هلْ أنصفَ النقدُ النتاجَ الأدبي للمرأةِ المبدعةِ يوماً ما؟ أمْ أنه ما زال يعتبرُها مُجرّدَ فأرِ مُختبرٍ يُسلّطُ عليهِ هوسَ تجاربهِ ونظرياتهِ ليستقصيَ بشكل أو بآخر صورتَها الكامنة وسط ما تختزنهُ عنْها ذاكرةُ الفكْرِ البعيدة والمعاصرة مِنْ كنوز في شتى مجالات الإبداع؛ العلمية منها، والأدبية والفلسفية؟ وهل ثمّةَ حقّا شيءٌ اسمه النّقدُ النسوي؟ وإذا وُجدَ، فهلْ يُقْصدُ بهِ ذاكَ الذي تمارسهُ المرأة الناقدةُ على النص الأدبي بغض النّظرِ عن جنسِ مُؤلّفه، أو ذاك الذي يمارسهُ الرجلُ الباحث والدّارسُ على ما تكتبهُ المرأة؟ وهلْ يُمَثّلُ هذا النوع الجديدُ من النّقد مدرسةً قائمة بذاتها ترتكزُ على أساسياتِ البحثِ العلميّ الأصيل كتلكَ التي حدّدَها المُخطط الجاكبسوني مثلا؟ وماذا عن هذا الاستقصاء لكلِّ ما تكتبُهُ المرأة المُفكّرة، هل يبتنِي على فلسفة خاصّة أمْ أنهُ غيرُ مقنّن، ولا يهدفُ إلاّ لتشخيصِ صورة واحدة من مجموع الصور التي يُنتجها النص الأدبي النسوي دون الاستغناء عن مقارنتها الأبدية بالصورة الذكورية المجاورة والمزاوجة لها؟
ما هذه كلها سوى أسئلة مجازية، غرضها الأساس وضع الإصبع على جرح النقد النسوي المعاصر الغائرِ في الضبابية والوهم، هذا النقد الذي لمْ يُنصفْ إلى اليوم المرأةَ المبدعة، وأنّى لهُ ذلك وهو لمْ يزلْ يُمارسُ عمليتهُ التحليلية بشكل خجول اعتباطي لا يعرفُ كيفَ يفرّقُ فيهِ بين الصورة التي ينتجُها النصُّ عنِ المرأة وبين الأحكام النمطيّة السائدة عنْها! منْ هنا عُدّ النقدُ النسوي متفرعاً عن النقد الثقافي، غير أنه لا يمثل بالضرورة مظهراً من مظاهرِ النَّسقِ الفكريّ الخاص بالمؤلف، لأنّه لا يمكنُ الجزم في كون النص الأدبي – سواء كان شعرياً أم نثرياً- بوحاً ذاتياً، فلعله يكونُ نتاج تأثرٍ بواقع خارجي ولا يمثلُ أزمةً فكرية عند الكاتب، وقد يكون أيضاً انعكاسا لأزمة نفسية خارجية لا علاقة لها بتجارب المؤلف الشخصية، مثلما يمكن أن تكون تلك الصورة المنتجة عن النص انعكاساً بحتا للنسق الفكري العام أو الخاص لدى صاحبهِ، وهو ما يقتضي البحث عن القرائن المرجحة للفصل في الجدلية التي تترشح عن العمل النقدي في مجاله النسوي.
ومن خلال هذه المقاربة يمكننا الانطلاق نحو تشخيص صورة المرأة في قصيدة (نفرآتون) للشاعرة الناقدة د. أسماء غريب، وتحديد وظيفتِها ومدى تأثيرها في النص، سيما وأنّ الشاعرة تنطلقُ في رسم تصورها عن المرأة بعنايةٍ فائقة مُدخلة إيّانا ومنذُ عتبة العنوان إلى أجواء ملحمية تأريخية، وأخرى ميثولوجية شعرية مفعمة بالبهاء والجمال بشكل يدفعنا إلى التساؤل عن هذا المدلول اللغوي لملفوظة (نفرآتون)!
