أولاً:حقيقة التجربة الجمالية
لا يتسنى لنا دراسة الحكم الجمالي بالشكل السليم والوصول إلى تفسير عميق وأصيل لآلياته من دون التبصر بالعملية التي تسبق ذلك الحكم، من حيث مراحلها وتشعبها وتعدد القوى والمؤثرات التي يكون الحكم نتيجة لها جميعاً كمحصلة للتفاعل الحاصل داخل الإنسان بين تلك العناصر، سواء من ناحية الموضوع المراد الحكم عليه أم السياقات والأطر التي يندرج فيها أم نوعية المزاج الروحي والقوى المسيطرة على دخيلة الإنسان وما لها من اثر كبير في تحديد قراراته وأحكامه.
ولتعقد تلك العملية وتشعبها، ولكون الإنسان يحياها روحياً وجسدياً وفكرياً وعلى الخصوص في جانب القيمة منها؛ فان تلك العملية، في حقيقتها، تعد تجربة ((من حيث أنها ليست تجريداً لمعنى مستمد من الواقع، وكذلك فهي ليست نوعاً من الاستدلال المنطقي القائم على التأمل العقلي الخالص، بل هي ضرب من الممارسة الوجدانية العقلية ومشاركة إيجابية تلتقي فيها آثار حسية وغير حسية لأطراف متعددة)).(1 )
التجربة هي الأساس الذي يتحدد عليه النتاج بنوعيه ؛ الإبداعي من قبل الفنان والتذوقي وما يليه من حكم من قبل المتذوق. فالتجربة الاستطيقية لا تقتصر على العملية الإبداعية التي يمارسها الفنان بل تتضمن في إطارها تجربة المتلقي التي يحياها أثناء تذوقه للعمل الفني. ولما كان الجمال قادراً على إثارة الإنسان إثارة كاملة من جهة الوجدان والمشاعر والأحاسيس والفكر في تجربة عميقة تؤهله لفهم حياته بشكل أفضل، فان تذوق الجمال والتأثر به تسهم به الشخصية الإنسانية بكافة مكوناتها وأبعادها.
ولا يمكن الادعاء باقتصار التجربة الجمالية على ما يدرك بالحس فقط، أو ما يسمى بـ ((السطح الحسي للعالم)) من حيث التأكيد على الصيغة بوصفها ممثلة لإستاتيكية الجمال؛ بينما الجمال الحقيقي سمة ديناميكية ترفض الثبات المطلق . فلكي يبقى الشيء جميلاً، في كل حال وعلى طول الخط، يتوجب وجود وعي مسبق وإصرار وإرادة على أن يكون كذلك. والدليل تغير الحكم الجمالي حول الشيء ذاته فيكون تارة موصوفاً بالجمال وأخرى بالقبح. وفي مجال الفن لا يمكننا الاقتصار في تجربتنا الجمالية على ما في سطح الأثر الفني فقط؛ فحين نقرأ الشعر نقدر “سطحه” أي موسيقى الألفاظ، كما نقدر “الأفكار” التي ينقلها إلينا، مما يعني أن أي نوع، وكل نوع، من الوعي – الحسي، والإدراكي، والعقلي، والتخييلي، والانفعالي- يمكن أن يحدث في التجربة الجمالية.
ومما يؤكد هذا الأمر إن الفن لا يقدر على أساس النقل الحرفي لما في الواقع وإلاّ لعدَ التصوير الفوتوغرافي أفضل الفنون لأنه يؤدي الصورة بكامل تفاصيلها وكما هي. والمؤكد أن الفنان ، قبل إبداعه الأثر الفني، قد خاض تجربة عميقة أثارها في نفسه ذلك المنظر أو الشيء. وهي – كما أسلفنا- تجربة متشعبة وحيوية تشمل السطح الحسي وما تحت السطح من جهة الشيء، وتشمل الوعي الحسي والعقلي وغيره من جانب الفنان. ويقينا أن له زاويته التي ينظر منها لذلك الشيء أو التجربة، وله وعيه الخاص وكشوفاته التي يحاول إطلاعنا عليها، بالذات، في عمله الفني. فالفنان، في تصويره لمنظر ما، إنما لديه اكتشاف أو مضمون معين خرج به نتيجة تأمله في ذلك المنظر وأن ثمة تجربة شعورية ذات مغزى يسعى لتوصيلها إلينا من خلال قدرة عمله الفني على أن يعكس في نفوسنا ذات الحالة الشعورية التي اختبرها في تجربته. وذلك الاكتشاف هو الذي يتم في ضوئه تحديد مدى أصالة الفنان وعمله وليس مقدار ما يبديه من تقنية فنية يمتلكها الجميع، بل الأساس في الأصالة هي الرؤيا، والتي يجب ، كي تكون فناً، أن تشفع بشروط الشكل الجمالي.
من المؤكد، إن كل متلقي حين يعيش تجربته مع الأثر الفني ليس بالضرورة أن ينظر إليها نظرة شمولية ومن كافة الزوايا، بل قد يتفاعل معها من جهة معينة لكونها تحقق له نوعاً من اللذة بحسب حالته النفسية التي يكون عليها. وهذا هو السبب الأهم في تغير الحكم الجمالي عند عامة الناس. فحين يرى أحدهم الشيء جميلاً في آنٍ ما وقبيحاً في آنٍ آخر، فهو في حقيقة الأمر يخلط مع الجمال أحكاما أخرى مثل اللذة والفائدة. والاّ فان الجمال صنو الحق، ولا بد أن يكون الشيء في ذاته إما جميلاً أو قبيحاً ولكن الإنسان في أغلب الأحيان يحكم بجمالية الشيء بوصفه مُلِذّاً أو يحقق له منفعة تنسجم مع رغباته، وهذا الانسجام لا يعد برهاناً على جمالية الشيء وإنما هو دليل على توافق ذلك الشيء مع دخيلة الإنسان فيشعر بالانسجام والارتياح حتى وان كان ذلك الشيء قبيحاً.
قد نحاول إلقاء الضوء على الأهمية التي تتمتع بها التجربة الجمالية من جهة القيمة التي تضفيها على حياة الإنسان. فجميعنا يعلم ما للاستبطان الذاتي من أهمية في تجلية حقائق أنفسنا والآخرين، الأمر الذي حدا بعلم النفس إلى اتخاذ الاستبطان منهجاً لتشخيص الأمراض والحالات النفسية التي يتوفر على دراستها؛ لأننا حين ((نتعمق ما لدينا من تجربة عن ذواتنا لا بد أن نحصل تجربة باطنة عن الواقع بأكمله، وهذا هو الحال مثلاً في التجربة الجمالية، التي فيها يكشف لنا الفن عن باطن الأشياء، فيضعنا وجها لوجه أمام ذاتيتها الحقيقية)).(2 )
التجربة الجمالية، وإن تشابهت من حيث القيمة مع تجارب الحياة الأخرى، إلا أنها تحمل قيمتها في ذاتها . ففضلا عن دقتها وما تتمتع به من سمة تنظيمية رائعة هي ذاتها سمات العالم الجمالي الذي تتجسد فيه ومن خلاله. مع ما تتمتع به من قابلية اختراقها معرفيا من مختلف الأذهان لمفهومية وبساطة لغتها التي تتحدث بها ، لغة المشاعر والوجدان، وان تباينت مستويات تلك الأذهان في الوعي والإدراك ، فإنها تحمل قيمتها في ذاتها حين تحاول الكشف عن السمات الجمالية في الأثر موضوع التأمل. ثم أنها تختلف عن التجارب الحياتية الأخرى بما تملكه من قدرة على الانتقال والمخاطبة لتوفرها على شروط الشكل الجمالي الذي تصاغ على وفق شروطه، مما يتيح لكثير من الأفراد اختبارها والاغتناء بما فيها من عمق وأصالة. فعالم الشعر مثلاً، لا يمكن أن يعمل إلا من تجاربنا التي لابد وان تكون مشابهة – بشكل أو بآخر- لما نحياه. ومع ذلك، فان التجربة في الشعر أو في العمل الفني عموماً، تختلف عن التجربة في أرض الواقع “الحياة”. مثلاً، نجد من سمات التجربة الجمالية في مجال القصة إنها تمكننا من المشاركة بخيالنا في مصائر هذه الكائنات المخلوقة دون أن ندفع ثمن انتصاراتها أو خيبة أملها من أعمارنا أو بالتعرض للهزيمة. ونحن نتحرك معها في عوالم لم يسبق لنا مشاهدتها، ونمارس ألواناً من الحب لم يسبق لنا معرفتها- وهذا الدخول في حياة أرحب وأكثر تبايناً من حياتنا، يمكننا بدوره من تقدير حياتنا حق قدرها، ويساعدنا على أن نحياها على نحو أكثر جدة وتركيزاً.
والتجربة الفنية تؤهلنا للكشف عن ماهية الحياة وحقيقتها والأحداث التي تقع فيها من دون أن تطغى عليها التفاصيل الجانبية، والتي تدفع – في أغلب الأحيان- الأمور المهمة إلى الهوامش، أو تطمسها ولا تدعها تنهض بسبب من هذا العبء. ولا يستطيع كل شخص أن يصل إلى معرفة خفايا الحياة وإدراك معناها إلا من أوتي مقدرة هائلة على التأمل وكان على وعي كبير يؤهله للكشف، ثم قدرة على التنزه من النزوات والأغراض والأطماع التي تحجب الإبصار؛ وهذه من شروط الفنان الذي يحيل ما يكتشفه بتأمله وخبرته إلى تجربة حية بصيغة أثر فني خاضع لشروط الشكل الجمالي مما يمكننا نحن الناس الاعتياديين من التبصر بكشوفات الفنان وازدياد معرفتنا بحياتنا ومآلها ويعيننا على تحسين سلوكنا نحو الأفضل. وبهذا تختلف التجربة الجمالية عن التجربة في واقع الحياة ونجد ذلك الاختلاف متجسداً في الدراما، مثلاً، ((لان الأحداث البارزة في تاريخ حياة إنسان معين تحدث خلال فترة تبلغ سنوات متعددة، وتتخللها حوادث لا أهمية لها ولا ارتباط بينها وبين تلك الأحداث الرئيسة، أما الدراما فتقوم بحذف هذه الحوادث التافهة، ولا تعرض إلا الأحداث الحاسمة وعلاقاتها السببية المتبادلة، بطريقة مركزة محكمة)).(3 ) وهذه القيمة التي نخرج بها من التجربة الجمالية لا تأتي بيسر، بل تتطلب جهداً من جانب المتلقي للتفاعل مع الأثر الفني وفق شروطه الجمالية وخبرة ودراية وذوق وعدم تحزب أو تعصب أو أفكار قبلية ضيقة فيكون نتيجة هذا الجهد هو القيمة واللذة اللتين ندركهما من خلال تلك التجربة.
يبين “أ.أ. ريتشاردز” أثر التجربة الجمالية في تنسيق دوافعنا المختلفة وتأثيرها في سلوكنا ـ وإن لم يكن التأثير ظاهراً مكشوفاً ـ مستنداً إلى مفهوم العمل التصوري أو العمل الجنيني Incipient (4 )، الذي وان لم يبدُ في حركات عضلية فعلية، إلا انه في حالة الإنسان المتطور أكثر أهمية من العمل السافر. فالفرق بين الإنسان الذكي والإنسان الغبي هو فرق في المدى الذي يمكن أن يستبدل فيه العمل السافر بعمل تصوري وجنيني، والرجل المتنور يستطيع أن يلمس الطريقة التي يجري بها شيء ما، بينما لا يستطيع الأقل منه ذكاءً إلا أن يبحث بنفسه عن طريق المحاولة والتجربة(5). كما إن الفرق بين “فهم” العمل الفني، والإخفاق في فهمه، هو فرق في إمكانية إحداث الاستجابة المطلوبة في درجتها التصورية أو الجنينية والمواءمة فيما بينها وهي في تلك المرحلة، وبين العجز عن إحداثها والمواءمة بينها إلا بشكل سافر مكشوف، وفي مرحلة تطورها الكامل. وفي عديد من الحالات يكون نجاح الآثار الفنية نوعاً من الاستجابة لا يمكن الحصول عليه وتحقيقه إلا في مرحلة جنينية أو تصورية. وهذه النشاطات التصورية أو الجنينية هي ما يمكن أن ندعوه بالاتجاهات.
لقد ذكر الفلاسفة وعلماء الجمال والفنانون كثيراً من الآراء عن أهمية التجربة الجمالية، وعن الحنين الذي لا يقاوم الذي ترمينا فيه، حسب “بودلير” ، الذي يقول عنها (6 ): إنها هذه الغريزة المدهشة، الأزلية للجمال التي تجعلنا ننظر إلى الأرض ومناظرها كملخص أو تقابل للسماء. إن العطش الـذي لا يُروى لكل ما هو فيما وراء الدنيا والذي تكشف عنه الحياة لهو أقوى دليل على أبديتنا. والروح ترى الأشياء العليا التي تقع فيما وراء القبور وعندما تجلب قصيدة شعر جميلة الدموع إلى حافة العيون؛ فإن هذه الدموع ليست دليلاً على سرور مبالغ فيه، بل هي بالأحرى شاهد على ضيق قد اهتاج، وعلى توتر في الأعصاب، وطبيعة كانت حبيسة ما لم يكن مكتملاً، تريد أن تصل حالاً على هذه الأرض نفسها إلى جنة تكشفت.
ثانياً: التذوق الجمالي:
إن هذا التطلع الروحي إلى ما بعد الموت والرغبة في السمو فوق الأرض الذي توحي به التجربة الجمالية كثيراً ما أدى بالمهتمين إلى التقريب بين التجربة الجمالية والتجربة الصوفية(7). من حيث أن كلاً مـن التجربتين ليست غاية في ذاتها بل سبب لارتياد أفق أرحب وأوسع. فالاستجابة الجمالية للفن ؛ تستمد قيمتها من كونها دالة على الحقيقة العقلية الروحانية شأنها شأن الاستجابة لجمال الكون والطبيعة باعتبارهما من آثار المبدأ الإلهي المقدس والعلة الأولى التي تلهم نفوس الصوفية بالشوق الدائم والتطلع إلى معاينة هذا المبدأ والاقتراب منه.( 8)
يوضح “هربرت ريد” هذا التقارب بين الفنان والصوفي من جهة النبع الذي يغرف منه كل منهما وان اختلفا في التعبير النهائي بعض الشيء؛ يقول : إن الأفكار وكل البناء الفوقي العقلاني الخاص بالعقل، من الممكـن تفريغه بواسطة أدوات الفكر أو العلم، إنما تلك حالات الحدس العميقة للعقل، التي لا هي عقلانية ولا هي مادية، لكنها تمارس تأثيراً ثابتاً وأبديا على أجيال متعاقبة من الناس: فهذه هي منفتحة لتأثير المتصوف والفنان، والفنان وحده قادر على إعطائها تصويراً موضوعياً لكن الصوفي أو “الباطني” هو أيضاً فنان، إذ لا يصبح الصوفي الحقيقي واعياً لهذه الحقائق السامية من غير أن يكون ملهماً في آن واحد، لإعطائها التعبير الشاعري .(9)
وحقيقة التجربة الجمالية تتمثل، بالدرجة الأساس وبدءاً، في قدرتها على الاستحواذ على انتباهنا وأفكارنا ونشاطنا ليوجه إلى ما في التجربة من أشياء بالذات، على العكس مما يجري في التجربة المعتادة في نطاق الحياة حيث يتشتت الانتباه والتركيز إلى مواضيع ثانوية فضلاً عن طغيان النظرة العملية التي لا تبحث في الموضوع إلا عـن النفع والفائدة الملموسة، وكأنها تجعل من الموضوع وسيلة وليس غاية للإدراك، بينما نحن في التجربة الجماليـة المركزة ((حين نعجب بالموضوع في ذاته، نفصله عن علاقاته المتبادلة بالأشياء الأخرى، ونشعر كأن الحياة قد توقفت فجأة، إذ أننا نستغرق تماماً في الموضوع الماثل أمامنا ونترك أية فكرة عن النشاط الغرضي المتطلع إلى المستقبل)).( 10)
وقد وصف لنا بعض علماء الجمال موقف الذات بإزاء العمل الفني، فقالوا بان للاستجابة الجمالية السمات الآتية(11 ): أولاً؛ التوقف. ومعنى هذا أن ثمة فعلاً منعكساً جمالياً يتمثل في استجابة الذات للموضوع الجمالي بإيقاف مجرى تفكيرها العادي، والكف عن مواصلة نشاطها الإرادي، من اجل الاستغراق في حالة من المشاهدة أو التأمل التي تكون بمثابة مفاجأة لها. ثانياً: العزلة أو الوحدة. ومعنى هذا إن للسلوك الجمالي قدرة انتزاعية هائلة، لان من شأنه أن يستبعد من مجال إدراكنا كل ماعدا الأثر الفني أو الموضوع الجمالي، فلا نلبث أن نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الموضوع المشاهد، وكأننا قد استحلنا إلى عالم جمالي قائم بذاته، أو “مونادة استطيقية” متوحدة منعزلة وعندئذ نشعر بأننا نحيا، “إلى حين”، خارج العالم، وكأنما نحن في جزيرة نائية.ثالثاً: الإحساس بأننا موجودون بإزاء ظواهر “لا حقائق”. ومعنى هذا أن الشعور الجمالي يفتقر بالضرورة إلى الواقعية، نظراً لما للموضوع الجمالي من طابع ظاهري فنحن حين نشهد أي عمل فني نشعر بأننا لا ندرك إلا شيئاً صورياً خداعاً، وبالتالي فإننا لا نهتم بمضمون ذلك الشيء بل نقصر كل اهتمامنا على النظر إلى شكله أو مظهره. رابعاً: الموقف الحدسي؛ ومعنى هذا إن رائدنا في السلوك الجمالي، ليس هو الاستدلال والبرهنة والبحث العقلي “كما هو الحال في العلم مثلاً”، وإنما رائدنا الحدس والعيان المباشر والإدراك المفاجىء، فننجذب إلى الموضوع أو ننفر منه نتيجة إحساس مبهم يتملكنا منذ البداية. خامساً: الطابع العاطفي أو الوجداني. وهنا نلاحظ أن الموقف الجمالي ليس مجرد موقف ذاتي ينطوي على استجابة شخصية فحسب، وإنما هو أيضاً موقف وجداني يجعلنا نربط الموضوع الجمالي بالحساسية لا بالقصور العقلي. وعلى حين ان جانب “المعرفة” يبدو بشكل ظاهر في شتى مظاهر نشاطنا البشري العادي “كالإدراك الحسي، والفهم العقلي، والسلوك العملي”، نجد أن في تأمل الجمال –على العكس من ذلك- مظهراً وجدانياً يتجلى بوضوح، فيعيدنا إلى حالة بدائية من حالات الوعي أو الشعور. سادساً: التقمص الوجداني أو التعاطف الرمزي ومعنى هذا أننا حينما نحكم “مثلاً” على أي موضوع حكماً جمالياً، فإننا نضع أنفسنا موضعه، محققين بيننا وبينه علاقة بشرية تشبيهية، عن طريق بعض الحركات العضلية أو العضوية، وكاننا نقوم بعملية “محاكاة باطنية”، ولنضرب لذلك مثلاً فنقول أن أية مشاركة فنية تتحقق بيننا وبين بعض الشخصيات المسرحية أو الغنائية إنما تقوم على هذا التقمص الوجداني الذي فيه تنتقل إلينا انفعالات الآخرين على سبيل العدوى أو التأثر الوجداني فنشعر بأننا نحيا آلامهم ونعاني أوجاعهم ونستشعر ذواتهم…الخ.
وبسبب من لا محدودية موضوع التجربة الجمالية أو الصوفية من جهة أن كل شيء يصلح لان يكون هو ذلك الموضوع، فإننا نلحظ نوعا من الامتزاج بين المعرفتين الصوفية والفنية يتم في التجربة الجمالية من خلال ما يحدث فيه من اتحاد عنصري العملية المعرفية؛الذات والموضوع. هنا تخلع الأنا على اللاأنا كل ما في حياتها من عمق وقداسة وثراء، فتستحيل إلى ذلك الشيء الذي نتأمله أو هي على الأصح تعيد خلقه من جديد على صورتها ومثالها. لكي تنتهي في خاتمة المطاف إلى الفناء فيه، والحق أن الذات لتشعر في لحظة التأمل الفني بأنها قد استحالت بالفعل إلى خط، أو إيقاع، أو نغمة، أو سحابة، أو عاصفة، أو صخرة، أو غدير، دون أن تفطن إلى انها تعير الأشياء أعمق وأقدس واعز ما في حياتها.
التجربة الجمالية، في حقيقتها، عملية تَعَرُّف ديناميكية متطورة لا يدركها الجمود، لما يتحقق فيها من عمق واتحاد بين الذات والموضوع بسبب توطد عامل الألفة الذي ينشأ بين الاثنين فيؤدي إلى ازدياد معرفتنا بموضوع التجربة إذ ينكشف رويداً رويداً وتتفتح مغاليقه فيتمكن المتذوق من الولوج إلى مكامنه والتعرف على أسراره والتبصر بكنهه وحقيقته. وبذا تكون قراءتنا للعمل قراءة نامية ترتقي عمقاً وإدراكاً لمضامين العمل مع مرور الوقت بازدياد الألفة وما توفره من حل لمجاهيل الأثر الفني والتعرف المضطرد ببنائه وفك رموزه الشكلية والفكرية. وعليه فان الاستمتاع الجمالي بعمل فني لا يتم دفعة واحدة ((وإنما هو عملية نامية متدرجة خلاقة، ولو واجهنا تحدي العمل، لكانت مكافأتنا على ذلك هي القيمة التي نشعر بها لتجربتنا عندما نتمكن من تذوقه. وفي حالة بعض الأعمال الفنية، ولا سيما تلك التي نسميها أعمالا “عظيمة” لا تنتهي عملية ازدياد التعرف أبدا)).(13 )
لعل فيما مضى تأكيداً إضافيا أن الجمال ليس، فقط، وليد السطح الحسي الثابت أو ما يتمثل بالنظرة الاستقلالية للشيء معزولاً عن سياقاته فلا يشير إلى ما هو خارج عنه، بل إن حقيقة الجمال والتجربة الجمالية وقيمتها الحقة لا تعرف إلا إذا نظرنا إلى الشيء نظرة آلية واعتبرناه ضمن سياقاته ووظيفته المحققة لمفهومه الصحيح ولماهيته، فيكون دليلاً إلى ما هو أعمق منه وأبعد وأعلى وأسمى، وكما يقول “وليم بليك”: أن ترى العالم في ذرة الرمل. والله في الزهرة البرية.
