في مجموعته القصصية الأولى “العزف على وتر الفجيعة” للقاص العراقي عادل المعموري الصادرة عن دار مكتبة عدنان 2015 ، يقدم لنا القاص المعموري تجربته القصصية الأولى في تنوع سردي من 21 قصة قصيرة تجمع بين قصص المفارقة، والحرب، والأمراض النفسية، الناتجة عن الحرمان العاطفي والجريمة الإجتماعية، والتي هي نتيجة منطقية لما ماتعانيه شخصياته القريبة من الواقع، من أزمات نفسية حادة بسبب الكبت والحرمان للطاقات الجنسية والعاطفية، والتي عادة ما تجد لها بيئة مناسبة في مجتمعاتنا الشرقية عامة، وفي العراق خاصة، بسبب الظروف العامة، الدينية، والقبلية، والإجتماعية، التي تتحكم بمصائر الناس، ولقد حاول القاص جاهداً ومن خلال بناء سردي مكثف، التركيز على ثيماته الرئيسية هذه متجاهلاً في أحيان كثيرة بعض الخصائص المهمة للبناء السردي في القصة أو الرواية، كأن تكون شخصياته معرفة، وأن يكون الزمن حاضراً ومسجلاً ومؤثراً في مجريات أحداثه، فلقد ركز القاص المعموري في مجموعته هذه، على عامل اللغة، والتكثيف، والتركيز، على الاهتمام بالثيمة الرئيسية للنص.
وإلى ذلك يمكن تقسيم المجموعة استناداً إلى تنوع مواضيعها إلى:
قصص المفارقات: ففي قصة “رغبة مجنونة” والتي هيّ من قصص المقارقات نجد البطل إذا أمكننا أن نطلق عليه تسمية “البطل” مستغرقاً في خيالاته الخصبة والمرضية أيضاً، وهو يلاحق الفتاة التي يراقبها ويعشقها عن بعد، وتتمركز كل غرائزه في امتلاك جسد هذه الأنثى التي تتجاهله عن عمد، ولقد نجح القاص في إدارة النسغ الدرامي التصاعدي للحبكة السردية، ليوصلها إلى نهاية لم تكن متوقعة، في ضربة صادمة، حين يستيقظ بطله على وقع سقوط وتكسر زجاج، نكتشف فيما بعد انه عامل كافتريا في الجامعة، وكل ما مرّ معه هو محض خيال مريض، ومتوهم لشخص محروم، يحاول أن يفرغ شحنات جوعه الجنسي والنفسي في امتلاك وتعذيب فتاة، يرغب بها كثيراً، لكنه يعجز عن امتلاكها، في هذه القصة والقصص الأخرى التي ترتبط معها بنفس الأسلوب مثل “من يطرق الباب” و “رصاصة مشتهاة” والتي تبدو أكثر تماسكاً وتشويقاً في هذا المستوى من المجموعة، والتي تتحدث عن قناص هو ضحية لحرب مجهولة، يفقد فيها ابنته، ويتحول إلى قاتل مأجور، يتربص بضحاياه من خلف نافذة، منذ أسبوع ليكمل العدد المطلوب منه، والذي أخطأ في ضبطه القاص، فمرة يذكر” يريدون منه عشرون قتيلا خلال أربع وعشرون ساعة، من يجرؤ على المرور من ساحته؟ سبعة أيام لم يقتل فيها سوى هؤلاء الخمسة.35″ ثم في مكان آخر يذكر”المطلوب مني خمسة عشر قتيلاً، من أين آتي بالعشرة الباقين؟ص36″ . ليلقي حتفه في النهاية بعد أن يعجز عن قتل طفلة تُذكره بإبنته. ومن قصص المفارقات أيضا” دماء ساخنة”و”غبار الماضي” والتي أبدع فيها القاص، حين جمع فيها، الهواجس النفسية المتعبة، لسيدة متزوجة من رجل مريض، تلاحقها ذكريات الماضي البعيد، لعلاقة فاشلة مع أحدهم، يُهيأ لها أنه يعود ليبتزها من جديد، من خلال ما يملكه لها من صور مُخلة بالشرف، “خامرها احساس غريب انها ستجده أمامها، ..هاهو كما توقعت.. وجدته أمامها.