( أساطير الزمن ) مجموعة شعرية للشاعر العراقي رياض الفتلاوي تعتمد أسلوب السرد التعبيري وقصيدة النثر المكتوبة بالجمل و الفقرات و الكتلة الواحدة متحررا من التشطير المعهود ، بلغة متموجة محققة نصوص شعرِ سردي و شكلا نموذجيا لقصيدة النثر . و لأن رسالة النقد لن تكون واضحة و صادقة ما لم تنطلق من الابداع و العمل و صاحبه ، فان النقد التعبيري دوما يتابع النص ، و بالقدر الذي يتجه بالكتابة نحو انظمة جمالية و فنية فانه لا يتحدث و لا يصف الا امورا متجلية في النص . و تتبع كتابات الشاعر رياض الفتلاوي يمكّن و بشكل واضح من تلمس قدرات شعرية عالية تتمثل جوهريا بامساك اللحظة الشعرية و اتقان شكل مهم و مميز في كتابة قصيدة النثر المعاصرة . و رغم ثراء نصوص هذه المجموعة الا اننا و باجراءات النقد الثيمي الذي يقترب كثيرا من الابحاث العلمية يعمد الى التركيز على عنصر جمالي او فني معين في النص ، فانا سنركز على موضوعة واحدة الا وهي الامساك باللحظة الشعرية و العوامل التعبيرية العميقية الماوراء نصية .
الامساك باللحظة الشعرية و اقتناص المعرفة الجميلة الخفية و العالم الماورائي للادب هو من أهم انجازات الأدب ، و هو المميّز الحقيقي للشخصية الأدبية ، و التي تحتاج الى مقومات خاصة تلعب فيها الموهبة دورا كبيرا . و لأجل موضوعية أكبر فانا اشرنا الى تلك العوالم الماوراء نصية و العميقة في التجربة الانسانية و الشعور الانساني بعنوان ( العوامل التعبيرية) في قبال الصيغ و الصور و العناصر النصية و التي اشرنا اليها ( بالمعادلات التعبيرية ) . من هنا تكون اركان العمل الادبية على ثلاثة مستويات و فئات ، المستوى العميق الماوراء نصي ( العوامل التعبيرية ) و المستوى النصي ( المعادلات التعبيرية) و مستوى التلقي ( القراءة ) و هي عملية تلقي المادة الابداعية و تحويلها بوسائط نقل الى عوامل مثيرة للاستجابة الفزيولوجية الشعورية و الفكرية . هذا الفهم يمكّن من تفسير التباين بين الناس في الاستجابة للاعمال الأدبية اذ ان الثقافة و المعرفة و الممارسة و الاحتكاك و الاطلاع كلها تؤثر على تلك المجالات و المستويات التي اشرنا اليها ، و يتلاشى وهم كون عملية التذوق و الاحساس بالأدب و الفن عملية انطباعية ساذجة . نعم فطرية أسسها واضحة الا انها مما يمكن تطويره و تنميته .
العوامل التعبيرية يمكن ان تتسع بسعة التجربة الانسانية و الارث الانساني . هذه العوامل توجد بشكل دفين و بشكل قوى كامنة في العمق الانساني الموحد و مترسخة في جانب اللاوعي . ما يقوم به الفنان و الاديب هو الكشف عن تلك المعارف و الحقائق و اخراجها من عالم اللاوعي و السكون و العمق و الخمول الى عالم الوعي و الحركة و الظهور و الخطاب .
هنا سنتناول العوامل التعبيرية التي كشفت عنها نصوص رياض الفتلاوي و التي تجلت و بشكل مناسب بمعادلات تعبيرية عالية الكفاءة ، لتتحقق عملية الابداع و الابهار .
في قصيدة (نعاج الحقل ) نجد شعرا سرديا نموذجيا و بسردية تعبيرية عذبة ، فيها وقعنة الخيال و التموج التعبيري ، وهذه التقنية و الصفة ملازمة لنصوص المجموعة التي كتبت بشكل كتلة واحدة و بشكل الفقرات و الجمل . يقول الشاعر في هذه القصيدة وهي قصيدة نثر نموذجية متحررة من التقليد المعهود التشطيري و العمودية في ما يكتب الان :
(تناولَ جدي إشراقة شمسه بقدح الفجر وغليونه القديم المشتعل بحطام ذاك التاريخ، مازالت تلك الفزاعة تتراقص بسنابل الحقل، وصديق جدي الحميم الزهايمر يغني له أغنية الموت، بصوت المزامير التي أيقظت أصحاب الكهف، …)
اضافة الى الانسيابية في التعبير ، المبتدئ بمجاز قريب و دلالة قريبة باقتناص لحظة شعرية مرتكزة على ثقافة المجموعة و ووعيها بالانسان الكادح و الفجر و العناء ، يتجه الاسلوب الى التصاعد الجمالي نحو خيالية اكبر باقتناص لحظة شعرية بنظام الفزاعة التي تراقص سنابل الحقل بارتكاز و تعمق في الوعي الجماعي ، ثم في حالة تعمق شعري اكبر نحو اقتناص لحظة شعرية عالية وهي التركيز على مرض ملازم للجد ، ثم تتوج الشعرية هنا باقتناص لحظة شعرية اعمق وهي خيالية حال اغنية ذلك المرض .
اضافة الى المعادلات التعبيرية عالية الفنية و الشعرية في هذا النص و التي اشرنا الى بعضها فيما تقدم من السرد التعبيري و وقعنة الخيال ، فانها ايضا تتمظهر بشكل لغة متموجة بين القرب و البعد الرمزي و الايحائي و بين السردية و التصويرية الممانعة للسرد داخل السرد وهو الشيء المهم الذي يعطي اللغة الحرة السردية صفة الشعرية . اضافة الى ذلك فان الشاعر هنا ابحر و بكفاءة عالية نحو العوامل التعبيرية ، ليخرج النص من كونه سبكا و تأليفا شعريا شكليا الى تحقيق نظام الانجاز العميق و الشعرية الحقيقية ، و ذلك بحالة تكافؤ و تناسب التشكيل و الوجود العميق لما وراء النص بانظمة فكرية و جمالية تحقق الابهار و الادهاش اضافة الى ما يحققه الشكل و ظاهر النص من ابهار .
ان الفرق الجوهري بين الشعرية الشكلية و الشعرية العميقة ان الاولى تحقق مساحة ادهاش ضيقة تقتصر على الشكل وقد تتوسع كثيرا ، اما الشعر الحقيقي فانه يحقق مساحة ادهاش واسعة وعلى مستويات متعددة نصية و ماوراء نصية و ما بعد نصية في القراءة و الاستجابة . اهم اللحظات الشعرية العميقة التي اقتنصها و كشف عنها الشاعر ، و اخرجها من مجال اللاوعي و التجربة الدفينة الى مجال الوعي و التجربة الظاهرة تتمثل بحميمية العلاقة بين الانسان الكادح و الفجر و رمزية كل ذلك ، و حميمية العلاقة بين الفزاعة و الحقل و رمزيتها و توظيفها تعبيريا ، و علاقة التأثير العميق و الواسع للشيخوخة على الانسان ، من ثم العلاقة البنائية و التوليدية و الخيالية بين المزامير واهل الكهف ، محققةمساحات واسعة من الادهاش . و من الواضح اننا نتحدث هنا عن انظمة فكرية ماوراء نصية وهي ليست كلها جمالية ، الا اننا نلاحظ ان العمق الجمالي حاضر و متصاعد في ذلك البعد العميق ، وهذا يناسب التطور التعبيري الذي كان في اجزاء النص الظاهرية و المعادلات التعبيرية ، و بهذا يتحقق نظام شعر عميق متناغم متوافق . وهذا الامر بالاضافة الى انه يولد جهات متعددة للادهاش فانه يولد ايقاعا ، وبذات الفكرة عن الترابط و التناغم و التسلسل العميق التعبيري يمكن ان تتحقق وحدة عميقة وان كانت المعادلات و الاجزاء النصية متشظية ، الا ان في هذا النص ( نعاج الحقل ) الوحدة الظاهرية موجودة كما بينا بتسلسل و ترابط موضوعي و تعبيري و الوحدة العميقة موجودة ايضا ، و من خلال كل ما تقدم يتحقق نظام القصيدة ، فنكون امام قصيدة نثر نموذجية .
و في قصيدة نثر عالية المستوى بشعر سردي و اسلوب السردية التعبيرية يتحقق نظام التوافق النثروشعري بتصاعد تطوري متوافق و متصاحب للشعر و النثر يقول الشاعر في قصيدة ( هواجس النوارس )
(العصافير لم تعد تبني عشها على شجرة الصنوبر، وذاك الغراب مازال يحوم على أقفاص الطيور، تلك القبور لاتسع الأحلام، أين ندفن ما تبقى منها، نعم هناك ديانة قديمة، مركونة على رف العدم، سنجعل أحلامنا هندية، حتى نحرقها ونذرها مع الريح ، هذا يكون أول إصلاح، مازال الدمع يرقص على وجنة الأزهار، الا يعلم أن الرقص حرام …)
الرمزية التعبيرية متجلية في هذا النص ، فالقاموس التعبيري التلويني بالعصافير و الاشجار و الطيور و القبور و الاحلام و ديانة قديمة و احلام هندية و دمع يرقص . ان التعبيرية تتجلى في استخدام شكل معين من الالفاظ و شكل معين من توجيه المعنى و شكل معين من طرحه ، فالالفاظ هنا تلوينية و نقصد بالتلوينية اي انها عالية الرمزية و الطبيعية ، و الشاعر يتجه بالالفاظ نحو معان فردية فتتجلى التعبيرية و الرؤية الفردية فيخلق النص اشياءه و رموزه و تتجه رمزية تلك الرمزيات الى غير المعهود وهذا هو الكسر الفني الذي يحقق التعبيرية و من خلال علو و سعة البوح و القضية التي يراد طرحها تكتمل انظمة البوح التعبيري ، فالشاعر و ان استخدم الفردية و الخصوصية في تعابيره الا انه استعمل تلك التعابير الفردية لاجل قضية عامة كلية وهذا هو النظام الاهم في الرمزية التعبيرية .
و في سردية تعبيرية فذة تتجلى المعادلات التعبيرية النصية عالية المستوى الكاشفة و المحاكية لعوامل تعبيرية ماوراء نصية عميقة و واسعة ، في قصيدة ( طاحونة هواء ) يقول الشاعر
( خلف ذاك البعد، بين أزقة الغياب، طاحونة هواء رمادية ، تطحن ذرات الوجود، بأسنان عمياء لا ترى. تسمع أزيز الضوء وضجيج السنابل المحطمة، تحركها أربعة فصول مزخرفة، بليل هرم ونهار يكاد يلتقط أنفاسه. وساعة الوجع قد بانت عورتها، وأطلق الرقاص أغنيته الأخيرة….)
ان التوافق النثروشعري متجل هنا بوضوح ، فالنثر بلغة حرة قريبة يتطور و يتصاعد و يتكامل ، يرافق ذلك تطور و تصاعد و تكامل في شعرية النص ، لقد بينا في مواضع سابقة و كررنا كثيرا ان غاية قصيدة النثر هو الشعر الكامل في النثر الكامل ، وهنا في هذا النص يقتنص الشاعر رياض الفتلاوي لحظ فنية جمالية الا وهي شخصية قصيدة النثر المتقدمة و النموذجية ليحقق نظام التوافق النثروشعري و يوسع مساحة الادهاش و الابهار باضافة جهة ادهاشية جديدة . اضافة الى ذلك فان النص قد كتب و صيغ بمعادلات و عناصر نصية متقدمة محاكية و عاكسة لعوامل تعبيرية ماوراء نصية عميقة و واسعة و مؤثرة ، فهنا في هذا النص يتجلى الهمّ الانساني و يقتنص الشاعر اللحظة الشعرية العميقة بهذا الهمّ فيتجلى صوت الحسرة على الخسارات و البعد الذي يكتنف العالم و اتساع رقعة العمى العالمي و الخذلان لجهات النور على ايدي الرياء و القبح المتلون بالوان البراءة و الجمال . و كعادته يرتكزن هنا رياض الفتلاوي في عوامله التعبيرية العميقة على الوعي الانساني و على التجربة الانسانية و المعاناة الكونية ، فتجد نصوصه تنطلق دوما من معاناة انسانية و كونية محققا نموذجا فذا لأدب القضية و الأديب الانساني .
انّ ما بيناه و غيره كثير يمكن تلمسه و تبينه بوضوح في قصائد هذه المجموعة ، يعكس الثراء الذي تتميز به نصوص هذه المجموعة ، و قبل هذا كله و بعده فان كتابة رياض الفتلاوي قصيدة النثر بشكل الكتلة الواحدة و الجمل و الفرات متحررا من التشطير و الشكل العمودي ،هذا وحده امر بغاية الاهمية يوجب الاهتمام النقدي ، كما ان الاتقان و المستوى العالية الذي تميزت به نصوصه يمكننا من القول اننا امام شاعر مهم كما هو الحال مع شعراء اخرين في مجموعة الشعر السردي المتقنين لقصيدة النثر المكتوب بالجمل و الفقرات و الكتلة الواحدة ، مما يشير الى حصول تطور واقعي في كتابة قصيدة النثر العربية المعاصرة . بنصوص مهمة تستحق التوقف و التحليل من قبل المهتمين فعلا بالأدب و بقضيته .
د. أنور غني الموسوي : الامساك باللحظة الشعرية في مجموعة (أساطير الزمن) للشاعر رياض الفتلاوي
تعليقات الفيسبوك