستمد قوامه وعناصره من ذات الفنان ومن عناصر الطبيعة أيضاً. وأول الاعتراضات على الجمال الطبيعي وتفضيل الجمال الفني عليه تتمثل في الفكرة القائلة بأن الفن لديه إمكانية الجمع في نفس الصورة بين ما تقدمه الطبيعة في عدة كائنات وهو ما يؤكد ضرورة وضع الجمال الفني في المقدمة وتفضيله علـى الجمال الطبيعي. إن هذا النقص الذي يدعيه البعض في الجمال الطبيعي لايمكن أن يكون قبحاً أو عدم اكتمال، لان الكمال في جانب الحقيقة أن يكون الشيء مطابقاً لمفهومه، فإذا كان الشر في مفهومه يعني العدم، فلا يعني هذا ان كل انعدام لشيء ما أو لصفة معينة في شيء تعتبر شراً لذلك الشيء أو عدم اكتمال وتحقق، بل العدم يكون شراً، في حالة عدم تحقق كمالات الشيء الثابتة لنوعه وطبيعته كما هو في مفهومه . فيقال شر لنقصان كل شيء عن كماله، وفقدانه ما من شأنه أن يكون له. وما ينسب إلى الجمال الطبيعي من عدم الكمال فإنما يذكرنا بما اسماه “ليبنتز” بالشر الميتافيزيقي، وأراد به فقدان كل مخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته، كان لا يكون للإنسان جناحان، وغير ذلك مما يسهل تأليفه من الأمثلة. وإذا وافقنا على هذا النوع من الشر وعملنا على القضاء عليه فهذا يعني أن يحصل كل مخلوق على كل الكمالات فيجمع العالم في واحد، وليس المناط في توفر الصفات في الأشياء هو كثرتها وكثافتها، بل الأمر يتعلق بماهية الشيء وطبيعته، وعلى ضوء ذلك يكون الشر من جهة فقدان ما يستحقه بمقتضى ماهيته وطبيعته.
ولكن الأمر، في جوهره، ليس فرقاً في الدرجة وإنما هو فرق في النوع فيما بين الجمالين الفني والطبيعي. فإذا كان هم الفن استخلاص أشياء معينة، يكون جمالها هو علة وجودها – أي أشياء لا توجد إلا لجمالها من اجل إسعاد الآخرين الذين يتأملونها- فان الأمر في الطبيعة يختلف جذرياً، لان الكائنات الطبيعية عندما تكون جميلة ((لا يكون هدفها الوحيد أن تكون جميلة، بل أنها تنتظم مـن اجل المحافظة على نفسها أولا، والمحافظة على نوعها بعد ذلك فالجمال إذا عندها شيء ثانوي، ينضم، تبعاً لكلمة “أرسطو”، إلى النشاط وإلى محاولة الاحتفاظ بالشباب)) (6 ).
نرى أن مقولة الجمال في النص السابق لا توحي إلا بجمال الصيغة أو شرط النوع بوصفه مدركاً حسياً. و إلا فإن انتظام الكائنات الطبيعية للمحافظة على نفسها ونوعها هو عين الجمال من جهة أداء تلك الأشياء لوظيفتها الحقيقية والمتطابقة مع مفاهيمها المستوحاة من مبدعها. فإن لكل شيء موجود في الطبيعة ولكل صفة من صفاته ما يبررها ويعللها وان ليس ثمـة نقص أو عدم كمال. بل الأمر متعلق بماهية الشيء وطبيعته من حيث تمام الوظيفة التي ينبغي له التزامها والعمل على إنجازها في وجوده. فكل شيء نجد له تعليلاً هو جميل وليس زائداً أو نقصاً. يقول “ديدرو”، في كتابه فن التصوير: إن لكل صورة – جميلة كانت أم قبيحة- علتها، وليس بين الكائنات جميعاً موجود واحد يمكـن أن يقال عنه انه ليس على ما يرام، أو انه ليس كما ينبغي أن يكون. فكل شيء في الطبيعة موجود بالشكل الـذي يجب أن يكونه،((وبهذا المنطق- يجب أن نفهم تطابق الجمال مع الحقيقة، الجمال هو مطابقة الصورة للأصل)). (7 )
أما القضية الثانية المتعلقة بالقصدية التي تنشئ العمل الفني وانه نتاج إبداعي ناجم عن رغبة واعية في عمل شيء رائع، فقد جعل هذا السبب ذريعة للطعن في الجمال الطبيعي وتفضيل الجمال الفني عليه. إذ يعتقد عديد من المفكرين إن عدم الوعي المسبق وعدم القصد المسبق هو صفة الجمال في الطبيعة، مما يفضي بهم إلى الحكم بأفضلية الجمال الفني على الطبيعي، وتخلف الطبيعة في مضمار الوجود. ويبدو إن هذا الاستنتاج فيه نظر حينما ندقق في الأساس الفكري الذي ابتنى عليه هذا التفضيل وهو مسألة عدم وجود القصد والوعي في عمل الأشياء الطبيعية وأنها نشأت بلا وعي ونية مسبقة. أولا؛ يمكننا القول إن وجود الرغبة وحدها عند الفنان لخلق الآثار الفنية ليس كافياً للوصول بعمله إلى درجة الكمال والجمال وتجاوزه للجمال الطبيعي. فالفن تتداخل لإنجازه عوامل عديدة مما يصلح ليكون ذا صفة علائقية تتمخض عن إشكالية ضخمة مما نحن بصدد دراستها بعض منها في هذا المبحث. ثم إن انعدام الرغبة والقصد والوعي في تكوين الأشياء الطبيعية ليس من صلاحية الإنسان البت فيها وتأكيدها لأنها في مضمار أخر يتجاوز طاقاته ولا علاقة لتقريراته بتعين ماهيتها أو طبيعتها وما يجب أن تكون عليه. لأن الحق من جهة المعرفة، يحد إجمالا بأنه المطابقة بين المعرفة والأشياء، وهذه المطابقة تختلف؛ فقد تكون مطابقة المعرفة للأشياء متى كانت الأشياء أصولا وأشبهتها المعرفة، وقد تكون مطابقة الأشياء للمعرفة متى كانت المعرفة أصلاً وأشبهتها الأشياء المكونة عنها، سواء في ذلك الأشياء الطبيعية والمصنوعات الإنسانية.
وما دام الإنسان ليس مقياساً للأشياء، لأنه ليس خالقها وموجدها، وما دامت الأشياء لم تصنع أنفسها وتتلبس بماهياتها، لذا يتوجب إرجاعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما إن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها. ومناط وصف المصنوعات الإنسانية بالحقيقة هو مشابهتها لتصور العقل وصنع الفن، لذلك ليس صعباً فهم التفكير الجوهري فـي استطيقا “سانت أوغسطين” حين يدعو إلى اعتبار الطبيعة هي العمل الفني لله، وأن الله هو فنان الكون.
ولذلك، وكما قلنا من قبل فان الفرق بن الجمالين الفني والطبيعي ليس فرقاً بالدرجة بل هو فرق بالنوع، والأشياء الطبيعية ليس الإنسان مقياساً لها بل إن الحقيقة تلحقها من ناحيتيـن ((من ناحية العلم الإلهي، وهذه نسبة ذاتية، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال، وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئاً، وان عدمت لم تنقص منها شيئاً)).( 8)
وبذلك يمكننا تفنيد الأساس الثاني الذي ابتنى عليه تفضيل الجمال الفني على الجمال الطبيعي من جهة عدم توفر القصدية والرغبة الواعية في إنشاء الأشياء الطبيعية بعكس ما هو موجود بالفن، لان الطبيعة وليدة قصد ووعي الهي. وعليه فانه لا يوجد شيء غير حقيقي في الطبيعة، وبالتالي لا يوجد فيها شيء غير جميل. فما دام الحق مساوقاً للوجود، فان كل موجود فهو لابد أن يكون مطابقاً للحكمة الآلهة التي أوجدته، مما يعني إن كل موجود له ماهيته، وان وجوده وطبيعته هو عين ماهيته، وبالتالي فهو جميل. لذا لا نجد مبرراً لوصم الطبيعة بالنقص الجمالي في مقابل الفن، مادام مقياس الجمال متمثلاً في كون الشيء تجسيداً لماهيته وفي ذات الوقت لديه من الصفات والأعراض ما تجعله مؤهلاً للقيام بتمام وظيفته ليكون مطابقاً لمفهومه..

هوامش :

————-

(1 ) ينظر: النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية- جيروم ستولنيتز- ترجمة: د. فؤاد زكريا- مطبعة جامعة عين شمس- 1974، د.ط: ص ص 63- 70 .
(2) ان العمل الفني أيضاً مادة جامدة لا واعية، وما الوعي إلا في أذهاننا وكذلك الطبيعة وان كانت حية متحركة.
(3 ) الحس الجمالي : – محمد صدقي الجباخنجي – دار المعارف، مصر، القاهرة – ط1 – 1980.
ص 69.
(4 ) ينظر : المدخل الى علم الجمال: ص66.
(5 ) الجمالية؛ المفاهيم، والآفاق، والخصائص الأساس – ترجمة: د. ثامر مهدي- الموسوعة الصغيرة “435”. (النص الكامل لمادة History of Aesthetics، كما ورد في دائرة المعارف البريطانية، نشرة وليم نبتون 1966) – د.ط، د.ت. : ص 73.( ) بحث في علم الجمال: ص 423.
(6) موجز تاريخ النظريات الجمالية: ص 151.
(7 ) العقل والوجود: ص 131.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *