مدرّس مادة علم النفس – كلية التربية – جامعة الموصل
في قصديته ” فرج الله ” يعيش المناصرة محنة الانتظار والترقب . فبعدما هيمن عليه اليأس والقنوط في حواراته مع الباب العالي ومراسلاته مع الوالي عاد في هذه القصيدة ليعيش خبرة ما يمكن ان ندعوها ب ” الامل Hope ” . ومن العنوان مباشرة يدعونا المناصرة الى مشاطرته للعيش معه سعادات الامل وافراح الانتظار لمجيء من يمكن ان يكون منقذا له ولقضيته . هناك وقع في فخ الارتداد والضياع وهاهنا ترقب لمجيء المنتظر . وقد يتقمص المناصرة شخصية هذا الآتي ليعيش اعباقها . هذا التقمص قد يكون عاملا من عوامل التفريغ الانفعالي لشحناته المحبوسة في جوانحه . ان رسم معالم مثل هذه الصورة ما هي الا امتداد لمخاوفه التي وجدناها في النصين السابقين . هنا وضع الثقة في ” فرج الله ” بعدما اخفق مع بابه العالي وواليه الذي انشغل عنه بنسائه وموائده . لنقرأ النص ونتابع آهاته . فيقول :-
عرّجتَ . تلوت َ القسم الحزبي لأرض النبطية كانت تنتظر قدومك
تزرع في دربك شجر الاحرار المتشابك .
كنتُ أشاهدك مساءً ، تتفقد أضرحة الزراع المذبوحين
وخصوصا ” حسن الحايك ” .
كانت عيدان التبغ الدامي يغسلها الدمع
وكانت اشجار البلوط تقول : غدا يأتي .
واليوم تجيء فقد نثروا جسدك من باب الشام
الى باب القدس . . . كما نثروا صوتي .
هكذا صرتَ أرضا ً تئن من النيل الى الفرات
هكذا صرتَ وجه الزمان الممدد فينا
وصرت الصخور وصرتَ البيوت
وصرت العناصر . صرت النبات
كنتُ طفلا . ولكن عرفتك من قصص الامهات .
(الديوان ، ص 385)
******************
الخطاب موجه الى هذا الذي ينتظره كل من يرى ان في الارض ظلما وجورا . ” فرج الله الحلو ” هو احد القادة الماركسيين في الحزب الشيوعي اللبناني . ونميل الى الظن ان المناصرة قد اجاد لعبة العنونة للقصيدة . فرج الله بحد ذاته لا علاقة له بصاحبنا الحلو هذا . ان لله فرج ما بعد كل ضيق يمر به العبد المؤمن اذا انطلقنا من المفهوم الصوفي لمفردة ” العبد ” . المناصرة يدرك او عايش خبرة الضيق باي مفهوم تريد ان تراه . ارض مسلوب ، بعيد وغريب عن الارض ، مشلول الارادة في وطنك ، فمك مطبق عليه لا تستطيع ان تقول شئيا ما . انت كائن متشيء . فقدت ادميتك .. لأنك مسلوب الكرامة والحرية . اليس هذا كله مظهر من مظاهر الضيق واذا اجتمعت كل مظاهر الضيق دفعة واحدة ، فأي ضيق يكون إذن ؟! . بالمقابل فأن صاحب الضيق هذا ينتظر مخرجا .. مخلصا .. رجاءا .. منتظرا !! . الوجود كله في الضيق إذن . لا فسحة للأمل فيه . من هنا مجيء فرج الله الحلو ليكون هو فرج الله . لاحظ كيف ان المناصرة اتقن لعبة العنونة ومازج صورا عدة ومعاني عدة في صورة ومعنى واحد . فالذي ينتظر الفرج فالفرج هو عند الله فقط . وها هو فرج الله قد جاء ولكنه فرج الله الحلو القائد الماركسي المنتظر الذي سوف يشد على يد البروليتاريا ويقوي عزمها لكي تكون ديكتاتورية في المجتمع اللا طبقي المنشود . نعم لقد صور المناصرة فرج الله هذا بهاتين الصورتين الممزوجتين شكلا ومضمونا . يستعرض المناصرة مقتل الحلو وهو قد قتل على يد جلاديه وذوبوا جسده بالأسيد . المناصرة يؤكد مثل هذه الميتة بل يتماهى معها ويعدها ميتته هو . فرج الله الحلو نثروا جسده وها هم الجلادون ذواتهم !! ينثرون صوت المناصرة ويمنعون حنجرته من الانطلاق . الصورة في هذا المقطع فيها اسماء لها صدى في ذاكرة الشاعر . قد تكون هذه الاسماء لأصدقاء الشاعر او ذوييه او معارفه . في اخرى جملة يصدمنا المناصرة بحقيقة علاقته بهذا الفرج . فهو كان طفلا لا يعرف من هو فرج الله هذا لكنه سمع قصته من الامهات . قصص الامهات ربما تكون من خلق المخيال الشعبي لتهدئة مشاعر الاطفال وتسكين وتطمين عواطفهم ازاء المجهول او المستقبل او اللا معروف . هذا يعني بالتالي ان فرج الله هذا ليس غير اخيولة fantasy تخترعها مخيلة الامهات لذلك الغرض الجميل . المناصرة نشأ إذن على اخيولة الفرج .. فرج الله .. فرج الله الحلو . تصوروا عقيدة تنشأ على مجرد اخيولة . اليس من حق المناصرة اذن ان يرتد ؟ . في المقطع التالي سوف تتمحور مشاعر المناصرة على فرج الله الثالث .. اعني الحلو . ها هو يقول :-
اعلن منذ الآن بأنك صوت ما زال يدوي
في الوديان الراحلة إليك وكنا نحكي أنك يوما ستؤوب
ترحل ي سفح الجبل الأحمر مزروعا
ما بين الشريان وبين العظم . . . تلوب .
في أعضاء السماق . . . السرو . . . و لابد لكل غريب .
أن يرجع موسوما بصليب وصليب وصليب .
أعلن من منذ الآن بأني من حزبك حتى يزهر
قبر صبايا التبغ وحتى تخضرّ دروب ٌ ودروبٌ ودروب ْ
تنتظر قدومك . تنتظر قدوم المحبوب .
اليوم تجيء عريسا من حولك يفرح أطفال قرانا
وتعانقها الآنا
لستَ غريبا . . لا تخجل وتقدم .
الفرح يقاتل أوغاد الليل . . . تقدم
التبغ يعادي من لا يسقيه صباحا ومساءا فتقدم
للدهشة أسباب . . . نعرف أنك َ طفل يلقي أسئلة ً
لا تُسأل ْ .
(الديوان ، ص 386)
******************
على الرغم من نثر جلاديه لجسده بهذه الطريقة البشعة ، الا ان صوته ما زال مدويا ولايزال يدوي . انه صوت ما بعده صوت . قال المسيح مرة ” لا تخافوا من الذين يقتلون ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها ، بل خافوا بالحري من الذي يقدر ان يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم ” . هنا استثمار وتوظيف لهذه العبارة . لقد نثروا الجسد الا ان روحه تجسد في صوته الذي ما زال يدوي . في خطابه الباقي الذي لا يزول . كم فكرة بقت على مدى الدهور بينما اصحابها اندثروا وطواهم الزمان . هذا هو الخلود بعينه الذي ينبغي البحث عنه وهذا الذي تحتاجه النفس الانسانية . هنا استعجال لقدوم هذا الفرج بأنواعه الثلاثة ؛ الفرج بطبيعته الانسانية ، وبشكله المقترن بالخطاب الديني وبمضمونه المعبر عنه وفق التصور الماركسي . لقد اختزل المناصرة كل تلك الاشكال بصيغة واحدة للتعبير عن ذلك الفرج . ثمة شعور بالأمل الكبير يجتاح الشاعر في نهاية المقطع حول شخصية هذا الفرج ان
– الفرح يقاتل اوغاد الليل … تقدم
****************
صورة هذا البطل الفرجي أن صحت العبارة ، صورة بسيطة يرسمها لنا المناصرة عنه :-
… نعرف أنك َ طفل يلقي اسئلة
لا تسأل .
***************
هذا هو البطل في مخيلة المناصرة . وهذه هي عناصرها ومضامينها . انها اذن رسالة موجه الى من يهمه الأمر للخروج من مآزقه وهمومه .
سوف ينتقل المناصرة من صورة الفرج الخارجي الى صورة الفرج الداخلي . بعبارة ادق ستتحول اخيولة الفرج من الفرج الالهي .. الحلوي .. الى اخيولة الفرج المناصري .. وسوف يكون هو الفرج الحقيقي , لنرى كيف جسد المناصرة تلك الاخيولة التي تمركز وتمحور حول نسيجها :-
طفل أنا . . قدمت من قرية بني نعيم
تقع ما بين الحزن وبين الكرباج
هي أقرب أولاد البحر الميت لقلبه
تناثرت مثلك . . لكني تعطرت بدمك
طفل أنا قدمت من التبغ المتراكم في وادي الجوز
شاهدت أهرام الجيزة . . . وسيدة حريصا
وآثار أقدام أجدادي فوق صخور جبل ماريا الشمالي
وأراك تركض في شارع طويل
تبحث عن ملامح وجهي
حسنا سأقول بعض التفاصيل :
” هنا . مر من هنا أشبالنا ”
وهناك في سفح عيبال تسكن حبيبتي
(الديوان ، ص 387)
********************
ولد المناصرة طفلا وفرج الله يبحث عنه في وهو راكض في شارع طويل . ان رمزية الشارع الطويل يمكن ان تكون دالة على عمق الانتماء والقرابة الروحية بينهما ان لم تكن قائمة على مشاعر الغيرة (الايجابية) !! التي يحملها المناصرة ازاء هذا الفرج . الم يتعطر بدم الفرج ؟؟ . ان جذور المناصرة بعيدة تمتد من الاهرامات الى سيدة حريصا وفوق صخور جبل ماريا الشمالي والى سفح جبل عيبال حيث هناك تسكن حبيبته . هذي هي الامنية الكبرى التي ينبغي ان تنهي تلك الايام التي قضاها المناصرة بين الحزن والكرباج ! . حبيبته هي النهاية هي خاتمة المطاف !! . في المقطع التالي سوف يتمركز المناصر وينشغل في امل المجيء ، إن صحت العبارة . لم يعد فرج الله الحلو مجرد ذكرى او صورة عالقة في الذاكرة ؛ فردية كانت أم جماعية ، بل صارت واقعة لا خلاف بشأنها . هذا كلام قد يبدو غريبا لأن المناصرة لا يعتبر هذا الفرج في عداد الاموات بل قوة محركة للأحداث وانه ما يزال يعيش في روح الشعب . هل يمكن توظيف النص القرآني الخاص بصلب المسيح ونقل معناه الى حالة فرج الله الحلو ؟ إذن ” ما قتلوه وما صلبوه بل شبه لهم … ” . لنرى مدى صحة افتراضنا هذا . يقول المناصرة :-
الليلة جاءوك وما كنت سوى إشراقة
روح الشعب . وهذا يكفيك
الليلة جاءوك وقهقهت الالسن
في سجنك هذه الليلة . . . جاءوك
ذلك ان القتلة عرفوا ان لسانك لا ينطق
إلا حين يريد . لذا قتلوك .
شقوا قلبك نصفين
خلعوا عينيك َ لأن الزراع المذبوحين
حملوا أمتعة الزمن المر وطافوا
التموا في بابك واختبأوا في العينين
ورأوا في عينيك الغابة والبحر ورمل الصحراء .
وكذلك . كانت خطوات العمال . سواعدهم
تتأرجح من طول الارهاق . وجاء النعي
صباحا لا أدري أو ظهرا أو عصرا
فتراكض في الاجفان الدمع . . . . بكوك .
الليلة يا فرج العمال ، تهاوى ، انذبح العامل محمود
من أعلى برج يبنيه لسادة هذي المدن الصفراء
كتبت إحدى الصحف بأن الموت طريق الله. . .
وأنّ الموعد قد حان فلا حول ولا قوة .
والليلة يا فرج الزراع انقلبت شاحنة
تحمل عمال التبغ الاخضر . لم يحدث شيء
قالت كل الصحف بأن حليمة أخذت غفوة .
والليلة يا فرج الطلاب الثوريين
كنت أشاهد صورتك على مقربة منها
تقع فلسطين .
(الديوان ، ص 387- 389)
***********************
مناجاة مع الروح .. روح فرج الله . صار فرجا للعمال والزراع والطلبة الثوريين . الا تشبه هذه الصورة صورة المؤامرة التي قادها يهوذا على معلمه واسلمه الى اسياده . كان المسيح هو الآخر امل المتعبين والحزانى والجياع والفقراء والمشردين ولكنه قتل في ليلة ظلماء . ان فرج العمال والزراع والطلاب هو الآخر وقع فخا للمؤامرة . الا انه مثل المسيح الذي لم يقتل ولم يصلب بل كان على مشارف فلسطين وقلبها . فلسطين لازالت تنزف ولم تمت ففرج الله هو الاخر لم يمت بل لا يزال حيا ما دامت فلسطين على قيد الحياة . روح فرج الله ترفرف على اغصان اشجار الزيتون لفلسطين . يقول المناصرة في مقطعه الأخير :-
من يقطع في القول بأنك في هذه السنة البيضاء
لم تعرف أغصانا حرقت في دبّين .
من يقطع في القول بأنك لم تعرف
ما حدث لأهل المنفيين !!! .
علقتك في شريان القلب . ولملمت رمادك
من قاع النهر . حملتك في البال سنين.
واليوم نلملم أجساد الشهداء الخضراء ….
فوزع باسمك للشعب نياشين .
لا بد لكل غريب أن يرجع للساحات
لا بد لكل غريب أن يرجع للساحات
وخصوصا أنت . . وثوار فلسطين .
(الديوان ، ص 389)
*********************
إذن هذا الفرج ! ما زال حيا في القلب والذاكرة والبال . ويتحدى المناصرة وعم الزاعمين من فرج الله يعلم كم غصنا حرق في دبين . القصيدة مكتوبة في عام 1974 وحريق دبّين حصل عام 2008 * المهم . ان المناصرة يرفض موت فرج الله وينكره ويعيش محنة الانكار . هذه الالية كثيرا ما نجدها في حالة موت او فقدان شخص عزيز . فيظل قريب الميت هذا ينكر موته ويلجأ الى الف مبرر ومبرر لكي ينفي موته في لا شعوره . المناصرة يعيش ذات المحنة بالنسبة الى فرج الله ؛ أيا كان هذا الفرج . يرفض موته ويعيش امل عودته وتفقده لأحوال اهل المنفيين . سيعود يوما ما ، إن قرب أو بعد هذا اليوم وسوف يقيم العرس الاكبر .. عرس العودة وسوف يعلق على صدور الثوار نياشين الحرية وسوف يزرع الف غص وغن بدلا من الاغصان التي حرقت في دبين . سوف يعود وينبغي ان يعود !! . كانت هذه النصوص بمثابة اشباع لرغبة الامل والرجاء في عالم لا يعرف عنهما شيئا ما يذكر .
الهوامش :-
* اعتمادنا على هذه المعلومة من الانتريت عن مادة محمية ” دبّين ” في الاردن .