إشارة :
في عيد ميلاده الثالث والسبعين ، يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف احتفاء بالمنجز الإبداعي الفذّ للشاعر الكبير “حسب الشيخ جعفر” وإجلالاً لمسيرته الإبداعية الرائعة . وتدعو أسرة الموقع جميع الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تتعلق بمسيرة مبدعنا الكبير . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية انطلاقاُ من حقيقة أن لا زمان يحدّ الإبداع . تحية لشاعرنا الكبير حسب الشيخ جعفر .
المقالة :
ظهر الدرويش من غيبته المستديمة، حليق الرأس تماما بعدما كانت هنلك نتف متفرقة على فروة رأسه القلق، ولكنه اجهز عليها، فظهر كرهبان المعابد البوذية (الدلاي لاما)يحف به صمته المطبق، الدرويش يجلس بهدوء لايكلم احدا سوى الذين يقتربون من مائدته للسلام، كأنه بوذا الشعر المقدس، الذي يبارك الارواح التي اصبحت قرابينا للكلمات، وهو يرد عليهم ويدعوهم للجلوس، ولكنهم سرعان ما يمضون فرحين بملامسة يده الشعرية التي رقصت عليها الكلمات الباذخة، عندما تدور حوله وهو يعمدها، لتغسل ادرانها وتبدو اكثر اشراقا وإيلاما .
هو يحزن حينما يسمع ان فلانا غادرنا الى العالم السفلي، كأنه يهزأ بالموت وكذلك يمقت لعبة الحياة، في مرات عديدة ازوره في بيته، يحاورني بعدما تبدأ الكأس يدبُ دبيبها في دم الدرويش، فيذكر معهد غوركي والطلبة الذين كانوا معه، جيلي عبدالرحمن الشاعر السوداني، وصديقه الروائي غائب طعمة فرمان الذي كان يشرب حد الثمالة، وعن الجواهري الذي صاح بصوته الرخيم (اعد يبن القصب والبردي) عندما سمعه لاول مرة في في مهرجان الشعر العربي الذي اقيم في موسكو عام 1961وبعدما نزل من المنصة عانقه
الجواهري وقال له انت اليوم ضيفي، ولكنه فوجىء بعدما عرف ان حسب الشيخ جعفر هو صديق ابنه (فلاح) لذلك كانت ليلة عامرة بالفودكا والجواهري يسمع الشاعر الجنوبي القادم من بلاد سومر ومن مملكة الماء .
كان يذكر (لينا )المرأة التي لم يحب سواها، وصفها في كتابيه (رماد الدرويش) (والريح تمحو والرمال تتذكر) ب( آلهة الخطى المتثاقلة)المرأة التي كانت تكبره بعشرسنوات ولكنها كانت الصدر الدافىء في عويل الريح والغربة في بلاد الثلج
قال لي يامحمود لقد رأيت لينا قبل يومين عندما خرجت من البيت لأشتري سجائر من الدكان القريب من بيتنا، صادفتني امرأة بذات الشكل والجمال وابتسمت، هي تلك الابتسامة والنظرات التي كانت تلاحقني بها (لينا) عندما كنت اخرج من شقتها، نفس الخطى المتثاقلة (والساقين المبرومتين )لم تكلمني ولم الق ِ عليها التحية ومضت ومازالت مشرقة في عينـــــي.
في محافظة السليمانية كنا مدعوين لمهرجان كلاويش عام 2006 ونزلنا معا وفي فندق بهشتي في (سويت )مشترك نزولا عند رغبته، كنا نسهر حتى الرابعة او الخامسة صباحا والمائدة عامرة (بالويسكي )والمزات التي ماكان يرغب فيها سوى (الزلاطةالمبروشة )التي لا يقدر ان يهضمها بضرس ٍ واحدة ٍ المتبقية في الفم الادرد للدرويش، كان يكلمني عن رسول حمزاتوف وعن دماثة اخلاقه وروحه الشفافة ولقاءاته المتكررة به وعدم تلبية الدعوة التي وجهها له حمزاتوف الى قريته .
ولم يحضر جلسات المهرجان الا ما ندر، وكثيرا ماكان ينزوي في غرفته، وحين اعود اجده لم يزل في عزلته فاطرق عليه الباب، واحاول ان احتال عليه باختلاق موضوعة تثير فيه الدهشة عن المهرجان، او ادعوه الى الغداء ولكن كان يلح علي باحضار الغداء الى شقتنا، فاضطر الى مهاتفة مطبخ الفندق لارسال الاكل الى شقتنا ثم نبدأ بالحفل اليومي بما تبقى من خمر ٍ لدينا وحين يشعر ان البذخ الخمري ستنفد نخرج حتى لو كان في منتصف الليل نبحث عن محل لبيع المشروبات فنتزود كما يشتهي هو ولا يقبل ان ادفع اي دينار بحجة اني صاحب اطفال صغار.
القلق دائما يساورهُ كظله، فهو مستنفر ومتوجس شديد الحساسية بشكل ٍ مفرط، يدخن بافراط حين يشرب وعندما تنتهي السهرة يطفىء آخر سيجارة ويملىء (النفاضة) بالماء، فاسألهُ لماذا يا ابا نؤاس،فيرد ضاحكا (حتى لا يحيي العظام وهي رميم) ومرةً وجدته جالسا على كرسي في ممر الفندق فعجبت ُمن هذا الامر ولكنه بادرني ضاحكا وقال ان العاملات ينظفن (السويت)واستمر بالضحك ثم قال، لو كنت تعلم ما قالته رئيسة العاملات لي هذا اليوم لقد قالت لي قصيدة سجع، وماذا قالت، قالت انتم تسكرون، وهم يصلون، وانتم نائمون، فلا ينظفون، وقد كانت عبارات جميلة وبريئة بالرغم من لكنتها التي كانت بها اجمل والطف،والحقيقة كلما اردت ان يضحك الدرويش ويخرج من شروده اذكرهُ بذلك، وكان يسرد لي كيف ذهب الى عمان بعدما اشتدت علينا المحنة ففي عث بمقالات ثقافية الى جريدة الخليج الاماراتية، وابعث كل ما احصل عليه الى عائلتي، واعيش بماتبقى من مما حصلتُ عليه، كنت وحيدا في غرفتي انا وكأسي وعزلتي التي رافقتني ومازالت تزداد التصاقا بي لانها الوحيدة التي تحفظ سري، وادخل من خلالها الى عوالم اخرى زاخره بالمعنى وهو اغتراب داخل الغربة فما اصعب ذلك ؟؟ .
وفي عام 2005كنا عائدين من الاتحاد الساعة الثالثة ظهرا وقد اشتدت قسوة العراك الطائفي المقيت، وكان يردد ايعقل بالعراق ان يصبح بهذا الشكل ويصل به الامر الى هذه اللعنة ويتحسر ثم يرجع الى شروده المستديم، ولكن الذي حصل ان الطرقات قطعت لمدة اربع ساعات ولم يتحرك السير مترا واحدا، وكان ساهما متسمرا في مكانه، وابواق السيارات تزعق، وكأنها القيامة المزعومة، كان شارد الذهن وبعد ان وصلنا .
قال:سوف لن اخرج بعد ذلك !!
حسب الشيخ جعفر شاعر يشبه محنته ويشبه منجزه، ولا يمت الى المراوغة او الكذب او الخداع او المواربة، بل ينتمي الى الصدق والبراءة والطفولة والعزلة والنزوع والاغتراب والانزياحات الى عوالم لايفهمها الاهو، هو النزق المستنفر الغريب المتوجس المتوجع البعيد القريب الذي يرى ولكنه يغمض عينيه بألم وهو صاحب العزلة وهذه هي فضاءات الدرويش .
* عن صحيفة الاتحاد