يقول د. محمد جمال الدين مختار في تقديمه لكتاب (نفرتيتي الجميلة التي حكمت مصر في ظل ديانة التوحيد): […أما اسمها فهو يُنطقُ حسب كتابته بالخط الهيروغليفي ((نفرإيتي)) أي الجميلة آتية أو مقبلة، كما سميت في السنة السادسة من حكم زوجها (( نفر نفرو آتون)) أي الجميلة جمال آتون. كذلك مُنحتْ نفرتيتي ألقاباً عديدة منها ((الزوجة الملكية العظمى)) و((سيدة مصر العليا والسفلى، سيدة الأرضيين] (1)
وفقا لما صرّح به د. محمد جمال الدين، فإنّ نفرتيتي هو اسم الملكة التي حكمت مصر في ظل ديانة التوحيد، أمّا زوجها الإمبراطور أمنحوتب الرابع فقد عُرفَ باِسم أخناتون، أي الرّوح الحيّة للإله آتون، وعليه يصبحُ واضحا، أن الدكتورة أسماء جمعت بين (نفرتيتي) و(آتون) مباشرة، مستغنية عن اسمِ الزوج أمنحوتب الرابع، وجاعلة من الملكة وآتون الإله جسدا وفكرا واحدا اسمه (نفرآتون)، وهذا استنتاج يدفعُ إلى طرح السؤال الآتي: هلْ تقصدُ الشاعرةُ بـ (نفرآتون) الملكةَ نفرتيتي حقّاً؟
أيّاً كانَ القصدُ، فجليّ هنا أنّ أسماء جمعتْ بين عنصري الذكورة والأنوثة المؤلّهيْنِ في حضورٍ وجسدٍ واحدٍ. لكن، هلْ هذا يعني أنَّ منْ كان يحكمُ مصرَ في عهد الأسرة الثامنة عشر قبل الميلاد هيَ نفرتيتي، الأنثى المؤلهة، أم زوجها أخناتون؟! لا أحدَ يملكُ الجواب سوى الشاعرة ذاتها، لذا وجبتْ مُراسلتُها من باب الأمانة العلمية وبالتالي سؤالها تفاديا لأيّ خلطٍ ولبسٍ أو ليٍّ لعنق قصيدة على هذا القدر العالي من الأهمية والدقّة التاريخية خاصّةً بعْدَ أن جدّ في شأن (نفرتيتي) أمرٌ آخر(2)؛ ففي يوم الخميس الموافق لـ 13/08/2015، اكتشفَ عالم الآثار البريطاني (نيكولاس ريفز) من (جامعة أريزونا) ممراً سرّيا يؤدي إلى قبر نفرتيتي، وهذا الممرّ لا يتمُّ وُلوجه إلا عبرَ باب سرّية في جدار مقبرة الفرعون توت عنخ آمون. وهي باب كانَ من الصعب ملاحظتها آنفا خلال مئات السنين الماضية، لأنها كانت مزخرفة بشكل يستحيلُ اكتشافه وسط بقية زخارف الجدران نفسه. ولولا تقنية المسح الضوئي التي اعتمدها العالم البريطاني لما تمّ اكتشاف هذه الباب اليوم. كما تجدر الإشارة، أنه لم يكن أحد يعلم في الماضي القريب أو البعيد أيّ شيء عن قبر نفرتيتي ولا عن رفاتها(3).
