حيدر علي سلامة** : من أيديولوجيا الفلسفة الى جينالوجيا التفلسف مقاربات منهجية في كتاب “التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل”*

haidar ali salama 2يمكننا ان نعد تاريخ ظهور كتاب “التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل” بمثابة “الإعلان الابستمولوجي” لوثيقة حقوق التفلسف قبل الفلسفة لا سيما وان هذا العمل الجماعي الفلسفي جاء حافلا منذ المقدمة حتى آخر صفحة منه بعدة دراسات حاولت طرح اغلب الإشكالات والمعوقات المنهجية التي تلازم بنية وتاريخ الدرس الفلسفي من المراحل الدراسية الاولى انتهاء بالمراحل الدراسية المتقدمة. نتيجة لذلك، ساد “هم التفلسف الاولي” على “هم الفلسفة الثانوي” خاصة وان معظم دراسات هذا المؤَلف وبحوثه وتنظيراته وفصوله جرى تخصيصها لمناقشة حق التفلسف عند الطفل، وهي مشكلة تتصل بشكل وثيق مع قضايا التربية والتعليم وديناميكية العملية الفلسفية والمنهجية بشكل عام.
لهذا عمل الكتاب على إعادة اكتشاف الحلقات المفقودة في راهن العملية الفلسفية والتي يمكن ايجازها بـما يلي: غلبة التلقين الفلسفي على الابداع الفلسفي النقدي؛ غلبة النص الفلسفي المدرسي التلقيني على ممارسة التفلسف الحر والفردي؛ غلبة تاريخ الفلسفة على واقع التفلسف اليومي ؛ غلبة الفلسفة (كما ينبغي عليها ان تكون) على التفلسف (كما هو كائن) بوصفه قدرة خلاقة على كسر ونقد التابوهات القيّمية التقليدية التي تحنط راهن العملية الفلسفية عامة، والتفلسف خاصة؛ غلبة الفلسفة النظرية المطلقة والعامة على الممارسة الفلسفية اليومية؛ وغلبة الفلسفات المثالية والافلاطونية على الفلسفات الشكية والحسية والذاتية والسفسطائية والوجودية؛ غلبة التنظيرات العلمية الوضعانية والوضعية على فينومينولوجيا تأويل التفلسف وإعادة اختبار مقولاته التاريخية؛ وأخيرا وليس آخرا غلبة نظريات المنطق الاستدلالية على نظريات الحجاج الإقناعية.
ان ما يدفعنا الى تعرية ونقد وتحليل هذه المعوقات التاريخية التي تواجه راهن الدرس الفلسفي خاصة والتفلسف عامة، هو محاولة تشكيل صدمة حداثوية في بنية التفكير الفلسفي للخروج من حالة العجز الذهني والخمول الادراكي والخواء العقلاني في الفلسفة. لهذا، يغدو من الضرورة الابستمولوجية التمييز بين نمطين من التفكير في تاريخ الفلسفة والتفلسف وهما: ((التفكير الفلسفي والتفكير التفلسفي، من حيث ان الأول يهدف بالدرجة الأولى الى تمثل الفلاسفة ونشاطاتهم الفكرية بطريقة او بأخرى. في حين ان التفكير التفلسفي، وفكرة محو الامية التفلسفية ليس دعوة لتعلم الأفكار الفلسفية واستظهارها او تمرين العقل على التعامل معها ولا بأي طريقة من الطرق؛ بل هي دعوة لتعلم التفكير نفسه. وللدقة هي دعوة لتعليم الانفتاح في التفكير والمرونة في طرح الأسئلة وتنمية القابلية على الوعي بتفهم الاحتمالات الممكنة. التفكير التفلسفي لا يقتصر على محاولة انتاج فلسفات جديدة تتناسب وما وصلت اليه الحضارة الكونية في العصر الحديث. بل تحاول ان تبعث في العقل النشاط الدينامي …. يمكن اقتراح تعريف أجرائي للتفكير التفلسفي بقولنا: انه التفكير الذي يعتمد على الوعي بالتفكير، وعلى التحليل والمقارنة والنقد، وتفهم جميع الأوجه والاحتمالات الممكنة في القضية قيد البحث والدراسة)) (التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل، ص،28).
kh nedal fadelيصل بنا النص أعلاه الى أن إشكالية الفلسفة وعلاقتها بالدرس الفلسفي تكمن في إيجاد مساحات جديدة للنص الفلسفي لم يألفها من قبل، جراء سيطرة الفلسفات الدوغمائية عامة والافلاطونية خاصة. وذلك لأنها فلسفات تأسست على مصادرة الذهن المفتوح/ومعاداة المجتمع المفتوح -حسب كارل بوبر-لكونها لا تعترف بفردانية التفلسف الذي يمثل: ((التفكير الحر الملتزم، فهو حر لأنه ينفتح على جميع الاحتمالات الممكنة، وهو ملتزم لأنه ليس اعتباطيا او فوضويا او عشوائيا)) (المصدر نفسه، ص،30).
من هنا يتضح ان عملية “التفلسف” في الفلسفة وتاريخها تمثل الحجر الأساس في بناء النظام التعليمي والتربوي لذهنية الطالب/والمتلقي والتي على أساسها يمكن تحديد مستويات درجات التفكير النقدي وحساب معدلاته ودرجات اختلافه ومغايرته التفكيكية لأنطولوجيا الفلسفة التقليدية. ولعله من المناسب ان نتحدث قليلا هنا عن الفرق بين: ((“التفلسف” و”الفلسفة”، اذ قد يختلف حول أولوية أي منهما في العملية التعليمية وبخاصة بين كانط وهيغل، حيث ذهب كانط الى ان التفلسف يقود الى الفلسفة وليس العكس. وخلاصة فكرته اننا لا يمكن وبأي حال من الأحوال “ان نتعلم أي فلسفة من الفلسفات، اذ اين هي؟ ومن يمتلكها؟ وكيف نتعرف عليها؟ لا يمكن ان نتعلم سوى التفلسف”. ووفقا لهذه النظرة التي ترفض إمكانية تداول المعرفة الفلسفية الجاهزة؛ فأن مناهج التعليم يجب ان تركز على قضايا تساعد على تنشيط العقل وتنمية قدرته على التفكير الذاتي لاستنباط فلسفته.)) (المصدر نفسه، ص،30).
ان النص أعلاه يضعنا في قلب إشكالات الفلسفة/والتفلسف فقد أشار الى طبيعة الاختلاف الحاصل بين كل من التفلسف/بوصفه عملية نقدية وابداعية؛ والفلسفة/بوصفها نسق تاريخي مغلق. تفرض علينا كباحثين طرح مجموعة من الأسئلة على هذا العمل الفلسفي الجماعي تتعلق بثنائية التفلسف/والفلسفة، وفيما إذا كان هذا العمل قد نجح في تجاوز هذه الثنائية؟ فأذا كان هذا العمل الجماعي قد تبنى مفهوم التفكير التفلسفي/النقدي، لماذا لا نجد اذن فيه أي أثر لقراءة وتأويل اول وثيقة نقدية وتعليمية “للتفكير الفلسفي/الافلاطوني” وأعني بها هنا: “التفكير التفلسفي السفسطائي” الذي أسس لأول قطيعة تاريخية وأبستمولوجية مع منظومة مفاهيم الفلسفة الافلاطونية؟ ألم يؤسس السفسطائيون اول نظام “تعليمي تفلسفي” قائم على حرية المعتقد الفلسفي والفكري والإنساني؟ ألم يؤسس السفسطائيون لنظام تعليمي مفتوح مغاير تماما لنظام التعليم الافلاطوني الأرثوذكسي والشمولي المطلق؟ ألم يؤسس السفسطائيون لنظام لساني ولغوي قادر على توليد الابداع الفلسفي والثقافي الذي يختلف عن نظام افلاطون وسقراط الميتافيزيقي؟ ألم يكن التعليم “التفلسفي” عند السفسطائيين أقرب الى الحياة اليومية والممارسة الثقافية بخلاف التعليم الافلاطوني النخبوي الذي انحسر على كتلة من الأكاديميين المحافظين من يقبضون/ويمتلكون حق انتاج وتأويل القول الفلسفي بما يتناسب والنظام الافلاطوني اليوتوبي بالضرورة؟ ومن جانب آخر، ألم ينجح السفسطائيون في تجاوز اللغة الافلاطونية في التعليم الفلسفي القائمة على أنظمة سنتاكسية وسيمانتيكية استاتيكية شكلانية ومتعالية منفصلة تماما عن ذهنية الانسان العادي عامة والمتفلسف خاصة؟ ألم ينعرج الخطاب السفسطائي بالتعليم الفلسفي من المنطق التقليدي الى البلاغة والحجاج الاقناعي في التفكير التفلسفي؟
