أوستن – تكساس
الشايع في أحاديث عموم المتعلمين ومَن يروق لهم أن يطلقوا آراءهم بوصفهم معنيين بالشأن الثقافي وحراصاً على توافر أسباب الاكتمال وعناصر الجودة و انتفاء شائبات القصور والعجز عن الوفاء بالمتطلب من الكتاب المدرسي المقرر تدريسه في المرحلة الثانوية أو الاعدادية ، وخاصة بالنسبة لما نلوكه في محافلنا ونلهج به دواماً ، كونه يندرج في نطاق الانسانيات والوجدانيات من صنوف المعرفة كالعلوم اللغوية وتواريخ الآداب وسائر ما لا يقتضي رهقاً وإجهاداً في سوغه من نحو الجغرافية والتاريخ العام والفلسفة ، وبعيداً عن أدنى اهتمام بالفيزياء والكيمياء والحساب والجبر ، وما يحوج الى التفكير العقلي ويستتبعه بطبيعة الحال ، مكابدة المرء لما لا حد لوصفه من الضنى والعياء ، وانتواء المطاولة والاِصطبار ، والانقطاع للدرس حتى بلوغ الغاية واستيفاء الغرض ، قلت إن أولاء النفر تعودوا التحرشَ بذمم واضعي الكتب المدرسية المحيطة بالمفردات المنهجية الموضوعة من لدن نخب وهيئات مرتبطة بوزارة المعارف بالأمس أو التربية اليوم ، على أن جهدَهم في إعدادها لا يتعدى الاختيارَ والتجميعَ والترتيب والتنسيق ، ومن شطط الرأي أن يجترِئوا على ادعاء نسبتها لهم ، وكان الأحجى بهم أن يوشحوها لقارئيها ودارسيها وعلى أغلفتها الخارجية ، كونها أشتاتاً متجمعات من بطون مؤلفات وكتب تولى عنها غيرهم ، بدلاً من تشادقِهم بتأليفها ، وقد يصح هذا النظر أو لا يصح ويدخل في حيز الاختلاق والتلفيق ، أو يكون بعامل التغرض والشنآن والحسد اللئيم ، لكني ألفيت جُلَ كتب القراءة التي يتداولها تلامذة الصفوف المتقدمة في المدارس الابتدائية ، وكذلك كتب المطالعة التي يُقبل عليها طلبة الدراسة الثانوية ، مما يجوز وسمهما معاً بهذا الملمح أو دمغهما بالطابع ذاك ، إذ لا يتعديان احتواءَهما نماذج ونصوصاً ولقيات من النثر والشعر تناسبُ مدارك التلامذة والطلبة وبحسب أعمارهم ، وتتدرج من الوضوح والسهولة واِمكان فهمها الى ما يلزم من التؤدة والأناة وإجالة الرأي والاِمعان في ما يَبين عليه اللبس والاِبهام منها حتى يستوي مبسطاً ويتوضح ، فهي تشتمل على سور من القرآن المجيد وشواهد وأمثلة لأحاديث النبي محمد (ص) فمقتبسات من آثار المؤلفين والمصنفين قدامى ومحدثين كالجاحظ وابن المقفع وطه حسين وعبد العزيز البشري وبعض الحكايات والنوادر والأشعار والقصص الفني .
لكن لحد السنة الدراسية 1961 كانت شبيبة الأجيال الأوائل من بنينا تستقي معارفها الأدبية واللغوية وهي تنتظم في الصفوف الخامسة الاِعدادية ، وتعول على كتاب (الأساس في الأدب العربي) وذي تسمية محببة كفيلة أن تعين النابهين من الدرّاس على شحذ مواهبهم وصقل قابلياتهم على الكتابة والتأليف مستقبلاً إن كانوا على قدر وجانب منها ، محوجاً لمزيد من المراس والمرانة وحذوِ تجارب الدارجين قبلهم في هذا الميدان واقتفاءِ محاولاتهم ، فهو ملمْ ومحيط بسير أعلامَ الأدب العربي وجهابذته من الشاخصين في العصرَين العباسيين الأول والثاني واللذين ازدهرت الآداب بمختلف فنونها المألوفة إبانهما ، ما بين سنة 132هـ وسنة 656 هـ في سائر أنحاء العالم العربي والاِسلامي والذي استهدفته الغزوات المغولية بالضر والأذى ، أي في المواطن التي هي بالأصل منابت للثقافة العربية من هذا الكون الوسيع ، والدياراتِ التي يمم العرب وجهتهم وانطلقوا صوبها من جزيرتهم بغية هداية أهلها وسكنتها لنور ديانتهم الاسلامية ، وهم من عناصر وأجناس شتى بين رومية وفارسية ، وصنوف متعددة من الاعتقاد والعبادة ، وضروب متنوعة من الايمان والضلال . وقد انبسطوا في أرجاء متباعدة الجهات والمناحي ، وتطلبوهم بالتخلي ونبذ شعائرهم وماجروا عليه من تحديد صلاتهم بخالق الأكوان ، وأنظارهم حيال هذه المظاهر الدالة على هيمنتة وتصرفه بكل ما في الوجود ، وتوسلوا لذلك بطريق الاقناع وحمل الآخر على الاذعان والتسليم لهم بسداد القصد والحجة وهم غير مسوقين لهما بدافع من الاِكراه والارغام ، ومن دلائل نجحهم وفلاحِهم في سعيهم ذاك أن دهشوا لأول احتكاك لهم بتلك الأقوام المجنبة لما

كانت عليه في حياتها وعيشها بمستوى متقدم بعض الشيء في الثقافة والحضارة ، فكانوا أميل للامتزاج بها، وأرغب في الافادة مما بلغته من رقي وتسامٍ في مختلف الصعد من اجتماعية واقتصادية وما يتصل بالأحكام والنظم والتشريعات ، مثلما أطلوا عليها بلا تجرد من استمساك بعقيدتهم الايمانية التي ترجح في ميزان المقابلة والقياس على سائر ما حققه الانسان الأرضي لاِدامة وجوده وحياته برهة من الزمن وسانحة من الوقت يتسنى له فيها تجسيد رغابه و أوطاره ، وقد نصلوا للتوِ من عاداتهم وطقوسهم القديمة وما يقترن بها من الاحتراب والتنازع لسبب ولغير سبب مما يتمشى ويرادف مألوف البداوة .
ومؤلفو كتاب الأساس في الأدب العربي ، والاساس يعني المهم والضروري والذي لا غنية عن الالمام به ومعرفته من بلوغ هذا الأدب شأواً من الابداع والنضج والأصالة هم كمال ابراهيم ومحمد بهجة الأثري ومصطفى جواد في غير داع ٍ لقرن أسمائهم بنعوت وأوصاف تدليلاً على إكبارهم وإعظامهم ، فتعدادُ فضل المرء منقصة له في زمن تكاثر فيه المتجلببون مزايا الأكابر من الرجال على كل حال .
وقد تعهد الأول بالكتابة عن الأحوال الأدبية في العصر العباسي الأول ، وتكفل الثاني بتقصي الشأن الثقافي ابان العصر العباسي الثاني وما تواتى لموحيات الأدب أثناءه من انتعاش وتطور فتكامل ببلاد العراق وفارس والشام ومِصر ، بينما انصرف مصطفى جواد لتدوين انطباعاته عنها في رباعِ المغاربة والاندلسيين ، وفي العصر ذاته .
