يصف القاص جمعىة اللامي كتابه ” اليشنيون ” بأنه ” مجلد ” وكأنه يريد بذلك أن يبدد حيرة القارىء في تجنيس الكتاب ( أي نسبته الى جنس ابداعي معين ) . فهو تشكيلة من الأجناس تجمع بين القصة والمقامة والمقالة والمقاصة والمقابسة والخبر والحديث والحكاية التراثية. ويضيف المؤلف الى ذلك في ” اشارة ” قوله : ” يجد القارىء الكريم في هذا الكتاب ، تفاعلا ً أقصى مع مرحلة التأسيس في تجربتي الأدبية، التي ضمنتها نصوصا ً شعرية ، ومقتبسات سردية ، ولوحات تشكيلية وصورا ً فوتغرافية لشعراء وقنانين ، ومنحوتات لكبار النحاتين ، وبعض صور الألهة والقديسين والملائكة والأبالسة والشياطين في الحضارات الانسانية والديانات البشرية . ولقد جعلت بعضها بين قوسين ، وتركت بعضها الآخر لفطنة القارىء ” ( ص 9 ) ، وكأنه يقدم كتابا ً في السيرة الذاتية أيضا . ومع هذا التنوع يظل السرد السمة الغالبة في الكتاب ، وهي حقيقة يؤكدها كون اللامي ساردا ً من طراز متميز .
يشكل المكان احد الأعمدة الأساسية في أي مبنى سردي وبهذا فهو يملي على السارد أن يوليه اهتماما ً خاصا ً يتوافق مع حجم أهميته وبالارتباط مع طبيعة الأحداث التي تجري فيه ، وهذا هو ما يفعله المؤلف في كتابه حيث تتجلى خصوصية المكان أول ما تتجلى في اختيار لوحة غلاف الكتاب وعنوانه. واذا تجاوزنا لوحة الغلاف التي تومىء الى المكان بدلالة تفاصيلها، فإن العنوان يشي بهذه الخصوصية بشكل مباشر . فاليشنيون نسبة الى ” اليشن “، وهو تل أو مرتفع في الهور، يرتبط ببعد اسطوري أو خرافي ، بأهوارالعمارة تحديدا ً والمناطق القريبة (والعمارة هي مدينة المؤلف / السارد ) ، ومن هنا يكتسب المكان خصوصيته ويبدو واضحا ًانه ترك بصماته على وعي السارد وتسلل الى لاوعيه وسكن ذاكرته أيضا ً. وفي هذا السياق ، كان اللامي قد أصدر ، ضمن الكثير الذي أصدره على امتداد مسيرته الابداعية ، مجموعة قصصية تحمل عنوان ” اليشن” ، مما يؤكد سعة اهتمامه بهذا المكان على وجه التحديد .
أول ما يستوقف القارىء ، بالارتباط مع المكان ، ما جاء بعنوان ” بيان اليشن ” ، كمقدمة للكتاب، وهو بخط يد اللامي نفسه ، ليفتتح الكتاب بالنص المدهش الذي يحمل عنوان : ” حفريات شخصية : فليفلة والسروط : قصة حب ميساني ” ، وهو نص من السرد الحكائي أو التراثي ، مفعم بالحس الشعبي ومطعم بمفردات عامية تزيده اقترابا ًمن الواقع .. انها حكاية عشق باطار اسطوري يجد المكان فيها حضورا ً جليا ً يؤكد هنا أيضا ً ، بدلالاته الموحية ،على سطوته على وعي السارد بدءا ً من عنوان النص : قصة حب ( ميسانية ) ، ثم الاشارة الى ” بنات ميسان ” في المقطع الشعري الذي قدم به السارد الحكاية التي تبدأ في مقطعها السردي الاستهلالي بـ ” حبل سرّة وليدك مدفون بمقبرة الرضعان في ايشان السروط ” ، في ايماءة الى الارتباط بالجذور.
إن تفاصيل من جغرافية المكان في هذا النص تلقي الضوء على طبيعة الواقع الاجتماعي الذي كان سائدا ً في الماضي حيث يتمثل التعايش بين الطوائف من خلال حديث السارد عن الطبيب اليهودي داود كبايي الذي كان مشهورا ً في مدينة ( العمارة ) حيث يقول عنه على لسان الراوي : ” ثم ودعنا حتى باب دارته العتيقة في زقاق التوراة المتفرع من شارع المعارف الذي يفضي الى الكنيس اليهودي وكنيسة يقول الناس انها أقدم أثر مسيحي في الجنوب ، وبالقرب منها يوجد المسجد الكبير في سوق لا يبعد كثيرا ً عن حسينية السيد مرتضى القزويني ، أما المندى الصابئي فيقع على الجانب الأيمن من تهر دجلة . ” ( ص 14 ) . ومن خلال تجاور هذه الأمكنة يرسم السارد صورة لواقع صار ماضيا ً الآن ولعله أراد التعبير به عن الحنين اليه .
