خضر عواد الخزاعي : المجموعة القصصية”مابعد الخريف” للقاص العراقي عبدالكريم الساعدي.. مرثيات الموت الجميل

????????في مجموعته القصصية الأولى “مابعد الخريف” الصادرة بطباعة وتنضيد متميز لدار “أمل الجديدة للطباعة والنشر” 2015 يقدم لنا القاص عبدالكريم الساعدي إضمامة من القصص، من المؤكد انها ستحتل حيزاً كبيراً من الذائقة الجمالية والفكرية لكل من يقرائها، لما حملته من هموم إنسانية عميقة تلامس العاطفة والضمير، وبما استخدمه القاص من تقنيات سردية كانت اللغة النثرية بالغة الثراء تقف بالمقدمة منها، بالاضافة إلى الانتقالات غير المحسوسة ” transition Imperceptible ” . وفي القراءة كما في النقد وفي الكثير من قراءاتنا القصصية والروائية التي نقرئها لبعض الكتاب ربما لا نحتاج إلى قراءة ثانية بل نكتفي بقراءة واحدة، لسهولة النص السردي الذي يقع بين ايدينا، ويُسر معانيه وبساطة حبكته، وفي البعض الآخر نُعيد القراءة لأكتشاف ما خفيّ من قيّم النص المخبوئة بين سطوره وثيماته، ومع مجموعة القاص عبدالكريم الساعدي وجدت في القراءة الثانية مطلباً وحاجة ضرورية للإستزادة من فيوضاتها الجمالية ولتحديد وضبط الانتقالات السلسة التي رافقت الكثير من نصوصه القصصية في هذه المجموعة، تلك الانتقالات التي لا تُشكل على بنية النص بقدر ما تجعله ينفتح على أكثر من مشهد يدور حول الثيمة الرئيسية، كما في قصته”مقهى المدينة الفاضلة” فنحن أمام نص نجح القاص فيه في اختزال المسافة الزمنية والمكانية، وحولها إلى ما يشبه الأرجوحة التي يمتطيها العقل، ومحاولة الهروب من واقع بائس إلى واقع آخر مُتخيَل، من مقهى تغص بالرواد من العاطلين عن العمل أو الباحثين عن فرصة عمل، إلى عالم أكثر رحابة وانفتاح، حتى وان كان هذا العالم مجرد أكذوبة للتحايل على تعاسة الواقع وبؤسه، “كم كان مثيرا للشفقة، يبحث عن أشياء لاوجود لها، يرفع رأسه بحركة غريبة، تصطدم عيناه بعيني صاحب المقهى، تراءى انه ينظر اليه بشزر، أومأ اليه بالجلوس قربه، عيناه تدوران في فضاء الكلام، يقف متخشباً، مرتعباً، شخوص بلا ملامح، الضجيج يملأ المكان، دخان، فوضى.” لم يتطرق القاص هنا الى ماحدث بالضبط “انفجار المقهى” بل انتقل وبطريقة فيها الكثير من السلاسة والانسيابية دون أن يقطع النص، بل سبقه بمنولوج داخلي كانه مستوحى من الحالة التي هو فيها” ردد مع نفسه، ما الذي أتى بي هنا؟ إنه أمر محير، وهل يوجد مثل هذا المكان في هذا الزمان؟ ظننته انقرض منذ أكثر من خمسين عاماً.ص73″. ليدخلنا مع بطله في مشاهد بانورومية مغايرة تماماً لجنس السرد الذي بدأ به حكايته أول مرة، عالم لايمكن أن يكون إلا في مخيّلة مقصية تحاول الوثوب إلى ما هو أبعد، بمرتكزات دلالية مقتضبة”منطلقاً باتجاه سيارة فارهة- سكرتيرته الجميلة تأخذ معطفه- المشاعر تحزّ في نفسه حزاً” . وفي انتقالة جديدة إلى واقعه القديم، أيضاً حرص القاص الساعدي بفذلكة الصانع الماهر، على أن يجد نقطة انتقال افتراضية تموه هذا التباين السردي، فكان إن جعل بطله يسقط مغشياً عليه بعد أن يتعرض لنوبة قلبية، واختار لحظة الاستفاقة له في عالمه القديم حيث”فتح عينيه ببطء شديد، حدّق في الفراغ، داهمته جيوش من الشك والوهم، سحابة من الدخان والغبار، مثقلة بروائح الشواء، غطّت فناء المقهى، أشلاء الجثث غطت بعضها ببعض، قطع الدومينو تلونت بلون أحمر، صراخ، أنين، حركة عشوائية لبشر لم يرهم من قبل.س75″. نقرا مثل هذه الانتقالات في قصص أخرى كذلك مثل” ما بعد الخريف” و” رجل من ورق”.