والمغمز الذي يشين بأولاء المؤلفين أنهم كشأن قرنائهم وأودائهم، يحجمون عن شرح حالهم وهم عاكفون على إعداد هاته المصنفات والكتب ، ويعزفون عن ذكرها واِدراجها ضمن قائمة بمؤلفاتهم في صفحة ختامية من كتاب فرغوا من اِنجازه وطباعته مؤخراً ، على أساس أنها مرصودة لتثقيف الطلبة الدارسين ، أما عموم الملأ فهم في غير احتياج اليها ، أو يعتدونها قليلة الفائدة و الاهمية إن لم يتهيبوا أن يرميهم جاحد متغرض بمعرة الاِختيار والتجميع ، أو لدواعٍ أخرى ، بينا يحتسب لها المنصفون ذوو الأفق الواسع و الخلق المتزن ، غير هذا الجنس من التمحيص والتقييم ، ويخالونها أبين شاهد و دليل على تمثيل جهد صاحبها .
وقد قدم المؤلفون لطبعته الأولى الصادرة سنة 1952 م بكلمة موجزة لا نمسك عن تبيان تخلخلها في ثاني سطر منها غابت فطنة القارئ عن لحاظها والوقوف عندها إن لم يمر بها عجلان اِذ يقولون: هذا كتاب تناولنا فيه تاريخ آداب العرب في عصري بني العباس وعصور الأندلس والمغرب والدول التركية في العراق والشام ومصر ، كتبناه استجابةً لدعوة وزارة المعارف إيانا ”
وأرى أن هذا القول لا يستقيم ومرادهم من رصد الأوضاع الأدبية في المواطن الثلاثة إبان عصر بني العباس الثاني ، وهل توفق الأتراك الذين اجتاحت عساكرهم البلدان العربية في مستهل القرن السادس عشر الميلادي (أي في العام 1520م) في تطويع أهليها وحملهم على الاِذعان لسطوتها ، وحالوا على امتداد القرون الأربعة التالية دون وثوبها وانتفاضها عليهم ورفضها لتدابيرهم وتعسفهم بالإيكال لولاتهم ان يشيعوا حالة من السكوت والرضى بالواقع كما هو شأن أي غاصب مدخول ومذموم على افتراض اعتناقه ديانتهم ، فالأحرى استبعاد صفة قيامهم بتوطيد كيانات لدول تركية في بلاد العرب ، ثم اننا لم نلمس في استجلاء مصطفى جواد أيما شاهد على ازدهار الأدب العربي في البلدان الثلاثة زمن الاتراك ، وهو بلا شك حافل بعشرات الأسماء مِن الكتاب والشعراء خاصة منذ استهلالة القرن السابع عشر الميلادي رغم انشغال ذوي الشأن بالفتوحات والحروب ، ولو اننا درجنا في كتاباتنا على تسمية تلكم الأحايين بالفترة المظلمة التي عرّست فينا وأظلتنا غب زوال حكم العباسيين واجتياح المغول لبغداد ، فزمن يستطير فيه وينبه شأن ابن معتوق وعبد الغني النابلسي ومنجك اليوسفي ويوسف البديعي وابن النقيب الدمشقي أيصح نعته بالظلامية ، فضلاً عن حيازته المكانة الأرفع برجحانه على بقية العصور نتيجة ظهور كتاب فيه هو (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) وهو لا غرو مجهود رائد ورائع يُقبل عليه الدارسون المحدثون بتشوق ورغبة وتلهف ، ويغرون بكون مُؤلفه يوسف البديعي تقصى سيرة عبقري العرب الشاعر أبو الطيب المتنبي ، وشرح فلسفته وحكمته او ألم بأطوار كفاحه و تجوابه في الأمصار للظفر بمناه و رغابه التي تجل عن أن تسمى يوماً . مدلاً في ذلك بشموخه وترصنه وإبائه ، ومتحدياً حسد الشانئين و غيظ الحساد ، والأهم هو هذا الأسلوب والبيان المتدفق الذي انتهجه البديعي في صوغ أحكامه وآرائه وقد خلا من التنميق والتزويق حتى لكأنه كُتب في عصرنا ، ناهيك بالتآليف الموسوعية في التاريخ والجغرافية و علم الاجتماع والخطط التي زخر بها عصر العثمانيين الذين بسطوا سلطانهم عقيب زوال حكم المماليك ، فكيف جاز أن ندينه ونعيبه بالاِجداب وإقفار الملكات ، متجاهلين في ذلك أن لاحق لنا في قسر موحياته على مطاوعة المفاهيم المستحدثة في النقد ؟ فكل النتاجات المبتدعة مرهونة بظروف أصحابها ، وما أوغلت في استقصاء هذه المفارقات البينة ، الا لأن مؤلفي كتاب الاساس في الأدب العربي نصّوا في فاتحته ان سيصدع الفهامة مصطفى جواد بتجلية الشؤون والماجريات الأدبية زمن العثمانيين اِلا أنه سها وغفل أو سهوا هم وغفلوا ولم ينبهوه على ذينك الاِخلال والتفريط حين اجتمعوا سوية لقراءة هذه الفصول والاقسام ، وادعاء أنهم شركاء فيما أقروا من البحث والرأي ، وشركاء في التبعة الأدبية .
وكتاب الأساس في الأدب العربي كتاب قديم أذكرني به ما قرأته مرة للأستاذ الراعي (أو الدكتور) مصطفى نعمان البدري من امتداح طريقته في التأليف و اكتنازه بالحجم الواسع من المعارف فضلاً عن تضمينه روائع الأشعار وتوفية مؤلفيه الثلاثة الأثبات بما استنوه من خطة تلزم بجعل النص أساساً يقوم عليه البحث ويستند اليه و لأنهم توخوا صرف عنايتهم به بناءاً على سبقه أي بحث مهما كان عليه من الوضوح و الجلاء ، ( والتمثيل في العادة مقدم على القاعدة في التعليم الحديث ) وتمنى لو يقرر تدريسه مجدداً ولو يشطب على المؤلفات المستحدثة التي ألزم بها لهاثنا وتلهفنا وراء حداثوية زائفة لم تنِ في فرض نصوص تخلو من قوة التعبير ونصاعة الأداء ، وان استبان تلاشي أثرها في الأفهام والعقول حين سَلْكِها جنب رصيفاتها من لقيات أعيان النهضة الجديدة والموروث القديم .
وقد آثر عن كل واحد منهم ــ أي المؤلفين ــ مقولة مضمنة في بحثه ، أقطع أنها توجز الغرض وتحيط بغايته ومعناه والهدف الذي لأجله يوقف المنشئ جل طاقاته ومؤهلاته كي يفرغ من تبيانه وتحديده بالضبط وعلى وجه الدقة ، فالآدب يعني في ملة كمال ابراهيم الذي أمضى سنوات طوالاً بدار المعلمين العالية (الملغاة) مربياً يتعهد عقول فتيتنا من أجيال متلاحقة بتدليلها على سبيل الهداية والرشاد ، ومؤثراً مع ذلك اللياذ بعزلته وإحجامه عن الظهور في المجتمعات ، فدرج محدود الشهرة وقلماً يعرفه أحد أو يستوي مع المتلهفين عليها والجارين وراءها من الأغمار ، يقول : ” هل الأدب الا تصوير ما يدور في الخواطر من الأفكار والمعاني، تصوير المشاهد بقوالب من الألفاظ العربية ؟ وهل هذه الألفاظ الا ما يعرفه العربي من لغته مما جرى به الاستعمال و دار عليه كلام العرب واستعمله القرآن ؟ .
وأما الثقافة الدخيلة ، فقد أثرت في لغة العرب وأدبهم تأثيراً مهماً ، اذ نقلت معارف هذه الأمم و أفكارها وخواطرها وفلسفتها وآدابها الى العربية ، واستفاد منها أهل العصر في معانيهم وتصوراتهم ، فكان لا بد أن يظهر أثرها في ما يكتب الكتاب وينظم الشعراء ” .
