من بين كم الإصدارات الجديدة لفت إنتباهي كتاب شعري موسوم بـ ( مملكة النـــور) للشاعر الأديب القاضي رافد حميد فرج نظمه وفق رؤى الشعر النثري فوجدته محكماً مستوفياً لشروط شعر النثر وجدت فيه مالم أجده في الكثير من الإصدارات في هذا النمط الشعري الذي يطلق عليه البعض ( الشعر الهيروغليفي) أي الرمزي والبعض الآخر وصفه بالعبث بمفردات اللغة أوالهذيان .. تلك هي آراء تمثل وجهة نظر لاغير من الأدباء لايمكن إعتمادها أو الركون إليها ، أما الأخرون فيصفون القصيدة النثرية بأنها من بنات الأدب في العصرالجاهلي بل مضى البعض ليعدها سومرية الأصل بابلية وليست حديثة التكوين وهنالك خطأ شائع مفاده بأن هذا النمط من الشعر هو وليد إطلاع الأدباء العرب على الأدب الغربي وتأثرهم بنتاجه الشعري بيد إننا نرى إنهما (أي النص العربي المنثور والغير عربي) يشتركان بميزة واحدة وهي عدم فقدانهما للكثير من المعاني عند ترجمتهما الى اللغات الأخرى فنرى النص الشعري النثري يبقى محتفظاً بإكتنازه وقوته ومعناه خلافاً لشعر العمود (الفراهيدي) اللهم إلا أن يكون المترجم شاعراً عملاقاً يجيد اللغتين وهذا نادر الحدوث .
ولجت الى عالم مملكة النور فوجدته خالياً من كل تلك الإشكالات وفيه مالم أجده في الكثير من الإصدارات الشعرية من بنات النثر العربي حيث أتى إصداره البكر مزداناً بحلة الإبداع ، أخرجه إلينا بطريقة لم نرها من قبل ولم نألفها إذ نراه فيها متنقلاً بين أدق التفاصيل بإنسيابية الكلمة الشعرية وعذوبة وقعها على القاريء (المتلقي) .. أعطى الشاعر كل مايريد قوله عبر فعل درامي متصاعد وبإخراج متقن وكأنه يؤدي دور الممثل على خشبة المسرح (المرسح) فأضاء المكان وشغل أكبر مساحة فيه لأنه يدرك بأن الأم تشغل أكبر مساحة من القلب والذاكرة لأنها حاضنة الإبداع الإنساني والمدرسة الأولى فكان حاذقاً في أن ينثـر كلماته الشعرية على أكبر مساحة من أوراق الربيع حيث إنه شظى الجملة الشعرية الى كلمات متناثرة متباعدة في صفحة واحدة وحينما تعيدها قرآءة تجد الفعلَ مقصوداً فإن كيان الأم لايمكن أن تستوعبه الكلمات لذلك فهي أكبر مما قيل فيها وهذا الفعل لوحده هو قصيدة لم يقلها الشاعر ولكنها منظورة من خلال الإيماء اليها وكان موفقاً بالرغم من إن البعض لم يدركها ولربما قال كان من الممكن أن تشغل قصيدة الشاعر ( مملكة النور ) ربع مساحة المنتج ليستغل ثلاثة الأرباع الباقية لشؤون أخرى أدبية وذات تماس بالنص المدون .. وحسبي إن الفعل كان مدروساً كما ذكرت فكل الأشياء الأخرى هي من بنات (المملكة) لذلك إرتأى الشاعر أن يعطيها كل المساحة ليقول هي الأم وعاء الوجود وكل مافي الوجود .
نه من الأخطاء الشائعة بين النقاد هو إعتمادهم في تناول النص الأدبي على نظريات النقد العالمية وتطبيقها عليه ، أقول هذا بالرغم من أني إستخدمت تطبيقياً النظريات تلك على بعض إستقرآتي النقدية لبعض دواوين الشعراء ومن خلال ذلك خلصت الى إن النص العربي نافـذ لايحتاج للتنظير ( أي إنه مستغن عنه ) لذا فإني أرى في ( مملكة النور ) مالايراه الآخرون من نقاد وغيرهم وأتمنى ألاّ أكون دقيقاً في ذلك ومن أجل أن نكون موضوعيين علينا أن ندخل محراب هذه المملكة لكي نوقــد بعض الشمــوع في قداسـتها كما وصفها رافد قائلاً : ( نورُ الله بعينيكِ / أتطهرُ به / كعبة ً/ دعيني أدر حولكِ / أدورُ أشواطَ لاتنتهي )
هكذا يرى القاضي رافد حميد المملكة فوقف منشداً لها مترجماً لنصوصٍ قرآنية وأحاديث نبوية ومضمناً بها قصيدته كـ ( حملته وهنـاً على وهنٍ ـ وـ الجنة تحت أقدام الأمهات ) مهندساً لقصيدته وفق مايراه هو لم يستل فكرته من أحدٍ فلنستمع إليه منشداً :
( حملتني وهناً على وهنٍ / لحظاتٍ مفعمةً ً بالرهبةِ والإثارةِ / أولَ الإهتزازاتِ والرفرفةِ / حركاتٍ رقيقةً على الجدرانِ / تسعاً من الشهورِ / في بيتٍ مظلمٍ / أضاءهُ الله بنوركِ / علاقةٌ حميمية ٌ بيننا / أعزفُ على الجدران / أوشوش بأشيائي / وأبلغكِ أشياءٍ كثيرةً بالحركاتِ / كرفرفة جناح الفراشة / أشعرُ بما يدورُ في عالمكِ / أعرف بنبضكِ وأعرفُ يديكِ يهدهداني / أرفـلُ بالنور حينَ يدنــدنُ صوتـكِ قربـي )
كلماتٌ نثرها كاللآليء على القرطاس قال من خلالها الكثير مما لم يقله الأخرون كما وضفه عاشق المملكة التي منحها عصارة فكره عرفاناً بالجميل فـ ( الحروف خجلى / حتى الشعر حينَ يَمـرُ ببابـكِ تيــهٌ …) و ( تركتُ القصيدة فوق السطور / تهـدهــدُ أحـرفها تلهـثُ ..) ، كثيرة هي الكلمات التي تفصح عن شجو الذكريات نثـــرها الشاعر مكتنزة بالمعاني الكبيرة وكل مفردة فيها تصلح أن تكون عنوان مجموعة شعرية أو هي قصيدة لم تكتب بعد كـ ( ترتعش الذكرياتُ هناك / تحاصرني الجهات / أنتِ مهد الذكريات / أساومُ عمري لكي لايـفرُ / من المستحيل الى المحتمل / من تجاويف أحضانك تكونت تفاصيلي / أتنفسُ حُـباً / شرفُ النهر الطيـن ) الى أن يقول : ( شجرة الزيتون في بابنا هَرمت ) وإنها لدالة أخرى على قدسية هذه المملكة التي أقسم الله بالزيتون الذي يحرس بابها وجعلها أقصر الطرق ممراً آمناً للفردوس الأعلى .
تلمسنا إن الشاعر رافد حميد كان مؤمنا بأن الشعر ، هو الشعر الذي يدخل كيان المتلقي دون إستئذان لذلك لافرق أن يأتي بالفصحى أو اللهجة مادام يؤدي دوره في بلوغ الغاية لذلك ترى إنه قد وظف الموروث الشعبي في قصيدة مملكة النور توظيفاً موفقاً .. إكتنزت ذاكرة الشاعر بما حدث فرواه ومما سمعه فأنشده وفي ثيمة إشتغل عليها في مملكة النور كان متوافقاً مع الشاعر الوطني معروف الرصافي الذي يقول :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعـراقِ
فنسمعه ينشدُ : ( علمتني كيف أحب الأرض / عرفت منكِ كيفَ أزرعُ الحنطةَ / لتقاتلَ سنابلها الإرهاب ..) يفصح الشاعر بأنه قد تربى في مملكة النور على حب الوطن منذ أن حبا فيها ونشأ صبياً ليقترن وينجب أولاداً يقاتلون دفاعاً عنها لأن حبه إيمانٌ بدورها الكبير في أن يكون فاعلاً فهو يمتلك موهبة الخلق والعطاء متفاعلاً مع الأخرين لأنهم الإمتداد لآصـرة الحياة والشغيلة التي بهم تستدام فأحبهم وأنتمى إليهم لذلك نراه يقول : (النخيلُ الشامخُ يهمسُ لي بسعفاته .. ) .
إن المتصفح لأيام وسنوات مملكة النور سيخلص الى نتيجة مفادها إن الشاعر في مملكة النور قد عَـرَّفَ ( الأم ) بأنها الأرض الخصبة المعطاء بما تمتلكه من ماء وسماء وهواء فهي الوطن إذن ودون الوطن كل شيء هباء فيقول : ( أرى بوجهك العراق / لذا أجعل الشعر يقاتل / والأحلام تقاتل / الأقلام ، الورد يقاتل ..) الشاعر هنا يقاتل فهو مشروع شهادة لكي يكون حراً في زمن العبيد ولكي يكون حياً بين الأموات .. ( وأصحو من السُباة / كي أكـونَ شهيداً / في الزمـن الغريب ) هكـذا وجدتُ الشاعر القاضي رافد حميد فرج الشاهد والشهيد وهو يؤدي مراسيم التعبد في مملكة النـور .
عبدالحسين خلف الدعمي : قراءة حلم الشاعر رافد حميد في ممـــــــــلكة النــــــور
تعليقات الفيسبوك