مرة سألته بعد أن سمعت (غريبة الروح) لأول مرة وأعجبت بها أيما إعجاب، تلك الاغنية التي عدت من النصوص المميزة التي تقف ساكنة عندها مواطن الاحساس لتسرح بأجوائها الحالمة الندية.سألت جبار: كيف خرجت غريبة الروح بهذا الشكل؟..
أجاب: تحديت روحي.. وخرجت غريبة الروح..!!
صاحب نص غريبة الروح الشاعر الشفاف يصب حروفه وكأنها لمقاسات معينة مسبقا، وابجديتها رسمت له وليس للآخرين، سهلة منسابة على نغم رقراق دونما تلحين، فللحرف مداه ليس فيه تكلف مصطنع..
رغم تلك الشاعرية سلك طريقاً خاصاً به في حياته، بالرغم من انه عاش في زمن يجمع الجميع على أنه وكما وصفوه بأنه (الزمن الجميل) وصداه خالد الى الآن، وفعلاً كان كل شيء فيه جميلا، بدءاً من الثقافة العامة، مروراً بالشعر والاغنية وجميع الفنون، وصولاً الى كافة نواحي الحياة الاجتماعية، فالجمال كان الصبغة المغلفة لكل مفاصل الحياة اليومية، الا انه وانا لا أعلم هل اراد جبار الغزي التمييز فاختار حياة العبث..
لقد كان مختلفاً اختلافاً كبيراً عن الآخرين، ولكن الذي يميزه دائما ان كلامه العادي تشعر فيه أن به صوراً شعرية.. أو أنه شعراً. مرة في إحدى الجلسات النواسية كان يجلس بجواره المرحوم الشاعر زامل سعيد فتاح وشعراء آخرين، فالتفت الى زامل وخاطبه شعراً:
يا زامل الحباب أنت أعز جار
هاي ايدي حدر الميز حط بيها دينار
أجابه زامل على الفور:
شنهي الفلوس گشاش فوك الزباله
أطـلب ربـع دينـار أبن الزمـالــه
كلامه.. حديثه لذيذ.. فكه.. مرت عليه أيام اغلبها تسوقه عبثيته فيها الى النوم في الشوارع! وفي ليالي الشتاء كان ينام في كابينة الهاتف الموجودة على رصيف الشارع القريب من الاذاعة العراقية الواقعة في منطقة الصالحية في الكرخ بعد أن يجلس القرفصاء لأن الكابينة مصممة لتسع شخصا واحدا وقوفاً عندما يريد الاتصال.
حدثني في إحدى المرات وقال: وأنا راقد في كابينة الهاتف أو (بيتنا) كما يقول: فاذا بالباب تفتح من قبل احدهم لغرض اجراء اتصال، ودخل فإذا به يدعس فوق جسمي دون ان ينتبه لوجودي في الكابينة، أفقت من غفوتي فزعاً، انتبهت اليه وخاطبته ببرود (يكفر واحد ايخلي ابيتهم تلفون… كل ساعة يجي واحد ايريد ايخابر).
عد البعض ممن كتبوا عن جبار الغزي بأنه من صعاليك زمانه وليس من مدرسة الصعاليك القدماء، وعد من جماعة الحصيري.
من عرفه والكل يعلم بأنه كان رثاً ولم يهتم لنفسه البتة، واظنه لم يجرب استعمال المشط في ايامه العبثية، وعلى الاغلب انه تعرف عليه واستخدمه بعدما تعرف على تلك الحسناء التي كتب لها رائعته المملوءة ترافة (عالحواجب يلعب الشعر الحرير).
مرة تخطيته دون معرفة أو قصد في شارع النهر وكانت المسافة كما أذكر اكثر من مترين بقليل، التفت صوبي وصاح بصوت واضح ومسموع (تره إحنا هم أنيقين) التفت أنا الى مصدر الصوت تفاجأت.. لقد كان صوت جبار الغزي، ولكن شكله قد تغير تماما، كان بوجه حليق وشعره منسق وهندامه جميل، يرتدي (بالطو) اسود طويلا ونظيفا، يتدلى من على رقبته لفاف صوف طويل، لونه احمر داكن ونظارته السوداء المعهودة، أجمالاً كان بتمام الأناقة، رجعت خطوي اليه، وبعد التحية بادرني (غريبه مو) فأجبته بدعابة: غريبه الروح. فرد غريبه الروح وغريب الشكل، وكالعادة ذهبنا الى نواسيته وقص عليّ حال التغيير المفروض عليه ونزولا عند رغبة من فرض ذلك، وبدأ بسرد مواصفات من أسره بين العين والحاجب.. وفعلا سررت للحياة الجديدة وفرحت بالخبر الذي غير من شكل وحياة جبار الغزي ذلك التغيير الايجابي. لكن ذلك لم يدم طويلاً فترك أناقته المفروضة عليه، وعاد غير نادم الى حياته السابقة، ورمى كل ما كان يرتديه من لطافة واناقة على من اراد له ذلك، وارتدى عبثيته ثانية وكان العود أحمد..
التقيته وبعد ان سألته رد قائلاً: أنا نمر متوحش اكره حياة السيرك والترويض.. أحب التمرد..
فاز بجائزة رئيس الجمهورية آنذاك احمد حسن البكر لأفضل نص غنائي عاطفي. وبالمناسبة جبار الغزي لم يكتب أي نص مديح للسلطة الى ساعة رحيله، وكان مبلغ الجائزة رقماً مهماً في حينه لم يملكه ولو لحين، وزعه على اصدقائه ومن قدم له في ايامه الماضيات، وبذر ما تبقى الى ان نفذ مبلغ الجائزة، ولم يدخر او يحتفظ بجزء منه لأيامه التالية.
اتصل به الملحق الثقافي لإحدى دول الخليج من سفارتها في بغداد، واخبره بتكريم أمير بلاده له على نص أغنية (عالحواجب يلعب الشعر الحرير) وحدد له موعد استلام التكريم، وبعد حضوره وجد ان هناك احتفالاً داخل السفارة أقيم بالمناسبة، رعاه السفير وحضره اركان السفارة، ودعيت اليه الشخصيات الادبية من بغداد. القى في بدايته الملحق الثقافي كلمة سطر فيها اعجاب الأمير بذلك النص واطرى بإسهاب واضح على محاسنه ورقته، بعدها قال الملحق الثقافي ان الامير رأى ان النص لا يقيم بثمن ولا يستطيع تقييم ذلك العمل بقيمة معينة، وأخيراً قرر اهداء خنجره الخاص.
استلم جبار الغزي هدية الامير، وعاد مبتسما وتفحص الخنجر كان مطعماً بالجواهر والاحجار الكريمة، بعد فترة وجيزة قرر بيعه (الخنجر الهدية) واعلن عليه مزادا بين المعارف والاصدقاء، فاز به من دفع أعلى مبلغ وقد وافق عليه جبار، وبعد ان هم بتسليم المبلغ اليه رفض تسليمه الخنجر لحظتها وقال: (خليني كاشخ بيه باچر أسلمك اياه.. وسلمني الفلوس) وفي اليوم التالي وحسب الاتفاق، التقيا وكان جبار باسماً كعادته فسأله أين الخنجر؟ هل بعته لشخص آخر، رد بالنفي وقال: ولكني كالعادة كنت قد نمت في الشارع، واستيقظت صباحاً على صوت منبه السيارات فلم اجد الخنجر، لقد سرقوه واردف قائلاً: انا اشكر ذلك السارق الشريف!! فسأله: تقول سارق شريف! فأجابه: نعم شريف لو مو شريف چان ذبحني بيه.
عاش بضنك.. لم تعينه جميع الاشياء.. يمر عليه يومه ليحياه، لم يحسب ولا يأبه لغده، فإن جاء مثل الذي قبله فعنده الغد أمر.. وكان يردد دائماً النواسية الخالدة:
لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان
ومضى.. وكأن ماضيه لم يمض ِوأوانه لم يحن.
- عن جريدة الحقيقة