وأسطيع استخلاص أكثر من نتيجة مهمة ودقيقة وحرية بالقبول من هذا الكلام الضافي ، واستقطار أوفى الحقائق والدروس في وجوب نبذ التعصب واستناد الى فهم ونظر موضوعي حيال ثقافات الشعوب مجاورة وغير مجاورة وأن لابد لنا من التسليم بأن المكونات الثقافية لأي شعب لم تجئ له وتخلق من عدم ، انما لا مندوحهْ لها من النهل من ثقافة الآخر ، بدون أدنى لون من الغواية والتعنت ، مع ضننا بموروثنا أن نجحده ونبخسه أو نؤثر استرخاصه واستسهال التهوين منه .
فأما المعاندون والمشتطون في آرائهم وأنظارهم ، والمداومون على الافادة من عامة المنجزات الحضارية التي قدمها الآخر الماتُ لرباع قاصية أو دانية ، وإدخالها في حياتهم بغية تحسينها وتجميلها واِنعاشها ، فهم اُسَراء ما يرسب في دخائلهم و أفهامهم من أوهام العنعنة وتحجر العقول والفكرة الثابتة . ولا يفيد في حملهم على التحلل منها ، حتى عيبهم وتعييرهم انهم لا يطيقون دفاعاً عن بلاد تنتهك حدودها وتستباح ذمارها .
فأما صنيعة محمد بهجة الأثري في ارساء فصول الكتاب وموضوعاته على قواعد من الرسوخ والثبات والأحكام و المتانة والقوة ، فتتجلى في تقديمه في أكثر من صفحة نبذاً تفيض في التفصيل بصدد الصراعات والاختلافات بين طوائف المجتمع الاسلامي في بلدانه كافة ، موحية للواقفين منها على كثب أن المسلمين يحيون حياة زاخرة بالفورة والنشاط ، وما يعافون شيئا الا حياة الركود والجمود والاقتصار على لون ونمط من العيش لا يتولد بسوى الملل والرتابة في حياة الأفراد ، على الرغم مما ينجم عن هذا الحال من عدائهم وتخاصمهم وتعدي بعضهم على بعض في سبيل قسره على عدم البوح والافضاء بمنزعه ورأيه ، وإقراره أن الأوساط والفئات الاجتماعية من حوله ان رغبت في حياة صفو وخالية من الأقذاء والشرور ، وتشيع فيها خلات الاستقامة والعدل وحسن الانسجام والتعايش بينهم : فلينزلوا عليها ويجعلوها قبلتهم ويترسموهما دوماً ، مما يذكرني بجوس المفكر الاسلامي احمد أمين وسياحته في غمار تناقضهم وصراعهم حول شيء أو لا شيء وفي سائر مصنفاته وآثاره ، وهاكم :
((وكذلك تقاسمت المملكة المذاهب الاسلامية : من تسنن وتشيع ومن حنابلة وشافعية وحنفية ، من معتزلة و اشاعرة ، كما تقاسمتها الديانات المختلفة : من يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها ، وقد كان الخلاف أيام أصحاب المذاهب في صدر الدولة العباسية خلافا في الاجتهاد و البرهان والاستدلال ، وهو شيء طبيعي في حياة الناس العقلية لا ضير منه ، فانتهى في هذا العصر الى القتال وسفك الدماء وإحراق المساكن و إخراب الديار ، كالذي كان في عهد البويهيين من ذلك في بغداد بين اهل السنة والشيعة ، وبين الحنابلة والمعتزلة أو الاشاعرة ، وقد خربت أصفهان وفي أهل الري من بلاد ايران بسبب هذا الخلاف الذي أوجدته السياسات الظالمة ، وأعان على استفحال بلائه شيوع الجهل في العامة وانقيادها لرؤوس العصبية والفتن )) .
وكذا يظهر أن المجتمعات الشرقية تربي في حصتها من حفالة تاريخها بالصراعات المذهبية على مجتمعات سواها في الارضين والدنى ، مادامت لم تعِ معنى أن الافتراقات في المنازع والأفكار هي من طبيعة الأشياء ولا ضير منها ، وما دمنا لم نبذل مجهوداً لتحجيم رؤوس الفتنة والحد من تأثيرهم في الجهال والعامة من كل رعيل وفصيل .
فوضح أن الأثري في تحريره هذا الفصل من الكتاب ، بان مؤرخاً ثبتاً أكثر مما هو أديب ، وإن ألفى ثمة صلات بين الأدب والتاريخ وأحول البيئة الاجتماعية ، وبروز أي مظهر أدبي يقضي بتحري ملابسات ظروفه الموجبة ، قبل الشروع بتبيان أغراض الشعر وفنونه ، والخلوص منها الى تأمل أساليبه وألفاظه في هذا الطور ، والتدقيق في ما يغلب عليه من صناعة ، أو أن شواهده عموماً تتسم في نسجها وحبكها بالليونة والسلاسة والجري بمحض العفوية .
كما اني أعهد عنه مثل هذا التدقيق في صور الألفاظ والتراكيب منذ سنين متناهية في البعد عن وقتنا الحاضر ، فيوم وكل اليه محمد رضا الشبيبي بعدما تسنم منصب وزارة المعارف في عهد وزارة التهدئة وتصدي رئيسها سماحة محمد الصدر باِسكات نائرة الغيظ في الصدور والقلوب عقيب الرجات والهزاهز المعروفة في تاريخ العراق الحديث عام 1948م ، قلت ….. وناط به الشبيبي مهمة الاشراف التربوي أو التفتيش كما كانت تسمى ، عن سير تلقين دروس العربية في المدارس الثانوية بعد ما كان قبلها مبعداً ومجفواً ولا يصادف قبولاً من رجال الوزارات المتعاقبة أو معتقلاً لمشاركته في تأجيج حوادث 1941م ، وجاءنا بعد مدة الى ثانوية الهندية (طويريج) ، فكان أول ما طلبه منا إحضار دفاتر الإنشاء، وكنت أدرج في الثالث المتوسط ، وقرأ في ما كتبه أقراني من موضوعات لم يلزمنا أستاذنا عبد الجليل ابراهيم الزوبعي (قبل حصوله على الدكتواره وتخصصه بعلم النفس) بل ترك لنا الحرية وتخير ما نبغيه ،حتى اذا تملى في الصفحات التي كتبتُها بعنوان : مشاكلنا الاجتماعية ، أشار فوراً على المدرس ذاك بوجوب القول : مشكلاتنا بدلاً من مشاكلنا ، فظللت بعدها حينما انقطع للكتابة ، وجدّت دواعٍ لاستخدام واحدة من تينك اللفظتين فأتردد بينهما رغم لحاظي شيوعَ التي نهى عنها الأثري في بيان الكاتبين ، وأقرن ذلك بتدليل مصطفى جواد على الخطأ و الصواب عبر أحاديثه المعروفة ب(قل ولا تقل) هو الذي عاش ممقوتاً مبغضاً من قبل الأثري نفسه، ولم أثق بكلام عبد الله السوداني معي ذوات يوم منقولاً ــ أي الكلام ــ عن علي جواد الطاهر ، الى أن قبلته وصَّدقته بوقوفي على زرايته به ــ أي الأثري ــ وتسفيهه لأحاديثه الاذاعية جملة مدعياً أنها بلا معنى ، والقصد منها لفت الانظار واستهواء عامة الجمهور ، بعد اطلاعي على مقابلة صحفية ، معه لمجلة الكتاب الصادرة أواخر الستينيات من القرن الماضي ، عن جمعية الكتاب والمؤلفين وبتحرير يوسف عز الدين ، مع أنهما ــ الأثري ومصطفى جواد ــ يصدعان لطلب وزارة المعارف منهما من آن لآن بأن يؤديا أعمالاً ويوقفا خبراتهما على إنجاح مشروعاتها في التربية و التعليم ، ومنها إدارة التحكيم في خطب المتفوقين في الانشاء والتعبير من بين أودائهم المنتظمين معهم في الصف ، ومن جهات العراق كافة ، ومنها المهرجان الخطابي المهيأ له ربيع 1952م وكنتُ من شهوده ، في قاعة الملك فيصل الثاني بالباب المعظم ، قبل أن يستبدل باسمها تسمية أخرى بعد حركة تموز عام 1958م ، حيث حضر فيها الطلاب المشاركون في المهرجان ذاك ، وهم عناد غزوان (من الديوانية) ورندي العامل (من عانة) وجلال الخياط (من الموصل) ، وهذا غير مهم مع احتوائه مغمزاً مستلاً من قدر صاحبه ، بعد أن غادر الجميع هذه المسكونة الى رحمة الله . فندر أن تخلو حياة أي انسان من أن يكون له في الآخرين و معهم شائبات ومنافرات يدان الكل عليها باللوم والتقريع .