وحين نتوقف عند ” عشق فليفلة للسروط ” يواصل المكان حضوره بشكل أو آخر . ” لقد تحولت الحكاية العابرة التي رواها رجل مجهول الى اسطورة نتداولها جيلا ً بعد جيل ” ( ص 16 ) ” فقد أحبت شابة لامية اسمها : فليفلة شابا ً آخر من غير أبناء قبيلتها اسمه : السروط ” ( ص 17 ) لكن ذلك الحب آل الى نهاية مأساوية أنهت حياتهما غرقا ً مع الشاب الغر ابن عمها الذي فرضته التقاليد العشائرية عليها دون رغبتها . إن ما يثير الانتباه في هذه الحكاية ان فليفلة والسروط اسمان لمدينتين أثريتين مندثرتين: مدينة فليفلة التي نهضت على أنقاضها مدينة على الغربي الحالية ، ومدينة السروط القريبة من الموقع نفسه . غير ان السارد نزع السمة المكانية عن فليفلة والسروط ومنحهما بعدا ً مغايرا ً حين جعلهما عاشقة وعاشقا ً ، وكأنه أراد بذلك احياء الماضي والتعبير عن ارتباطه بالحاضر، أو التذكير به من خلال هذين الرمزين ، مع انحيار واضح للمرأة المغلوب على أمرها .
وفي ” حديث ” بعنوان ” بورخيس اليشني ” يستعير المؤلف شخصية خورخي لويس بورخيس فيتقمصها ويشير الى علاقة بورخيس اليشني هذا ( أي جمعة اللامي نفسه ) بجواد سليم . فقد كان ” صديقا ً عتيبقا ً لجواد سليم ، وبينهما كانت مراسلات سرية في أقدمية التوقيعات السومرية الأولى على الاسطوانات المعروفة في ايشاني ” فليفلة ” و ” السروط ” والتي هي بداية التدوين كما يقول عالم السومريات الشهير صموئيل كريمر ” ( ص 38 ) و ” بورخيس اليشني الذي يشبهني في صفات وأفكار كثيرة لاسيما انه ينتمي الى قبيلة بني لام التي استوطنت مدينة العمارة ، وانتشرت مضارب كثيرة بين ايشاني ” فليفلة ” و ” السروط “مرورا ً بـ ” خويط السلطان ” والحمادات بين واسط والعمارة ” ( ص 39 ). وفي هذا التقمص يهدف السارد ، على ما نزعم ، الى هدفين أولهما التعبير عن الاعجاب ببورخيس الأرجنتيني وثانيهما التعبير عن الثقة بالنفس الى الحد الذي يجعله يرى نفسه في مستوى يرقى الى مستوى بورخيس الحقيقي .
وفي النصوص التي تحمل عنوان ” المتون ” يحضر المكان ولكن بشكل مغايرأحيانا ًلا صلة له باليشن، وهذه النصوص قصص ذات بعد انساني لعل قصة ” الحرب ” تقف في الصدارة منها مضمونيا ً . غير ان ” اليشن ” يعاود الحضورمرة أخرى هنا أيضا ًبشكل متواتر . ويبدو واضحا ً تماما ً ان اللامي على دراية بتفاصيل جغرافيا الأمكنة التي ترد في نصوصه مثلما هو على المام بالأساطير وعلاقتها بهذه الأمكنة . لذلك فإن مفردات مكانية مثل ” اليشن ” و” ايشان ” و “حفيظ ” والهور وما يرتبط به ، تبدو مثل وشم محفور في ذاكرته اليقظة . وضمن هذا السياق ، وللربط بين الماضي والحاضر يستخدم ” ايشان أبو الذهب ” ليرمز به الى العراق في المقطع الذي يحمل عنوان ” مقامة : 57 ــ هجائية 9نيسان 2003 ” الذي يدين فيه الاحتلال الأمريكي للعراق في النص الذي جاء بعنوان: ” تاريخ العار في بلاد النفطار ــ برواية سلطان الخالدي الشهير بنزيل الجلالي ” ويتفرع عن هذا الراوي الرئيسي رواة فرعيون : أبو علي ( حسن ) الماجدي ومتعب الطرود وشايع الشرقي ، الذين يروون الأحداث ، ( وكانت حكاية ” فليفلة والسروط ” برواية ” سلم بن يوسف ” هي الأخرى ) . ان اللامي يتقمص شخصيات الرواة هؤلاء ويتحدث بألسنتها في تنويع يتجاوز رتابة السرد .
وحيث خصصنا المكان بهذا القدرمن القراءة ، فإنما توقفنا عند القليل من الكثير الذي يحفل به كتاب ” اليشنيون “( وهذا لا يعطي الكتاب حقه تماما ً ) مما يستلزم أكثر من قراءة لدراسة ما صنعته مخيلة سارد كبير مثل جمعة اللامي !
(صدر كتاب” اليشنيون ” في آذار 2015عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ، وجاء في 312 صفحة من القطع المتوسط ، لوحة الغلاف لفلاح السعيدي من العراق ، وهو الكتاب السادس والعشرون في سلسلة اصدارات اللامي حسبما ورد في الملحق التعريفي الذي ثبّته في نهاية الكتاب ) .
ناطق خلوصي : خصوصية المكان وسطوته على وعي السارد (قراءة في كتاب “اليشنيون” لجمعة اللامي)
تعليقات الفيسبوك