يشعر رافد بالاحباط الشديد في كوبنهاكن لان التجارب التي عاشها في بغداد لم تنفعه بشيء:”ماقيمة تجاربي،ايامي،حزني،سهري،عذابي،فرحي..ماقيمة كل هذا أمام مدينة جديدة لاتعرف عني شيئا من ذلك ؟ ”
أمام هذا الاحباط كان عليه ان يخوض تجارب جديدة،ان يصنع له تاريخا جديدا، وكان لابد له ان يلتقي بهدى التي باتت تتحكم بحياته واصبحت بطاقة دخوله الى تاريخ شخصي جديد في عالم الغربة،ورغم ان رافد لم يلتق بها:”لشد ماأتوق للتعرف إلى ملامحها “،إلاّ انه كان يشعر بوجودها وبوقع نظراتها وهي تلاحقه وتنصَبُّ عليه،ومع انهما لايعرفان بعضهما ولن يلتقيا طيلة احداث الرواية إلاَّ ان علاقة غريبة تجمعها مثلما هي العلاقات بين بقية شخصيات الرواية التي كتبتها هدى حيث تعيش الشخصيات فيها غرباء في عالم الغربة،وهم ينتمون الى اجناس ولغات والوان وثقافات وجغرافيات متنوعة ومختلفة،عراقيون وايرانيون وباكستانيون واتراك،بقدر ما يختلفون باشياء كثيرة لكنهم في المقابل يتفقون في كونهم يحملون هوية لاجئين جاءوا من الشرق،ويلتقون جميعا تحت سماء العاصمة الدنماركية كوبنهاكن .
هدى اختارت رافد ليكون شريكها في نقل ماتود البوح به الى القارىء العربي من خلال رسالة بعثتها اليه عبر البريد الالكتروني تدعوه فيها الى ترجمة رواية الى اللغة العربية من عشرين فصلا كتبتها باللغة الدنماركية مع انها تعلم جيدا بأن رافد لم يسبق له ان ترجم نصا ادبيا،لأن عمله كان مقتصرا على ترجمة مايحتاجه اللاجئون العرب ممن لايجيدون اللغة الدنماركية عندما يتصلون به ليهرع اليهم الى المستشفى او عيادة أو مدرسة.ومع انه لم يعر رسالتها اهمية في الاسبوع الاول ولم يكن ينوي الرد عليها،إلا انه مضى نحو قدره فيما بعد،لتنقلب بعض موازينه بعد ان انتهى من قراءة الفصل الاول .
تقانات مابعد القص
من يقرأ الرواية سيكتشف بانه يقف امام مؤلفة تملك تصورا ناضجا لتقنيات الكتابة الروائية تؤهلها لأن تعلن عن صوتها المميز في عالم الكتابة السردية .
فمنذ الصفحات الاولى كشفت عن مهارة في بناء لعبة فنية انحازت فيها الى استثمار تقانات مابعد القص في السرد،ولربما لانها تتيح للكاتب حرية في بناء عالمه الفني بالشكل الذي يصعب فيه الفرز مابين المتخيل والواقع،ومابين الذاتي والموضوعي، مع أن العلاقة بين هذين العالمين تبدو واضحة جدا للوهلة الاولى لكنها تتداخل وتتماهى كلما اعدنا قراءتها وتأملها من جديد،الى الحد الذي يصبح من الصعب التفريق مابين هدى مؤلفة نص الرواية الضمني وهدى الشخصية المحورية في الرواية التي نسجت هي عوالمها.
هدى:”أنا شيعية،ولدت هكذا ولم أفكر في يومٍ أن أختار تصنيفا آخر عوضا عمّا ولدتُ عليه،هنا ينبثق أمر مهم،إذ لست من الأسر الشيعية التي لها سير نضالية ضد النظام البعثي تتفاخر بها،لاشهداء تتزين بهم الاسرة،لاإعدامات ولاسجون،اللهم إلاّ أخ لأمي أعدم بتهمة انتمائه إلى الحزب الشيوعي،فيا للعار إذاً أن يُعدم لنا قريب بتهمة كهذه فيما نحن نحاول الانتماء الى جالية متأسلمة ! سيعُتبر تأريخ أسرتي مخزيا،وسأصنف على أني أقل منزلة ضمن الحلقة التي تضيق علي شيئا فشيئا “.
ولتحقيق هذه التركيبة بقدر عال من المهارة والاحكام كان اختيار تقنية السردــ ذاتية هو الاقرب الى تحقيق ذلك في بنية النص
رافد:”دون أن انتبه في البداية إلى كون اسمها واسم الشخصية متطابقين وبعد أن ترجمت اكثر من نصف فصلها الأول كتبتُ لها بتحفظ اسألها عن ذلك..فردت ببساطة:لأنها أنا “.
يزداد هذا الاحساس عمقا مع الاستمرار في تتابع الفصول،بالشكل الذي تضعنا المؤلفة في قلب تجربتها بكل تقلباتها،معللة بذلك سرد قصتها على لسان هدى شخصيتها الرئيسة ـــ تلك الفتاة العراقية الشابة ابنة العشرين عاماً ــ على أنها اقرب وسيلة تبحث فيها عن ذاتها التي ولدت في كوبنهاكن من ابويين عراقيين هاجرا من بلدهما العراق في تسعينات القرن الماضي بسبب ماكان يمر به من ظروف صعبة نتيجة الحروب والحصارالدولي المفروض عليه.
تناوب على السرد صوتان بضمير المتكلم:هدى الشخصية الساردة في الرواية الضمنية،ورافد مترجم الرواية الضمنية .
في البنية الروائية يتماهى الزمن المتخيل مع الزمن الواقعي في علاقة تناوب، تتجاور مع تقاسم عملية السرد مابين السَّاردَين وهما يتبادلان المواقع.وضمن هذا السياق الفني تُشكِّلُ المؤلفة حوراء النداوي بنية عالمٍ سردي تكشِفُ من خلاله عالم الاغتراب للكائن الشرقي الذي يتساوى بين تفاصيله اولئك الابناء الذين ولِدوا فيه(هدى،نخلة،زينة،رضا)مع اولئك الذين لجأ اليه فيما بعد(الاباءوالامهات +عماد).
الابيض والاسود
لم تشعر الطفلة هدى بالاغتراب عن المكان الذي ولدت فيه ولم تكتشف مايخبئه من مشاعرعنصرية موجهة ضد اللاجئين إلا ساعة رفض كلاوس الطفل الاشقر الدنماركي ان تنظم هدى الى فريقه في المدرسة وقال لها:”أنا لاأريد أن اكون معك”،وعندما تستفسر عن السبب يرد ببساطة :”جدتي تقول عندما تكبر لاتتزوج من السودوات..وأنتِ بشعر اسود،إذن انتِ سوداء ” .
عند ذاك تبدأ بطرح الاسئلة على ذاتها بحثا عن اجوبة لذاتها المحكومة بعالمين متناقضين متصارعين ينشطران فيها الى زمنين ومكانين لاتصالح يجمعها:
اولهما -عالم شرقي في داخل البيت يراقبها ويحاسبها على كل صغيرة وكبيرة ويريد منها أن تنصاع له شكلا ومضمونا،ابتدأ بحجاب الرأس،وبقدر مايميزها عن اقرانها في المدرسة إلاّ انه يشكل علامة تفارق واغتراب عنهم،يسحق تميزها الانساني باعتباره ايقونة دينية .
ثانيهما-عالم غربي يواجهها خارج البيت ويتقاطع مع داخل البيت بنفس القدر الذي يتقاطع مع ذاتها:”كان لابد أن تمر سنوات كثيرة لأعرف أن اغترابي يُعد عوقاً، ولِدتُّ به وتأقلمت معه دون أن أعرف لذة انعدامه،لمْ أكن طبيعية،لكنني ايضا لم أكن أعرف اني لست طبيعية،مثل أعمى ولِدَ ولايدري ماتعنيه حاسة النظر،ولم يسمع عنها قبل أن يبدأوا بتهيئته للتواصل بطريقة فريدة،تخصُّ مَن هُم مثله فقط “. فالعالم المحيط بها في الغربة كله تظافر ـ معا ـ على أن تتأقلم مع غربتها،حتى انها وصلت الى حال لم تكن تستطيع العيش من غير ان تعيش بعيدا عن عقلية الاغتراب،والذات المغتربة هنا تعيش صراعا بثلاثة اوجه :
-الذات مع الذات
-الذات مع الداخل = الشرق/الماضي/الحاضر .
-الذات مع الخارج =الغرب/الحاضر
في هذه الرواية تبدو الذات في حالة صراع عميق ازاء حركة الاشياءالتي اخذت تفرض سطوتها عليها وهي تقف وسط مسافة تحتشد فيها علامات حمراء تفصل مابين عالمها الشرقي داخل البيت وعالمها الغربي خارجه،تصطدم بها كلما تخرج يوميا ذاهبة الى المدرسة،ازاء ذلك تخضع الاشياء لدى هدى تحت مشرط تساؤلاتها الدائمة بحثاًعن معانيها،ابتدأً من الاسماء،فما معنى ان يكون اسمها هدى،واسم شقيقتها التي تكبرها بسبعة اعوام نخيل،واسم شقيقها عماد الذي يكبرها بعشرة اعوام والذي تركه والداه وهو لم يزل طفل صغير في بيت جده بالعراق ساعة هربوا الى كوردستان العراق ومن هناك الى الدنمارك.
هدى:”عجيبة هي اسماؤنا،إذ لاتنبىء بتوجه ما..فلا هي اسلامية لتبرهن على عمق تديننا،ولاهي عربية قومية تفضح تعنصرا غير معلن منّا،ولاهي اجنبية دخيلة نفرضها على مجتمعنا امعانا منّا في حداثة ممسرحة ” .
عالم النساء
المرأة كيان انساني يفيض بعواطف ومشاعر عميقة تبد واضحة في كثير من العلامات الانثوية مهما حاولت اخفائها،بل ان محاولاتها هذه تزيد من فرص الكشف عنهاوهذا ما يمنح حضورها طغيانا آسرا بتفاصيلها الناعمة،ولعل المرأة في عالم الكتابة السردية هي الاكثر قدرة من الرجل على التقاط المنمنمات التي تعبر عن شفافية الجانب الانثوي.
الندواي كشفت في عملها الروائي الاول هذا،عن قدرة مميزة في التقاط مالم يستطع الرجل ان يلمحه بسهولة في شخصية الأنثى،كما جاء على لسان رافد وهو يحاول أن يجد تفسيرا لمتعته في البحث عن التفاصيل المثيرةُ في عالم النساء.
رافد:”مثل هذه التفاصيل تسحقني”.
سبب ذلك يرجع الى ان رافد قد شبّ في عالم شرقي يتسم بذكوريته،فقد نشأ بين خمسة إخوة ثلاثة منهم اكبر منه.
رافد:”هذا الكائن الرقيق الذي يضع يداً على فمه حين يبتسم أو يضحك،ويخفي بدلال خصلة تبدو فائقة النعومة خلف اذنه فقط لتهبط على جبينه وليعاود من ثم الكرّة،ويطلق نظرات طويلة شديدة الوهن “.
الشرق يواجه الغرب
المرّة الاولى التي عَرفَت فيها هدى الشرق كانت لم تزل طفلة صغيرة عندما زارت مع عائلتها مدينة دمشق ولمدة شهرين،هناك ادركت الحد الفاصل بين حياتين، فانشطرت ذاتها الى شخصيتين كل واحدة منها منفصلة عن الاخرى،فدمشق هي التي جعلتها تشعربالاختلاف الكبير مابين الشرق والغرب،وبين ذاتها قبل وبعد زيارتها لدمشق.حينذاك ادركت الفرق بين الاثنين،عبر الرئحة التي تمنحها المدن للناس لتشكل خاصيتها وعلامتها الفارقة التي تشير اليها:”كوبنهاكن رائحتها طفيفة لاتنخر الأنف مثلما تفعل روائح المدن الشرقية..وأنا اكتشفت في طفولتي الدمشقية رغبة عارمة في استنشاق روائح متفرعنة “.
في دمشق التقت هدى بنفسها وتعرفت عليها عن قرب واقتربت منها ولم يتولد لديها شعور السائح عندما يزور مدينة غريبة عنه،حتى بدا لهاوكأنها عرفت ذاتها جيدا مثلما عرفت دمشق،وراودها احساس عميق على أنها سوف لن تشعر بالضياع فيما لوتاهت عن والديها طالما قد عثرت على نفسها،حتى وجوه الناس لم تكن تبدوغريبة عنها:”احيانا يخيل إلي أنها كانت السبب في جعل شخصيتي على ماهي عليه الآن..حين عدت الى كوبنهاكن احسست أني تركت نفسي في سوريا ” .
*حوراء النداوي كاتبة عراقية الاصل،إلا أنها ولدت في المغترب الدنماركي،ونشأت هناك وتعلمت اللغة العربية على يد والدتها في المنزل وتسكن حاليا في لندن .