ويطيب لي تنبيه القارئ الكريم لهذه الأكتوبة ، على استبعادنا النعوت والصفات عن أسماء الأعلام الكثيرة الواردة في المقال ، من قبيل الدكتور والعلامة والاستاذ ونحوها مما يجري على اللسان، لأنها في ملتي غدت عارية من الفضل والدالة في إضفاء الجلال والمهابة والتوقير على قدر حاميلها وأصحابها إثر شيوع الفضائح الشائنة . عن تزوير الشهادات وادعاء التحصيل العلمي المرموق ، وناهيك بما راج اليوم في الأوساط والمحافل من تبكيتٍ وزراية بأمية المتعلمين في أي رجأ ومكان من البلاد العربية .
وقد وجدت غير واحد من مؤلفي كتاب الأساس أو ثلاثتهم جميعاً ، يسهون في غمرة استغراقهم في البحث ، انهم منصرفون لصوغ المعلومة بأيسر الكلمات والمفردات اللغوية ، وتقريبها من أفهام فتية محدودي الادراك والاستيعاب وفي طراوة العمر ، وكأنهم يبتغون اعداد بحوث وافية وغزيرة بمعلومات يودعونها دوريات يتداولها قراء تقطعت الاسباب بينهم وبين المدرسة في زمن مضى ! فمثلاً نقرأ ((…. فالصولي والاصفهاني من الأقدمين والبهبديتي من المعاصرين …. ويؤيد هذا الرأي طه حسين وفروخ …. وقد طبع الكتاب عدة مرات واحسن طبعاته طبعة الاستاذ عبد السلام هرون.))
فمن هو البهبيتي ومن هو فروخ ، وهل للطلبة اليافعين علم بأصول احياء الكتب القديمة وقواعد تحقيقها ؟
وكل هذه الهنوات التي تشوب هذا السفر الموفي بأغراضه ، والمتوخي ــ في دواعي تحبير محتوياته ودراساته المهمة ــ وضعَ ما يمكن موافقته لأذهان التلامذة إبان مرحلتهم العمرية التي هي وشيكة الانقضاء للدخول في طور الشباب المتقدم فالرجولة المتهيئة لحمل الأعباء والأوزار ، ومواجهة المسؤوليات والتبعات ، ومكابدة ما ينجم عنها بالتالي من الغصص و الهموم ما بقي المخلوق الآدمي يدب على وجه الأرض لتحصيل ما يقوم بأوده ، قلت وتقديم ما يزخر بالطرافة والروق والمتعة من تاريخ أسلافه الماضين ، ومراسهم للصنعة الأدبية بمنتهى الاقبال والاخلاص ، وفي عامٍ بعد عام ، كعامنا المولي بما شحن به مآسٍ ومواجع ، استنفدت ما غزير الدموع ، واقتضتنا مزيداً من الهلع والروع ، وعامنا الآتي بما يحمل من بشارات بأن ترسو سفينة النجاة هذه المرة ببلادنا وشعبنا على شاطئ من الأمان والدعة والصفو والاستقرار .
********
Mahdishakeralobadi@yahoo.com