كنا نأمل على هذا العمل الفلسفي الجماعي ان يخصص فصلا او فصولا تتضمن على ابحاث لغرض مناقشة اهم مصدر في تاريخ الفلسفة الغربية عامة وفلسفة التعليم خاصة والذي لم يأت عليه هذا العمل الجماعي تماما، ونقصد به كتاب” البايديا” Paideia الذي أصبح يشكل “أساس الأسس” في بناء اي عملية تعليمية في تاريخ الفلسفة الغربية لا سيما في فلسفات التعليم لما بعد الحداثة التي اعتمدت في مجملها على تعاليم وطروحات السفسطائيين لغرض تجاوز تاريخ التعليم التقليدي المنحدر عن الموروث الميتافيزيقي للفلسفات الافلاطونية والسقراطية والارسطوطاليسية.
واللافت في الموضوع، هو ان معظم الدراسات والأبحاث المقدمة في هذا العمل الفلسفي الجماعي، لم تقدم لنا نماذج منهجية دراسية معتمدة في المدارس الثانوية والجامعية، توضح لنا من خلالها مكامن الخلل المنهجي والفقر الابستمولوجي المدقع الذي يحول دون ولادة التفكير التفلسفي الإبداعي. واكتفت هذه الطروحات بالانشغال في التنظير الفلسفي التقليدي/وليس التفلسفي الإبداعي والنقدي، وهذا ما انعكس سلبا على غياب قاعدة للفهم التاريخي تمكننا من فهم مواطن صيرورة إخفاقات عملية تعليم الفلسفة للكبار قبل الصغار. فأذا كان المختصون في الشأن الفلسفي أنفسهم لا زالوا متمركزين حول مفهوم الحقيقة الافلاطوني فكيف يمكنهم انتاج مناهج دراسية قادرة على تنمية العقل النقدي؟ وكيف يمكنهم بعد ذلك اذن ان يكونوا قادرين على انتاج مناهج تعليمية جديدة تؤسس لنظرية التفكير التفلسفي الإبداعي؟ فهل نجحوا هم أنفسهم من التخلص من التفكير الفلسفي التقليدي لكي ينعرجوا بنا وبمناهجنا نحو التفكير التفلسفي الإبداعي؟ ولماذا غاب هم الانشغال والاشتغال على المناهج التعليمية السائدة إذا كان محور “التفلسف والتعليم” هو المدخل للكتاب الفلسفي الجماعي؟ ولماذا غاب مفهوم “جينالوجيا التفكير التفلسفي” وسيطر مفهوم “أيديولوجيا التفكير الفلسفي” على هذا العمل الجماعي؟ وهل يمكننا ان نعتبر أن عملية التفلسف منفصلة تماما عن عملية انتاج/وإعادة انتاج مناهج تدريس الفلسفة التي لم تختلف بشيء عن سياسة انتاج/وإعادة انتاج المؤلفات الفلسفية الجماعية؟
لقد كان لسيطرة الفلسفات الافلاطونية على مجمل مفاصل الواقع الفلسفي والأكاديمي الأثر البالغ والكبير في ثبات كثير من الرؤى والتصورات الأخلاقية والتربوية والقيّمية التي شكلت بمجملها الأساس الانطولوجي الراسخ للنظام التعليمي في الفلسفة وللنظام القيّمي والأخلاقي الذي يمثل مقدمة أولية لكل نظام شمولي ممكن ومقبل. وقد استوقفنا رأي أحد الباحثين في هذا العمل الفلسفي الجماعي الذين أوضح فيه نظرية افلاطون التكاملية في: الاخلاق؛ التربية؛ السياسة، دون ان يقدم اي قراءة نقدية وتحليلية لتفكيك “بنية النظام الهرموني الأيديولوجي التكاملي” الذي شكل جينالوجيا الأنظمة الشمولية والاستبدادية. واكتفى الباحث بشرح جمالية هذا “النظام الهرموني اليوتوبي ” باعتباره البرادايم الأمثل والأكثر ملائمة لكل زمان رغم مثاليته المطلقة، وذلك لان: ((….قيام المدينة عند افلاطون كان يمثل نمط من التفكير يجمع بين السياسة والأخلاق والتربية في ظل نظام مثالي يقوده الفيلسوف الى غاية تحقيق السعادة، وهو انموذج اقتبسه من الواقع الا انه ادخل عليه تعديلات نظرية عقلية جعلته يبدو مثاليا، وقد اثر هذا المثال على كل الأنظمة الشمولية العقائدية التي تحاول تطبيع الجمهور غرار خطابها السياسي والأخلاقي من اجل بلوغ السعادة ))(المصدر نفسه، ص 317).
فمنذ متى كانت غاية الأنظمة الشمولية بلوغ السعادة للفرد والمجتمع؟ وهل ثبت في تاريخ الفلسفة ان الشمولية الافلاطونية حققت السعادة للإنسانية جمعاء؟
ان الغاية من طرح المقاربة أعلاه، ليس هو افلاطون وفلسفته بذاتها، وانما لعرض تاريخ “التبرير الابستمولوجي/الأكاديمي” الذي لازم الافلاطونية منذ نشأتها حتى يومنا هذا، الى الدرجة التي اكتسبت فيها الافلاطونية صفة “الصلاحية غير النافدة” المنفصلة عن السياقات الزمانية والمكانية جراء الإخفاقات المنهجية والعلمية المتكررة من قبل الأكاديميين التي لا زالت تبرر/وتكرس لنظريات افلاطون الطوباوية وتتجاوز الفلسفات التاريخية والثقافية كالفلسفات الشكية والابيقورية والسفسطائية، وكأن الافلاطونية هي النظام الأمثل للخطاب الاكاديمي المتزن والمفرط بنرجسيته الطوباوية المتفردة باعتباره حامل اسرار النصوص الفلسفية والاعلم بتأويلها والاقدر على كتابتها ونشرها وحفظها وتوزيعها بحسب النظام التراتبي الخاص بأكاديمية افلاطون والمتقارب كليا بالضرورة من النظام التراتبي لطبقة الأكاديميين.
من هنا علينا ان لا نتعجب من تنامي وتضخم “الظاهرة السلفية الاكاديمية” حيث يكون الأكاديميون هم من اول الدعاة الى تبني الافلاطونية واعتمادها في القول والكتابة وطرائق وسلوك التفكير وإنتاج القول الفلسفي. فربما هذا ما يفسر لنا عدم قدرتنا على التمييز بين “الكلام اليوتوبي او الشعاراتي” وبين الكتابة النقدية والتاريخية المؤسسة لكل قول فلسفي براكسيسي قادر على تفكيك تاريخ “التبرير الابستمولوجي والأكاديمي” لفلسفة الروح المطلق الافلاطونية من المهد الى اللحد.

*التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل، تأليف مجموعة من الأكاديميين العرب، اعداد واشراف: د. نضال فاضل البغدادي، دار نيبور للطباعة والنشر-العراق، 2014
**باحث من العراق-متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير الخويلدي : الفنومينولوجيا من حيث هي علم صارم حسب ادموند هوسرل.

مقدمة درس ادموند هوسرل الرياضيات أولاً، ثم كرس نفسه للفلسفة من أجل التأمل في أسس علمها ومعناها. أول …

| د. زهير الخويلدي : هيجل وفنومينولوجيا الروح بين منهج الديالكتيك ومغامرة الوعي .

  مقدمة ” لأنه إذا كانت المعرفة هي أداة الاستيلاء على الجوهر المطلق، فإنه يتبادر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *