إشارة :
تمرّ الذكرى الخامسة والعشرون على رحيل المبدع العراقي الكبير غائب طعمة فرمان بلا احتفاء يليق بقامته الروائية العظيمة . تفتتح أسرة الناقد العراقي هذا الملف كمساهمة في هذه الذكرى ، وتدعو الأخوة الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة فيه بما لديهم من بحوث ودراسات ووثائق وذكريات عن الراحل الكبير .. وسيكون الملف مفتوحا من الناحية الزمنية حيث لا حدود زمنية للإبداع العظيم.
المقالة :
نخلة فرمان حدثتنا عن انتهازيي عهود
فيصل عبد الحسن
الخميس 16/08/2007
الناجح في لغة الانتهازيين هو ذلك الذي يستطيع ان يحصل بغير أستحقاق أو جدارة حقيقية على ما لا يستحقه مستخدماً وسائل دنيئة لا تقبلها النفس الكريمة والطبع النبيل ، كما انه يستطيع اللعب على الحبال مع المنتصرين طالباً ودهم وحمايتهم .
وللقراءة والبحث المعرفي عن شخصية الأنتهازي في الادب العربي والعراقي والواقع الحقيقي لهذا النوع من السلوكيات ، علينا أن نذهب الى ما كتبه كاتبنا [غائب طعمة فرمان ] والى روايته التي يستمتع قارئها كلما اعاد قراءتها :[ النخلة والجيران] ، والغريب في الامر أن الرواية لم تفقد حيوية احداثها بالرغم من أنها تتحدث عن بدايات القرن الماضي ، وربما لسبب مهم أن احداث التاريخ العراقي لم تتغير كثيراً ، كما أن أحوال الشعب العراقي لم تتبدل أيضاً فما زالت [ العربات ] التي تدفع باليد أو تلك التي تجرها الخيول في الشوارع ، والشعب العراقي لا يزال يرزح معظم ابنائه تحت خط الفقر والشخصيات الانتهازية لا تزال تمثل أدوارها على المسرح السياسي والاجتماعي ، ولا يزال الشعب العراقي بخيرعند كل أستعمار وكأني بنخلة فرمان تحدثنا عن أنتهازيي عصور الأستعمار وجيرانها أكدوا ذلك بالكلام الواضح ، فهو يدافع عن حريته واستقلاله باذلا الغالي والرخيص حتى ينال حريته بخروج القوات المحتلة لأرضه ، السارقة لخيراته ، المتجنية على كبريائه وتأريخه المضيىء بالأمجاد والمفاخر،والحديث عن حيوية شخصيات النخلة والجيران للروائي العراقي المعروف غائب طعمة فرمان التي صدرت أول مرة عام 1966 يسحبنا للحديث عن بعض أمراض المجتمع العراقي المزمنة والتي لم تتزحزح عن صدارة الاعراف، خصوصا من يبحث عن تطور الشخصية

الانتهازية في الادب الروائي العراقي ،والحقيقة أن شخصية [مصطفى] المركزية في الرواية تجعل كل من قرأ هذا العمل يتشاكل معه ، بمعنى أنه يحاول فهم حقيقته كما لوكان يراه أمامه ، فهونسيج خاص باحث عن الفرصة أو هو الانتهازي في فهمنا السياسي ، أنه ملتقط الفرصة التي ستجعله غنياً ومهما في مجتمع لايقدر احداً غير الناجحين حسبما يعتقد ، والناجح في لغة الانتهازيين هو ذلك الذي يستطيع ان يحصل بغير أستحقاق أو جدارة حقيقية على ما لا يستحقه مستخدماً وسائل دنيئة لا تقبلها النفس الكريمة والطبع النبيل ، كما انه يستطيع اللعب على الحبال مع المنتصرين طالباً ودهم وحمايتهم
أما الناجح في لغة مصطفى كما أسلفنا فهو ذلك الذي يملك مالاً كثيراً ،وقد وجد مصطفى في أرملة صديقه [ سليمة الخبازة ] فرصته في أن يكتري منها غرفة ليجعلها مخزناً يكدس فيه البضائع المهربة التي يحصل عليها بطرق ملتوية من الانجليز الذين احتلوا العراق بداية القرن الماضي أومن سماسرتهم ، وفي الوقت ذاته كانت عينه الطامعة على ما تملكه سليمة الخبازة من مال احتفظت به لساعة الشدة كما تذكر ذلك دائماً،فهو لم يترك فرصة من دون ان يوحي إليها بالعصر الجديد الذي سيشيده الانجليز في البلاد ، ويحكي لها عن عجلة الاقتصاد التي ستدور والرفاه القادم للبلاد من كل حدب وصوب والمعامل التي ستفتح أبوابها بأموال الانجليز وخبرتهم، ويتمنى عليها أن تعطيه مالديها من مال ليشغله لها في[ فرن حديث للصمون ] مضمون الربح سيتم أفتتاحه في بغداد قريباًولكن تلك الاحلام بالغنى السريع تضيع عندما تضيع أموال سليمة في عملية نصب مركب يتعرض له مصطفى ، فلا يبقى أمامه لاستغلال إنسانية سليمة الخبازة غيرإنسانيتها فيقرر الزواج بها ، ويتم له ما يريد، فيشعر أنه أخيراً وجد في بؤس حياته السابقه وفشله المزمن في أن يصير غنياً ما يوحي له بنجاح ضئيل ويكفيه انه صار يهيمن على دار سليمة الخبازة الذي ورثت جزءاً منه عن زوجها الراحل ، و على سليمة الخبازة ارملة صديقه السابق ذاتها .
شخصية أخرى في الرواية تتناوب على الظهور والاختفاء لكنها تبقى شخصية ملهمة ومؤثرة حتى في غيابها عن الاحداث الى عمق العمل الروائي إنّها شخصية [حسين] إبن زوج سليمة الخبازة السابق ، الشاب الباحث عن حياة أفضل ، المتمرد على الحياة الروتينية التي تعيشها أرملة أبيه ، الذي يعبر عن تمرده بالمبيت خارج البيت ، لم يكن عمره يتجاوز العشرين عاماً ، لكنه كان يفكر كما لو كان في الخمسين من عمره باحثاً عن سنواته التي ضاعت كما يعتقد في غمار حياة بائسة مترقباً مع الخبازة كما ينعت سليمة دائماً بمهنتها أن تأتي نخلة البيت القميئة العقيمة ، التي لا يرجى منها أي ثمر ما دامت –كما يعتقد- تروى من حوض الماء القذر الذي يحيط بها في باحة بيتهما الواسعة بأي ثمر.. أخيراً يعمد تمرده على ما يعيشه بالمبيت خارج البيت بعد أن يستأجر غرفة في بيت [الخالة نشمية] بعد تعرفه على [تماضر] الفتاة الهاربة من أهلها لأنهم قسروها على الزواج من شيخ يكبرها بالعمر فاختارت أن تقبل بعلاقة غير شرعية مع حسين بمجرد أن ألتقاها مصادفة قريباً من دار سينما واوحى لها انه الحبيب الذي كانت تبحث عنه ، الذي سيسعدها ولايتركها نهباً للألم والحيرة ، وفي الغرفة التي أكترياها من الخالة نشمية يعيشان حبهما المحرم ، فتحمل تماضر سفاحاً وتتعقد مشكلتهما مع الايام وتتحول حياتهما الى جحيم خصوصاً بعد أن تتدخل الخالة نشمية من خلال معيشتهما في دارها ولغاية في نفسها في حياتهما ، وهنا تتقاطع المصائر الانتهازية في هذا العمل الروائي العراقي الفريد ، مصطفى الذي يأمل بالحصول على مدخرات سليمة وبعد ذلك على سليمة ذاتها وحسين الذي أقتنص فرصة فرار تماضر من زوجها الطاعن بالسن لينفس عن كبته الجنسي ، ويخلط أوراق الحب الطاهر بغايات لا علاقة لها سوى بما يعانيه شاب في مجتمع شرقي منتصف القرن الماضي من كبت والخالة نشمية التي تريد أن تربح من الغنيمة التي وقعت بين يديها : شابة في مقتبل العمر هاربة من أهلها ، ولا يعني بها غير شاب غرير لا يعرف قيمة ما بين يديه .
في الوقت الذي يحاول حسين أن يغير صورته أمام تماضر من [أنتهازي] أحاط رغباته بغلاف الحب الى محب ينفذ لحبيبته ماتريده من الرجل الذي تحبه وبدلاً من أن يتزوجها ويعيشا في البيت الذي تركه له أبوه يبيع البيت ليشتري بثمنه أثاثأً لغرفة تماضر الخالية من الأثاث عند الخالة نشمية تعبيرأ عن حبه لها ، ولكن حين يحصل على ثمن البيت ويغادر ساكنوه [ أرملة أبيه وزوجها مصطفى ] لمن اشتراه من حسين تكون الخالة نشمية قد أكملت صفقة بيع تماضر الى [عمران] غني صاحب بستان كبير تعرفه ، ولم تكتف بذلك بل أنها أصطدمت بحسين وعنفته أشد التعنيف وطردته مستخدمة في سبابه أحط ألفاظ الشتائم التي لم يسمع بمثلها من قبل ، ونجد في الرواية حيوات انتهازية لم تطرأ على بال أديب عراقي قبل [فرمان ] للكتابة عنها ، فهو يغوص في الحي الذي يعيش فيه أبطاله الرئيسيون وينقلنا الى الخان المجاور الذي تعيش فيه آسر كثيرة ؛ كل آسرة في غرفة ، فنجد آسرة الفراش وزوجته خيرية التي تندب سوء حظها لأن زوجها الذي كان فراشاً عند مدير الدائرة التي يعمل فيها نقلوه ليكون فراشاً عند موظف أقل درجة وأهمية من الموظف السابق [ أنتهازية وظيفية من نوع آخر]
[مرهون] إبن الحجية عمشة الذي حاول بأنتهازيته المقيتة التسلق بأخواته الثلاث الى طبقة أجتماعية أغنى فحكم على أخواته بالعنوسة ، العربنجي [حمادي] الذي يفضل أحصنته على زوجته حتى وهو مريض ،ولا يستطيع أن يغادر فراشه..
العالم الذي طاف فيه الروائي ووظفه في المتن الروائي يضج بعوالم الانتهازيين في العراق كأنما قرر الكاتب منذ البداية أن يكتب رواية عن انتهازيي كل عصر يكون فيه شعب العراق مستعمرا ، وتتكامل النهاية المؤسية لبطل الرواية [حسين ]عندما يعرف أن إبن الحولة [ شقاوة المحلة] قد قتل [صاحب أبو البايسكلات ] طعناً بالسكين ، ولم تستطع الشرطة اعتقاله بدعوى أنهم لا يعرفون مكاناً محدداً وعنواناً ثابتاً له وكان الحزن يخيم على أهل المحلة وعلى كل من عرف صاحب لما يمثله من أستقامة ووعي عمالي وحلم دائم يبشر به دائماً بأن الحياة ستكون أفضل لأهل المحلة ولن تبقى بالسوء التي هي عليه ..
لقد كان صاحب البيسكلجي يمثل لحسين ضميره الذي ينبهه الى مسلكه الانتهازي في علاقته مع أرملة أبيه سليمه ومع ما يحيطه من ناس ، وكثيراً ما كان يحنو عليه ويعامله معاملة الاب المفقود [ الميت] ، لقد شعر حسين أن عالمه يتهاوى فهو من جهة فقد البيت الذي كان يأويه وسليمه وزوجها مصطفى رحلا الى منطقة الكرادة بعد بيع حسين البيت وخسر حبيبته تماضر التي صارت عشيقة مرهون وفي لحظات فقدانه الوزن تلك عرف بالمصادفة أن محمود إبن الحولة قاتل (صاحب )يشرب الخمرة في أوتيل الامراء مقابل سينماء الزوراء ، قريباً من الشريعة فيقرر قتله ، فيدخل الاوتيل ويراقب محمود إبن الحولة وعندما يراه يدخل الى المغاسل يتبعه الى هناك ويطعنه طعنات قاتلة ..
لقد عالج غائب طعمة فرمان في هذه الرواية ومعظم اعماله اللاحقة كرواية [خمسة أصوات] 1967 و[المخاض] 1974 و[ القربان] 1975 [ظلال على النافذة ]1979 [المرتجى والمؤمل] 1986 و[المركب] 1989 وفي مجاميعه القصصية [حصاد الرحى ]1954 و[ مولود آخر]1959 و[آلام السيد معروف] 1982 الروح الانتهازية عند الكثيرين من شخصياته معتبراً هذه الظاهرة هي وليدة التناقضات الاجتماعية في المجتمعات الفقيرة التي تسعى فيها الطبقات للسيادة على بعضها البعض بطرق ووسائل عديدة و المجتمع العراقي واحد من هذه المجتمعات ..
– 11-02-2006
• كاتب عراقي مقيم بالمغرب / الاسم الثلاثي : فيصل عبد الحسن
• إيميل :faissalhassan@maktoob.com