الجانب المهم الآخر الذي خص به القاص الساعدي العناية هو ثيمته الرئيسية والتي هيّ في الغالب تلك الصراعات التي رافقت الشخصية العراقية منذ قرون طويلة، والتي نلاحظها هنا بارزة في قصصه الممتدة بين الفترتين 1984- 2014 كما ذكر القاص، وهي الفترة التي بدأ فيها القاص كتابة نصوصه السردية في هذه المجموعة، والتي شهدت فيما شهدت الكثير من الأحداث المهمة التي أثرت في ذات هذه الشخصية ووجهتها وجهتها التي هيّ عليها الآن، ولقد جعل القاص لهذه الصراعات مستويات متعددة من النص، ففي حين كان يبرز هذا الصراع بشكله الذاتي حيث يخوضه أبطاله بينهم وبين ذواتهم التي تواجه مصيرها المحتوم تحت رحمة الحروب والمنازعات والأماكن المحاصرة بالموت والزمن كما في ” ارتعاشة آخر ليلة” حيث لم يكن من بد أمام بطله “إلا أن ينشطر شطرين، شطر مجنون بالعشق واصل المسير، يلهث بخطواته نحو روحه التي هجرها، وشطر آخر يعاني من ثقل الانتظار.ص34”. أو صراع يأخذ شكل موت يتمثل في جسد جندي، أو جحافل رفات تعانق خطوات أحدهم الغائصة في أرض موحلة بالملح كما في قصة “رسائل الموتى” التي يمتزج فيها الوهم بالحقيقة، المُتخيل بالواقعي”بدأ يتقبل فكرة الانتظار، تسلل من بين أنامله طيفاً، يلوّح له عن بعد بكركرات اطفاله، ظلّ امرأة هدّها القلق، شبح بيت تحمله أنقاض العوز والحرمان، لم يعد مواصلة الطريق، أمراً مألوفاً.ص16″.kh abdulkarim alsaedi
ومرة ضد سلطات بشرية مستبدة، في أزمان ربما بدت خارجة على قوانين المألوف من الطبيعة الإنسانية ” تلك كانت محنة الرجل/ الشاعرالذي وجد نفسه عبدا لإرادة الاخرين من القتلة والذباحين “أجهش بالبكاء لما احس بخيبته، وهو يحاصر فخذيها بطوق نظراته الخاسئة، كانت شاهدا على لوعته، وتماثل بقايا ضمير ينبض بالعويل، يحدق باتجاه اشعة منكسرة لضوء خافت، تسلل عبر نافذة ضريرة. راح يصارع أمواج الاضطراب العاتية ،ماذا بقي لي سوى ذاكرة تبحث عن هزيمتها.س79”
بينما بدت تلك الصرعات في فصول أخرى من النص وكأنها تحدث مع قوى غيبية عظمى ليس من الضروري تحديد كنهتها، كما في قصة “هيّ ذات الروائح” حين تتحول المدينة الى مقبرة كبيرة بعد ان أصبحت مزابلها تتناسل جثثاً، “في فجر اليوم التالي هرب الجميع خائفين وجلين من هول المشهد، تاركين خلفهم كل شيء، ليختبئوا خلف التلال البعيدة.ص65” .
في حين تقف السلطة المستبدة بكاينها المادي المؤسساتي كأداة من أدوات الرعب والشمولية، كما في قصة “احلام وذباب” فيعمد القاص إلى وضع مقاربة في غاية الغرابة والفنطازيا، حينما يجعل من الذباب قوة بموازاتها، تتنازعان حياة جندي في جبهة الحرب، فيعمد الى الهروب منها الى عالم أحلام اليقظة”يتراءى له جداول متبرجة بأزهار ملونة، تطلق احلامه عند حافة امرأة تنثر عطورها فوق جدائلها المسفوحة فوق عشب أخضر، لم ير مثله من قبل، تعصر روحه بفيض فتنتها. ص82″.
واخيراً هناك الثيمة الأعظم التي تجمع البدايات والنهايات والتي أجاد فيها القاص الساعدي كل الاجادة، حين ارتفع بها إلى درجة متعالية من درجات السمو، ثيمة “الموت”، وجعل منها في واحدة من قصصه، “شهقة طين” ، موت جماعي وكأنه أراد له إسقاطاً خاصاً يتمثل في انتمائه لهذه الأرض” ولما لاح لواء الصباح كان الموت سحابة من دموع تهطل بخجل، يلوذ كل واحد منهم بموته، يحتمي بظل رصاصة أو قذيفة مدفع، حفروا بأناملهم ثقبا في الارض، رسموا ظمأ الأحلام في فضاءات غابت عنها خيوط الشمس، حتى تعاقبت الفصول وعصف الخذلان، ليشيّعوا جراحهم عند دكة الغياب، وبعد أن أصبح الاثنين وطناً” ليسير بهذا الموت الذي يقطر جمالاً وشاعرية، مجللا بكل هذا البهاء” ومضى حينُ من الموت، وجدوهم شهقة طين حريّ، تهمي بسرّها الدفين عند منابر القصب والبرد.ص87″.
في مجموعته القصصية “مابعد الخريف” للقاص عبدالكريم الساعدي، يكون للأدب القصصي العراقي شرف انضمام قاص كبير آثر الصمت طويلاً، حاله حال الكثيرين، الذين لم تلوثهم صحف العهود الغابرة الصفراء، لكنه حين تكلم كان فصيحاً وبليغاً وماجداً، فأجاد، وأدهش، وترك له بصمة من المؤكد أنها ستكون مؤثرة، ودائمة الحضور في وجدان المتلقي.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *