
(1)
شاعر المقاومة الفلسطينية ” عزالدين المناصرة ” يرسل رسائله الى الذي يمكن ان يكون بديلا رمزيا عن الله . وليس من العسير على المحلل النفسي ان يقف على تلك الرموز لان عمله اساسا هو التعامل مع الرمز وتجلياته المختلفة . ولن نبحث عن الاسباب التي جعلت شاعرنا ” المناصرة ” من ان يوجه رسائله الى شخوص غير الله ما عدا قصيدته ” فرج الله ” التي يدل عنوانها على انها موجهه نحو الله بشكل صريح او بصورة ضمنية الى حد ما . لنبدأ مع النص الاول من النصوص التي نعتقد انها قريبة ، بصورة أو بأخرى من موضوعنا الذي يتناول ” الرسائل مع الله في الشعر العربي الحديث ” وهو بعنوان ” محاورات الباب العالي ” . وقبل ان ندخل فضاءات النص ، لا ضير من ان نقف عند رمزية الباب Doorحيث يرمز الى ” الامل ، والفرصة ، والبدء ، والتحول من حالة او من عالم الى آخر ، والمدخل الى حياة جديدة . وكذلك التلقين ، وجانب الحماية من الام العظيمة Great Mother . ويمثل الباب المفتوح كلا من الفرصة والتحرر . وعند المسيحيين : المسيح : ” انا البوابة ” وتعني الابواب الثلاثة في الكاتدرائية او الكنيسة : الايمان والامل والمحبة . وعند الهندوس : تكون الآلهة منقوشة بالحفر على عضادات الابواب لتشير الى الاله الذي ينفذ من خلال الانسان الى الحضرة الالهية Supreme Presence . وعند الميثرانيين : المدخل الى الطبقات السبع للجنة Paradise ، او الى كهف الاطلاع . وعند الرومان : يانوس هو اله البوابات والبدايات ، يمسك بيده مفاتيح السلطة في الفتح والغلق . وفي دائرة البروج الفلكية Zodiacal : انقلاب الصيف في برج السرطان ، وهو ” بوابة الرجال ” ، ويرمز الى اضمحلال السلطة ومغيب الشمس ” جانيوا انفريتي ” . وانقلاب الشتاء في برج الجدي ، هو ” بوابة الالهة ” ويرمز الى تنامي القوة وسطوع الشمس ” جانيوا كويلي ” . وترتبط هذه البوابات ايضا بمداخل ومخارج الكهوف البدئية ، وبالأرواح التي تدخل هذا العالم وتغادره . وتسمى في الهندوسية ديفا يانا …” (1) . بينما يقدم الباحث شبل ” الباب ” من وجهة نظر اسلامية فيقول ” الباب يعني المسارة عند المتصوفة . وعند الاسماعيلية الحجة هي الدرجة الاعلى والبرهان على تطور موفق ؛ والذي يحصل على هذا اللقب ينال ايضا درجة الباب ” (2) . تلك هي رمزيات الباب اذن . ونميل الى الظن ان ” المناصرة ” قد وظف هذه الرمزيات في قصيدته هذه توظيفا سليما لأن الباب العالي يعني ثمة عائقا امام الشاعر ينبغي عبوره او اختراقه او تحطيمه مثلا لكي يصل الى ما يحلم به . لنقرأ نص القصيدة لكي نرى كيف ومدى فهم ” المناصرة ” لرمزية الباب . يقول المناصرة فيها :-
وترسم صورة قلبي .. ودقاته بعد كل قصيدة
وتقرأ لي فقرة من جريده *
وتسألني عن بلاد بعيده
وعن شاعر مات في الجاهلية
وعن شاعر – لا أقول اسمه الآن –
عاش فقيرا ومازال يكتب شعرا
ويشرب قهوته في الفناء
وعن شاعر في المقاهي يحوم
وعن شاعر عشقته النجوم
وعن صوت ” فيروز ” إن كان يكفي
لصد الهجوم !!!
(الديوان ، ص 116) **
******************
واضح ان الشاعر المقصود في هذا المقطع من القصيدة هو المناصرة نفسه . طالما انه لا يذكر شاعرا ما لتحديد هويته . الشاعر الفقير الذي ما زال يكتب شعرا . الميت لا يستطيع ان يكتب الشعر صفة اخرى هي انه شاعر يحوم في المقاهي . هذه كلها دالات الضياع والتشرد والغربة . الذي تعشقه النجوم مثلا ، كيف تتمكن من ان تعشقه امرأة . لقد اصبح ملكا للنجوم فليس من حق ايا كانت ان تقع في حبه . ليس لدى الشاعر غير الشعر والكلمات . هي خبزه وقوته وعنصر حياته وكل شيء لديه . ثمة عدوا متربصا بالشاعر . الا تكفي كل هذه الاسلحة لصد هجوم ذلك العدو . هذا ما يجعل الشاعر لان يستغرب ويندهش ويتعجب منه . المناصرة هو الاخر مجهول الاصول !! . يبحث عن جذوره او يبحث عن نهاياته في البلاد البعيدة . البلاد البعيد هي رمز الى ذلك المجهول الذي ينتظر المناصرة . هناك امرأة في لاوعي الشاعر لم يجهر او يعلن عن هويتها . فقط تقرأ له وترسم صورة قلبه وتسأله عن بلاد بعيدة . من حقها ان تفعل هذا لأن من تعشقه النجوم ويحوم في المقاهي لابد ان يحمل في حقائبه واوراقه اسرار كثيرة وعجيبة معا . هو رجل العجائب اذن . لا ننسى ان الابيات الشعرية التي اوردها المناصرة في مقدماته كلها تتطابق مع احساسيه بالضياع والتشرد وعدم الثقة بالأخر ولا بالزمان ابدا . (الديوان ، ص 7 – 8) . المناصرة سوف يقدم لنا حكايته ومن اين جاء . لنرى ذلك بقوله :-
– جئتك َ . . . من أقصى جبل في الشام
لا املك الا ما يملكه أمثالي :
قمر ونخيل وكروم
وحمامات فوق السطح تحوم
لكني لما جئتك .. كنت طري العود
أزحف كالنملة .. أخطف حبة قمحي
أتسلل كالحزن الأخضر كالقط النمرود
أخضر كما تخضرّ شطوط الجزر الأخرى
في العالم
(الديوان ، ص 116-117)
***********************
تلك إذن هي حكاية المناصرة وتلك هي قصته او قل تاريخ حياته إن صح التعبير . انه يخاطب الباب العالي .. الباب الذي لا مفاتيح له ولا يوجد سلم للعبور الى الضفة الاخرى منه . الباب اذن حاجز بين الشاعر والعالم . وبهذا المعنى تكون كلمات القصيدة وتعبيراتها بمثابة مناجاة اليها . الا يمكن ان نرى في رمزية الباب صورة الله ؟؟ . على اعتبار ان الله يسكن هناك خارج اسوار العالم !! . المناصرة يكشف عن اوراقه منذ اللحظة الاولى لوقوفه عند هذا الباب . المناصرة ليس كما اعتقد البعض عنه . انه مثله مثل كل الذين ليس لديهم غير الحلم يطاردونه عله يتحقق يوما ما . نرى صورة التواضع والبساطة يقدمها لنا المناصرة عن ذاته واحلامه وطموحاته .. بل كل شيء عن المناصرة . لا يملك سوى قمر ونخيل وكروم و.. و .. وحمامات فوق السطح تحوم !! . وصف نفسه بالنملة.. تلك الحشرة التي لا يعرف اليأس طريقه اليها ابدا . تعمل ليلا و نهارا حتى تصل الى ما تريد . تحدثنا كوبر عن رمزية النملة Ant بما يلي ” رمز الكد والمثابرة . وعند الصينيين حشرة الصلاح والاستقامة ، وتمثل النظام والفضيلة والانتماء والخضوع والطاعة . وعند الاغريق : رمز سيريس . وعند الهنود : الوجود الفاني ” (3) . بينه وبين العالم مسافات ومسافات تفصله عنه لكنه على الرغم من تلك المسافات يتسلل اليه مثل لص غريب ويقتنص أو يخطف حبة قمحه على حد تعبيره !! . الا انه على الرغم من هذه الصورة التصغيرية للذات فانه يخضر مثلما تخضر شطوط الجزر الاخرى في العالم . هذا يعني انه منسي من العالم لكنه يخضر ويخضر رغم انف العالم !! . يصف لنا المناصرة سخرية القدر او الباب او الله منه فيقول :-
ضحكتْ شفتاك َ وكنتَ بشوشا
وجلست ُ أحدث نفسي
عن طيبتك َ العليا … كالحالم .
