حامد سرمك حسن : الحق، الخير، الجمال؛ الجمال والقيم الأخرى

hamed sarmak 4أولاً: علاقة القيم فيما بينها؛ تطابقها وتداخلها:

تعد مفاهيم الحق والخير والجمال وتفرعاتها،هي القيم التي تُرَد أليها الأحكام التقديرية(1) ، وهي على علاقة وثقى ببعضها من جهة تداخلها في معانيها أو تعارضها بحسب وجهات النظر.
وهذه المعاني الثلاث “الحق، الخير، الجمال”، زيادة على معنى الوحدة، خصائص للموجود بما هو موجود ولا تختص بكلي آخر غيره.أي إنها لازمة(2) من معنى الوجود لزوماً (3) مباشراً .
ويشهد الحال وجود تشابه وتداخل كبير بين قيمة الجمال والقيم الأخرى، مما يحتاج إلى بصيرة نافذة قادرة على تحديد ميدان كل قيمة من هذه القيم؛ ووصل ذلك التشابه والتداخل إلى درجة ان البعض قد ارتأى ضرورة البدء ((بنظرية واحدة في القيمة يمكن تطبيقها بتعديلات طفيفة على ميدان علم الأخلاق وعلم الجمال وعلم الاقتصاد)).( 4) فالإنسان السوي، بوجوده على ارض الواقع، تكون شخصيته حصيلة لعمل ملكاته المتعددة، مثل مَلَكات(5) التفكير والإرادة والإحساس، لذلك لا نرى مبرراً للفصل بين هذه الملكات كما هو قول أصحاب الفلسفة الجمالية من ارتباط كل ملكة منها بادراك قيمة محددة من القيم الثلاث، كاختصاص ملكة التفكير بالحقيقة وملكة الإرادة بالخير وملكة الإحساس بالجمال في الطبيعة والفن.
وعلى ضوء التأثير المتبادل لملكات الإنسان المختلفة في إنتاج حكمه التقديري، فلا يوجد مبرر،أيضا، لفصل قيم الجمال والفنون عن قيم الحياة الأخرى، لان ما تقدمه الفنون هي قيم حياتنا ذاتها مصاغة في تجارب فنية كاملة.
ولمّا كانت مفاهيم الوحدة والحق والخير والجمال هي التي تمثل الأصل في الوجود، بوصفها صفات لازمة من معنى الوجود لزوماً مباشراً، لذلك كانت هذه القيم متداخلة فيما بينها من جهات معينة. يقول “ديدرو” ((إن الحق والخير والجمال بينهما وشائج وثيقة، أضف إلى الأولين بعض الصفات النادرة الوضاءة فيصير الحق جميلاً)).( 6)
وهذه المشاركة في المعنى بين هذه القيم ناشئة من اعتبار انه ((لما كان الجمال إدراكا والتذاذاً معاً، كان مشاركاً في معنى الحق والخير معاً ولذا يجيء بعدهما في تسلسل لواحق الوجود ابتداء من الوجود عينه، فالجمال إدراك حق ما، لكنه يزيد على الحق انه معجب ولاذٌّ، وقد يصير الحق كذلك فيصير جميلاً، والجمال يثير نزوعـاً كالخير، ولكنه نزوع العقل الذي يدركه، أو البصر أو السمع اللذين يتأثران به. فالجمال بمثابة نوع من الخير قد يصير خيراً)).( 7)
ونجد عند “باومجارتن” التأكيد ذاته على تداخل الصفات الثلاث “الجمال، الحق، الخير” في معانيها. فهو يبتدئ ذلك التحديد من رأيه في الكمال إذ يعده متمثلاً في تطابق الأشياء مع مفاهيمها. ومن الممكن توفر الكمال في ملكات الإنسان الثلاث وهي التفكير والإرادة والإحساس؛ أي الكمال موجود فـي المعرفة الواضحة “العقل” وفي الأفكار الغامضة “المعرفة الشعورية”، وكذلك في صفة التمني العزيمة. واستناداً إلى ما تقدم، وبسبب من وجود هذه الصفات الثلاث، فان الكمال يظهر في ثلاثة مستويات: الحقيقة، الجمال، الخير، وبالتالي فان الجوهر الواحد يدرك بأشكال مختلفة، مثله كمثل إدراك الطائر المغني فالتغريد للسمع والشكل والألوان للنظر.( 8)
وهذا التخصيص للمجالات التي تتكفل بإدراكها كل من ملكات الإنسان الأساسية؛ العقل، الإحساس والإرادة – الـذي صار كفيلا بتحقيق نسبة التشابه والقرب بين القيم الثلاث المدركة من قبل تلك الملكات، الحق، الجمال، الخير – على التوالي- نجد شبيهاً له في التحديد الذي وضعه الشاعر الأمريكي “إدغار آلن بو” حين قسم العقل البشـري إلى ((عقل خالص، ذوق، وحس خلقي، وللثلاثة أساس مشترك في طبيعتها، ولكن “وظائفها” أو مهامها مختلفة)).( 9) وبموجب هذا التقسيم يكون العقل مع الحقيقة، والذوق مع الجمال، والحس الخلقي مع الخير “الواجب”.
ولا ينكر أن ملكات الإدراك الثلاث هذه مترسخة في داخل الإنسان وتخضع بشكل أو بآخر لطبيعته وتذبذب حالته النفسية فتتراوح ما بين الشدة والضعف في صدق الإدراك والإصابة والخطأ في الحكم. لذلك فان إدراك هذه القيم وتقديرها “الحكم عليها” لا بد أن يتأثر بالحالة الذاتية للإنسان بشكل أو بآخر. وعلى الأقل، فان للحالـة الخاصة(10) للشخص المدرِك أكبر الأثر في إدراك ما يقابلها من قيمة، وكما رأى “كانت” فان الجمال لا يعدُّ شيئا في حالة انفصاله عن شعورنا. وفي قول “أفلوطين” خير دليل على ذلـك حيث يشترط تعادل الرائي والمرئي أو على الأقل تناسبهما حتى يمكن رؤية الجمال . وقد صوره الشاعر “صمويل تايلور كوليردج”، في قصيدة له، تأثير الذات، أو الحالة النفسية للمدرك، في الإدراك، قائلا:
ياوليام! إننا نستقبل ما يعطى
وفي حياتنا وحدها تعيش الطبيعة
وحلة العرس التي ترتديها هي من عندنا
ومن عندنا كفنها…
* * *
ثانياً: الفصل بين القيم الثلاث:
لقد اخذ كثير من فلاسفة العصر الحديث يتجهون إلى التفريق بين القيم الثلاث وبالأخص في مجال الفن، وهو نـوع من المغالطة والخلط في المفاهيم ومجالاتها. فهم، وبحجة اختلاف الملكات الإنسانية المدركة للقيم ، كما أوضحنا فيما سبق(11) ، وبحجة اقتصار التقدير أو الحكم الجمالي في الفن على العنصر الجمالي المتمثل في شرط الفـن من دون اعتماد قيم الحق والأخلاق؛ فإنهم قد استبعدوا قيم الحق والخير عن المجال الفني واقتصروا على القيمة المتمثلة في شرط النوع أو الفن. لذلك كان هنالك تأكيد للفصل، وبشكل حاسم، بين القيم الجمالية والأخلاق، باعتبار أن ثمة مفهوم متفرد لكل من القيم الثلاث ،الحق والجمال والخير،وليس هنالك ،بالضرورة،ارتباط بين هذه المفاهيم وان تداخلت فيما بينها .
على ما يبدو، فان هذا الفهم الحديث للعلاقة بين هذه القيم ومالها من تأثير في الحكم الجمالي هو على العكس مما كان يخوض فيه الفكر الفلسفي منذ “أفلاطون” الذي كان يرى أن الفن العظيم هو الذي تتحقق فيه كل هذه القيم الثلاث، وهي الخير والجمال والصدق مما يتوجب على الفن أن يسعى إليها. يعتقد “الجماليون” أن الجمال له طبيعة ذاتية، ووجود جوهري قائم بذاته مستقل عن اللذات الحسية والانفعالات العاطفية المعهودة، وبهذا قالوا بوجود نوع مختلف من النشاط الذهني في التجربة الجمالية. وهم يفصلون قدرة الانفعال وتقديره عن كل من المعرفة والخير، دون أن تهتم بالحصول على الحقائق، أو الأخلاق، وانتهوا إلى أن جعلوا للجمال وجوداً مثالياً، له قوة غيبية “ميتافيزيقية” سحرية( 12).
نرى أن منشأ هذا الفهم في الفصل بين القيم الثلاث والاقتصار على الجمال “جمال الفن” في الحكم إنما كان بسبب الخلط بين مفهومي شرط النوع أو الفن وشرط القيمة “الجمال”، فتم الاقتصار على شرط النوع وتعميمه ليصبح هو الكل في الكل. وهذا ناشئ من انعدام الدقة في الحكم والتعجل لما يوافق الأهواء وابتغاء أسهل الحلول تجنباً لتوترات الإرادة أو الدخول في تعارضات مع المد السائد. ولا يغيب مدى صعوبة فطم الإنسان عمّا تعود عليه وبالأخص إذا كان الإنسان ذاته هو فاطم نفسه.
أما الحق وهو الصفة الثانية من صفات الوجود بعد “الواحدية” فانه يرجع إلى معنيين أحدهما ما به الموجود هـو هو(13) ، فكل موجود حق بحسب حصوله على ماهيته، كما نقول: “هذا ذهب حق” حين يكون الشيء حاصلاً على خصائص الذهب، والمعنى الآخر هو المطابقة بين المعرفة والشيء المعروف. ولا تدرك ماهية الصدق، في ميدان الفن، بوسائل المنطق والفلسفة والعلم، لأن مناط الاستجابة الجمالية في الفن، وفـي الدرجة الأساس، هو الوجدان وليس العقل. فليس الجمال هو الحق المنطقي أو الفلسفي أو العلمي، ولكنه الحقيقة منظور إليها من ناحية الوجدان والشعور، ثم إن هذا ليس معناه أن الصدق في ميدان الفن مطابق للصواب في ميدان البحث عما هو حق .
والصفة الثالثة من صفات الوجود، أي الخير، يأتي تسلسله بعد الوحدة والحق، وهو ((من المعاني الأولى وأثره تحريك النزوع(14) )).( 15) ومن الخير يتفرع المفيد واللذيذ، فقد يقال خير لما كان نافعاً ومفيداً لكمالات الأشياء، فالخيرات ((منها ما هو مؤثر لأجل ذاته، ومنها ما هو مؤثر لأجل غيره، ومنها ما هو مؤثر للأمرين جميعاً، ومنها ما هو خارج عنها)).( 16)
والخير لا بد أن يحدد من جهة علاقته بالنزوع، من انه محرك للنزوع وباعث على الطلب والحركة. لذلك كانت التعاريف المنقولة عن الفلاسفة بخصوص الخير تتعلـق بالدرجة الأساس بهذه الخاصية.فالخير هو المقصود من الكل( 17)، أو هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده( )18.
ولكن، ما نوعية العلاقة بين الجمال والخير أو القواعد الأخلاقية؟ تراوحت الآراء ما بين الربط بينهما أو اعتبارهما منفصلين لكل واحد منهما أسسه وميادينه المختلفة. فقد كان فلاسفة اليونان ومنهم “أفلاطون” و”الرواقيون”(19) من الذين يربطون بين الحق والخير والجمال. وفي العصر الحديث نرى “هربارت” يوحد بين الخيرية والجمال، ويجعل علم الأخلاق فرعاً من فروع علم الجمال؛ ونجد الأمر ذاته عند “شافستبري” من جماعة القائلين بالحاسة الخلقية، حيث كان يرى أن الجمال ضرب من الانسجام وان الانسجام بين وجدان الفرد ومطالب المجتمع هو جوهر الأخلاقية، أي جمال التناسب والتناسق بين وجدانات الأفراد بعضها مع البعض في علاقاتهم الاجتماعية، مع استبعاد سائر الميول الشاذة غير الطبيعية التي لا تستهدف غاية معينة.( 20)
ومثل ذلك الربط بين الجمال والأخلاق نجده عند “آلان”، الذي يعد “الخير” صورة من صور “الجمال” بل انه يربط الجمال بالدين بشكل وثيق حيث أن هذه العلاقة بدأت تنسى مـن قبل الإنسان، أي الطابع الديني للجمال حينما اخذ الإنسان يربط الفن ((بأهوائه وانفعالاته وعواطفه، فجعل من الفن مجرد أداة للمتعة أو اللذة، في حين أن الفن قد ارتبط من قديم الزمان بأقدس عقائد الإنسان، وأسمى أفكاره و أرفع قيمه)).( 21)
ولكننا نجد عند فلاسفة آخرين محاولات جادة للفصل والتمييز بين القيم الجمالية والقيم الأخلاقية، كما نلاحظ ذلك عند “سانتايانا”، حيث يعتقد إن الأخلاق مجالها النشاط الجدي والتكليف، بينما الفن هو عالم الحرية، ولذا نراه يقرر أولاً( 22): أن القيم الجمالية، قيم إيجابية تمدنا بلذات حقيقية، في حين إن القيم الأخلاقية قيم سلبية تقتصر مهمتها على اجتناب الألم ومحاربة الشر. ثم يفرق بين القيم الجمالية من جهة والقيم الأخلاقية والعملية من جهة أخرى على أساس من الثقل الذي تمثله الضرورات العملية والغايات النفعية في تحديد قيمة النشاط الأخلاقي، وهذا ما يميز الجمال لان مجاله الحرية والتلقائية وعدم التقيد بشروط الحاجة والضرورة – من جهة شروط التجربة الجمالية والموقف الاستاطيقي من الأشياء- ومن هذا المنطلق، يحدد “سانتايانا” السمة الثانية للتمييز بين القيم الجمالية والقيم الأخلاقية، فالقيم الجمالية مكتفية بذاتها، دون أن تكون مطلوبة لغاية وراءها، فالقيم الجمالية إنما تحمل قيمتها في ذاتها، في حين إن ما عداها من القيم إنما هي مجرد أدوات أو وسائط تطلب في العادة لغايات أو مقاصد.
ثالثاً: الجمال؛ المفيد، النافع، السار، اللذيذ:
والحديث عن الحاجة والضرورة يدخلنا في مجال الحديث عن النافع أو المفيد واللذيذ أو السار بوصفهما واقعين في سياق مفهوم الخير وان اختلفت نسبة الخيرية في كل منهما.
عموماُ، وكما ذكر من قبل، فان الخير من جهة إيثاره ومدى اختتامه لحركة النزوع ينقسم إلى مأثور لأجل ذاته، ومأثور لأجل غيره، ولذيذ. فالمأثور لأجل ذاته قد يكون غاية قصوى أو يتخذ واسطة ووسيلة إلى غاية أبعد منه، وهو مأثور لأجل ذاته على كل حال لأنه يختم حركة النزوع. والمأثور لأجل غيره هو الذي يختم حركة النزوع نسبياً أي باعتباره نافعاً ومفيداً في سبيل خير آخر. واللذة هي الرضا والاطمئنان عند الحصول على خير مقصود أو هي الشعور بالموافقة والملائمة بين قوانا وموضوعاتها. ولما كان الخير مساوقاً للوجود، فانه يطلق على أقسامه كما يطلق الموجود على أقسامه أي بطريق التناسب والتقديم والتأخير، لا بطريق التواطؤ الذي يصدق بالسواء، فالخير يصدق أولا على المأثور لأجل ذاته لان له في ذاته ما لأجله يؤثر، ويصدق ثانياً على اللذيذ لان ليس له من سبب القصد إلا اللذة، وقد يكون ضاراً وغير جدير بالإيثار، ويصدق ثالثاً على النافع أو المفيد لان ليس له في ذاته ما لأجله يؤثر، بل إنما يؤثر كوسيلة إلى خير آخر، كتعاطي الدواء الكريه لأجل الصحة( 23).
ويفرق المختصون بين الجميل من جهة والمفيد والصالح واللذيذ من جهة أخرى. فهناك فرق بين الجميل والمفيد ، فنحن لا نستطيع أن نقول على الدواء المرِّ بأنه جميل أو نقول على المنظر الجميل انه مفيد، وكذلك ليس الجميل هو الصالح أو الملائم . فنحن لا نستطيع أن نطلق دائماً كلمة جميل على أي آلة هي أنسب وأصلح ما يؤدي عملية من العمليات. وكذلك يمكننا التفريق بين معنى الجميل ومعنى اللذيذ، فحين نستلذ بشيء من الطعام أو الرائحة الطيبة فإننا لا نصفها بالجمال؛ عموماً فان كلمة “جمال” قد تطلق مطابقة لكلمة “خير” أو “كمال” كما عند بعض قدماء الفلاسفة. فكل ما هو خير من الناحية الخلقية، أو كل ما يساعد الحياة علـى النماء والقوة يعتبر في نظرهم جميلاً، ولا يزال في علم الجمال رأي يأخذ بهذا المنطق. فيعتبر أن الجمال خاضع للمعيار الحيوي كما هو خاضع أيضاً للمعايير الأخلاقية.
إن التداخل بين معاني الجميل والمعاني الأخرى من لذيذ ومفيد وصالح قد تكون ناشئة نتيجة عدم الدقة في التفريق بين شرطي النوع والقيمة. ثم إن الجمال ليس حسياً، بل من المفترض أن يكون معنوياً يدركه العقل كنتاج لصفة علائقية “إشكالية” ويكون ناجماً عن النظرة الآلية للأمور والأشياء وليس عن النظرة الاستقلالية24 ؛ وهذا ما سيوضح بشكل أكثر تفصيلاً في المباحث القادمة من هذا الفصل.
ويميز “أرسطو” بين الجميل وبين السار والجيد لان ((الجميل ليس مجرد شيء سار ولكنه الشيء الذي يستميل الإحساس، والجميل يختلف عـن الجيد لان الجيد عملي Practical يتضمن السلوك، بينما الجميل لا حراك فيه Motionless ويمكن أن يوجد في الأشياء))(25 ). نلاحظ أن “أرسطو” حين ينسب صفة عدم الحراك إلى الجميل وبأنه يوجد في الأشياء فإنما هو يتحدث عن الجمال من ناحية شرط النوع أو الصيغة، وما هذا هو المحك الأصلي في تقدير الجمال الذي مرده في الأساس إلى شرط القيمة. في الأولى يقصد “أرسطو” النظرة الاستقلالية للشيء حين اعتقد أن الجميل لا حراك فيه، بينما لا يمكن أن يكون شرط القيمة أو الجمال إلا نتاج النظرة الآلية.
إن هذا الفصل بين الجميل والنافع تتحقق ضرورته، فقط ، في حالة النظرة الاستقلالية الضيقة المتعلقة بجمال الصيغة أو مدى تحقق شرط النوع أو الفن بوصفه تعريفاً جمالياً للتجربة. وإلا فان الجميل لا بد أن يكون نافعاً مادام في حقيقته، نتاجاً لنظرة آلية من جهة مدى تأثيره الإيجابي على ما في سياقه من معاني . وعليه فإن الفصل بين الجميل والنافع قد يؤدي، وفي أقل التقديرات ((إلى قيام حضارة عملية لا تهتم بالجمال الحسي أو الطلاوة المتخيلة. ثم هو يؤدي من ناحية أخرى إلى إنتاج الأعمال المتأنقة ذات الزخرف الأجوف والنضارة الهشة لمحب الجمال الذي لا صلة بين إبداعه واستمتاعه المتأنقين وبقية الحياة)).( 26)
يتبين لنا، انه في حالة النظر إلى الشيء نظرة استقلالية وآلية معاً، اخذين بنظر الاعتبار شرطي الفن والقيمة، أو شرطي الصيغة والجمـال، فإننا في هذه الحالة لا بد أن نجد علاقة حميمية بين الجميل والمفيد، وإننا سننبذ هذا العزل بين المعنيين. وهذا المعنى نجده عند “جويو” الذي يؤكد على وجود شيء من الجمال في فائدة الأشياء الخارجية – كجسر أو قناة أو ما أشبه ذلك – وفي رأيه أن مرد هذا الجمال يرجع ((تارة إلى رضا العقل يجد الشيء ملائماً للغاية التي يسر لها، وتارة إلى رضا العاطفة تجد هذه الغاية ممتعة فتسر، ويرجع جمال الأشياء المفيدة إذن إلى أمرين: البراعة الحاذقة، والمتعة الدائمة))..( 27)

هوامش :

(1) مبحث القيم أو “الاكسيولوجيا” من المباحث الأساسية في الفلسفة الذي يختص بدراسة القيم المطلقة (الحق ، الخير، الجمال). اما البحث في هذه القيم فمن شان العلوم المعيارية الثلاث: علم المنطق،فلسفة الاخلاق،فلسفة الجمال. يبحث علم المنطق في الحق ويتكفل بوضع القواعد التي تعصم مراعاتها العقل من الوقوع في الخطأ. أما فلسفة الأخلاق فتتناول الخير وتسعى لتوضح الغاية التي يتوخاها الناس من أعمالهم من خلال تبيان معنى الخير والشر، وما ينبغي أن تكون عليه المعاملة بين الناس. أما البحث في معنى الجمال وشروطه وما ينبغي ان يكون عليه الشيء الجميل فهو من ابحاث فلسفة الجمال. وهذه القيم الثلاث، الحق والخير والجمال، انما ترد إليها الأحكام التقديرية من جهة انها غايات قصوى تطلب لذاتها وليست وسائل لتحقيق غايات، فضلا عن انه منها تتفرع القيم الاخرى.
(2) لازم: (1) ما يمتنع انفكاكه عن الشيء، أي خاصة مصاحبة للماهية بالضرورة.
(2) يقال برهان لازم بمعنى مطابقته للقواعد المنطقية. ((المعجم الفلسفي: ص ص 189-190)).
اللزوم: (1) ما تنطوي عليه أطروحة، بطريقة ضمنية.
(2) استلزام دعوى ما، لدعوى أخرى. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص 195)).
(3) إذا تأملنا معنى الوجود وأنعمنا التأمل رأينا ان كل موجود فهو واحد نوعاً من الوحدة، أي انه غير منقسم في ذاته ولا في العقل مـن جهة ما يعتبر موجوداً واحداً، ورأينا ان كل موجود فهو حق نوعاً من الحقيقة، أي انه هو ما هو وليس شيئاً آخر، وانه مـن ثمة معقول، اذ ان الحق نسبة إلى العقل، ورأينا ان كل موجود فهو خير نوعاً من الخيرية، أي من الصلاحية بحيث يتعلق به ميل واشتهاء، اذ ان الخير نسبة إلى الإرادة، ورأينا أخيراً ان كل موجود فهو جميل نوعاً من الجمال، أي ان من التناسق والبهاء بحيث يروق للعقل وللميل معاً. ((العقل والوجود: ص 123)).
( 4) الموسوعة الفلسفية – نقلها عن الإنكليزية: فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشيد الصادق – مكتبة النهضة، بغداد، دار القلم، بيروت، لبنان – د.ط، د.ت.: ص 281.
(5) المَلكة: هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أن تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية، وتسمى حالة مادامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال، فتصير ملكة، وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقاً. ((التعريفات: ص229)).
(6 ) النقد الأدبي الحديث- د. محمد غنيمي هلال – دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة – د.ط، د.ت: ص ص 283-284.
(7 ) العقل والوجود: ص 139.
(8 ) ينظر : موجز تاريخ النظريات الجمالية: ص161.
(9 ) الجمالية؛ موسوعة المصطلح النقدي: ص 68.
(10) يقول “كنت”: ان الجمال منفصلاً عن شعورنا لا يعد شيئاً.
(11) العقل للحق، والإحساس للجمال، والإرادة للأخلاق والخير.
(12 ) الجمالية والواقعية: ص ص 19-20.
(13)يرى “هيجل” ان الحق هو الفكرة منظورا اليها في ذاتها، اما ظهورها المباشر للوعي في مظهر حسي فهو الجمال.
(14 كل فن وكل فحص عقلي وكل فعل وكل اختيار مروي فهو يرمي إلى خير ما، لذلك رسم الخير بحـق انه ما اليه يقصد الكل. ((المعجم الفلسفي: ص 92 مادة خير Good)).
(15 ) العقل والوجود: ص 132.
( 16) تهذيب الأخلاق- ابن مسكويه- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان-ط1، 1981: ص65.
( 17) الاخلاق ـ ارسطوطاليس ـ ترجمة: اسحق بن حنين ـ حققه وشرحه وقدم له: د. عبد الرحمن بدوي ـ وكالة المطبوعات، الكويت ـ ط1 ، 1979 : ص 53.
(18 )ينظر: النجاة لابن سينا : ص 229.
(19) ترى الرواقية ان الشيء الجميل هو الخير الكامل.
(20 )ينظر: فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص 115 ، 116.
(21 ) فلسفة الفن في الفكر المعاصر: ص 79.
(22 )ينظر: المصدر نفسه: ص72.
(23 ) ينظر: العقل والوجود: ص 134.
(24) النظرة الاستقلالية: ان يكون النظر إلى الشيء في ذاته بغض النظر عن علاقاته بغيره وبالوجود ومدى تأثيره وتأثره؛ النظرة الآلية: ان يكون الشيء نافذة أو وسيلة للانتقال إلى فهم أشمل؛ ان ينظر إلى الشيء في نطاق اشكالية أوسع ومنظومة علاقات هو فاعل فيها ومنفعل، والخروج بنتيجة تقييمية للشيء والحكم عليه كنتيجة لتأثيره وتاثره في السياق الذي يوجد فيه، وهذه النتيجة ناجمة عن الحركة والصيرورة والسلوك أو الفعل وليس عن الجمود والانزواء.
(25 ) المرجع في الفكر الفلسفي: ص 93.
(26 ) الفنون والإنسان: ص 41.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *