شوقي يوسف بهنام : الشابي ورسالته الى الله .. رؤية نفسية

shawki  5* مدرس مادة علم النفس/ كلية التربية/ جامعة الموصل

لنبدأ بالتعليق الذي كتبه الشابي لقصيدته المعنونة ” الى الله ” حيث يقول فيه ” تعرض لقلب الانسان الذي لا تنتهي اطواره ازمات نفسية ثائرة ، يعصف فيها الالم والقنوط بكل حقائق الحياة ، وتتزعزع معها كل قواعد الايمان والحق والجمال ، فيشعر المرء كأنما انبت ما بينه وبين الكائنات من وشائج الرحم والقربى ، فأصبح غريبا في هاته الدنيا الغريبة في نفسه ، وكأنما الحياة فن من العبث الممل الذي لا يجدر بالعطف ولا بالبقاء . ولكن من رحمة الاقدار انها حال عارضة لا تدوم الا كما تدوم عاصفة البحر . تكدر صفاءه ، وتحيل جماله الى شناعة ، وانغامه الى عويل ، وانسجامه الى فوضى ، ثم تقر العاصفة وتسكن ويرجع البحر الى زرقته الصافية ، والحانه المتزنة ، وجماله الساحر الابدي . وتحت تأثير هذه الحالة النفسية نظمت القصيد التالي ، ونفسي سكرى بأحزانها الدامية وآلمها المتشحة باللهيب ” (1) . هذا يعني من المقدمة التي كتبها الشابي لقصيدته هذه انما هي نتاج لتجربة نفسية قاسية وظروف جوانية عسيرة . مما جعله ان يسطر رسالته هذه . لنرى ما هي ملامح تلك التجربة التي عاشها الشابي حتى انه لا يجد من معين يلجأ اليه غير الله . يقول الشابي :-
يا اله الوجود ! هــذي جراح
في فؤاداي ، تشكو اليك الدواهي
هذه زفرة يصعّدها الهم
الى مسمع الفضاء الســـاهي
هذه مهجة الشقاء تناجيك
فــهل انت سامـع يـا الهـي ؟
(الديوان ، ص 178 )
*****************
نبرة الحيرة واللاادرية حول مستقبل النداء واضحة في هذه الابيات الثلاثة التي يفتتح شاعرنا ابو القاسم الشابي خطابه او رسالته او قصيدته المرسلة الى الله . انها صب للشكوى . الشابي لا يتوجه بخطابه هذا الى كائن اخر جدير بالثقة غير الله . الكون الواسع وصفه بالساهي .. اعني ان الوجود الفيزيائي لا يعبأ به . فهو ساه عنه منشغل بذاته او بغيره . نقطة مهمة ينبغي الوقوف عندها . وهي علامة التعجب التي الحقها شاعرنا بعبارة :-
يا إله الوجود !
****************
هذا النعت ، في تقديرنا ، يمثل نزعة أو ميل الى الشك لكن بصورة غير مباشرة . لا وعيه يرغب في القول ان هذا الاله ، وإن كان موجودا فهو ساه مثل مخلوقاته التي هي بطبيعتها صماء . وفي عجز البيت الثالث نرى استفهاما في نهايته . علامة الاستفهام هي الاخرى علامة من علامات الحيرة واللاادرية التي تنتاب هذه المهجة الشقية التي تنطلق منها تلك الزفرات الاليمة . في الابيات التالية يتقمص شاعرنا الكبير روح آدم عندما كان يتمتع بكيان ملائكي قبل السقوط واسقطه الله الى عذابات الارض وظلماتها . لنرى طبيعة تلك المأساة . يقول الشابي :-
انت انزلتني الى ظلمة الارض
وقد كنت في صباح زاه
كالشعاع الجميل ، اسبح في الافق
وأصغي الى خرير الميـاه
وأغني بين الينابيع للفجر
وأشــدو كالبلبـــل التيــاه
(الديوان ، ص 178-179)
***********************
abo alkasem alshabiإذن كان الشابي في علياء السماء وان الله هو الذي انزله الى الحياة الدنيا ، اذا استخدمنا تعبير الشابي نفسه . وهذه الصورة هي صورة آدم ؛ الاب الاول للبشرية عندما كان في الجنة قبل ان يقتربا هو وزوجه من الشجرة . كان الاول من بين المخلوقات واسعدها واوفرها نعمة . ينبغي ان نمعن النظر في طبيعة خيال شاعرنا في وصف مشاهد بداياته قبل ان يتلوث بلعنة الارض ان صح التعبير . فهنا نحن امام حالة تقمص او تماهي لروح آدم إن صح العبارة في بدايات تكوينه . يمكن القول اذن ان هذه الرسالة ليست رسالة الشابي بل رسالة آدم الى خالقه . في الابيات التالية تصب شخصية القصيدة كل اوجاعها وتعزو كل تعاستها الى ذلك الاله . ها هو يقول :-
انت اوصلتني الى سبل الدنيا
وهــذه كثيــرة الاشــتبــاه
ثم خلفتني * وحيدا ، فريدا
بين داع من الرياح و نـــاه
انت أوقفتني على لجة الحزن
وجرعتِّني مرارة ” مرارة ”
انت انشأتني غريبا بنفسي
بين قومي ، في نشوتي وانتباهي
انت كرهتني الحياة وما فيها
وحببتني جمود الساهي
انت جبلت بين جنبي قلبا
سرمدي الشعور والانتباه
انت عذبتني بدقة حسي
وتعقبتني بكــل الدواهي
(الديوان ، ص 179)
*******************
الشابي هنا يجسد لنا عذاباته مثلما استعرضها النبي ايوب عندما زاره بعضا من اصدقائه مستفهمين اسباب البلايا التي حلت به ولماذا هو دون غيره من البشر ؟ . فنطق ايوب وعزا كل تلك البلايا الى الله . خالقه ومصوره . ها هو الشابي ايضا يمارس ذات العملية النفسية التي تسمى بمركز الضبط الخارجي external locus control وهو مفهوم ادخله العالم النفسي الامريكي Rotter ويقصد به عزو مشاعر الفشل والاخفاق الحياتي الى قوة خارجة عن نطاق قدرات الفرد وامكانياته وكأن الفرد لا علاقة له بمسببات ذلك الفشل ويقابله مفهوم مركز الضبط الداخلي internal locus control وهو عزو الفرد لأسباب نجاحه الى قدراته وذكائه وفطنته ومهاراته . الشابي ، هنا ، مثلما فعل ايوب لا يرى في ذاته غير التقوى والقداسة والفضيلة ، والسؤال الذي حير ايوب ، ومن على منواله في التفكير ، وحالتنا هنا هو الشابي ، لماذا انا أتألم طالما لم ترتكب يداي اثما ما ؟؟ ! . من هنا الدوامة النفسية ، ان صح التعبير ، التي يمر بها صاحب هذه التجربة الحياتية المؤلمة . وليس غرضنا ، هنا ، ان نستعرض معالم وابعاد هذه التجربة . الشابي في الابيات الانفة الذكر يخاطب الله مباشرة ب” انت ” . لا اريد التعليق ، سايكولوجيا ، على مثل هذا الاسلوب في التخاطب مع الذات الالهية ، لاسيما اذا عرفنا مثلا ، الاطار المرجعي للمخاطِب . في تقديرنا الشابي يتملص ، اذا صحت العبارة ، من كل مسؤولية ذاتية لما قاساه في الحياة . وكأني به ينظر الى ذاته ندا مباشرا لتلك الذات !! . نحن نركز على عملية ممارسة الشاعر لآلية مركز السيطرة الخارجي . ان صورة الذات عند الشابي صورة مفرطة في المثالية بل في النرجسية . لا قلب شبيه بقلبه ولا شعورا في هذا الوجود ارهف من شعوره وهو الغريب الاكبر في هذا الوجود . انه وحده الملقى والمقذوف هناك في ذاك المكان القصي من اطراف العالم . مهموم بغربته .. مشغول بشقائه . انه الكائن العجيب … بل العجب بذاته !! . يشعر الشابي بان الله يطارده ويتعقبه ويلاحقه في كل زفرة يزفرها .. في كل خفقة قلب يخفقها قلبه .. في كل نظرة تنطلق من عينيه .. في كل حركة تخطوهما قدميه وكل اشارة من يديه . ماذا بقي من انا الشابي إذن ؟ الشابي استحال الى ” ربوت اعمى .. اخرس خالص إذن . الصورة التي يمتلكها عن ذاته قد سلبها الله أن صحت العبارة . في سفر ايوب التوراتي نرى وصفا لأيوب وهو يحاجج الله ويطالبه بالمثول امامه لكي يحضر وقائع المرافعة الكبرى التي يقترحها ايوب لكي يرى من هو المقصر والمسؤول من عذاباته ووراء شقائه وتعاسته . الا ان الشابي فاق ايوب في التصور النرجسي والتقدير المثالي للذات . ايوب لا يرى في ذاته كما يراها الشابي خصوصا قبل هبوطه الارض مثلا!! . الشابي كان هناك وحده مثل الشعاع الجميل يسبح في الافق ويصغي الى خرير المياه وكان اول من غنى للفجر بين الينابيع يشدو مثل البلبل التياه . هذه الصورة لا نجدها عند ايوب . ايوب فقط يتحدث عن ماضيه وحاضره الزمانيين . الشابي موغل في النرجسية ان لم نقل ان هناك غيرة من الله نفسه !! . في سفر ايوب ايضا نجد ان الشيطان ، وهو الملاك الساقط كما ترى التوراة ، يدخل في حساب مع الله . الشيطان كائن سباح في الهواء كذلك . انه اله الشر . الا يستطيع ان يوسوس ويقتحم قلوب الناس دونما استئذان ؟؟ . في هذه الرواية نجد ان الشيطان يستعرض قدراته وامكانياته حتى ان عبد الله ايوب ليس بمنأى عن تلك القدرات . يقبل الله التحدي !! . ويقول للشيطان تستطيع ان تفعل بأيوب ما تستطيع الا ات تمس روحه وقلبه . الشابي يصور نفسه مثل اي كائن لا ينتمي الى الارض روحا وجوهرا !! . انه ليس الا مقذوف اليها .. مرمى عليها ظلما وزورا . موطن الشابي هو بين الينابيع بل في مناهلها وبداياتها . مثل الشيطان المخلوق من مارج من نار بينما أدم من صلصال كالفخار . من هنا امتياز الشيطان ، كما يعتقد ، على آدم . الشابي ليس كائنا ارضيا اذن . يذكرنا مثل هذا النوع من التفكير بعبارة قالها شاعرنا الكبير ادونيس مرة :-
انا حجر ملقى من السماء
****************
هذا هو اصل الاعتقاد بالغربة النفسية لدى كل من يعتقد ان الارض كلها لا تتسع لمشاعره او قدراته او امكانياته . شاعر كان أو فنان او اي مبدع يريد ان يغير من مسار حركة التاريخ . لا نلغي من حساباتنا ايضا الاسس المرضية لهكذا مشاعر واحاسيس . يستطرد الشاعر المتاعب والمآسي والاحزان التي كان وراءها الهه هذا فيقول :-
بالاسى ، بالسقام ، بالهم ، بالوحشة ،
وباليأس ، بالشقا المتناهي
بالمنايا تغتال اشهى امانيَّ
وتذوي محاجري ، وشفاهي
فإذا من أحب حفنة ترب
تافه ، من ترائب وجباه
واذا فتنة الحياة وسحر الكون
ضرب من الغمام الزاهي
يتلاشى فوق الخضم ويبقى ال
ـــيم كالعهد مزبد الامواء
يا اله الوجود ! ما لك لا ترثي
لحزن المعذب الاواء
(الديوان ، ص 179)
*********************
تلك الابيات الانفة الذكر هي تتمة لما كان شاعرنا الشابي قد بدأ باستعراضه . هنا ايضا الشاعر لا يرى في ذاته اي مسؤولية يمكن ان تكون وراء متاعبه وشقائه واحزانه وغربته . كما اننا نلاحظ شعورا قويا بأن ثمة عبث متأصل في الوجود وان مظاهر الجمال التي تبدو لنا هي تجليات مزيفة لذلك العبث . وبالنتيجة فان المحصلة التي ينتهي اليها شاعرنا في هذه المقاطع هي ذات النتيجة التي وصل اليها فيلسوف التوراة الاكبر ” سليمان الحكيم ” وكما قدمها لنا في سفره الخالد .. سفر الجامعة لا سيما في افتتاحيته والتي يقول فيها ” باطل الاباطيل . الكل باطل وقبض الريح … ” المحصلة هي احساس عميق بلامبالاة السماء والهها لنداءاته التي طالما زفرها او حبسها في داخله او بين جوانحه الجريحة . انها شبيهة بتلك الصرخة المدوية التي يطلقها تائه في صحراء كبرى حيث لا يجد من يسمع ذلك النداء .. هنا نحن بصدد حالة يقين يظهرها الشابي .. بل يعلنها .. بان هناك اله لا يبالي به !! . في الابيات الاربعة الاخيرة من هذا المقطع يكشف لنا الشابي عن عمق معاناته وعن شدتها وعن عائديتها السلبية عليه .. ها هو يقول واصفا ذلك :-
قد تأوهت في سكون الليالي
ثم أطبقت في الصباح شفاهي
وتغزلت بالحياة ، وبالحـــ
ــب ، وغنيت كالسعيد الـــلاهي
وزرعت الاحلام في قلبي الدا
مي ، وحوطتها بكل انتباهي
ثم لما حصدت لم أجن الا
الشوك ، ما ترى فعلت ؟ إلهي
(الديوان ، ص 179)
******************
هنا نجد استعراض مرير لفشل وجودي دائم واحباط نفسي عميق رآه الشابي في حياته . المرارة والحزن والالم هي النغمات السائدة في موسيقى الشابي اليومية . نايه حزين دائما .. اوتار قيثارته او كمانه لم تعزف سوى سمفونية القدر او سمفونية العذاب . خرج ويديه لم تجني الا شوكا . على الرغم من احلامه وتفاؤله واستبشاره الدائم بالحياة . يتساءل الشابي عن ماذا جنت يداه ليحصد ما لم يكن قد زرعه . الا نجد ، مثلا ، تسللا لمزامير داوود في هذه الصور التي يقدمها لنا الشابي هنا في هذه الابيات ؟؟ . نترك هذا الامر لمزاج الضمير الانساني واحكامه !! . قلنا ان ايوب كان ، كما ورد في قصته التوراتية ، قد قدم احتجاجا ضد احكام الله واقداره لأنه كان يشعر ، تماما مثلما شعر الشابي بأن يداه لم تزرع الا خيرا ، فلماذا هذا الجزاء غير العادل لذلك الزرع ؟؟ . من هنا طلب ايوب والحاحه على ان تقام مرافعة كونية كبرى لكي تكشف فيما اذا كانت هناك يدا للعدالة في هذا الوجود . أم ان يد القدر الاعمى هي التي تهيمن عليه وتنفذ مشيئتها كما تريد . هذا ما يفعله شاعرنا الشابي في هذا المقطع من قصيدته او رسالته الحزينة هذه . ها هو يقول :-
يا رياح الوجود ! سيري بعنف
وتغني بصوتك الاواه
وانفحيني من روحك الفخم ما يبـ
ــلغ صوتي آذان هذا الاله
فهو يصغي الى القوي ، ولا يصــ
ــغي لصوت بين العواصف واه
وانثري الورد للثلوج بدادا
واصعقي كل بلبل تياه
واسحقي الكائنات كونا بكون ،
قبل ان تنتهي أذل تناه
فالإله العظيم لم يخلق الدنيا
سوى للفناء تحت الدواهي
(الديوان ، ص 179- 180)
************************
تلك هي اذن تجليات ذلك الاحتجاج الكوني الذي يظهره الشابي هنا . هو استغاثة بقوى الطبيعة الصماء .. صماء مثل الهها الاصم . نجد ايضا روحا انتقامية محبة للثأر لديه . طالما هو انه لم يجد اذنا صاغية من الهه فلينتهي الوجود ويعم العدم وتنتشر سحب اللاوجود . نجد هنا روحا كارهة للوجود لأن جورا وظلما يملآن الارض أو ارض ذاته . هذا الاله الذي حدثوه عنه ليس غير اله الاقوياء والجبابرة والطواغيت . لا مكان للضعفاء والمساكين ، مثل شاعرنا الشابي فيه . الشابي يتمنى العودة الى ما قبل الوجود .. او حالة الخواء الاولى او الكاوس ” كاوس : هو الربة الأولية لهذا الكون في الميثولوجيا الإغريقية وهي الربة التي تجسد المكان الغير محدد والمادة التي لا شكل لها والتي سبقت كل خلق وكل خليقة وكل ما هو معروف، كاوس كلمة إغريقية قديمة تكتب (χάος) وتلفظ [‘kha.os]. و كاوس بالإغريقية القديمة معناها الفراغ والظلام اللذان بلا حدود ويمكن أن يتم ترجمة معنى الكلمة أيضا بأنها الفراغ العشوائي الأولي للكون أو ما يسمى أيضا السديم الكوني الأولي.
وبحسب الميثولوجيا الإغريقية القديمة فإن كاوس هو الربة الأولية الذي أتت منه بقية الأرباب الأولية والتي تدعى أيضا بأرباب الخلق الأولى وهي تدل على كل ما كان موجودا قبل خلق الكون، وهكذا تكون كاوس هي الكتلة الأولية لهذا الكون المؤلفة من عناصر الطبيعة الأربعة النار والهواء والماء والتراب، والتي تبعثرت وتناثرت بكل الاتجاهات قبل أن تهدأ وتستقر. أما الشاعر أوفيديوس (Οβίδιος) فقد وصف الربة كاوس بأنها المادة الخام المنفجرة التي لا حياة فيها وهي الربة التي لا حدود لها ولا تكوين، إنها عبارة عن مجموعة بذور متضاربة تعمها الفوضى العادلة. وهي القاع الذي لا نهاية لعمقه وكل ما يقع فيها يكون منجرفا إلى ما لا نهاية هي نقيض الأرض ” جايا (Γαία) ” المنبثقة منها، هي المكان الذي لا اتجاه محتمل فيه، إن وقع فيها شيء تناثر بكل الاتجاهات، وهي الفضاء القاسم والفاصل ما بين السماء والأرض بعد انفصالهما عن بعضهم البعض “(2) . هذه الرغبة التي يكشف الشابي عن خفاياها هي ، في تقديرنا ، توظيف لعبارة شمشون التوراتي عندما حاصره اعدائه وكشفوا سر قوته وكانت في شعره الطويل فقيدوه وقصوا شعره واودعوه في السجن . وعندما كبر شعر شمشون قال عبارته المشهورة ” علي وعلى اعدائي ” . الفناء للجميع والدمار للكل طالما اني لا احصل على ما اريد وعلى ضياع حقي في هذا العالم . يمكن القول ان في هذا التصور نفسا نرجسيا عميقا . الشابي ، بهذا المعنى ، يضع ذاته في كفة والعالم كله في كفة اخرى . انها عودة الى مراحل النمو الجنسي الاولية بحسب فرويد اعني التمركز حول الذات egocentrism . الكون كله والله ليس لديهما شغل شاغل غير الشابي . انه مثل الصوفي الذي يعد نفسه ابنا مدللا للعناية الالهية !! . يطلب ما يشاء . يتمنى ما يريد . يملك بيديه فانوس علاء الدين حيث المارد المسجون فيه يكون رهن الاشارة لديه . والا فلا عدالة في هذا الوجود . وبغير هذا السياق يكون الله اله الاقوياء بالتالي . في المقطع الأخير من القصيدة نجد رغبة الشابي في اقامة المرافعة الكونية لإنصاف المظلومين والبؤساء والمساكين والحزانى واولهم بل اوحدهم شاعرنا الشابي الذي لا اله في الوجود الا الاله الذي يصغي اليه !! . يقول الشابي :-
يا ضمير الوجود ! يا عالم الاروا
ح يا ايها الفضاء الساهي
يا خضم الحياة ، يزخر في الا
فاق في الترب ، في قرارة المياه !
خبروني ، هل للورى من إله ،
راحم – مثل زعمهم – أواه
يخلق الناس باسما ، ويواسي
ـهم ، ويرنو لهم بعطف الهي
ويرى في وجوههم روحه السـ
ــامي ، وآيات فنه المتناهي
إنني لم اجده في هاته الدنـ
ـيا ، فهل خلف افقها من إله ؟ !
(الديوان ، ص 180)
*********************
يطرح الشابي هنا هما معرفيا او قل فلسفيا ان صح التعبير . هذا الهم هو فكرة الله لديه . هل هو موجود أم لا . سؤال حير البشرية منذ وجودها . ها هو الشابي حائر هو الآخر بهذا السؤال . الا انه سرعان ما يقدم لنا الحل او الجواب له . لا .. ليس هناك من إله لهذا الوجود . ويمعن في التساؤل ليقول هل من اله خلف هذا الوجود . هل نقول ان الشابي يعلن الحاده وجحوده لهذا الذي نعته بالخالق العظيم الذي يتباهى! بجمال مخلوقاته . ليس هذا فقط بل انه اله محب له مع خلائقه علاقة حميمية . انه الاقرب اليهم من حبل الوريد . الا ان هذه العلاقة السرية لم تكشف نفسها للشابي ولم تتجلى له . من هنا اعلانه بانه ليس ثمة اله . قديما قال صاحب المزامير ” قال الجاهل في قلبه ليس اله ” . هذا يعني ان الشابي من وجهة نظر صاحب المزامير شخص جاهل لأنه ينكر حقيقة الالوهية . وحتى لو لم يشك شاعرنا بوجود الاله ، الإ انه يشك برحمته . الايمان بوجود الله جانب والشك برحمته جانب اخر . ان شك الشابي من رحمة الله ويأسه منها ، على الرغم من ان العقل الجمعي من حوله زعم بغير ذلك . لقد زعم هذا العقل ان الله رؤوف وعادل ورحيم و..و .. الا ان الشابي لم يجد هذه الخاصية حتى لو كان الله موجودا !! . ويأتي اعتقاد الشابي بان الله ليس بالرحيم من عدم اصغاء الله لندائه وموقفه اللامبالي منه . لأنه لو كان رحيما ، كما يزعمون ، لاستجاب لصراخ الشابي الذي كان قد اطلقه عبر ليالي حياته التي عاشها في هذه الحياة . الا ان رياح الشك هذه بوجود الله او رحمته انتهت بالشابي الى اوجاع الندم (3) واحزان الاستغفار . يقول شاعرنا الشابي في وصف هذه الخبرة او النقلة النوعية في التفكير :-
ما الذي قد اتيتَ يا قلبي البا
كي ؟! وماذا قد قلته ِ يا شفاهي
يا الهي ! قد انطق الهم قلبي
بالذي كان ..، فاغتفر يا الهي
قدم اليأس و الكآبة داست
قلبي المتعب ، الغريب ، الواهي
فتشظى ، وتلك بعض شظايا
ه .. ، فسامح قنوطه المتناهي
فهو يا رب معبد الحق ،
والايمان والنور والنقاء الالهي
وهو ناي الجمال ، والحب والاح
ـلام ، لكن قد حطمته الدواهي
(الديوان ، ص 180)
*****************
تلك هي خاتمة الرسالة التي وجهها الشابي الى الله . وهي خاتمة طبيعية من شاعر ذو اطار مرجعي معلوم لا يمكنه ان يخرج منه او يتمرد او يثور عليه . وهنا ايضا نجد الشعور بضآلة الذات امام الذات الالهية وان قلب هذه الذات او جوهر كينونتها هو الايمان والنور والنقاء الالهي . والشابي واضح في تواضعه . انه يمارس آلية التبرير لما صدر منه من عبارات او شطحات او زلات لسان تعبر عن موقفه السلبي من الله ويعزوها الى هموم الحياة وضغوطها . يبقى القلب الانساني محافظ على ما غرز الله به من مشاعر وعواطف رغم رياح الشك والحيرة والتساؤل ..
الهوامش :-
1- الشابي ، ابو القاسم ، 2005 ، الديوان ، تقديم وشرح : احمد حسن بسج ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ط4 ، ص 178 .
* وجدنا المفردة بهذه الصورة ونعتقد ان الاصوب هو ” خلقتني ” وليس كما ورد اعلاه والله اعلم !! .
2- راجع مادة ” كاوس ” في الموسوعة الحرة ” ويكيبيديا ” على شبكة ” غوغل ” في الانترنيت .
3- عنوان دراسة متواضعة كنا قد كرسناها لمجموعة الشاعر العراقي الكبير ” عبدالرزاق عبد الواحد عن مجموعته الموسومة ” في مواسم التعب ” .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *