أوستن – تكساس
كنا ندعوه مُنجي ناجي في قلة اكتراث واستهوان لقواعد الاعراب وضوابطه ، هذه التي قد تحول أحياناً دون تدفق الكاتب واسترساله في صوغ ما تطوي عليه نفسه من خواطر و أفكار و معانٍ في حالة لزومها و مراعاتها و تقيده بها ، لكن لا محيص لأي منشِئ من النزول عندها و الأخذ منها بقدر ، وذلك تجنيباً لذاته من أن يفتري عليها دعي و متعالم ، ويرميها بالجهل و الترخص بأمر ما وَرّثه لنا السلف من تركةٍ تنسلك في عداد المذخور المعنوي ، مع انتفاء جدواه وعائديته ونفعه على صعيد المادة واستيفاء ضرورات المعيشة و متطلباتها ، و اِلا ندر أن لا يحيد أديب ما يوماً عن تلك الأصول ويخل بها وينكل عنها بل يهملها في كتابته على طول مراسه وتناهي تجربته في التأدية والتعبير ، أتُصدِق أن الكاتب المصري المتمكن من تسطير الفصول المقتضبة أو الضافية أيضاً في وصف الأميال و الأهواء و الأطباع الانسانية ، وتجسيدها في صور قلمية قد يتوافر لصياغتها بعض عناصر الفن القصصي وشروطه ، فيؤثر الاكتفاء بالوصول والوقوف عند هذا الحد في قسمٍ منها ، أو يعدوه الى استكماله بقية المواصفات والخصائص في قسمها الآخر ، ليستحيل النص الأدبي الذي استنفد مجهوده في تحبيره وتخير ألفاظه ومفرداته ، عملاً قصصياً يندرج في المقبل من الأيام الى جانب مثيلاته في كتب تتداولها الأيدي ؟ وكذا اجترح يحيي حقي هنة مشنوءة في سياق مقالته الأثيرة (وجهاً لوجه) من محتويات كتابه (كناسة الدكان) والمنضوحة بالوجد والأسى و البرحاء لما ينتظر الانسان المغتر بامتلاكه ما يربو على احتياجه ، من مصير ونهاية محتومة ، فقد نّدت منه هذه العبارة : (في لفة ذراعه الأيمن رزمة من الكتب ، …… و ذراعه الأيسر ملتف كالحلقة الناقصة حول العمود الحديدي) ، وتعلمنا في المدارس من قبل أن الذراع من المؤنثات المعنوية ـ بل اصطلح علماء اللغة العربية على إطلاق صفة التأنيث على ما كان مزدوجاً في الخلقة البشرية ، والنظر لما سواه من مكوناتها بعَدِه مذكراً .
وأعود الى منجي ناجي فقد كان رفيق تلمذة في الصغر بإحدى المدارس الابتدائية ، وافترقنا حين أدركنا طور الشبيبة ،وسمعت من بعد أنه تسرب من أيما مدرسة ، شأن أضرابه من أبناء الأسرات التي تكدح وتكد في سبيل توفير قوت يومها ، ثم انخرط في الجندية متطوَعاً من تلقاء نفسه لا مستجيباً و ملبياً نداء خدمة العلَم ، كما يستنفر ذوو الشأن في السنوات الماضية همم القادرين من المصغين لهم من بين مَن يلتمسون أعمالاً وأشغالاً فلا يجدونها ، وانتظم فيها سنوات طوالاً آبتْ يدُه منها ببعض الخسارة التي أسلمته بالتالي ، لأن يغدو من أرباب المهن والحرف في السوق ، منها أنْ افتتح محلاً على يسار الداخل لسوق الهرج في الحلة لتصليح الأجهزة الكهربائية وانساب في غمار أهليها دون أن يبين في تصرفه وتعامله معهم ، انه غريب وافد أوطارئ عليهم، اِذ الشقة بين الفيحاء وطويريج ليست بحسبان ، والمسافة بينهما من الدنو والقصر بحيث ترتب عليها تماثل ما في السلوك والعادة ، خاصة بعد ان تنبه الحكام يومها الى ضرورة شمول الطريق الترابي بينهما والذاهب الى كربلاء أيضاً، ببركات مجلس الاِعمار بعد خمس وثلاثين سنة مضت على تأسيس الدولة العراقية الحديثة ، فقبل أن يُعبَّد ، كانت تنقطع صلة هذه القصبة بما جاورها من النواحي والمدن في موسم الأمطار .
وما اقتربت من محله يوماً محيياً و مستفيضا في الحديث عما وقع بالأمس والآن من حوادث و ملا بسات، اِلا ووجدته منهمكاً ومسلطاً ضوء عينيه ليجتلي الخلل في الأداة الكهربائية التي جيء بها اِليه ليصلحها ، بعد أن يتحرى السبب في تعطلها عن العمل ، فيشرع باستبدال بعض الأدوات الدقيقة بنظيرتها المستهلكة والمنتفية صلاحيتها ، ليسترد الجهاز من راديو أو مسجل و نحوهما عافيته من جديد .
كان ذلك قبل ثلاثة عقود وأكثر بقليل غادرت الحلة بعدها ، ولكن لم أطلعْ القارئ بعد وأبحْ له بسر اعتزازي بهذه الصحبة القديمة وقد مرت عليها سنوات مديدة فهو أسم على مسمى وما يعنيه ذلك في الأمثال ، فقد أنجاني من الغرق بشط الفرات ، وكادت تجرفني أمواجه إثر امتلاء احشائي بالماء بعد ارتكاسي في هوته ، مما لا قبل لي بمغالبة موتي الداهم في تلك السن الغريرة ، وكان هو ماراً في الشارع ، فهبط منه مسرعاً ونزل الى الساحل لينتشل مخلوقاً يصارع في سبيل الحياة وفي النفس الاخير من اِرادة البقاء ، و أوصلني الى اليابسة ناجياً من الهلاك .
حدثت هذه الواقعة الكارثية لي أو معي قبل سبعة عقود تزيد عليها سنة أو سنتان فأنا أولاً أدين بوجودي في هذه المسكونة الى خالق الأكوان ، وثانياً أقر بتلك العارفة و دالة منجي ناجي عليَ في الديمومة الموقوتة لاِرتباطي بالحياة ، و رياضة طبيعتي البشرية على حمل تبعاتها بتوالي السنين ، وتحسس وقعها وجسامتها كلما عظم المطلوب ونكص الامكان و المؤهل و نزرا عن توفيته و القيام بأسبابه ، فماذا عساه يحصل لو كان منجي بن ناجي غشيماً لا يحسن السباحة ، أو حتى لم يمر في الطريق لبعض شأنه مصادفة ؟ لا ريب أن النتيجة معروفة، وهي مَنيتي المحققة بالتأكيد ، ومفارقتي دنيا الناس منذ ذلك الوقت البعيد ، و لأستتبعه حتماً أن لاترى عيني هذه الأهوال و المصائب التي تنزل بالملأ طوال هذه العقود السبعة ، جاوزت في ختامها سن الثمانين ، و أصبت خلالها، كما سائر أبناء جيلي ، بما يسمونه الوعي بحاجة المجموع الى الاصلاح و التجديد والانتقال بحالهم ووضعهم ومعيشتهم و ظرفهم الى مستوى راقٍ من الحياة ، ينتفي منه السخط و التذمر ، و يتلاشى فيه ما يشيع في أوساطهم مع الأسف من ضروب الختل و المداهنة ،وصنوف التدجيل والنفاق ، وتخلٍ في الشدائد عن طول الملازمة والصحبة وتفريط بهما ، ولعلنا و واجدو عاذرة لهم على اتسامهم بهذه الخلال خاصة بالنسبة للأخيرة منها ، فسبيل العيش وعرٌ لا يشَق ، وضغط ُ الظروف القاسية بفعل الشرور الكثر الناجمة عن دواهي يوم تموز 1958 ، هما ما آلا بهم ، أغمارِهم و بعض ٍ من أدعياء التنوير والوعي السياسي الى الاِضطراب والتزعزع وعدم الثبات والاستمساك برأي واحد بعينه ، فكثر عندنا النهازون و المتلونون والحُولون القُلّب حسبما تمليه مصلحتهم ، وكل هذا قد يهون ، بجانب ترددِهم و إلجامهم لافمامهم جميعاً على طول السنوات المتأخرة ، سواء أكانوا من أشياع السلطات ام من منابذيهاولهم موقفٌ منها ، فلا يجرؤ الواحد منهم عل البوح بسريرته أو يفضي بدخيلته لمن يحادثه ، مؤثراً في ذلك كتمان شعوره وعاطفته ، وكبت ما يجول في خاطره من رأي ، توهماً أن قرينه قد يوقع به ، على حين أن الآخر هذا يظن فيه الضعف أو الجبن والتردد الذي لا داعي له ، وكذا يتعلل بشعر المتنبي غيرَ منسحبٍ من حومة الجدال والسجال والمناظرة بشأن صحة فكر أو مبدأ ما وملاءمته لحاجاتنا ، أو خلاف ذلك في مجافاته لموروثنا ، كي يغتفر لنفسه إحجامها عن الرد المفحم المُسكت ، وونائها في الصيال ، فالمرض النفسي شركة بين الكثرة الكاثرة من أهل العراق نتيجة ترددهم المقيت في اِعلان سرائرهم ، هم الذي صنعوا بخوفهم وتهيبهم من ارسال نفوسهم على سجيتها ، كثيراً من الديكتاتوريين والبغاة و العتاة ، ومكّنوهم من وراء استسلامهم واِذعانهم لأن يتسيدوا عليهم ويغصبوا حقهم .
ومع أن ذلك كان متفشياً في الحقبة الملكية بدرجة أقل وحدٍ أدنى ، فاِنه استشرى في العهود الجمهورية المتأخرة ، وتبارى مَن بيدهم الأمر والنهي ، حول أي منهم بقدِر أن يضرَّ بالناس ، ويتنكر لهم ، ويستهين بحرماتهم ، ويجاوزَ أندادَه في عزوفهم وصدودهم عن فعل الخير . والسلام
مهدي شاكر العبيدي : مُنجي ناجي
تعليقات الفيسبوك