إشارة :
رحل المبدع الكبير “عبد الستار ناصر” في الغربة ودُفن هناك .. ومرّت ذكراه شبه يتيمة بلا ذكرى .. وبلا احتفاء ومراجعة تليق بقامته الإبداعية الشامخة .. أسرة موقع الناقد العراقي تقدّم هذا الملف إحياء لذكرى عبد الستار ناصر واحتفاء بمنجزه الإبداعي الفذّ. وسيكون الملف مفتوحا على عادة الموقع . تحية للمبدع الكبير عبد الستار ناصر.
الشهادة :
قال القاص العراقي عبد الستار ناصر “لقد شبعنا من الحرب وحرائقها ولم نشبع بعد من سنوات الكتابة” وكان ناصر يقدم شهادته الإبداعية حول تجربته القصصية، ضمن برنامج مؤسسة شومان/ دارة الفنون بعمان “فنانون من وادي الرافدين” وذلك في 19 الجاري.
وقال ناصر في مطلع شهادته: “منذ اكثر من ثلاثين سنة نشرت أول قصة قصيرة، حدث هذا في الرابع من شباط عام 1964. وظننت يومها أن المسافة الى جائزة نوبل لا تحتاج مني الى زمن أطول من عام واحد، حتى أنني احتفظت بالجريدة في جيب سترتي اكثر من أسبوعين، لم اترك صديقا ولا قريبا إلا وأخبرته بما فعلت.. اعتقد ان شرطي المرور في شارع الرشيد عرف أيضا بأنني أصبحت كاتبا!”.
وأضاف: “لم ألتفت ـ كما يفعل أقراني ـ الى متطلبات المشهد القصصي، ولم اعبأ بما يسمونه شروط كتابة القصة القصيرة، كنت أرسم أبطالي خارج سرب الحمام الجميل الذي يصطاده النقاد يوما بعد يوم.. طائري كان يسافر ـ منفردا ـ نحو عالم أنا نفسي لا أعرف أي شيء عنه.. هكذا، أصحو صباحا، أرى الأوراق ـ التي كانت بيضاء ليلة أمس ـ وقد ازدحمت بالكلمات والفوارز والحروف، كلمات معوجة وأخرى مشطوبة، أحاول ان أتذكر ما جرى ليلة البارحة؟ لكن المخيلة ضاعت من رأسي تماما، في النهار لا أعرف ان أكتب سطرا في قصة، تزاحم الخمرة أبطالي بعد منتصف الليل، أسمع الحوار بينهم، وأرى الغزل الذي يتراشقونه يضرب أنفي.. أشم رائحة المعاني وصحون المفردات، يتسلل طعم الكرزات واللبن الرائب نحو شراييني.. فأحسد هذا الكائن الذي تمكن أن يكتب كل تلك (البلاوي) ليلة أمس، ومن الغرائب الكبرى ان كل ما يكتبه إنما يظهر في المجلات باسمي”.
وتحدث الناصر عن تأثيرات في القراءة واكبت تجربته القصصية لأسماء مثل: طه حسين، سلامة موسى همنغواي، ديستويفسكي، البيركامي، ستيفان زفايج، راي براد بردي، كافكا، شولوخوف، أدونيس، امبرتو ايكو، فوكنر.
وعن كتبه التي صدرت أشار الى أن بعض أعماله لا يعرف عنها شيئا وان أخبارها تأتي أحيانا كما المطر وهو في حالة من جفاف العروق.
الغناء خارج السرب
وتحدث عن نهجه الإبداعي قائلا:”غنيت وحدي خارج سرب كبير من العصافير ـ العراقية والعربية ـ ولم ألتفت الى دستور النقد وتعاليمه، ولم أنفذ أيما وصية من وصاياه، كنت أقامر بالممكن، ولا أمنع نفسي من المغامرة في دخول الممنوع.. لهذا أفنيت عاما من عمري وراء الشمس، داخل جب مزحوم بالفئران والنمل والصراخ والنحيب، سنة من نار، سنة من خوف، سنة بلا ذاكرة، لكنني يوم خرجت صوب الحرية بقيت أغني وحدي”.
وأضاف “لأنني هكذا أغني وحدي، ولا أشارك بقية العصافير زقزقاتها العذبة وألحانها الطروب، تساقط فوقي رذاذ الوقاحات من هنا وشلالات القسوة من هناك… برغم ذلك لم ألتفت، كانت الكتابة هي المأوى، وبعد كل وقاحة تجثم في طريقي، أرى نفسي أتعلم بشكل أفضل وأسرع.. ساعدني “مارسيل اشار” يوم أخبرني أن البشر على نوعين: الأول في السجن، والثاني ينبغي أن يكون فيه، وتعلمت من “بول فاليري” أن السجن داخل جلدك أقسى مئات المرات من اعتقالك في أي مكان”.
وتساءل ناصر:”ما نفع الجزيرة إذا احترقت أشجارها والماء يدور حولها ليل نهار؟ ما نفع النار إذا خبت داخل غابات من النخيل؟ ماذا ينفع الماء جزيرة إذا احترقت، وماذا ينفع الخشب نارا إذا خبت؟”.
وأكد ” أنا لا أريد ان أكون هذه الجزيرة ولا أريد ان أكون تلك النار، فقد عرفت نفسي وأدركت أحزانها وأعصابها ونفورها ورغبتها وعنفها وكتبت أمام الناس حقيقة من أكون”.
الكتابة والحرب
وتطرق ناصر إلى كتابته عن المرأة قائلا:” الكتابة عن المرأة تحتاج الى شجاعة من نوع متميز، لهذا سأترك حجم تأثيرها في حياتي وكتاباتي، وامضي الى جزء جارح من تجربتي في كتابة القصة القصيرة، جزء دموي يخترق الحكمة والفن والقانون والثقافة والعلوم، يسمونه في المعاجم والمناهل والقواميس بأسوأ ما عرفه الإنسان من مفردات: الحرب! موضحا أن الحرب “أخذت نصف أعمارنا”.
وأشار إلى قصف ملجأ العامرية فقال: “بعد احتراق ملجأ العامرية تغير كل شيء في حياتي، كل شيء تغير بعد تلك المحرقة التي راح في تنورها الرهيب أربعمائة واثنان من النساء والشيوخ والأطفال.. فجأة، رأيت الصندوق يغلق من تحتي، ومن فوق رأسي، لا يميني يمين، ولا يساري يسار، ليس ما قبالة وجهي غير الرمضاء، ولا خلف ظهري سوى النار تشتعل بي، أتشظى داخل صندوقي وأصرخ، حيث لا أحد يسمعني بين دوي القنابل والرصاص”.
وأضاف:”قلت لروحي مهلا، مهلا يا روحي، هذا الذي أمام عينيك ليس غير كابوس سوف تستيقظ منه فورا، قلت لنفسي مرتين ولروحي مئات المرات: ليس ما أمامك إلا محض كابوس سوف تستيقظ منه الآن، لكنني انتظرت كثيرا، وانتظرت اكثر، وما يزال ذاك الكابوس ينام في لحمي وفي عظامي وفي كريات دمي”.
وأشار ناصر إلى أن النساء والحروب والسفر، كلها تعطيك ما أنت بحاجة إليه من كنوز الكتابة،وقال:” في مدريد، عاصمة “سرفانتس” الكبير، وبعد غيبة طويلة عن نفسي، عثرت على نفسي، شربت الخمرة في بار صغير جدا، رأيت في زاوية من البار كرسيا وكأسا ومائدة مغطاة بالسيلوفان، ومكتوب على جانب من المائدة “نرجو عدم الجلوس هنا، السيد أرنست همنغواي قادم بعد قليل”صرخت بلا حنجرة: إذن هذا هو القبو الذي أحبه همنغواي وسابق أقرانه في احتساء البيرة فيه وفاز عليهم.. هذا هو المكان الذي يرتاح إليه ويأنس فيه.. شعرت برعشة خفيفة وأنا أعيش بعض الوقت في حياة ارنست همنغواي، كنت أفكر: أين بيوت مفكرينا ومبدعينا، ماذا حل بمقاهينا؟ هل ثمة من يلتفت الى زاوية كان يجلس عندها محمد مهدي الجواهري أو سركون بولص أو سعدي يوسف؟” وأكد ناصر:” نعم، نرجو عدم الجلوس هنا، السيد آرنست همنغواي قادم بعد قليل! نظرة واحدة الى أدباء العالم، تعطيك فكرة عن نمط الحياة التي يعيشون، وعن السلوك اليومي الذي هم يقترحون، نظرة فاحصة الى حياة هنري ميللر، لورنس داريل، برنارد شو، اندريه مالرو، كلود سيمون، غونتر غراس، نظرة واحدة الى حياة هؤلاء وغيرهم، تعطيك جوابا عن الشكل الذي يلائم المبدع، فهو أولا يعيش كما يريد، يختار المكان الذي يناسبه، والبلاد التي يأنس إليها” وأضاف:”وهو ثانيا يتمتع بأعظم نسبة من الحرية في الكتابة والنشر واختيار المرأة التي تناسب عقله ومزاجه وأعصابه، إضافة إلى أنه يساهم في حل مشاكل العالم، ينقل رأيه السياسي ويجاهر به وتساءل إن كان الأديب العربي يمتلك أي امتياز سوى حريته في أن يبقى تحت حرارة الشمس!”.
واختتم الناصر شهادته بالقول:” الحروب مهما فعلت لا يمكنها أن تذبح الحقائق ولا يمكنها أن تمسح الإبداع، شبعنا من سنوات الحرب وحرائقها.. لم نشبع بعد من سنوات الكتابة”- -(البوابة)