الأسلاك الشائكة
اختبأتُ خلف الأجمة ، عندما توهجت العين الكاشفة ، وراحت تجوس الأرض بحثاً عني .اللعين ، كاد يقتلني ، وشعرتُ بشيء دافيء يسيل فوق ساقي ” دم ! يا إلهي ، إنني مصاب ” .
انطفأت العين الكاشفة ، ونشر الليل عباءته فوقي ، أه الجرح يشل ساقي ، والدم ما يزال ينزف ، لكن يجب أن أصل المخيم ، ماذا سيقول الجد عني إذا ضعفتُ ، وتهاويتُ على الطريق ؟
تحاملتُ على نفسي ، وتسللتُ من الأجمة ، المخيم ما زال بعيداً ، يجب أن أصل ، سيفرح الجدّ عندما أخبره بأني تسللتُ إلى المستوطنة ، لكن الجدة ستغضب مني ، وتتهم الجد بأنه يفسدني بأحلامه .ولكن الجد رجل عجوز، وكان عليّ أن أحقق أمنيته قبل أن يرحل ، وذات يوم ، قلتُ للجد :
ـ جدي ، لماذا لا نعود إلى قريتنا ؟
همّ الجد أن يردّ عليّ ، لكن الجدة سارعت إلى القول :
ـ لم تعد قريتنا موجودة ، لقد هدمها الأغراب ، وبنوا مستوطنة مكانها .
احتدّ الجد ، وقال بصوت مرتعش :
ـ لكن البيارة وشجرة التوت والعين ما زالت موجودة .
قالت الجدة :
ـ إنها ليست لنا الآن .
تملكني الغضب ، وقلتُ بحدة :
ـ كلا ، إنها لنا ، وستلقى لنا .
سأذهب إلى الأغراب ، وأطردهم منها .
هرعت جدتي إليّ ، وضمتني إلى صدرها ، وقالت :
ـ لن أدعك تذهب ، سيقتلونك إذا اقتربت من المستوطنة.
قد يسألني الجد عن شجرة التوت ، لن أكذب عليه ، لقد وجدتُ البيارة ، لكنب لم أجد شجرة التوت ، يبدو أن الأغراب قد قطعوها ، أما العين ، فقد بحثتُ عنها حتى وجدتها ، لكني حين هممتُ أن أشرب من مائها ، فاجأني جندي يحمل نجمة سداسية ، ورشني بوابل من الرصاص . ترى هل رآني الجد ، وأنا أتسلل إلى المستوطنة ؟ من يدري ، لقد سمعته يناديني ، حين تسللتُ من المخيم تحت جنح الظلام ، لكني لم أردّ عليه، فأنا لا أريد أن يتبعني إلى المستوطنة ، فقد يراه الأغراب ، ويطلقون النار عليه ، وفجأة اشتعلت عشرات العيون الكاشفة ، وانطلقت النيران من مكان ، ووسط هذا الجحيم ، رأيتـ الجد يتهاوى فوق الأسلاك الشائكة ، وهو يمدّ يديه المضرجتين بالدم نحوي .
الشيخ والعصفور
خيل إليّ أنني انتهيتُ ، فلم يكن حولي غير العتمة والصمت ، لكني سرعان ما أدركتُ أنني ما زلتُ حياً ، لقد انهار الكوخ فوقي ، وكيف لا ينهار والقنابل الصهيونية تدك الأرض دكاً ؟
مددتُ يدي ، وأزحتُ بعض الأنقاض ، ثم زحفتُ إلى الخارج ، وارتميتُ كالميت على الأرض .
سمعتُ شجرة الزيتون تنوح ، وتناهت إليّ صيحات العصفور ، المسكين ، يبدو أن القصف قد طاله أيضاً . حاولتُ أن أنهض ، لكني لم أستطع ، لعل .. سالماً .. على حقّ ، إنني شيخ كبير ، ولكن حين قال لي : هاجر .
لم أتمالك نفسي ، وصحتُ بصوت مختنق : كلا .
فقال ، وهو يجلس إلى جانبي : لم يعد لك شيء هنا .
فقلتُ بإصرار : لي أرضي .
هزّ سالم رأسه ، وقال : أنت شيخ كبير .
فقلتُ بصوت مفعم بالأمل : سيعود ابني .
تطلع سالم إليّ لحظة ، وقال : لكنه قد لا يعود .
لم أرتح لصوته ، لكني قلتُ : سيعود حتماً .
هزتني صيحات العصفور ، فرفعتُ صوتي بصعوبة ، وإذا به يحوم حول جثة صغيرة ، كانت ملقاة قرب عشه المحطم ، فتحاملتُ على نفسي ، وأخذت جثة العصفور الصغير بين يديّ ، ومع المساء واريته التراب .
هبط الليل ، فتكورتُ تحت شجرة الزيتون ، وأغمضتُ عينيّ ، وقبل أن أغرق في النوم ، تمنيتُ أن يأتيني ابني في المنام ، ويقول لي : ابقّ يا أبتي ، سأعود . لكني رأيتُ سالم .. ينظر إليّ في حزن ، ويقول : هاجر .
أيقظني الفجر ، فحملتُ عصاي ، وانحدرتُ مع الطريق، إنني شيخ كبير ، ومن يدري ، فقد لا أعود ثانية و .. ووجدتني ألتفت إلى الوراء ، لألقي نظرة أخيرة على أرضي ، كان العصفور يبني عشاً جديداً فوق شجرة الزيتون ، ألقيتُ عصاي بعيدً ، وعدتُ لأبني كوخاً جديداً، وحياة جديدة ، فوق أرضي .
شاحنة يوسف
مرة أخرى جاء ، إنه هو نفسه ، لم أنسه ، وكيف أنساه وقد كان وراء ما حدث للعزيز .. يوسف .
طرق الباب ، مثلما طرقه من قبل ، وبل العزيز يوسف ، أطلّ هذه المرة أبوه ، بوجهه العجوز ، وعينيه الطفلتين ، وكأنهما عينا يوسف نفسه .
سالت ابتسامة لزجة فوق شفتيه ، ثمّ أشار إليّ ، وقال : هذه الشاحنة نريدها ، وسنعطيك ما تحدده لها من ثمن .
ومثلما قال يوسف : لا .
وأضاف : لن أصارع باسمكم ، إنني فلسطيني .
قال أبوه : لا .
ثمّ أضاف : لن أبيعها ، إنها شاحنة يوسف .
قال الرجل ، وابتسامته مازالت تسيل لزجة فوق شفتيه ، لن يوسف ..
قاطعه أبو يوسف : يوسف لم يُصرع ، لقد غدرتم به ، نعم ، لكنه لم يُصرع .
قال الرجل ، وابتسامته تتراجع مصفرّة : مهما كان الأمر ، فلم يعد لوجود هذه الشاحنة هنا من معنى .
عندئذ صفق أبو يوسف الباب في وجه الرجل ، وهو يقول : هنا مكان الشاحنة ، وأنتم تعرفون ما تعنيه .
رمقني الرجل بحنق ، وقد جفّت ابتسامته ، ثم مضى لا يلوي على شيء . يا للحقارة ، إنهم يريدون أن يتخلصوا مني ، لأني أذكّرهم بكلمة ” لا ” التي قالها في وجوههم ، العزيز يوسف ، كأنه لم يكفهم ما فعلوه بنا ، حين تصدّوا لنا ذات ليلة ، وأمطرونا بالرصاص ، إنني هنا ، شاهداً من شهود مخيم البريج ، إنّ الجميع هنا يعرفونني ، ولن يفرطوا بي ، وكيف يفرطون بي ، وأنا شاحنة بطلهم .. يوسف ؟
نحن على الأبواب .. نحن قادمون
أعلنت شجرة برتقال وارفة ، الإضراب عن الطعام في بستان بالأرض المحتلة ، احتجاجاً على قيام جنود الاحتلال باعتقال البستاني العجوز الطيب أبي سلام .. ومصادرة كوخه وبستانه وحماماته البيضاء ، وطرد زوجته وأبنائه وحفيدته الصغيرة من القرية .
لكن جنود الاحتلال لم يحفلوا باحتجاج شجرة البرتقال ، ولم يبالوا بالأخطار المحدقة بها ، ومضوا في اضطهاد البستانيين ، ومصادرة ممتلكاتهم ، وتشريد أبنائهم خارج حدود الوطن .
ومع الأيام ، أخذت شجرة البرتقال الوارفة تذوي ، وراحت أوراقها النضيرة تذبل وتتساقط في حزن كالعصافير القتيلة ، وفي همّ وقلق ، لاحظت شجرة الزيتون ما أصاب رفيقتها شجرة البرتقال ، فسألتها باهتمام ، وهي تتمعن فيها ..
ـ ما لك ، يا رفيقتي ! هل أنت مريضة ؟
ـ كلا ، لست مريضة ، إنني مضربة عن الطعام .
صاحت شجرة الزيتون في دهشة :
ـ مضربة ! ولكنك قد تموتين ، يا عزيزتي .
ـ لا يهمني أن أموت ، لكني لن أزهر لجنود الاحتلال ، ولن أسمح لهم أن يتمتعوا بأثماري ، ألم تري ما فعلوا بالبستاني العجوز ؟ هل رأيت كيف أشعلوا النار بكوخه ، وذبحوا حماماته ؟ أرأيتهم وهم يجرونه في الليل كالذئاب ، بعيداً عن بستانه ؟ إنهم وحوش ، ولن أثمر لوحوش متعطشة للدماء ؟
وفي حنان مدت شجرة الزيتون ذوائبها الخضراء ، وراحت تمسد أغصن شجرة البرتقال ، وتشد على جذعها ، وتدفيء عروقها الباردة ، ثم قالت في هدوء طيب : رفيقتي العزيزة ، لست وحدك ضد جنود الاحتلال .
فقالت شجرة البرتقال :
ـ ولكن لا يكفي أن نمقتهم ونحقد عليه ، يجب أن نفعل شيئاً .
ـ نعم ، ولكن لا ننتحر ، أو نموت جوعاً .
لاذت شجرة البرتقال ، فأضافت شجرة الزيتون : نحن أشجار فلسطين ، ولدنا وترعرعنا على أرض فلسطينية ، يجب أن نستمر على الحياة ، لا من أجل جنود الاحتلال ، لا من أجل القتلة الفاشست ، بل من أجل فلسطين ، إن وراء الحدود وفي المخيمات ، يا رفيقتي ، أطفال يكبرون كالقمح في شمس والمعاناة والنضال ، فسيأتون إلينا حتماً ، فهل تريدين يا عزيزتي ، أن يروك خشبة ميتة حين يأتون ؟
صاحت شجرة البرتقال ..
ـ كلا ..
ابتسمت شجرة البرتقال ، وقالت في حنان ..
ـ أزهري إذن يا عزيزتي ، وتأهبي للعرس القادم ، إنني أسمعهم في المخيمات ، وراء الحدود ، يضجون .. نحن على الأبواب .. نحن قادمون ..
وكما الضياء تدفقت إرادة الحياة في شجرة البرتقال ، فحركت جذورها العطشى في رحم التربة الطيبة .. تربة الأجداد .. فلسطين .. وراحت تعبّ الحياة .. وتصنع الأمل .. والغد .. لفرسان أطفال .. قادمين بالحب والسلام.
أم فاطمة
قبلتني فاطمة ، وقالت وهي تبتسم لي : ماما ، ارحمي نفسك ، إنني بخير .
لم أستطع أن أقول شيئاً ، فقد حبست الدموع كلماتي ، نعم ، إن ابنتي فاطمة بخير ، وكف لا تكون ” بخير ” ، مادامت تعيش منذ سبعة أشهر في سجن العدو الصهيوني بالقدس ؟
صرختُ في المحكمة ، أن يرحموها من أجلي ، خمسة عشر سنة ، لكن ماذا فعلت ؟ لقد ألقت قنبلة يدوية على دورية للعدو في أحد شوارع القدس .
فاطمة ، ابنتي فاطمة ، تفعل هذا ؟ لم أصدق ، لكنهم حكموها بخمس عشرة سنة . وحين سألها صحفي صهيوني ، لو عفت المحكمة عنك ، ماذا تفعلين ؟
أجابت بهدوء : ألقي قنبلة ثانية .
وهذا ما يفعله أخوها أحمد ، لقد علمتُ ولديّ الكثير بعد أن مات أبو أحمد على أرضه ، والآن عليّ أن أتعلم منهما ، إنني أعرف الطريق ، وسأمضي فيه حتى النهاية .
في الموعد المحدد ، جاء أبو نضال ، وتطلع إليّ من وراء نظارته الطبية ، وقال : كيف الحال ؟
أجبت : ـ بخير
ـ وفاطمة ؟
تنهدتُ ، وقلت :
ـ تقول إنها بخير .
ابتسم أبو نضال ، وقال :
ـ إذن لابد أنها بخير.
قلتُ :
ـ إنها وراء القضبان ..
أجاب بثقة :
ـ فاطمة لا تخشى شيئاً
ـ وستبقى خمس عشر سنة ..
ـ ربما لن تبقى هذه المدة ..
تطلعت إلى ” أبو نضال ” ، وقلتُ : خذوني مكانها ..
ابتسم أبو نضال ، وقال بحنان ، وهو يربت على كتفي :
ـ ألا يكفي ما قدمته يا أم فاطمة ؟ أنت الآن امرأة مسنة ، نحن نقدر موقفك ، ولكن نرجوك أن ترتاحي ..
أرتاح ؟
أين ؟ في المخيم ؟
وكيف يمكن أن أرتاح ، وفاطمة في السجن ؟
خمس عشرة سنة ، ترى .. هل سيقدر لي أن أراها حرة مرة أخرى ؟من يدري . نظرتُ إلى ” أبو نضال ” ، وقلتُ :
ـ قد لا أستطيع أن ألقي قنبلة كابنتي فاطمة ، ولكن لابد أنني أستطيع أن أفعل شيئاً ..
تطلع أبو نضال إليّ ، ولم يتكلم بشيء ، فقلتُ بحرارة :
ـ أبو نضال ، أرجوك أصغ ِ إليّ ، إنني لا أريد أن أخجل ، إذ يتحرر الوطن ، لأنني لم أفعل شيئاً من أجل تحرره .
ابتسم أبو نضال ، وشدّ على يدي ، نعم ، لم يكلفني أحد أن ألقي قنبلة ، فأنا امرأة عجوز ، لكنهم كلفوني أن أحمل رسالة ، آه .. ترى من يتعقبني ؟ كلا ، لن أبالي بشيء ، فأنا أم فاطمة ، وهذه الرسالة يجب أن أوصلها ..
البشارة
فتح الشيخ عينيه المطفأتين ، وأصغى بأمل ، ثم قال لي : أصغ ِ ، إنني أسمع وقع أقدام .
فقلتُ له : إنهم حراس المستوطنة .
عندئذ زمّ الشيخ شفتيه ، وتمتم : آه لو أنّ بارودتي معي .
ابتسمتُ بأسى ، المسكين ، ما زال يحلم ببارودته ، إنه لا يعترف بالهزيمة ، لق اغتصبني الأغراب منه ، ولم يتركوا له مني سوى الحفرة التي يرقد فيها .
وفتح الشيخ شفتيه اليابستين ، وقال : يبدو أن الليل قد حلّ.
فتطلعتُ حولي ، وقلتُ : نحن في منصف الليل .
ـ والقمر ؟
ـ يسبح في السماء .
تنهد الشيخ ، وقال : كان القمر دائماً رفيقاً لنا .
ـ لقد أصبح بعدكم رفيقاً للحزن .
آه لابد أنّ القمر يطلّ الآن على حفيدي ، ويحدثه عني ، ويخبره بأنني أنتظره .
ـ لقد كبر حفيدي الآن ، وأصبح رجلاً ، ومن يدري ، لعله تزوج ، وشيد له بيتاً في مكان ما .
احتدّ الشيخ ، وصاح بانفعال : كلا ، بيته هنا ، لقد ترعرع في أحضانك ، وعليه أن يعود إليك .
ابتسمتُ بأسى ، وقلتُ له : نم الآن يا عزيزي ، أنت متعب.
تنهد الشيخ بحسرة ، ثم أغمض عينيه ، وهو يتمتم : لا أستطيع أن أنام ، لا أستطيع ، آه لو أنّ بارودتي معي .
هدأ الشيخ ، وبقيتُ وحدي مع الليل والهوان ، تجرحني أحذية الحراس الأغراب ، وتدنس أديمي ، وفجأة سكتت الريح ، وتوهج القمر ، وفتح الشيخ عينيه ، ماذا جرى ؟ ومن بعيد ، تناهى كالبشارة وقع أقدام ، هذه ليست وقع أقدام لصوص ، وليست أقدام الحراس الأغراب ، إنها أقدام خفيفة ، حنون ، مشتاقة ، يا إلهي أيمكن أن يكون .. نعم .. هذا وقع أقدامه .. إنني ما زلتُ أذكره ، وفي فرح، صحتُ بالشيخ : أصغ ِ .
قال الشيخ : إنني أصغي .
ـ لقد عاد .
ـ كنت واثقاً من عودته .
ـ يبدو أنه ليس وحيدا .
نعم ، إنني أسمع وقع أقدام كثيرة ، ومن بعيد ، رأيتهم تحت ضوء القمر ، فصحتُ بفرح : هاهم قادمون ، يحملون بدل من بارودتك القديمة رشاشات حديثة ، لكنهم يحملون معها إرادتك التي لا تقدم ، أصغ ِ إليهم ، إنهم قادمون .. قادمون .. قادمون .ً
الأرض الأم
تسللنا مع الليل ، عبر الحدود ، وتوغلنا في أرضنا الأم ، يا لله ، حتى الليل هنا يفوح برائحة الأم . وتوقف رفيقي ، قائد المجموعة ، وهتف بصوت خافت : أحمد .
رفعتُ رأسي ، وقلتُ : نعم .
وتلفت قائد المجموعة حوله ، وتنصتّ إلى وشوشة الليل، ثم قال ، وهو يتقدمني : سر ورائي ، وكن على حذر .
سرتُ وراء قائد المجموعة ، وسمعتُ رفيقيّ الآخرين يخفان ورائي ، إن قائد مجموعتنا حذر ، ربما أكثر مما ينبغي ، ولكن له الحق ، فمن يدري ماذا تخبيء لنا العتمة ، ومن الليل ، تناهى إليّ صوت يهتف : أحمد .
توقفتُ لحظة ، ورحتُ أتنصت إلى الليل ، فتساءل الرفيق الذي يسير ورائي : ما الأمر ؟
أجبتُ ، وأنا أخفّ وراء قائد المجموعة : لا شيء .
كان للصوت بحة أمي ، حين هتفت بي ، وأنا ما أزال صغيراً: أحمد .
كانت عيناها غائرتين بالدموع ، وعرفتُ أن ّ أبي قد سقط فوق أرضنا الأم ، لكني لم أسمع صوتها ، وهي تسقط في صبرا ، وقد أخبرتني صبية نجت من المذبحة، أنّ أمي هتفت ملء صوتها ، قبل أن تتهاوى : أحمد .
توقف قائد المجموعة ثانية ، وقال بصوت هامس : أحمد، تمهل .
أشرتُ لرفيقيّ أن يتوقفا ، وملتُ إلى قائد المجموعة ، وقبل أن أسأل : ما الأمر ؟جاءني الجواب وابلاً من الرصاص . ارتمينا على الأرض ، وأسلحتنا متناهبة بين أيدينا ، لكني قدمي ولت ، وتهاويت في منحدر صخري، ماذا جرى ؟
إنّ الصمت يكفن كلّ شيء ، يبدو أنني قد انتهيت ، وفجأة سمعتُ هتافاً يشق الصمت : أحمد .
إنها أمي ، إنني أعرف صوتها ، وفتحتُ عينيّ ، وإذا بجه عدو يطل من أعلى المنحدر ، وقد صوب رشاشته نحوي ، وبلمح البصر ، أمسكتُ برشاشتي ، وفتحتُ النار عليه ، فتهاوى مع رشاشته كفزاعة من القش .
تحاملتُ على نفسي ، وهممتُ أن أتسلق المنحدر ، حين تناهت إليّ أصوات مكتومة ، فرفعتُ رشاشتي ،وتأهبتُ لإطلاق النار ، لكني سمعتُ قائد المجموعة يهتف بصوت هامس : أحمد .
خفضتُ رشاشتي ، وأجبتُ : نعم ، إنني هنا .
أطلّ رفاقي من أعلى المنحدر ، وقال قائد المجموعة : أرجو أن لا تكون مصاباً .
فقلتُ وأنا أتسلق المنحدر : إنني بخير ، سأصعد حالاً .
وما إن صعدتُ حتى تحلق الرفاق حولي ، وشدّ أحدهم على ذراعي ، وقال : لقد فرّ الجبناء .
وقال رفيقي الآخر : يبدو أنهم دورية .
وتلفت قائد المجموعة حوله ، ثم قال : هيا يا رفاق ، لقد عرف الأعداء بوجودنا ، وسيطوقون المكان في الحال .
شددن أسلحتنا فوق صدورنا ، وتقدمنا نشق الظلام ، في قلب أرضنا الأم .
تداعيات على حدود الوطن المحتل
ـ 1 ـ
الزهرة
لم يلتفت جند الاحتلال إلى جمالي ، ولم يحفلوا بعبيري ، كانوا صماً كآلياتهم ، فوطأوني بأقدامهم ، وسحقوني بمجنزراتهم ، وهم يعودون عبر الحدود إلى معسكراتهم الخائفة ، وقد تلوثت أيديهم بدماء سكان المخيمات .
ومع الفجر ، أقبل طفل صغير من المخيم ، فلملم أوراقي، وحنّا يديه بعبيري ، وعبر الحدود إلى وطنه المحتل .
” 2 “
ألقى جند الاحتلال القبض على طفل ،عبر الحدود مع الفجر ، إلى وطنه المحتل . وقد حنّا يديه بعبير زهرة قتيلة . فتحوا ثيابه ، ومزقوها بحثاً عن قطعة سلاح أو كتاب ، لكن فاتهم أن يفتحوا صدره ويمزقوا قلبه ، حيث كان الوطن مرسوماً .
” 3 ”
الوطن
حين عبرتُ الحدود ، أوقفني جند مدججون بالسلاح ، وسألني قائدهم : إلى أين ؟
فأجبتُ : إلى المخيم .
ابتسم القائد ابتسامة صفراء ، وقال : عودي ، إنهم إرهابيون ، ولن يفهموك .
حدجته بنظرة صارمة ، وقلتُ : إنهم يقاتلون حتى الموت من أجلي ، فكيف لا يفهمونني ؟
ماتت ابتسامة القائد ، وقال : آسف ، يجب أن أحميك .
وأشار إلى جنده المدججين بالسلاح ، وقال : خذوها .
ولكي يحميني قائد جند الاحتلال من ” الإرهابيين ” وضعني في زنزانة لا يدخلها ضوء النهار ، وتغريد الطيور، وعبير الأزهار .
” 4 ”
العبور
في ضوئي الشاحب ، أراد طفل أن يعبر الحدود إلى وطنه المحتل ، لكن جند الاحتلال رأوه ، وسرعان ما ألقوا القبض عليه ، وسأله قائدهم : من أين أتيت ؟
اعتصم الطفل بالصمت ، فتابع القائد : إلى أين تمضي ؟
ظلّ الطفل معتصماً بالصمت ، فقل القائد : سنقتلك إذا عبرت الحدود ثانية .
ثم صاح بغضب ، وهو يشير بعيداً : عد من حيث أتيت .
عاد الطفل أدراجه ، لكني رأيته بعد أيام ، يتسلل عبر الحدود إلى وطنه المحتل ، ولكي لا يراه جند الاحتلال ، ويقتلوه أو يعيدونه من حيث أتى ، فقد سارعتُ إلى غيمة، واختبأتُ وراءها .
القصيدة
فلسطين في القلب ، يا لله ، إنه عنوان رائع ، لابد أنه سيعجب أبي ، ومن يدري ، فقد يعجب صديقتي ” الناقدة ” أيضاً ، التي قلما يعجبها شيء ، لقد فرح أبي ، حين قرأ أولى قصائدي ، وتنبأ بأني سأكون شاعرة مثل جدي ، الذي شارك في ثورة ” 1936″
لكنه لم يستطع أن يخفي شعوره بالمرارة ، لأني لستُ رجلاً كجدي ، بل مجرد ” بنت ” .
إنّ قصيدتي تبدأ ب ” فلسطين ” ، وأبي يحبّ هذه ال ” فلسطين”
بقدر حبه لبيارته ، التي اغتصبها منه المحتلون ، وسيفرح حين يعلم أنني سأقرؤها أمام الطلاب في حفل المدرسة ، ولعله سيقول : ابنتي شاعرة ومناضلة مثل جدها .
ترامت إليّ ضجة من بعيد ، لابدّ أنها مظاهرة أخرى ، إنّ المظاهرات لا تنتهي هذه الأيام ، فلأسرع إلى المدرسة ، وإلا بقيتُ ” فلسطين في القلب ” طيّ جيبي ، ترى ماذا ستقول الناقدة هذه المرة ؟ وهل الأمر يحتاج إلى تفكير ؟ ستثبّت نظارتها الشبيهة بقعر الزجاجة فوق أنفها ، وتقول كالعادة : لا بأس ، لكن أعتقد أنني قرأتُ هذا العنوان من قبل .
آه ما أقبح نظارتها ، إنها مجرد ناقدة ، ولن تكون ، رغم نظارتها الشبيهة بقعر الزجاجة أكثر من ناقدة ، أما أنا فشاعرة مبد .. عه
.. آه دخان ، من أين جاء هذا الدخان ؟ إنني أكاد أختنق ، وأفقتُ على أحدهم يصيح بي : بلقيس .
تلفتّ ُ حولي ، وإذا بي وسط فتيان وفتيات مدرستي ، يا إلهي ، إنهم جمهوري ، لقد ضاعت ” فلسطين في القلب ” ، ولن أسمع رأي ” الناقدة ” فيها و .. اتسعت عيناي ، يا لله ، إنها هنا صديقتي ” الناقدة ” ، بنظارتها الشبيهة بقعر الزجاجة ، لكنها لا تتحدث كعادتها عن الشعر والقصة والمسرح ، بل ترجم الأعداء بالحجارة ، آه ما أجمل نظارتها .
وحانت من الناقدة التفاتة ، وما إن رأتني ، حتى أسرعت إليّ ، وقالت وهي تلهث : بلقيس ، لقد بحثتُ عنك طويلاً ، هذا يومك ، هيا ألقي قصيدة حماسية .تملكني الحماس ، وقلتُ : سأقرأ قصيدة من شعر محمود درويش .
ردّت صديقتي : لا يا عزيزتي ، اقرأي قصيدة من شعرك .
أشرق وجهي ، وقلتُ : كتبتُ قصيدة لألقيها في حفل المدرسة .
هتفت صديقتي ، وهي توسع لي الطريق : القيها هنا ، هيا ، هيا .
تقدمتُ الصفوف ، ورفعتُ يدي ، وصحتُ بأعلى صوتي : فلسطين في القلب .توقف الفتيان والفتيات ، والتفتوا إليّ ، فصاحت بهم صديقتي : لا تتوقفوا ، ستقرأ بلقيس قصيدتها ، استمروا أنتم في رجم الأعداء .
تعالت قصيدتي وسط الحجارة والدخان والهتافات ، وما إن انتهى البيت الأخير فيها ، حتى ارتفع تصفيق الفتيان والفتيات والأطفال والنساء والرجال و .. يا لله ، أهو أبي من يقف وسط الناس ، ويتطلع إليّ بعينين طافحتين بدموع الفرح ؟ نعم ، إنه هو، هو .. بنفسه و .. وانفجرت بيننا قنبلة غاز ، ولفّتنا جميعاً بالدخان ، مددتُ يديّ ، ورحتُ أتلمس طريقي إلى الهواء الطلق، وأنا أكاد أختنق ، لكني شعرتُ بيدين محبتين تطوقاني ، إنها صديقتي الناقدة ، والتمعت عيناها من وراء نظارتها ، وقالت بنبرة لن أنساها أبداً : أحسنتِ يا بلقيس ، إنها قصيدة رائعة ، أنت شاعرة بحق .
بابا نويل
أغمض ليث عينيه ، واستغرق في نوم عميق ، لم أضعه اليوم في سريره ، سأبقيه في حضني حتى الصباح ، آه بنيّ صباح ، منذ أن ذهبت إلى الأغوار ، ولم تعد ، غاب عنيّ الصباح .
التمعت نجمة في السماء ، إنه العام الجديد ، وتناهت إليّ أصوات أجراس ، أجراس ؟ لابد أني أحلم ، لقد مضت الأجراس ، منذ أن مضى صباح ، كان صباح يسأل أباه، كلما جاءه بهدية بمناسبة العام الجديد : أهي من بابا نويل.
فيضم صباح أباه ، ويقبله وهو يقول : يا له من رجل طيب ، ليتني أراه .
فيغرق أبو صباح في الضحك ، ويقول : لا يمكن أن تراه يا بنيّ ، لكني سآتيك بصورته .
وها هي صورة بابا نويل فوق الرف ، لقد حال لونها ، لكن صباح احتفظ بها ، وكان كلما يأتي لصغيره ليث بهدية بمناسبة العام الجديد ، يشير إلى الصورة ، ويقول : إنها من بابا نويل .
سمعتُ دبيباً في الخارج ، فوضعت ” ليث ” في سريره، وفتحتُ الباب ، وإذا شاب ملتح ينسل إلى الداخل ، فتساءلتُ بصوت خافت : من أنت ؟
فأجاب الشاب ، وهو يلهث : إنهم في أثري ، أرجوك ..
ارتفعت ضجة في الزقاق ، وتعالت أصوات لاهثة : لقد اختفى .
ـ لعله دخل أحد البيوت .
ـ كلا ، لابد أنه مضى من هذا الزقاق ، فلنتبعه .
تلاشى وقع الأقدام ، فتنهد الشاب بارتياح ، وقال : لقد مضوا .
استيقظ ليث ، وتطلع إلى الشاب بدهشة ، وقال : من أنت؟
ابتسم الشاب بحرج ، وهمّ أن يتكلم ، لكني سارعتُ إلى ليث ، وأخذته بين ذراعيّ ، وقلتُ : إنه بابا نويل .
وتساءل ليث مندهشاً : بابا نويل ! فقلتُ ، وأنا أقبله : نعم، بابا نويل المخيمات .
نزع الشاب ساعته خفية ، واقترب من ليث ، وقال وهو يقدم له الساعة : هذه هديتك ، يا بنيّ .
تندت عيناي بالدموع ، وقلتُ : لا ، أرجوك .
فابتسم الشاب ، وقال وهو يشدّ الساعة حول معصم ليث : لا تنسَ ، إنني بابا نويل .
فرح ليث بهديته ، لكني فرحتُ أكثر ، فها هو بابا نويل ، بلحيته الشابة ، يزورنا مع العام الجديد ، ويحمل لنا الأمل في العودة .
العكاز
” 1 ”
فوجيء الحراس بانفجار شديد يهز المعسكر ، وعلى الأثر ، اندلعت النار في مخازن العتاد . حاول رجل الإطفاء وحرس المعسكر ، السيطرة على النار ، لكن جهودهم ذهبت عبثاً ، فقد أتت النار على كلّ شيء .
في اليوم التالي ، بحث الصهاينة عن آثار الفدائيين ، الذين نسفوا مخازن العتاد ، لكنهم لم يجدوا سوى عكاز خشبي ، فمدّ واحد منهم يده ، ورفع العكاز عن الأرض ، وتأمله لحظة ، ثم غمغم ..
ـ لمن هذا ؟
” 2 ”
استيقظ أحمد على ضربات عنيفة على جدار الغرفة ، وإلى جانبه ، في عتمة الغرفة ، فتحت زوجته عينيها ، ونظرت إليه ، وغمغمت ..
ـ ما هذا ؟
فأجابها بصوت خافت .. حزين ..
ـ قيس .
ـ آه
ـ إنه يكسر عكازه .
” 3 ”
فتح عينيه في العتمة .. كانت أمه وأخته الصغيرة .. سلوى .. إلى جانبه .. فتساءل .. وهو بين النوم واليقظة.. طائرة ؟
كان يعرف أن أمه مستيقظة .. وفي خوفه .. جاءه صوتها .. يطمئنه ..
ـ أنت تحلم .
ـ إنني أسمعها .
ـ نم .. لا تخف .
كان أبوه بعيداً ، كان في مهمة ، وكان ، في الليل ، وحده .. مع أمه .. وأخته الصغيرة .. سلوى . كان الليل قبراً أسود .. وكانت الطائرة .. تدنو .. تدنو .. تدنو .. وفجأة .. انفجر الليل بهم .. وفيما يشبه الكابوس .. سمع .. أخته ..الصغيرة .. سلوى .. تصرخ .
” 4 ”
تحلقوا حول مائدة صغيرة ، شابا وأختاه وأبي ، قال أبي..
ـ نحن نعمل في أرض محتلة ، يجب أن نفهم هذه الحقيقة ، كان علينا أن ننسف مخازن العتاد في المعسكر، لكن الأعداء ألقوا القبض على رفيقنا باسل ، وهو الآن رهن الاعتقال .
فقال أحد الشابين ..
ـ والآن ماذا يجب أن نفعل ؟
فقال أبي ..
ـ أعداؤنا الآن يقظون جداً ، ومن الأفضل ، أن نؤجل العملية .
فقالت الفتاة في حماس:
ـ لا يجب أن نؤجل العملية ، يجب أن ننسف مخازن العتاد ، مهما كلفنا الأمر .
قال أبي في هدوء ، ولكن بحزم ..
إننا لن ندع المعتدين ينعمون بالهدوء ، سوف ننسف مخازن العتاد ، ولكن ليس الآن ، يجب أن ننتظر .
” 5 ”
فتح الباب على الليل .. كان الليل دامساً ، وفي الصمت ، كان يسمع أنين الريح في الشجر .. ” انفجر الليل ” .. وعندما استيقظ في المستشفى ، لم يجد أخته الصغيرة سلوى ، ولم يجد أيضاً .. ساقه . رقدت سلوى في جوف رابية ، أما ساقه ، فلم يدر ِ أين ترقد . الليل دامس في نهارات النضال ، قبل أن ينفجر الليل بهم ، تعلم كيف يكتب اسمه ، وتعلم كيف يرسم صورة وطنه .. فلسطين .. على الأرض .. وفي قلبه ، وتعلم أن يكتب ليس بالقلم وحده ، تعلم أيضاً أن يكتب بأصابع الديناميت.
” 6 ”
قال لهم معلمهم .. أنتم رجال صغار .. إن وطنكم .. فلسطين .. يستعجلكم .. إصبع الديناميت هو أيضاً قلمنا .. أمسكوا به جميعاً .. وهيا نكتب معاً .. تاريخ تحررنا .
الليل دامس .. ترك عكازه فوق التراب الندي .. وفي هدوء وحزم .. مضى قدماً .. ينسف الليل .
البطة الصغيرة
فوق السهول والتلال والأنهار ، حلقت البطة الصغيرة إلى جانب أمها ، وهي فرحة بالحياة . وطوال ساعات وساعات ظلت البطتان تحلقان ، وكانت البطة الصغيرة تتقدم أمها أحياناً ، وتصيح بجذل ..
ـ ماما .. لقد سبقتك .
أحست البطة الأم بالتعب ، فصاحت بصوت لاهث ، وهي تراقب ابنتها .. البطة الصغيرة .. وهي تطير أمامها بخفة ورشاقة :
ـ بنيتي ..
فأجابت البطة الصغيرة : نعم .. ماما ..
ـ ألم تتعبي ؟
فصفقت البطة الصغيرة بجناحيها .. وقالت بدلال :
ـكلا ..
قالت الأم في وهن :
ـ أنظري .. هناك بيارة جميلة ..
قالت البطة الصغيرة ، وهي تطير فرحاً ..
ـ البيارات هنا في كلّ مكان ..
ـ ولكن ليست كهذه ..
ـ كلّ البيارات متشابهة ..
ـ ألا تحبين أشجار البرتقال ؟
ـ نعم ..
ـ هيا نراها إذن ..
ـ ليس الآن ..
ولكن .. يجب أن ترتاحي .. يا بنيتي ..
ـ أنا لم أتعب بعد .. يمكنني أن أطير حتى المساء .
فغمغمت الأم وهي تلهث :
ـ آه منك
التفتت البطة الصغيرة ، وابتسمت لأمها ، وقالت بخبث :
ـ ماما ..
ـ نعم ..
ـ لماذا لا تقولي إنني تعبت .
ابتسمت الأم بحنان ، وقالت :
ـ آه يا ملعونة ..
فقهقهت البطة الصغيرة بفرح ، وقالت :
ـ هيا نرتاح إذن .
× × ×
اتجهت البطتان نحو البيارة ، لكنهما فوجئتا بأصوات اطلاقات وصراخ يصمّ الآذان ، وبين أشجار البرتقال ، رأت البطة الصغيرة ، جماعة من الرجال ، يهاجمون معسكراً للجنود ، فصاحت وهي ترتعش من الخوف :
ـ ماما .
ـ لا تخافي ..
ـ ماذا يجري ؟
ـ لعلها .. حرب ..
ـ حرب !
ـ ربما ..
ـ ما معنى .. حرب ؟
ـ إنسان يقتل إنساناً ..
فصاحت البطة الصغيرة بصوت مرتعش ..
ـ ولكن هذا جنون ..
ـ أجل .. ولكن يا بنيتي هناك حرب عادلة ..
ـ ماما .. لا تقولي لي .. إن القتل عادل ..
ـ ليس كلّ قتل ..
ـ إذا قتلتُ أختي .. فهل هذا عدل ؟
ـ كلا ..
ـ إذن كيف يكون القتل عدلاً ؟
ـ لا تنفعلي .. دعيني أسألك .. وأجيبيني بهدوء
ـ حسن ..
ـ إذا حاول غراب احتلال عشنا وطردنا منه ، فهل هذا عدل ؟
ـ كلا ..
ـ ماذا علينا أن نفعل ؟
ـ نمنعه ..
ـ وإذا لم يمتنع ؟
ـ ماذا !
ـ وقتل أباك وإخوتك ..
فصاحت البطة الصغيرة بغضب ..
ـ نقاتله ..
ـ أرأيت .. هناك حرب عادلة إذن ، أنظري إلى هؤلاء أ إنهم فلسطينيون ، وهم يقاتلون دفاعاً عن بيتهم ، إن حربهم عادلة ، أما هؤلاء الجنود ، فإنهم صهاينة احتلوا بيت الفلسطينيين ، وطردوهم منه ، إن حربهم غير عادلة .
صمتت البطة الصغيرة ، وراحت تنظر إلى البيارة بأسى، فقالت لها أمها :
ـ والآن .. أنت مع منن ؟
فقالت البطة الصغيرة بحزم :
ـ إنني أكره الغربان ..
فابتسمت الأم بحنان ، وقالت لابنتها الصغيرة :
ـ الفلسطينيون يكرهون الغربان أيضاً ، إنهم يكرهون الحرب ، لأنها دمار ، لكنهم يكرهون الغربان أيضاً .. ولهذا فإنهم يقاتلون .
× × ×
حلقت البطة الصغيرة مع أمها بعيداً ، وهي تنظر إلى
الأعداء بغضب وازدراء .
أمنا التي في الأسر
زحف على الأرض ببطء ، وأطل بوجهه الصغير على الليل والريح ، وصاح كأنه يستغيث :
ـ ماما .
كان الليل عباءة سوداء يلف المخيم ، وكانت السماء تنشج وتنث الدموع ، ولأن ” ماما ” لم تهرع إليه ، وتسكت جوعه بثديها ، صاح ثانية :
ـ ماما .
سمعت ندى أخاها الصغير يصيح ، فرفعت وجهها في ذعر ، وراحت عيناها الناعستان تبحثان عنه في أرجاء الخيمة ، وعلى ذبالة الفانوس ، رأت ندى أخاها ، يزحف قرب الباب ، فهرعت إليه ، وضمته إلى صدرها ، وحين أحسّ الصغير بذراعيها يضمانه في العتمة ، غمغم شاكياً :
ـ ماما .
الليل والريح يفترسان المخيم ، والصغير صباح يفترسه الجوع ، فمنذ البارحة لم تبلل شفتيه الظامئتين قطرة حليب واحدة .
قبل أن تمضي أمه أمس ، أرضعته ووضعته في فراشه ، وحين أطبق عينيه الخضراوين وأغفى ، وضعت الكوفية فوق وجهها ، وقالت لندى ، وهي تمضي إلى الليل : اعتني بأخيك .
ولحقت ندى بأمها ، وهي تقول :
ـ ماما .. لا تتأخري .
ومن بعيد جاءها صوت أمها :
ـ اطمئني يا عزيزتي ، لن أتأخر .
لكنها رغم ذلك تأخرت .
ـ سيموت صباح .
نشجت ندى بصوت مكتوم ، وتبللت في عينيها أعوامها الثلاث عشرة ، وفي الخارج ، كانت السماء تنشج هي الأخرى :
ـ منى تعود ماما ، متى .
اهتزّ باب الخيمة ، فاتسعت عينا ندى ، ماذا ؟ أهي الريح؟ وعلى ذبالة الفانوس ، لمحت شخصاً يسدّ الباب ، وقبل أن تتفوه ندى بكلمة سمعت صوتاً شاباً :
ـ كيف حالك ؟
وتساءلت ندى في نفسها ، أهي أحلام ؟ صديقة أمها ، لكن صوتها مختنق ، ربما بسبب الكوفية .
ـ ندى ، إنني أحلام .
وفي صوت يتنازعه الفرح والتوجس ، تساءلت ندى :
ـ أين ماما ؟
لكن أحلام لم تجبها ، فتساءلت ثانية :
ـ أين هي ؟
ومرة أخرى لم تجبها ، فتساءلت ندى :
ـ الم تعد معك ؟
ـ ….
ـ أخبريني .
وحشرج صباح شاكياً :
ماما .
هرعت أحلام إليه ، وأخذته بين ذراعيها ، وهي تتساءل:
ـ ماذا به ؟
ـ لم يرضع منذ البارحة .
ـ لماذا ؟ أهو مريض ؟
ـ لا ، يريد ماما .
ـ كان عليك أن ترضعيه من الزجاجة .
ـ حاولتُ لكنه لم يأخذها .
ـ هاتي الزجاجة .
ـ لن يرضع منها .
ـ سيرضع ما دام جائعاً .
جلست أحلام في فراش الأم ، وهي تهدهد صباح في أحضانها ، وحين أتت ندى بزجاجة الحليب ، أخذتها أحلام ، ودست حلمتها في فم الصغير . فتح صباح عينيه الخضراوين في تساؤل وأمل ، فغمغمت ندى في توسل :
ـ ارضع .
لكن صباح مط ّ شفتيه في تقزز ، ولفظ الحلمة ، وهو ينهنه :
ـ ماما .
فنشجت ندى : ألم أقل لك ؟
ـ ندى ..
ـ سيموت أخي .
ـ اهدئي يا عزيزتي .
ـ سيموت صباح .
ـ اذهبي إلى فراشك ، يجب أن ترتاحي .
ـ سيموت .
ـ هيا يا ندى .
طأطأت ندى ، ومضت إلى فراشها ، والدموع تسح من عينيها ، فتطلعت أحلام إليها ، وغمغمت في أسى :
ـ نامي يا عزيزتي .
لكن ندى لم تنم ، وفي ذبالة الفانوس ، لمحت أحلام السؤال يترقرق مع دموعها .. ” لقد توغلنا معاً في الأرض الأم ، نتوشح الحب والأمل ، وفي الأسر ، كانت أمنا تنتظرنا ، جائعة عطشى ”
ـ نامي يا عزيزتي .
وأغمضت عينيها ، وفي الخارج ، كانت السماء ما تزال تنشج ، وشعرت أحلام بالصغير يتحرك في أحضانها ، ثم أحست بيديه الطفلتين تتخافقان فوق ثديها ، فرمت زجاجة الحليب بعيدً ، وفتحت أزرار قميصها ، وأخرجت ثديها ، وأشرق وجه صباح بالفرح ، وهو يمدّ يديه الصغيرتين ، ويحتضن الثدي في لهفة :
ـ ارضع وكن أخاً لصغيري .
وفتح صباح شفتيه الظامئتين ، والتقم الحلمة .. الممتلئة .. الدافئة .. ” يا صغيري .. ارضع .. فإن أمك كانت تتقدمنا دائماً .. ارضع .. ارضع .. واكبر بسرعة .. لأن أمنا التي في الأسر .. تنتظر ” .
البحر
في الليل ، فتحتُ عينيّ ، وقلبي الصغير ينتفض في صدري كعصفور ذبيح .كانت الإنفجارات والأزيز والصراخ تملأ الليل حولي ، وتطاردني حتى في أحلامي ، فتشبثتُ بأحضان أمي ، واختبأتُ في صدرها الدافيء ، وأنا أنهنه بنبرة خائفة باكية :
ـ ماما ..
ضمتني أمي إلى صدرها ، وانسكب شعرها الذهبي فوق وجهي ، وهي تقول : لا تخافي ..
كان صوت أمي نفسه مرتعشاً ، فتساءلتُ :
ماذا يجري يا ماما ؟
فأجابت أمي ، وصوتها ما زال مرتعشاً :
ـ هذه مدافع العيد ..
ـ العيد !
ـ نعم .. ألا تحبين العيد ؟
قلتُ ، وأصوات المدافع تملأ قلبي الصغير بالخوف : نعم .. أحبه ..فطوقتني أمي بذراعيها ، وخبأتني في صدرها الدافيء .. وهي تقول :
ـ نامي إذن .. كي يأتي العيد غداً ..
أغمضتُ عينيّ ، وحاولتُ أن أنام ، لمن أصوات المدافع ارتفعت من جديد في الخارج ، وشعرتُ بالسرير يهتزّ بنا، فبكيتُ ، وغمغمت :
ـ ماما ..
وفي صوت أكثر إرتعاشاً ، قالت أمي :
ـ ماذا تريدين ، يا عزيزتي ؟
اختنقتُ بالخوف والدموع ، فضمتني أمي ، وراحت تهدهدني ، وهي تقول :
ـ نامي ، يا عزيزتي ..
قلتُ من بين دموعي : أشعلي الشمعة ..
فأجابت أمي : لم يعد لدينا شمع .. نامي الآن .. سأشتري لك غداً شمعة كبيرة ..
لم أنم ، وظلّ جسدي الصغير الخائف يرتعش في صدرها . وفي العتمة ، التي كان يملأها الأزيز .. والصراخ .. والإنفجارات ، فتحت أزرار قميصها ، وأخرجت ثديها ، ووضعته في فمي ، وهي تهمس :
ـ ارضعي .
وتشبثت شفتاي الخائفتان بثدي أمي ، فتدفق الحليب في فمي ثراًصصص دافئاً ، وفي دعة ، استسلمتُ للدفء والسلام ، دون أن يخطر لي أن أتساءل ، من منا التي نسيت ، أنني فطمتُ منذ فترة ليست قصيرة .
قبل أيام ، أضاءت لي أمي شمعتين ، ووضعتهما فوق قطعة كبيرة ولذيذة من الكعك ، ودعت بعض أترابي من أطفال الجيران ، وقالت لي :
ـ أطفئي الشمعتين ..
وقفتُ في صوبي الجديد ، وتلفتً حولي في حيرة ، كان الأطفال ينظرون إليّ جميعاً ، فشعرتُ ببعض الاضطراب ، لكن أمي ابتسمت لي ، وهي تهمس مشجعة : هيا يا عزيزتي ..
انحنيتُ على الشمعتين ، ونفختُ عليهما بكلّ قوتي ، لكن لهبهما الأحمر اللعين ، ظلّ يمدّ لي لسانه ، كأنه يسخر مني ، ضحك الأطفال ، حتى أختي رجاء ضحكت معهم ” إنهم يسخرون مني ” ، فكدتُ أبكي من الغيظ ، لكن أمي ضمتني بذراعيها ، وقبلتني ، وهي تبتسم لي بحنان ، وقالت لي :
ـ لا عليك .. سنطفئها معاً يا عزيزتي ..
ودعت أمي الأطفال ، فتحلقوا جميعاً حول الشمعتين ، وبقوة .. وحماس .. وفرح .. نفخنا جميعاً على الشمعتين ، فانطفأتا في الحال ، ومات لسانهما اللعينان الساخران . ووسط فرح الأطفال ، الذين تحلقوا حولي ، قدمت لي أمي ، دمية صغيرة ، وقالت لي ، وهي تقبلني : ما رأيك ؟ هل هي جميلة ؟
فقلتُ والفرح يملأ قلبي :
ـ نعم يا ماما ..
احتضنتني أمي ، وهي تقول :
ـ لكن دميتي أنا أجمل
تساءلت في دهشة :
هل لديك دمية ؟
ـ نعم ..
ـ أين هي ؟
فرفعتني أمي بين ذراعيها ، ودنت بي من المرآة الكبيرة ، وقلبت وهي تضحك :
ـ ها هي ..
قهقهتُ في فرح ، وأنا أصيح :
ـ هذه أنا ..
ـ أنت دميتي ..
قهقهتُ ثانية ، وشعر أمي الذهبي ينسكب فوق وجهي :
هل تريدين شيئاً آخر ؟
تطلعتُ إلى أمي لحظة ، وقلت :
نعم ..
نظرت أمي إليّ ، وعيناها الزرقاوان ، صافيتان وعميقتان كالبحر ، ثم تساءلت في صوت متوجس :
ـ ماذا تريدين ؟
ـ أريد أن أرى البحر ثانية ..
انطفأت السعادة في عيني أمي ، وذبلت الابتسامة فوق شفتيها ، فأرخت عينيها عني ، وأنزلتني من بين ذراعيها ، ثم التفتت إلى أختي رجاء ، وكانت تنظر إلينا في صمت حزين ، وقدمت لها كتاباً مصوراً ، وهي تحاول جاهدة أن تبتسم .فتحت أختي الكتاب ، كان البحر يمتد فوق صفحته الأولى ، واسعاً ومفتوحاً كالسماء .
البحر .. البحر .. البحر .
ألي ، ترى أين أبي ؟
أمي ..
وعدتنا أمي ، أكثر من مرة ، أن تأخذنا إلى البحر ، لكنها لم تف ِأبداً بوعدها ، وحين نلح عليها ، أنا وأختي رجاء، ونذرف بعض الدموع ، تقول لنا مهدئة ::
لا تبكيا ، سنذهب غداً .
وكما أن أبي لم يأتِ، فإن ” غداً ” هذا لم يأتِ أبدا ، مرة أخذنا أبي إلى البحر ,, يا لله .. سماء .. مفتوحة ..واسعة .. تركض فوق وجهها غيوم بيضاء ثرثارة ، خضتُ في المياه الرقراقة مع أمي وأختي ، ومن بعيد جاءت تركض نحوي موجة رعناء ، صفعت ساقي ، فسقطتُ في الماء ، وتبللت ثيابي ، وضحك أبي ، قهقه عالياً ، وكان جالساً على رمال الشاطىء ، ينظر إلينا ، ويتابعنا في فرح ، فرفعتني أمي من الأمواج ، ووضعتني فوق الرمال ، لكنها ما كادت تلتفت ، حتى خلعتُ ، في لحظة ، كلّ ملابسي ، ورحتُ أتقافز في المياه ثانية ، وسط قهقهات أبي وأختي ، فصاحت أمي بي ، وهي تبتسم :
ـ ماذا تفعلين ؟ عيب ..
البحر ..
أبي ..
ترى .. أين أبي ؟
منذ أن بدأت مدافع العيد ، الذي لم يأتِ أبداً ، اختفى أبي ، اختفى البحر .
لم نعد نرى أبي ، لم نعد نرى البحر .
لم نعد نسمع سوى أصوات مدافع العيد ، إنني أكره العيد، إنني أحب البحر .. البحر .. البحر .. تقول أمي :
ـ سيعود أبوكم .. وسنذهب ثانية إلى البحر .
ولكن .. لماذا تبكي أمي دائماً ، وهي تقول ذلك ؟
الدرس
كنتُ في غرفة المعلمين ، حين جاءني أحد تلاميذي الصغار ، وأخبرن .. أنّ أحمد يبكي . وأحمد تلميذ صغير ، في الثامنة من عمره ، هادىء ، ذكي ، متفوق ، تلوح في عينيه البنيتين صورة أبيه ، صديقي الشاعر باسل ، وهو لذلك أثير لديّ .
سألتّ التلميذ الصغير ”
ـ هل ضربه أحد ؟
فأجاب :
ـ لا أستاذ .
ـ هل يشكو من شيء ؟
ـ لا .
تساءلتُ وأنا أحدق في التلميذ الصغير :
ـ إذن .. لماذا يبكي ؟
فطأطأ التلميذ الصغير رأسه ، وقال في صوت مفعم بالحزن :
ـ سأله أحد التلاميذ الجدد ، ماذا يعمل أبوك ؟ فلم يجبه ، وعندما سأله ثانية ، قلت ُ..
وسكت التلميذ الصغير ، فسألته ، وأنا أنظر في عينيه الحزينتين :
ـ ماذا قلت ؟
فرفع التلميذ الصغير عينيه الحزينتين إليّ ، وغمغم بصوت مذنب :
ـ أحمد .. بلا أب .
دقّ الجرس ، وهرع التلاميذ إلى صفوفهم ، فحملتُ دفاتر تلاميذي الصغار ، وخارطة ملونة ، ومضيتُ إلى الصف ، متوكئاً على عكازي .
وكما تقف سنابل القمح في الشمس ، وقف تلاميذي عندما دخلتُ الصف ، وفي عيونهم الصغيرة رأيتُ بيارات الوطن وحقوله وغدرانه و .. مستقبله . ابتسمتُ لهم ، وقلتُ في هدوء :
ـ تفضلوا .
جلس التلاميذ في أماكنهم ، وتطلعوا في هدوء إليّ ، إنه درس اللغة العربية ، وهم يحبونه ، لكنهم فوجئوا حين فتحتُ الخارطة ، وعلقتها على السبورة ، وقلتُ :
ـ أبنائي .. تأملوا هذه الخارطة .
وتطلع الجميع إلى الخارطة ، فتابعتُ :
ـ تأملوها جيداً .
وفي عيونهم الطفلة ، لمحتُ علامات استفهام كثيرة ودهشة ، فأضفت :
ـ اطمئنوا أيها الأعزاء ، إنني واثق أنكم جميعاً تعرفون هذه الخارطة ـ الوطن ، فهي مرسومة بالدم في عيونكم .
وصمتُ لحظة ، ثم تساءلتُ :
ـ ماذا تمثل ؟
وفي حماس ارتفعت في الشمس أذرع جميع السنابل ، وفي غابة الأذرع ، لاحظت ُ ذراع سنبلتي الأثيرة ، فقلتُ :
ـ أحمد .
نهض أحمد من بين السنابل ، وعيناه البنيتان ما زالتا مبللتين بالدموع ، فسألته :
ـ ماذا تمثل ؟
وسمعتُ من بعيد صوت باسل ، صوت صديقي الفدائي الشاعر : فلسطين .
ـ ماذا قلت ؟
ـ فلسطين .. أستاذ .
فابتسمتُ لصديقي .. باسل الصغير ، وقلتُ
ـ شكراً .
جلس أحمد ، وساد الجميع صمت كترقب ، إنّ أحداً لا يجهل أنّ الخارطة تمثل فلسطين ، إذن .. لابد أن هناك شيئاً آخر .
نعم أنتم على حق ، اصغوا جيداً :
ـ أيها الأطفال .. أنتم تعرفون جميعاً أن لكل كائن أمّاً وأباً .. الفراشة .. البلبل .. السمكة .. الحمل .. ونحن أيضاً لنا أمّ وأب .. أبنائي .. هذه هي أمنا . ووضعتُ يدي فوق الخارطة ـ الوطن ، ثم قلتُ : لقد رضعنا من حقولها ، وترعرعنا في أحضانها ، ولعبنا فوق أكتافها ، ومات الكثير منا دفاعاً عنها ، والآن ، ونحن في المنفى، يجلدها الصهاينة الفاشست .. لصوص القرن العشرين.
سكتُ لحظة ، كانت عيون تلاميذي الصغار تتوهج ، وهي تتطلع إليّ في ترقب وانتباه ، ومرة أخرى ، وضعتُ يدي فوق الخارطة ـ الأم ، وقلتُ :
ـ لقد عرفتم أمّنا ، إنها فلسطين ، فهل تعرفون من هو والد شعبنا الفلسطيني ؟ وهل تعرفون ماذا يعمل ؟
وسد صمت متسائل الجميع ، وفي عيونهم الصغيرة ، كان السؤال يلوب ، ابتسمتُ ، وخاطبتُ مراقب الصفّ : ـ باسم .
ونهض باسم ، طفل في لون القمح ، وقال :
ـ نعم أستاذ .
ـ ماذا يعمل أبوك ؟
ـ عامل بناء .
ـ وأنت يا غسان .
ويهبّ غسان كالعاصفة :
ـ نعم .
ـ ماذا يعمل أبوك ؟
ـ فلاح .
فلاح !
ويجيب غسان بانكسار :
كان فلاحاً .
ـ والآن ؟
ـ عاطل ..
وتطلعتُ إلى سنبلتي الأثيرة .. أحمد ، كان صديقي الفدائي الشاعر ، ينظر بعينيه البنيتين الذكيتين ، فقلتُ :
ـ أحمد .
ونهضت سنبلتي ، وهي تتوهج ، وقال :
ـ نعم أستاذ .
ـ ماذا كان يعمل أبوك ؟
ـ فدائي .
لقد سمعتُ يا أحمد ، وسمعك معي كلّ أصدقائك الصغار، ولكن قلها ثانية :
ـ ماذا قلت ؟
وبصوت قويّ واضح ، قال أحمد .
فدائي أستاذ .
فالتفتُ إلى تلاميذي الصغار ، وقلتُ : هل سمعتم أيها الصغار ، كان أبو صديقكم أحمد فدائياً ، وقد ضحى بحياته في سبيل أمنا فلسطين ، والآن أيها الأطفال الأعزاء ، أعتقد أنكم عرفتم من هو أبو شعبنا الفلسطيني.. نعم .. بالتأكيد .. إنه العمل الفدائي .. والثورة المسلحة .. أيها الأطفال .. لا تنسوا هذا الدرس .. وثورة حتى النصر .