أوستن – تكساس
عنوان صادم للشعور و الاحساس ، و تسمية جد مقرفة للعواطف الانسانية المؤثرة للرفق و الحدبِ و الاشفاق ، و اللذين يعول عليهما الدارس المصري مصطفى عبد الغني في النيل من قدرِ طه حسين و الاستلال من مكانته و خطورة شأنه في أنظار عموم مبتغي المعرفة و ناشدي الحقيقة و المتطلعين لالتماس النور و السواء و السداد في استجاباتهم و تصرفاتهم ، و قطعهم البات في أحكامهم بخصوص اي مشكل و حادثة و عارض في دنيا الناس لو استشيروا او اُستمزِج رأيهم فيها جميعا .
والعنوان الكامل لهذه الاكتوبة الجارحة هو ” طه حسين و ثورة يوليو ، صعود المثقف و سقوطه ” ولا يشفع له في احتسابها من قبيل الصراحة و الحياد او الموضوعية كي تُمرر و تنطلي على الافهام و الاذهان ، متوقلة في ذلك على ذريعة ودعوى مفادها ان موقفه من طه حسين ” هو موقف الود الشديد ” !
لكن لنا ان نثني و نُشيد بما حُبي به المؤلف من فتاء و عزم و إرادة في نوال بعض طمحاته و رغباته الشخصية في مواصلة و استمراريةٍ و دأبٍ ، و في اقصر ما يمكن تحقق ذلك كله من الوقت ، ألمّ خلاله بنصيبٍ كبير مما أسلفه الرواد الاوائل للثقافة العربية و استوعب تراث عميد الأدب العربي على وجه الخصوص منها ، و خَلص الى موالاة تحصيله العلمي في المدارس فالجامعة ليظفر بشهادة الدكتوراه حول مثقفي بلاده و شؤونهم و ينساب منها من بعد و قبلها في الحياة الادبية لا مدعيا او مدخولا بل مطلاً على لداته في مهنة القلم بجملة كتب منها ما تبحث في قضايا المسرح و مؤثرات الثورة العُرابية و حالات التحول في المواقف و التوجهات في مسالك بعض الادباء و يعدوها الى الاهتمام و العناية بحكاية شهرزاد في الفكر العربي ، و يجاوز ذلك ابعد و اكثر الى ترجمة أشعار أراجون عن الفرنسية اثر توقه للمداخلة في موضوعة الأدب السعودي و مُؤرخي الجزيرة العربية حديثا ، فنجتلي مثابرته و نشاطه الجم و إسهامه المتنوع في حقل الثقافة هو المتولد و البالغ سنوات خمساَ حين قامت ثورة يوليو 1952م ، فهو كما يقول ابن هذه الثورة المطوِحة بالنظام الملكي ، وقد لا يفقه ما استولى على الملأ يومها من تعاطف حِيـال رجالاتها و أهدافهم ، أو يعي سوء أوضاع الشعب المصري ، وفرط استنامته للهوان و الذل ، و تحمله ما لا يطاق من تعسف حاكميه ، رغم ما يستجد مرات ويحصل من استهجان جمهرة من الوعاة و المتنورين لهذا النمط السمج في الإدارة و الحكم ، أقول كل هذه الالوان من الوعي و الادراك و الاستجابة ، و نتخطاها الى معاني الحتمية و الضرورة و تلبية نداء الاكثريات الساحقة للخلاص من نير القهر و الإستعباد ، لم تكن لتخالج وجدان مَن يجوز عمر خمس سنين و في منتهى الغرارة و السذاجة و انعدام التبصر في الامور مهما توسم فيه ذووه مخايل النجابة و النباهة و الذكاء في المقبل من الايام .
أول ما يجملُ بنا الاشارة اليه هو إلحاقه ختام تقصيه و تقريه طباع طه حسين في التشدد و الاصرار لحد العناد على رأيه و موقفه كل مرة ينبري فيها لصدم الجمهور بوجهات نظر شتى مناقضة لتفكيره و معتقده ، متوخية ان تحدث تغييراً و تبدلاً في الافهام و العقول ، قلت إلحاقه الوثيقه ذات العنوان المستفز لدخائل الاشياع و المتجاوبين في طوياتهم و سرائر نفوسهم وحقائق ضمائرهم المنحسرة و المكشوفة حيال زعيم الامة و مريد الاستقلال و الحرية ، مع شيء من التساهل و النكوص و المسايرة و التطامن في الكفاح درجَ هو على انتحال غير مسوغ وتعلة ليقبله الناس و لا يتمادون في مساءلته و انتقاده عليه ، فكيف بهم اذا طالتهم ” صورة من الوثيقة المدوَن فيها تحقيق مع طه حسين بعد إهانة سعد زعلول ، أو لا بعد اهانته لسعد زغلول ، يا لسر الحرف العربي في اثره و جدواه في تبيين المعنى اكثر و تشخيصه في الغاية من الصحة و الدقة ؟
فقد رفد استاذ الاداب في الجامعة المصرية القديمة إبان سنة 1924م ، ثلاث صحف هي السياسة و الاهرام و الاستقلال ، بجملة مقالات مذيَّلة تارة باسمه الصريح او متخفية وراء توقيع ” ساخط ” يهاجم فيها بعنف حكومة حزب الاغلبية و على رأسها سعد زغلول و يعدوها الى السخرية المتشفية بخطالة أّي من وزرائه في إنجاز المهام و الشؤون و تطمين حاجات الناس صادعا في ذلك و متأثرا بمواقف زعامات حزب الاحرار الدستوريين الذين ارتبط بهم بشكل ما من اشكال الانتماء او ما ثلهم في ما تهجس به نفوسهم أو يتمنونه لمصر من الاستقلال الحقيقي عن ايما تدخل اجنبي في العارض و الهين من امرها ، على ما وُصِموا به من تحدر بعض رجالاتهم و انضوائهم في بيوتات متملكة للضياع و الثروات او مستأثرة بالوجاهية و الامتياز فيوعز سعد بدوره للنيابة لتجري تحقيقا مع طه حسين و تَدينه بالجرم لقاء طعنه و نكايته برموز السلطة ، مجردة اياه من ادعاء النزاهة و ابتغاء الصالح العام ، فكان جوابه المبتسر لها مقتصراً على عبارة محتويةٍ مفردتين ” لا أُجيب ” و الثالثة المتممة و الموضحة له بجلاء ، هي هذا الضمير المستتر لقصد و غاية يفقههما المطلعون على اسرار اللغة العربية .
وتهمنا تلك المقالات التي يسبغ عليها صفة العاتية مَن عثر بها في دار الوثائق المصرية على اساس انها موضوعات منشورة في جرائد ايام زمان ، انهد المؤلف لنقلها منها ” طبق الاصل ” و دون ان يفرط بواحدة منها . و العجيب انه اذ عاود على مكانها و موضعها من الدار اكتشف ضياعها ، وهذا ليس مستغربا ، فكثيرا ما يقع بايدينا كتابٌ في المكتبات العامة انتزعت منه ورقات ايادٍ لباحثين وراء محصلات العلم عجز اصحابها او ونوا في الانقطاع لتدوينها ثانية فجنحوا لهذه الوسيلة اليسيرة من وسائل الاستلاب و السطو و التي لا تُجسمهم عناء و تقتضيهم جهداً و تكبدهم مشقة ، على تيقنهم أن فعلتهم الشوهاء هذه منافية لروح العلم و العرفان اصلاً.
ومهما كانت عليه مضامين المقالات التي غدت اليوم شبه منسية ، من اشتمالها على الوان من القدح و الطعن و التجريح ، و فنون السخر الاستهزاء و التهكم بحيث اهتز لها أو تأذى منها ، كل مَن نالته قوارصها و لذعاتها ، فاستنجد بالنيابة العامة لتمارس صلاحيتها في الحد منها ، و تثني كاتبها عن مواصلتها و اللجاجة فيها ، فانها تمثل سابقة لطه حسين في كتابة المقالة السياسية ، لنستكنه منها مدى مطاوعة اسلوبه المعهود في الافصاح و البيان ، و مساوقته لأربته هو الناثر الممتاز و ذو الاهتمامات المتوسعة و الالتفاتات القوية لعموم مشكلات المصريين و يلفيها أحرى بالمعالجة و العناية ، ومنها مثلا معضلة المتبطلين من المتخرجين في المعاهد الدينية و ضرورةإيجاد حلٍ لها ، حيث كان يكتب و ينشر في الصحف عين الوقت الذي كان يناجز فيه السياسيين و يخاصمهم ، مقالاتٍ تطالب بانصافهم و يستحثُ من بيدهم الامر و النهي ، على توقيتهم و تجنيبهم الاجحاف و الغبن ، و معاملتهم بما ينبغي من الرعاية و العدل ، و بذا نهج في كتابته هذه اتجاهاً و خطةً غير ما تكشف عنه و سلكه من قبل ، و قد صيّر من اكتوباته في هذا المجال السيد سند الكيلاني كتابا فردا في ادب السياسة و سياسة الادب ، و ذلك بُعيد غياب عميد الادب العربي وتواريه عن هذا العالم ، فما اجدر بمؤلف كتاب ” طه حسين و ثورة يوليو” ان يتعهد لا غيره بطباعة تلك الاضمامة من المقالات المأثورة في انتقاد حكومة سعد زغلول في عام 1924 م ، على ما شابها – اي المقالات – من تطاول و تقُول و استكثار و تزيّد ، علما ان ندر في تواريخ الدولات و الحكومات ان لا تمنى بالفشل او الحنث في نجاز وعودها للشعب بان تسعده و تخفف عن كاهله ما يضنيه في حياته من غلاء الحاجيات مثلا ، او تلكؤها في تنفيذ مشروعاتها و خططها جميعا في تشييد المعاهد و المشافي و تعبيد الطرق ، كأحد وجوه الاصلاح و تهيئة الناس لألفة الحضارة و العيش في الحياة العصرية ، فالمهم و هو تحضن تراث هذا الكاتب المرموق و صون ما تفرق وتبدد من نتاجه النثري خصوصا في صحائف ومجلات قديمة لم يتسنَ له استجماعه في سِفر على بذله جهده الطائل في تصنيف ما استذكره .
و النتاج هذا بلغ حدا و درجة من الغزارة و التعمق في فحواه و محتواه ، فضلا عن خلوص نية كاتبه و نبالة سريرته و صحة مقصوده من كل ما اعتزمه و ابتغاه من الخير العميم لمصر وشعبها لاسيما الفئات و الطبقات المسحوقة حيث نادى و أهاب بالمسؤولين و المتولين شؤونها في مخلتف العهود ، ان يشفقوا عليها من آفات الجهل و الفقر و المرض ما وسعهم ، قلتُ ان نتاجا ادبيا مكتملا و مستوفيا ميزاته و خصائصه يستدعي منا الانبهار و العجب مما يخيل لبعضنا نحن معاشر القراء ، استسهال محاكاته و الجري على منواله و ترسمه في بيانه و اسلوبه ، و مجاراته في تموسقه و رشاقته لاسيما انه يستخدم الفاظا و كلمات مألوفةٍ تغلب عليها البساطة ولا يحوج فهمها استعانة بمعجمٍ لتفسير ما قد يبين فيها من إبهام و إعضال، و هنا يكمن سر الاعجاز الذي يتفرد على وفقه تعبيره المتدفق بخصيصة بعينها من الروعة و العذوبة و الاسر و التأثير بالنفوس و الاستيلاء على شخصية الاخر ، كل ذلك يستتم و يتوافر بمطاوعة و تلقائية و عفوية ، و بمبعدة عن التكلف و الافتعال و التحذلق و الحمل على النفس فوق طاقتها الى ما يّكل بياني عن التوفق لتصويره و الابانة عنه ، وأخال ان هذه المواصفات الاسلوبية وحدها بمثابة خير شافع لطه حسين ازاء ما قد اجترحه ابان فترات من حياته من بعض الخطأ في تقييم هذا السياسي او ذاك بالغ الدكتور مصطفى عبد الغني و غلا وجاوز الحد المعقول و المقبول في التوسعة من حجمه و تضخيمه ، وبعنونة الصعود و السقوط و اللفظة الاخيرة يمكن ان تخرِج لها و منها معنى تردي السمعة و سوئها ، وإيابه بقلة ثقة الفرقاء ومَن يعرفهم من طلابٍ و أساتذه بجميع ما يصدر عنه من احكام ويستند اليه من قياسات في المسائل الادبية و القضايا السياسية.
واشهد انه اتى على استعراض الاحوال الثقافية في السنوات الخمس الاخيرة – من النصف الاول للقرن الماضي و التي غطت الحقبة الزمنية عُقيب الحرب العالمية الثانية اي من سنة 1945م – 1950 م – والتي شهدت و لادته اي ولادة المؤلف مصطفى عبد الغني و اطلالته على عالم الكون و الفساد في سنة 1947 م ، إذ ازدانت المكتبات بكتاب (جنة الشوك) المُكتنز و المشحون بالايماء و الرمز للملك فاروق ، ومن ثم يعقبه (مرآة الضمير الحديث أو نفوس للبيع في طبعة ثانية سنة 1949م وروايته الناقصة (ما وراء النهر ) و نشرت كونها نتاجا قصصيا متتابعا او مقالاتٍ افتتاحية لمجلة الكاتب المصري وجمعها و نسّقها من بعد في ستينيات القرن الفائت زوج ابنته الدكتور الزيات ، ثم رواية للفرنسي فولتير بعنوان (زاديج او القدر) عام 1947م ، طُرِحت وقتها في السوق كعددٍ من مجلة الكاتب المصري ، وفي صفحاته الاخيرة طبعت مواد يسيرة مكملة لصفحات العدد ذاك ثم صدرت ثانية منتزعة منه في سني لاحقة ، واخيرا (المعذبون في الارض) عن بيروت اولاً و القاهرة ثانياً سنة 1949م1 .
و أرى ان أفضل مَن صوّر هذه الحقبة القصيرة وجوّد في بيانه عنها وما جدّ في الحياة المصرية من تململ و صِدام الفئات المتنورة بسلطات الوزارات المتعاقبة ما بعد الحرب ، و إطباق حالةٍ من الحزن و الإكتئاب و إنفضاض الاعزة و النصراء من حولِ طه حسين و لياذه واجما بالعزلة و الانكماش خاصة بعد اغلاقه النهائي لمجلة (الكاتب المصري) التي يتولى تحريرها ، وما رافق ذلك من بعض التقولات و الاراجيف و الطعون ، قلت ان خير من عنّي و بلغ مبلغا من التألق فيه و الاستواء على الامد هو مريده الدكتور الويس عوض 2 ، واحدٌ من طلابه في الجامعة بالامس البعيد ، ورافدُ مجلته الكاتب المصري بمباحثه و دراساته في الادب الانكليزي و أحد من استبعدهم و حلأّهم العسكر عن مراكزهم في الجامعة لاسبابٍ واهية ، فطاف في الولايات المتحدة الامريكية زمناً ورجع منها عُقيب العدوان الثلاثي ، فعوّلت صحافة النظام بجملة اقطابها و اساطينها على مؤهلاته الكتابية في تحريرها ، مُوفدة اياه كل مرة الى العواصم الاوربية ليطلع على التقليعات الجديدة لشبابها من ثورتهم على السلطات الفرنسية او مسرح اللامعقول او ظاهرة الهيبز او ما يرتجيه الايرلندي (صموئيل بيكيت ) للحياة الانسانية و البشر المعذبين من الله شمولهم برحمته الواسعة او يبقيهم رهن تخبطهم وضلالهم الى ابد الابدين و يُوئسهم بالمرة من عودة جودو فقد لا يأتي ألبتة !
تُرى متى يأتي جودو الينا ليصلح الأوضاع العراقية ؟!
ويقينا “هذي الغباوات الكريمة و الجمود المستطاب” !
1. ذكر المؤلف هذه الكتب الثلاثة كونها صدرت لوحدها مكتملة انذاك كلٌ حسب تاريخه ، ولم يفطن الى ان معظم موادها وفصولها هي مجرد افتتاحيات لمجلة الكاتب المصري ، التي لم يأتِ عليها اصلا ، وكان يحسنُ ان يمر بها اثناء تعريجه على كتاب ( ألوان ) الذي هو بالاساس فصول أستهل بها اعداد مجلة الكاتب المصري ايضا .
كما ان كتاب (تقليد و تجديد) يشتمل على احاديثه الاذاعية نشره بعد وفاته الكاتب السوري الراحل شكري فيصل ، وتلاه بطباعته له كتابا ثانيا مهما هو ( كتب و مؤلفون) المحتوي دراسات نقدية ذات شأنٍ لنتاجات مؤلفين بارزين .
2. موضوعات لويس عوض عن طه حسين ، منشورة في كتابه (الحرية و نقد الحرية) ,
مهدي شاكر العبيدي : عن صعود المثقف و سقوطه
تعليقات الفيسبوك