إن ما يبدعه الشاعر لا يأتي بتمامه وكماله مما يلحظه في الكون والحياة من أشياء، بل إن هذه ،في أساسها، تعد حافزاً لذلك الكائن للانطلاق من الواقع الحسي إلى واقع أبعد منه، إلى عالم المثل الخالد، وعلى رأي وليم بليك أيضاً، فان الصورة الكاملة التي يبدعها الشاعر لا يستخلصها من الطبيعة وانما هي تنشأ فـي نفسه وتأتيه عن طريق الخيال .(14)
ثالثاً: الموقف الأستطيقي:
التجربة الجمالية، في جوهرها، عملية إدراكية لموضوعها ضمن شروط خاصة تحقق نوعية الفهم والتعرف المتوخاة من تلك التجربة، وما يرافقها من إعلاء للأحاسيس ومن لذة، والشرط المحقق لتلك السمات هو ما يسمى بالإدراك الاستطيقي، الذي لا يتحقق إلا إذا ابتنى على شيء آخر يعد أساساً له وسبباً لتحققه ألا وهو الموقف الاستطيقي. وما الموقف الاستطيقي إلا طريقة للتحكم في إدراكنا من خلال نوعية الانتباه الذي نتخذه تجاه الموضوع المدرك. وقد مر بنا، حين دراسة الإدراك، انه يعتمد في الدرجة الأساس على الانتباه. وإذا كان الانتباه يعني اختيار الشيء الذي نركز شعورنا عليه فان الإدراك هو معرفة ذلك الشيء بالذات والإلمام به. فنحن لا ندرك إلا ما ننتبه إليه، ثم إن الإدراك ،في حد ذاته، ليس إلا سلوكاً سنؤديه.
يعد التعاطف مع الموضوع هو جوهر الموقف الاستاطيقي، لان الإدراك الجمالي يتطلب منا التوجه إلى الشيء برغبـة للكشف عن ماهيته وكنهه. والتعاطف لا يتحدد، فقط، في حب الموضوع وإنما في نوعية السلوك تجاهه. لأننا في حياتنا العادية نلتزم بموقف الإدراك العملي حين نتعامل مع الأشياء على أساس الفائدة والنفع. فعندما يكون موقفنا عملياً فإننا لا ندرك الشيء لذاته، لأجل الإدراك، بل سندركه بشكل جزئي ونتجاوزه بسرعة إلى الغاية المتوخاة منه، فلا نرى منه إلا ما يرتبط بالفائدة المرجوة منه والتي تخدمنا في حياتنا ((إن كل ما يفعله الشخص السوي، حقيقة، في الحياة الفعلية هو انه يقرأ البطاقات الموجودة على الموضوعات المحيطة به – إن جاز هذا التعبير- ولا يعبأ بأي شيء آخر، فنحن نقرأ البطاقات على الأشياء لنعرف كيف نسلك إزاءها، ولكـن لا نكاد نرى الأشياء ذاتها))( 15). لذا كان لزاما لكي يكون إدراكنا استاطيقياً أن نلتزم الموقف الاستاطيقي لننطلق من اتجاه إيجابي يرتب وعينا ويوجهه في التعامل مع الشيء موضوع الإدراك الجمالي، مما يعيننا على التبصر بكنه الشيء فضلاً عـن مواصلة إدراكه كي لا يعد موضوعاً عابراً نتجاوزه بسهولة.
وهذا الإدراك المتأتي للشيء مع دوام عملية الإدراك لفترة طويلة هو جوهر التذوق الذي يعني إمكانية الاستجابة لمختلف المثيرات والإشارات، وعدم الاقتصار على تناول الأشياء من الوجهة النفعية. فبدلاً من أن يرى الإنسان البرتقال ليأكله، يمكنه أن يستمتع و يركز انتباهه على شكل البرتقالة ولونها وملاسة سطحها فيمارس وظيفة التذوق من خلال اعجابه بها و بهيأتها أو حين يقارنها بغيرها . ان التذوق هنا بمعنى( 16): البطء في “الذوق”، أن تتذوق الشيء شيئا فشيئا. بحيث انك عندما تتذوق فهذا يعني انك تستيغ شيئاً جميلاً فعلاً.. رائق الطعم والمشاعر وبأنه يلزم لكي يتحقق أثره الطيب أكثر فأكثر أن تتعاطاه ببطء حتى تستشعر طعمه فعلاً وحتى يكون الاقتناع به والاندماج معه أصيلاً بعيداً عن الإيهام أو التأثير السريع بما يعنيه من إثارة كاذبة وانفعال عابر أو الإحساسات المهوشة عموماً.
وفي ظل الموقف الاستاطيقي يمكننا القيام بعملية الإدراك من حيث تحقق الإدراك لأجل الإدراك، بعيداً عن تأثيرات النزوع النفعي في التعامل مع الأشياء، وعليه يمكننا تعريف الموقف الاستاطيقي بأنه ((انتباه وتأمل متعاطف منزه عن الغرض لأي موضوع للوعي على الإطلاق، من اجل هذا الموضوع ذاته فحسب)).( 17)
هنا تلزم الدقة في تحديد ماهية الموقف أو الاتجاه الاستاطيقي، لان كثيراً ما يتداخل الاتجاهان الجمالي وغير الجمالي بعضهما مع بعض إلى درجة يصعب معها التفريق بينهما. ولا يتم لنا هذا التفريق بين الموقفين إلا حين نوفق للتفريق بين الاتجاه وموضوع الاتجاه، لان الموضوع الذي تتجه إليه استاطيقيا قد يكون جميلاً أو غير جميل وليس هذا مناط الحكم على جمالية الاتجاه، وإنما نوعية الاتجاه نحو الظواهر وكيفيته هو الذي يحدد الموقف الجمالي عمن سواه .
فالإدراك المتأسس على الموقف الاستاطيقي يسعى إلى إدراك الشيء لذاته متجنباً تشتت الانتباه إلى أصل الشيء ونتائجه وعلاقاته مع الأشياء الأخرى، كما هو في الموقف العملي، فالموقف الاستاطيقي ((يقوم بعزل الموضوع والتركيز عليه، أي على منظر الصخور، وصوت المحيط، والألوان في الصورة. وعلى هذا النحو لا يدرك الموضوع بطريقة جزئية أو عابرة، كما هي الحال في الإدراك “العملي” أي عند استخدام قلم في الكتابة، بل أن الاهتمام ينصب على طبيعته وكيانه الكامل)).( 18)
وفي الموقف الاستاطيقي يجب أن نستمر في تركيز انتباهنا وإدراكنا على الموضوع ذاته ولا نسمح لخيالنا بالخروج عن الموضوع والاتجاه إلى ما يثيره فينا من ذكريات وصور شعورية أو لا شعورية، فان كان ثمة تداعيات في الأفكار والمشاعر فيجب أن تكون من ضمن الموضوع ومعززة لموقفنا منه ليتم لنا إدراك حقيقة الشيء.
وليس من المنتظر أن يكون الموقف الاستاطيقي وليد اللحظة يمارسه المرء متى شاء بل أنه لا يأتي إلا نتيجة تجارب عديدة وصعبة ومعاناة وتزايد خبرة ووعي تروض جميعها وباستمرار لتعزيز الاتجاه الجمالي في إدراكنا للحياة وجزئياتها. مجمل القول؛ إن الموقف الاستاطيقي يعني تقنينا ايجابيا للوعي الجمالي تجاه موضوعه وما يتضمنه من اطمئنان لفعل الإدراك واستغراق فيه.
ونتيجة لهذا الموقف الاستاطيقي فان التجربة الجمالية تكون ذات قيمة كامنة فيها ذاتها لأنها فعل كشف ومعرفة مستمرة بسبب من الاتجاه الإيجابي نحو الشيء موضوع الإدراك. فالطابع الجمالي لأي موضوع وان تحدد في بعض منه بالخصائص الذاتية للموضوع ، الا انه في جزئه الأكبر والاهم يتشكل وفقا لنوعية الطريقة التي نتأمله بها أو نحكم عليه .
والمعول عليه في الموقف الاستاطيقي إن الإدراك لا يتم بطريقة قبلية apriori ، بل يعتمد على نوعية الشيء وطبيعته. فإذا كنا قادرين على اتخاذ الاتجاه الاستاطيقي بحكم إرادتنا وتوجيهه الوجهة التي نريد، فان العمليات التـي تحدث أثناء عملية الإدراك لا يمكن تحديدها مسبقاً وإنما تعتمد، بالدرجة الأساس، على الموضوع نفسه. بمعنى انه إذا كانت الذات هي التي تشيع الحياة في العالم(19 ) ، فان روح الأشياء المتأملة إنما ترجع في نهايـة الأمر إلى الأشياء نفسها لا إلى الذات ؛ لان الموضوع الجمالي ليس مجرد دعوة إلى التذوق أو الاستمتاع، وإنما هو أيضاً شيء يتمتع بطبيعة مغايرة ويفرض علينا “قاعدة” خاصة في تأمله. ولئن كنت أنا مصدر الديناميكية الاستطيقية التي ينطوي عليها فعل التأمل (20) ، إلا أن الاتجاه الذي تتخذه تلك الديناميكية التي انسبها إلى الأشياء حين أتأملها تأملاً فنياً إنما يكمن في الأشياء نفسها.
وشبيه هذه القيمة المتحققة للتأمل الاستاطيقي ما نجده عند “شوبنهور”- الذي يبني فلسفته على ان الحياة إرادة وتمثل؛ فالتأمل الجمالي الخالص يستوجب التجرد من شواغل الحياة ومطالبها، أن نتحرر من إرادتنا الذاتية لإحراز سمونا العقلي في تأملنا حقيقة الشيء الجميل؛ أن نتأمل في الحقيقة لأجل الحقيقة.
إن الموقف الاستاطيقي كونه تأملاً مباشراً في الموضوع وإدراك لأجل الإدراك، فيتوجب إن يكون هو الأساس في النشاط الجمالي سواء في مجال الإبداع أم التذوق. لان ما تنتجه الفنون ( 21) هو الجواهر “الماهيات” الخالدة في الأشياء لا وظائفها العملية. فمشاهدة الجوهر هي معاينة الشيء في ذاته ولذاته. وهنا نجد ذواقة الجمال نفسه وقد نسى روحه في التو واللحظة وربح العالم، عالم الفن. هذه النظرية وهذا المثل الأعلى للتذوق الجمالي.
هوامش :
( 1)فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص 83.
( 2)برجسون : ص 50.
( 3) النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية ـ جيروم ستولنيز: ص97.
(4)ينظر: النقد النفسي عند أ.أ. ريتشاردز: ص-ص 107- 108.
(5) العاقل من اعتبر بغيره، والجاهل من اعتبر بنفسه.
( 6)بحث في علم الجمال : ص 385.
(7) فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة: ص 82.
(8) الفن والمجتمع: ص 136.
(9) النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية: ص71.
(10)ينظر: مشكلة الفنك ص ص219- 222.
(11 ) النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية: ص110.
(12) خيال Imajination sf ملكة من ملكات العقل، بها تُمثل أشياء غائبة كانها ماثلة حقاً لشعورنا ومشاعرنا ((المعجم الأدبي: ص 106 مادة خيال)).
(13) مُخيلة Imajination sf ؛ هي الخيال، أي الملكة المولدة للتصورات الحسية للأشياء المادية الغائبة عن النظر وهي على نوعين: أما ان تستعيد الصور التي شاهدها صاحبها من قبل، وتسمى عند ئذ المخيلة المتذكرة أو المستعيدة، أو تعتمد صوراً سابقة فتولد منها صوراً جديدة، وتسمى عندئذ المخيلة الخلاقة. ((المعجم الأدبي: ص 244 مادة مخيلة)).
( 14) النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية: ص 44.
( 15) ينظر: الاعلام والنقد الفني: ص-ص 15-17
( 16) النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية: ص45.
( 17) المصدر نفسه: ص46.( ) مشكلة الفن: ص221.
(18) تأمل: حالة من الاستغراق الذهني في عملية جد واعية لتداعي الصور والأفكار. ((المعجم الأدبي: ص 57)).
(19) التأمل: استغراق الذهن، في موضوع تفكير، تغفل معه الذات والمحيط. 2) درجة من درجات الإدراك، المعرفي التجريدي. 3) والتأمل تجاوز للشيء في ذاته إلى خلفياته العضوية. 4) والتأمل الأدبي، إعادة إنتاج المحسوس عبر التجريد الشاعري. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص 39)).
( 20)ينظر: الفنون والإنسان؛ مقدمة موجزة لعلم الجمال: ص 22.