لكن يا مولاي
ألقيت َ الحجر على رأسي .. وأنا نائم
طرقت ْ بابي أقدام الصبيان وقالوا :
مولانا يهواك ْ
وضحكتُ على نفسي لما شفتك َ تهمس في أذني :
أنك َ تعشق شعري
وتحب المتنبي والاخطل والشعر العذري
والعرجي .. والملك الضليل .
(المصدر نفسه ، ص 117- 118)
****************************
انها استعراض للسخرية التي ابدها هذا الباب أو القدر او الله على شاعرنا . كان الباب بشوشا . هذه البشاشة ليست دلالة الرضا او الاستحسان او القبول بل مجرد سخرية من عقلية الشاعر واحلامه وطموحاته وما يريد !! . كانت ردة فعله انه القى حجرا على رأس المناصرة وهو يغط في نوم عميق لأنه لا يريد ان القرد ولا القرد يراه . المناصرة في عزلة رهبانية وتحت هيمنة انجذاب صوفي !! . لم يفق من نومه الا عند اقدام الصبيان . ولم اختار الشاعر مفردة الصبيان على وجه التحديد ؟ يجيبنا الشاعر نفسه على ذلك .
مولانا يهواك ْ
****************
إذن هم الملاكة الذين وقوفوا عند بابه وليس الصبيان بالمعنى الحرفي للمفردة . تحدثنا كوبر عن رمزية الاطفال بما يلي ” تجسيد الاحتمالات ، وامكانات المستقبل ، والبساطة ، والبراءة ، ويرمز ايضا الطفل او الابن الى التحول الاعلى للشخصية ، وتبدل النفس ، وولادتها من جديد في صورتها المكتملة . والاطفال على هيئة غلمان صغار يصورون الفصول : الشتاء متدثر في عباءة ، والربيع يكتسي بالزهور والاوراق ، والصيف بسنابل القمح ، والخريف بالثمار . والاطفال هم الاجنة في رحم الام العظيمة المهيمنة على البحار العظيمة ، ومن ثم نجد الاطفال يخرجون الى الصيادين في الاساطير على هيئة طائر اللقلاق ، او المخلوقات التي تقطن في الماء كالضفدع ، او انهم يولدون من الارض الام تحت دغل او داخل كهف . وفي الايقونية المصرية نجد ان الطفل الذي يمص اصبعه ، هو حورس الطفل الرضيع ، وهو الرمز الذ اخطأ الاغريق فهمه واعتبروا انه يمثل الصمت . وفي السيمياء : يرمز الطفل المتوج الى حجر الفلاسفة . وفي المسيحية يصور الطفل محمولا على الظهر او الكتفين .. القديس كريستوفر . والطفل على الذراعين هو القديس فنسان دي بول . ونجد المسيح الطفل محمولا على ذراعي انطوني قديس بادوا . كذلك فان المرأة التي ترضع الطفل هي رمز المحبة المسيحية ” (4) . ونميل الى الظن ان المناصرة لم يبتعد كثيرا عن مجال هذه الرمزية . جاءوا عند بابه فسمع وقع اقدامهم وبشروه بذلك النبأ العظيم :
مولانا يهواك ْ .
صورة جميلة لاقتحام الله ابواب الذات الصوفية الغارقة في الانجذاب . لم يصدق ما يرى الا انه جائه اليقين مباشرة من لدن الحضرة الالهية نفسها . فضحك من نفسه لأنه ليس بالنبي المنتظر . الهمس الالهي هنا . فيض رباني للذات . ماذا قالت له تلك الحضرة ؟
أنا اعشق شعرك واعشق المتنبي والاخطل والحب العذري .
و.. و .. و ..
**********************
ويؤكد لنا شبل ” يعتبر تشبيه الكائن البشري بهذه التجليات الملائكية احتراما عظيما ، الشعراء وحدهم يستحقونه ” (5) . اننا بإزاء شعور حلاجي مفاده ان صاحب الرؤيا هذه هو محبوب الذات الالهية الاوحد . ومن رمزيات الملائكة : التقرب الى الله والجمال (6) . اذن الله نفسه وليس هذا الباب العالي الاصم هو من يعشق شعر المناصرة ومن على شاكلته ويهواهم !! . من هنا الحديث الذي يقول : ان الله جميل يحب الجمال ” لا نريد الدخول في هذه التفاصيل . المناصرة ، في تقديرنا هنا ، نرجسي النفّس بكل ما تفوح به هذه المفردة من معنى . جاءت الصبية حاملة اليه تلك البشارة العظيمة وهي انه المحبوب الاوحد لوالي هذا الكون الواسع الاطراف . يقارن المناصرة ذاته بعمالقة الشعر العربي . هنا ايضا رغبة جامحة ليكون مثلهم إن لم يكن افضلهم !!. يكمل المناصرة سرد قصته لهذا الباب فيقول :-
منذ اتيتك َ من اقصى جبل في الشام
منذ اتيتك َ يا ملك الكذابين ضيوفهم والشام على كفي
شجر الصفصاف يناديني : اين الاشعار ؟!
وأنا أحمل في قلبي : بردى ، اليرموك ، العاصي ، روبير
يا صاحب مزرعة تملك آلاف الامتار
لكنك كنت بخيل
والشاعر مجنون عندك والله عليك دخيل
(الديوان ، ص 118)
******************
هنا هجوم على هذا الوالي الذي كشف عن اوراقه للشاعر . او بتعبير ادق فان الشاعر هو الذي كشف تلك الاوراق . لقد نعته ب ” بملك الكذابين ” . هنا نجد لعبة في المفاهيم لدى المناصرة . من هو الملعون وابو الكذابين هذا ؟ انه ذلك الذي عصى ربه وامتنع عن السجود لأول خلقه : آدم . هنا في هذا المقطع تغيرت صورة والي المناصرة ، فبدلا من يكون الها جميلا يحب الجمال ويكون صديق الشعراء صار ملك الكذابين !! واتجه المناصرة بعد هذا اليأس الذي تسلل اليه ، ناده الصفصاف قائلا : اين الاشعار ؟ ضاعت اشعاره في مهب الريح . اتاه حاملا احزانه وكل ذكرياته والآمه ، فاكتشف ان صاحب المزرعة التي مساحتها آلاف الامتار بخيل !! . حتى ان النملة لن تجد في تلك المزرعة حبتها الضائعة . صار الشاعر مجنونا عنده حتى الله !! عنده دخيل . انكشفت حقيقة هذا الوالي الذي همس بأذنيه وكذبت بشارة الصبيان . لم يعد يهواه ولم يعد يحب الجمال . صار اله البخل والكذب والتضليل . من هنا ضياع الشاعر وحيرته فأزداد ضياع فوق ضياع وغربة على غربة ! . يستطرد المناصرة في تقديم شكواه فيقول :-
منذ اتيتك َ من أقصى جبل في الشام
– ولم أتكلم
عن الخبز والخوف .. ما قلت شيئا سوى
إنني عاشق للمطر
ولم أتكلم عن الذكريات المجيدة ، لم أتحدث عن المنتظر
– وعلى اغصان الصفصاف
علّقنا أعواد الذكرى
وبكينا شهرا أو شهرين
ونقشنا فوق صخور بيضاء وسوداء
أسماء السادة وأسماء القوم منهم
من دقوا رأس الطفل في دير الياسين وكفر القاسم
من جعلوا قدمي في المنفى
رأسي في بحر المنفى
من قلع عينك يا زرقاء
(الديوان ، ص 118-119)
**********************
نجد ان هناك مشاعرا من الندمRemorse تجتاح المناصرة في عملية ما يمكن تسميتها وفق المنظور النفسي ببث الشكوى Complaint . كان نرجسيا الى حد كبير في ذلك البث . لقد نسي هموم واحزان شعبه . نسي مجازر الاحتلال مثلا ونسي من كان السبب وراء نفيه عبر البحار . ونسي ان يخبره عن المنتظر ! ترى من يكون هذا المنتظر ؟ اهو الامام الغائب الذي تنتظره الملايين من الناس ليملأ الارض عدلا وقسطا ام هل هو المسيح الناصري الذي وعد تلاميذه بأنه سوف يأتي في نهاية الزمان ويختارهم مثلما يختار الراعي الخراف من النعاج .. ام هل هي البروليتاريا التي يحلم ببنائها في يوتوبيا المجتمع الشيوعي اللا طبقي ؟ ام انه هو المناصرة نفسه لأنه يحلم ان يكون منقذا للشعر في زمن مات فيه الشعر ؟ نعم لم يبث كل تلك الهموم في شكاويه الى بابه العالي . لم يخبر ذلك الباب غير انه :
عاشق للمطر
********************
هل كان عالما بان مولاه لا يحب الالحاح ولا اللحوحين مثلا ؟ . أم انه كان يعلم انه ابو الكذابين فلم يثق به ولم يرى داعيا لطرح كل همومه واحزانه . فقط اكتفى بطرح شكوته الاساسية وهي انه عاشق للمطر والجمال والحب العذري . من هنا اللا ثقة بهذا الباب .. او بمولاه إذن . الا انه في المقطع التالي تهب عليه رياح ذكرياته بسياطها الموجعة . لنرى كيف صور لنا المصورة اوجاع تلك السياط :-
وتذكرنا من قالوا :
تنسون الارض وتنسون الاشياء .
(الديوان ، ص 119)
***********************
ازاء هذه الذكريات نجد حالة لوم الذات وعقابها وتوبيخ الضمير . لنرى ما هي ملامح ذلك التوبيخ وذلك العقاب . يقول المناصرة :-
إن كنت نسيتك يا أم المدن و يا
سيفا في وجه الاعداء
إن كنتُ نسيت حدائقك الخضراء
فلتأكلني حيتان البحر
ولساني يقطع
إن كنت ُ نسيتك يا سيدة المدن الخضراء .
(المصدر نفسه والصفحة نفسها)
**************************
تلك إذن هي معالم عقاب الذات الذي وجهه المناصرة الى نفسه لو نسي قضيته والعهود التي قطعها على نفسه . كانت الاقرب اليه من حبل الوريد إذن . لن ينسى مدينته ولن يسنى حدائقها او شوارعها او ازقتها او اطفالها او نسائها او شيوخها . او اي شيء بها . لو نسيها سوف يرمي بنفسه في البحر ليكون طعاما شهيا لحيتان البحر وقرشه الجائع الهائج . قطع اللسان بحد ذاته دالة على رمزية على الخصاء النفسي لأنه خالف امرا او نهيا لا ينبغي خرقه او تجاوزه . في المقطع التالي سوف يترك المناصرة هذا الذي همس بأذنه خلف ظهره ليواجه عدوا آخر يوجه له تهمة شنعاء تدمر كل مسار حياته من رأسها حتى اخمص قدميها !! . لنرى ماذا قال له العدو مخاطبا المناصرة :-
– وقف عدوّي في وجهي
أخبرني أن زمان الشعر مضى
– ويسألني
إذا كنت أعشقُ سيدة الشرق أم ..؟!
فقلت له سيدى إنني جئت من كوكب الشر..
أحب غناء العذارى على نبع ماء
وأهوى خدود البنات
وصوت البراكين إن كان يا سيدي عربي السمات
أحب فروتا
أحب الشرائط فوق ضفائرها اللولبية
أحب اناشيدها المدرسية
وأشتاقها
كسوسنة أزهرت في الجرار
كتفاحة في جبال الهوى
كصفصافة نبتت في حواف البحار
كعصفورة تنبش الارض تهتف : أين البذار ؟!
(الديوان ، ص 119-120)
**********************
هل تعشق سيدة الشرق ؟ . ذلك كان مضمون احتجاج عدو المناصرة له .
هنا يكشف المناصرة عن مشاعره الانتمائية . انه شرقي التفكير والاحساس والوجدان .. لا بل انه يعشق كل شيء في العالم ان كان عربي الشكل او المضمون . ذلك كان مضمون احتجاج عدو المناصرة له . لا يهمنا كثيرا من تكون ” فروتا ” هذه التي يتمركز عليها مقطع القصيدة هذا . في الموسوعة الحرة ” ويكيبيديا ” نجد ان (فروتا مارتورانا (بالإيطالية: Frutta martorana) هي حلويات مارزيبان تقليدية في شكل فاكهة أو خضروات من مقاطعة باليرمو في صقلية. تلون عادة بألوان من الأصباغ النباتية. قيل أنها نشأت في موناستيرو ديلا مارتورانا في باليرمو، عندما زينت الراهبات أشجار الفاكهة الفارغة بفاكهة المارزيبان لإبهار رئيس أساقفة زائر في عيد الفصح) (7) . الا اننا نميل الى الظن انها صورة للفتاة التي كان يهواها المناصرة مثل سابقه محمود درويش عند وقع في غرام ” ريتا ” . او شاعرنا الكبير ادونيس مثلا او وقوع ” سوزان بحب عميد الادب العربي طه حسين فيقترن بها وتأتي معه الى بلاده . ان اردت خذل عدوك فينبغي عليك ان تغوي نسائه وتغريهن وتجعلهن اسيرات طوق حبك . هذا هو الدافع النفسي وراء هذه الظاهرة ، أن لم يخنا التفسير او التأويل . هذه السلوكية نجدها كثيرا – على سيبل المثال – في السينما المصري عندما يسافر او يهاجر مصريا (عربيا) الى بلد اوربي ليبحث عن عمل فنجد انه يكون موضوعا لحب الاوربيات فيتسابقن عليه ليفوزن بحبه ورضاه . انه بهذا المعنى دون جوان او كازنوفا .. الفارس الآتي من الشرق . ولا يفعل شيئا غير ان يختار واحدة من تلك النسوة . الفتاة التي يختارها تقع في دائرة انتمائه بكل جوانبه وابعاده !! . ولا يختلف شاعرنا المناصرة بشيء في هذه الحالة . ان ” فروتا ” ستصبح اسيرة تأثيره وسلطان هوائه وبالتالي هيمنته يحركها كيفما يشاء . وصف المناصرة لهذه الفتاة وصف آخاذ . انها عصفورة تبحث عن البذار وكأني بها لم تجد في بلادها غير الخواء والفراغ واللامعنى ولكنها وجدت عند المناصرة المعنى والقضية بل والحقيقة . المناصرة ارض ممتلئة بالبذار والحب والخير . الم تعشقه النجوم ؟ فكيف لا تعشقه ” فروتا ” ومن ” فروتا ” هذه مقارنة بالنجوم التي هامت وذابت شوقا بحب المناصرة ؟؟ . يكمل الشاعر سرده لتعلقه بحب ” فروتا ” فيقول :-
أحب فروتا
وأشتاقها مثلما العيس تشتاق ماء الغدير
واشتاقها مثل جدّي الذي كان يرحل في سالفات الدهور
الى طلل أسمر مقفر مثل منفى الابي
الى حجر اسود شاله ذات يوم .. نبي .
واشتاقها .. .
(الديوان ، ص 120 -121)
*************************
هنا نكوص وحنين الى جذوره الانتمائية . صارت ” فروتا ” موضوعا محوريا ومركزيا عند المناصرة . من هنا مقارنتها بالحجر الاسود الذي شاله ذات يوم .. نبي !! . يريد ان يجر محبوبته هذه الى تلك الجذور جرا !! . صورة الجد تلعب دورا مهما عند الشاعر . جده كان جولا يبحث عن ما الحياة .. سر الخلود .. سر السرمدية . ها هو في عشقه وحبه لهذه المعشوقة يتوحد او يتقمص صورة الجد ، لا يهمنا من يكون هذا الجد ّ . الا ان عدو عاد لمشاكسته ولتعكير صفاء تفكيره فباغته قائلا :-
– صرخ عدوي في وجهي
أخبرني ان زمان الشعر مضى
واعتدلت قامته
أطفأ سيجارته في قدح القهوة
لعن الماضي والحاضر والموت
وبكى ثم تسمّرَ في جلسته
لم ينبس الا بالصمت
قلتُ : علامات الصوفية والقادة والوزراء
إن قالوا : فعلوا
أو صمتوا : قتلوا
أو حنّو للكأس .. اشتعلوا
حوقل مولانا – قالت أمي إن المرء إذا حوقل
يعني ان الله غريب
– في أي منظمة أنت ؟؟
– فقلت له : وزمان السكوت انقضى
– أتيتك في داخلي نية للرحيل .
(الديوان ، ص 121)
*******************
هذا الكائن . و لا استطيع تحديد هويته . اهو الله ؟ ام الشيطان ؟ ام الوالي ؟ ام القدر الذي وقف للشاعرنا بالمرصاد لكي يثنيه من مواصلة الدرب الذي اختاره الشاعر .
– صرخ عدوي في وجهي
– أخبرني ان زمان الشعر
****************
نعم زمان الشعر مضى وولى ! . لم يبق الا زمان الكذابين وزمن السياط وزمن الماكرين والمتلونين . زمن الشعراء والحالمين والانقياء والاطفال لم يعد له مكان في خارطة دنيانا !! . اذن هو تهديد ووعيد وجهه كائننا هذا الى المناصرة . ان يصرخ بوجهه فهذا يعنى انه في موقع القوي المقتدر .. الناهي الآمر .. بيديه مفاتيح الاشياء . وعلى الرغم من صورة الحوار التي يقدمها لنا المناصرة الذي دار بينه وبين شاعرنا ، فان هذا الكائن لم يخف مشاعر الضعف او لم يستطع فعل ذلك ، لأنه امام قامة عملاقه .. هي قامة شاعر تعشقه النجوم وليس هو بذلك الشاعر الذي يتعه الغاوون .. انه شاعر صاحب قضية … وقضية كبرى يحملها بين جوانحه . صورة اليأس التي يطرحها المناصرة عي في عبارة امه :-
اذا المرء حوقل
يعني ان الله غريب
**************
الحوقلة بهذا المعنى تجلي للضعف الانساني وانكشاف لعجزه . هنا عجز الشاعر عن صد هيمنة هذا الكائن ، على الرغم من مماطلته وسخريته واستعراض قدراته في القتل والتنفيذ وقت ما يشاء وكل ما يشاء . سؤاله للشاعر :-
في اي منظمة انت ؟؟
**************
انها دلالة على قوة مرجعية الشاعر . الشاعر لا يتفوه عن فراغ .. لا يأتيه شيطان الشعر من تأثير رشفة خمر او دائرة دخان . لا وجود لله هنا . انه الغائب الذي نسي الشاعر ونسي قضيته . واذا كان زمان الشعر قد مضى فان رد الشاعر على هكذا سؤال هو :-
ان زمان السكوت انقضى
************
الخوف معدوم عند المناصرة . لا شيء يخاف منه او عليه . ها هو قد واجه القدر . سنجد ذلك في المقطع التالي :-
سأشكوك للأرض يا مخبر
وللأرض ثورتها قد تطول
أتيتك : لا الحزن في خاطري
إنني من عويل الشجر
سآتيك بعد الرحيل
أعرّي النياشين من رجسها
ومن فوق نهديك يا مخبر
(الديوان ، ص122)
************************
يمكن القول ان غضب المناصرة مر بعملية تحويل . Transference ” والتحويل عند مدرسة التحليل النفسي هو تحويل الموقف الوجداني من موضوع او شخص الى غيره ، كأن يقف المريض من الطبيب المعالج موقفا وجدانيا معينا كأنه احد والديه مثلا … ” (8) . ان صور هذا الكائن تباينت واختلفت بتابين سياقها ، مرة كان الله ، ومرة كان الشيطان ، ومرة كان القدر ، ومرة كان الوالي ، وها هو الان قد اختزل الى صورة المخبر . المخبر هذا الشبح الذي يلاحق اصحاب القضايا واصحاب الهموم الكبيرة . المخبر هو الصياد الذي يجول في الشوارع عله يصطاد سمكه تريد الحياة وفكرة تريد ان ترى النور . ليقدمها الى مولاه السلطان . المناصرة *** . ان اختزال تلك الصور وتمحورها على شخص المخبر امر طبيعي لان المخبر ، هو الوحيد الذي يستطيع الشاعر ان يحاوره ويلتقيه في اي مقهى او اي زاوية من زوايا شوارع مدينته . لأن المخبر هو عين صغرى للعين الكبرى في تلك المدينة . سوف يشكو الشاعر همه ومتاعبه التي كانت جراء صراعه مع تلك العيون المجهولة التي كانت تلاحقه وترصده ، سوف يشكوها الى الارض . الارض تلك البالوعة التي لا تعرف الامتلاء .. سوف تقول مثلما قالت نار جهنم : وهل من مزيد ؟؟ . الارض لا ترحم .. لا تخاف احدا . منها جئنا واليها نعود . كلنا سوف تبتلعنا يوما ما . الا يقال ” كل من عليها فان … ” الارض عندئذ ستكون الديان الكبير .. القاضي الاكبر !! . ستقاضي كل حسب اعماله . في تلك اللحظة ستصرخ الارض لأن المنتظر قد جاء .. قد ظهر .. شق الحجب وانكشف بعد غياب طويل تدام دهور . سوف يعري كل شيء . سوف يكشف الاقنعة .. سوف يكشف الخفايا ويفضح المستور . لحظتها كل سوف يعاين ذاته وما قد فعلت يداه . اكان المخبر ام كان السلطان او من يرمز اليه .
اتيتك : لا الحزن في خاطري
إنني من عويل الشجر
**************
هذا هو المناصرة إذن . فممن يخاف وعلى اي شيء يخاف . انه يستلهم فكرة المزامير عندما قال صاحبها :-
الرب راعي … فممن اخاف
******************
سوف يرسم المناصرة صورة لذاته في المقطع الاخير من النص . صورة الفدائي الذي لا هم له سوى قهر العدو وحمل باقة زهر من بلاده . ها هو يقول :-
وآتيك كابوس رعب .. يدق العنق
وآتيك في الثمر المحترق
وآتيك من جبل الشام من باكيات الطلول
فان كنت تحرمني من زمان قليل
ومن باقة الزهر من رفقة في بلادي الجديدة
ومن صحبتي للعيون الفريدة
أتيتك للسجن .. لست أخاف
فهدد وبحلق فخوفي هو المستحيل
(الديوان ، ص 122)
*****************
لا خوف .. لا يأس .. لا مستحيل .. هذا انا فأفعل انت ما تريد . سأحمل قضيتي على كفي وأصرخ بوجه عدوي :-
ان زمان الشعر قد حان وجاء …. ! .
الهوامش :-
1- كوبر ، جي . سى ، 2014 ، الموسوعة المصورة للرموز التقليدية ، ترجمة ، مصطفى محمود ، المركز القومي للترجمة ، ع 1727، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط1 ، ص 177 – 178 .
2- شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الاسلامية ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 44 .
* هكذا وجدنا المفردة في الديوان ولعل الاصوب هو ” جريدة ” وليس كما ورد اعلاه .
** المناصرة ، عزالدين ، 1990 ، الديوان ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط1.
3- كوبر ، المصدر نفسه ، ص 25 .
4- كوبر ، المصدر نفسه ، ص 107 -108 .
5- شبل ، نفس المصدر ، ص 309 .
6- شبل ، المصدر نفسه ، ص 309 .
7- موسوعة ويكبيديا على الانترنيت ” مادة فروتا مارتورانا ” .
8- د. الخولي ، وليم ، 1976 ، الموسوعة المختصرة في علم النفس والطب النفسي ، دار المعارف ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط1 ، ص 446 -447 .
*** المناصرة شأنه شأن اي شاعر يحمل قضية يعاني من رهاب البوليس او المخبرين .