ص62” هذه الرؤيا غير المتوقعة تثير في نفس المرأة الكثير من القلق والارتباك، بعد كل هذه السنوات التي تركتها وراء ظهرها، “شعرت بالإنهيار بدأ يدب في جسدها.ص63″. يقودها هذا الضعف والانسحاق الذهني الى المزيد من التخيّلات التي ليس لها وجود، فتختلط عليها الصور والأصوات، بين نداء زوجها لها، وحضور صوت عشيقها المتوعد في ذاكرتها، مما يضطرها لتطلق النار على وهم تخيلته هو، لتكتشف في النهاية أن لاشيء يحدث على أرض الواقع. وهناك أيضاً”ظهيرة لاهثة”، وهيّ تشبه نوعا ما سابقتها من حيث استغراق أحدهم في وهم قتل طفلة يدهسها بسيارته المسرعة، ثم يكتشف بعد عودته لمكان الحادث، أن لاشيء قد حدث. بينما في قصة”عودة الرجل الميت” نجد أن هناك رجلا يعود من الأسر فرحاً للقاء أسرته التي فارقها منذ أربع سنوات، ليجد شقيقه في انتظاره، ويحاول اشغاله كلما سأله عن زوجته وأولاده، ليلاقي حتفه في الحمام بعد وقت قصير من عودته إثر غارة جوية. في قصة “رائحة الرماد” تتولى العناية الإلهية، حياة امرأة تعاني قسوة زوجها واهماله لها، فتقرر الانتحار بحرق نفسها بعد أن فشلت كل محاولاتها السابقة، وفي اللحظة التي تغمر جسدها بالكاز، وقبل أن تشعل عود الكبريت يأتي من يخبرها أن زوجها راقد في المستشفى، وفي حالة خطيرة، بعد تعرضه لاطلاق نار عشوائي؛ في هذه القصص هناك ما يشبه الاستعادة لمرحلة قصصية، اشتهرت بها الساحة القصصية العراقية، في بدايات تأسيسها، على يد الرعيل الأول من الرواد القصصين والروائيين، الذين اهتموا كثيراً بهذا الأسلوب السردي في معالجة نصوصهم القصصية، المبني على المفارقة والنهاية الصادمة غير المتوقعة، كما في قصص ذنون أيوب وجعفر الخليلي وعبدالملك نوري ونزار سليم.
في المستوى الثاني تقف قصص الحرب ومن ضمنها قصص جريمة “سبايكر” : حيث تقف قصة” للزقاق طقوس أخرى” في المقدمة من المجموعة، ولا أدري لم اختار لها القاص المعموري هذا الأسم الذي لايتطابق مع ثيمة النص السردي، والذي يتناول فيه ضحيتان من ضحايا الحروب التي ابتلي بها العراق، وأبرزها ما وقع في العام الماضي 2014 من جريمة “سبايكر”المروعة، حيث هناك امرأة عجوز تفقد ولدها في تلك الحادثة المشؤومة، وكانت قبله قد فقدت زوجها في حرب أخرى هي حرب الكويت، ولم تعثر له على أثر بعد أن أنقطعت أخباره، واعتبر في عداد المفقودين، لتبتلي من جديد بفقدان ولدها الوحيد في هذه الحادثة، ورغم تأكيد الكثير من أصدقاء ولدها الفقيد على مقتله، في الحادثة، إلا انها ترفض تصديق ذلك وتضطر لأجل ذلك بتكبد عناء السفر الى الديوانية، للبحث عن ناج من المجزرة لتسأل عن مصير ولدها، وحين أتعبها البحث، وأظناها المرض والانتظار، اتخذت من عتبة الدار مقرا لها، لتنتظر عودته من هناك”تجلس وحيدة منذ فقده عند عتبة الدار ألف المارون منظرها، كل يوم تسال ولا جواب.71″. لكن النهاية جائت لتحمل بعض العزاء لروح العجوز وهيّ على فراش الموت، حين تتوهم الطبيب الذي يعالجها أبنها الفقيد، فتتشبث به، وهيّ تلفظ آخر انفاسها”اي ولدي عدت إليّ أخيراً .. الحمد لله ..كنت أعلم انك حي، لم يصدقني أحد.ص73”.
من القصص الأخرى المهمة في هذا المستوى “العزف على وتر الفجيعة” التي زينت الغلاف بعنوانه، وهيّ أيضاً من القصص المستوحاة من جريمة سبايكر، في هذه القصة نجد القاص المعموري وقد تجاوز حدود الانطباع والتسجيل، إلى الإشارة بأصابع الاتهام الى من يعتقدهم السبب فيما حدث لضحايا جريمة سبايكر، وأقصد أهالي المدينة، ليشير لهم بصورة مباشرة ويضعهم في قفص الاتهام، “سكان تلك المدينة التي تضم المعسكر الكبير، تعاطفوا مع الغزاة لتشريد وقتل الجنود التابعين للجيش الحكومي.ص26″. وهي وجهة نظر واتهام فندته الكثير من الشواهد والأحداث التي تلت الحادثة، والتي تبين فيها، قيام الكثير من سكان المدينة رجالا ونساءاً، بمواقف بطولية مشرفة من أجل انقاذ الكثير من منتسبي المعسكر؛ البطل في القصة محاصر، مع رفيق له وسط أعواد القصب، وقريبا من المسلحين الذي سيطروا على كل المنافذ، التي تطل عليها المنطقة، وكان السؤال الذي يتردد على لسانه” كيف السبيل الى الخروج من هذا المستنقع.ص25″. وبعد خمسة أيام من الحصار والجوع والعطش، وما يعانيه رفيقه من آلام الجرح والنزف، يقرر الهرب وعبور النهر الى الضفة الاخرى، على أمل أن يعود لرفيقه مع أول فرصة لنجاته، وفي أول لقاء للرجل مع أحد سكان المدينة، يحاول القاص المعموري توكيد ماذهب اليه سابقاً، من تعاطف السكان مع الغزاة ضد منتسبي الجيش، فالرجل لايرتدي اللباس الأسود، لكنه ملثم ويحمل السلاح وأول ما يسأله ان كان جندياً”هل أنت جندي من معسكر سبايكر؟.ص28″. وحين يصدق كذبة الرجل من انه عامل قادم كركوك الى سامراء يقدم له المساعدة، ويبادر الى مساعدته بنقله الى مكان آمن اخر، لحين توفر فرصة ايصاله للشارع المؤدي لسامراء، لكن الحكاية لاتنتهي هنا ايضاً، بل تستمر الفجيعة حين يتذكر الرجل رفيقه الذي تركه وحيدا بين المسلحين، وهو رهين غرفة مغلقة عليه من الخارج باحكام.
في المستوى الثالث : هناك مجموعة من قصص الهواجس النفسية، والمرضية، والمشاكل الإجتماعية، أهمها قصة “سايكوباثي” والتي تتناول، شخص معتل نفسياً، يقوم بسرقة الملابس الداخلية النسائية، ومصلح “سايكوباثي” تعني فيما تعنيه، الشخصية الماكرة التي تجيد التحايل واللعب بالاخرين، والتي يصعب اكتشافها بسهولة، لكن القاص المعموري آثر تناول جزء مهم من هذه الشخصية، وهو هذه الجزيئية المتمثلة بشغفه بالملابس الداخلية للنساء، وحرصه على سرقتها واهتمامه في خزنها”رفع القطعة التي سرقها قبل قليل .. نظر اليها ..غاصت عيناه في طريقة خياطتها وحجم استدارتها.. وهو يتمتم مع نفسه..ترى لمن هذه؟هل هي جميلة؟سمينة أم ضعيفة؟.ص52″. وكان يمكن لهذه القصة أن تأخذ لها مساحة أكبر من الاهتمام، مع ما يعاني منه بطله، لكنه آثر أن ينهي قصته في مواجهة ساخنة، مع أحد رجال الحي الذي امتدت يده الى بيتهم، لسرقة ثياب من سطح داره، ليشبعه ضرباً، ويختفي بعدها في أحد المصحات لعلاجه.
هناك أيضاً بالإضافة الى هذه القصة قصصاً أخرى مثل:”عنقاء جديدة” و” التمثال يدخن” و” سريالية عاشق مجنون”.
تفصح هذه المجموعة القصصية، عن الكثير من اهتمامات القاص المعموري المهمة، في مجالات إجتماعية، متخمة بالعلل والأمراض المجتمعية، التي يعاني منها مجتمعنا العراقي منذ عقود طويلة.
القاص عادل المعموري في مجموعته القصصية”العزف على وتر الفجيعة” وإن جاء متأخراً، إلا إنه أثبت جدارته، وتمكنه من أدواته الفنية؛ في إدارته للحبكة، ورسم الصورالدلالية المعبرة، وحيازته لأسلوب متميز في التكثيف والبناء التصاعدي لثيمات النص، مع قدرة كبيرة في اختيار الظرف المناسب للتحكم بوضع النهايات، سواءاً كانت متماشية مع سياقات النص أو غير متوقعة.
خضر عواد الخزاعي : قراءة في مجموعة “العزف على وتر الفجيعة” للقاص العراقي عادل المعموري
تعليقات الفيسبوك