كان جواب الدكتورة أسماء غريب عن سؤالي، والذي هو في الوقت ذاته سؤال كل قارئ وباحث، كما يلي:
[ما من شكّ في أني كنتُ أقصد عبر ما ذهبتُ إليهِ من تغيير في اسم (نفرتيتي) الجمع بين عنصري الأنوثة والذكورة المؤلّهين في كيان وجسد وفكر واحد، وهذا يدعّمُ بشكل أو بآخر ما قلتُه في نصّي: (أنا نفرتيتي / وأنا أيضا آتون)، وهو مقطع تأريخي صيغَ بحرف الشّعر، أؤسسُ من خلاله لفرضية جديدةٍ ترى أنّ منْ كان يحكم حقا مصر في عهد الأسرة الثامنة عشر هي نفرتيتي، لأنّ زوجها كان قد أصيب بمرض مزمن عضال ألزمه الفراش مباشرة بعد توليه الحكم، مما حال بينه وبين ممارسته لوظائف السلطة بكل فروعها وأقسامها. وحفاظا على أمن وسلامة واستقرار البلاد، اضطرت نفرتيتي باتفاقٍ مع زوجها إلى الخروج في المناسبات الرسمية بين الناس تارة بلباس الإمبراطور أخناتون، وتارات أخرى بلباسها وباِسمها ووجهها الحقيقي نفرتيتي. لكن دعيني أعُدْ معكِ إلى عنوان القصيدة مرّة أخرى؛ أنتِ تقولينَ بأنَّ الملكة قامتْ بتغيير اسمها من (نفرتيتي) إلى (نفرآتون) مباشرة بعد أن غيّرت عقيدتَها، وهذا أمر صحيح، لكن الإشكالية لا توجد في تغيير الاِسم، بقدر ما هي في معنى هذا الاِسم الجديد، فإذا سلّمنا جدلا أنه ليسَ (نفر نفرو آتون نفرتيتي / أيْ (آتون يشرقُ لأنّ الجميلة قد أتتْ)) كما قال وأقرّ العديد من الباحثين، وأنّه (نفرآتون)، يبقى الأمر رغم كل هذا محيرا، لأن (نفرآتون) تعني حرفيا (أشرق الإله) وهذا هو العنوان الحقيقي الذي اخترته لقصيدتي كي أعيدَ طرح الفكرة التي ترى بأنّ الحضارات الأولى القديمة كانتِ السباقة دائما إلى الاعتراف بمكانة المرأة وقدراتها العالية في إدارة شؤون الحياة، السياسية منها على وجه التحديد. وكان الرجل آنذاك يعي تماما هذا الأمر ويملكُ قدرة كبيرةً على تأمّل المرأة بعين الروح، لأنّه كان يراها ((إلها)) متجلّيا بالجمال والكمال والعلوم والذكاء الخارق، فعمِلَ بكلِّ جدّ وتفانٍ وإخلاصٍ على توفير الظروف المناسبة لها كيْ تمارسَ كلَّ حقوقها السياسية، وتقومَ بدورها الحقيقي في إرساء مبادئ التطور الروحي للإنسانية جمعاء. وما نيفيرتيتي التي أشرقتْ على الناس كما تشرق الشمس وسط السماء سوى الدليل الأكبر على ما حققته البشرية في الماضي السحيق من ازدهار وتقدم عظيمين، أمّا تمثالها الشهير الذي نحته الفنانُ تحتمس وعثر عليه فريق تنقيب ألماني بقيادة عالم المصريات لودفيج بورشاردت في تل العمارنة بمصر عام 1912، فهو البرهان الدامغ على ما أقول، ذلك أن تحتمس وهو بصدد نحته لوجه الملكة نيفيرتيتي، حرص كل الحرص على أن يجعلها بعين واحدة، وهي العين اليمنى التي هي عين الرّوح، وهذا ليس بخطأ نحتيّ منه ولكنّه دلالة رمزيّة أراد من خلالها أن يعبّر عمّا كانت تلعبه عين الروح المتألّهة من دور كبير في رخاء مصر وازدهارها ورقيها، لأنّ الإنسانَ فيها كان قد بلغَ إلى مرحلة أصبح معها كائنا روحيا يسعى إلى مصلحة كل الشعوب على الأرض، وما من عبثٍ ما حدثَ آنذاكَ في عهد نيفيرتيتي من توحيد سياسي بين كيانين كبيرين هما مصر العليا ومصر السلفلى بعد أن كانا في حروب ضارية طويلة بينهما. ولقد كانت هذه الوحدة أعظم ما حققته نيفيرتيتي من انتصار عبر بذرة الإيمان الذهبية، وجوهرة السلام الزمردية التي كانت تحملها في قلبها، وهي هذه الجوهرة التي يسعى الجميع اليوم إلى سحقها وحرقها بشتى الوسائل والطرق.
إنّ ما يحدث الآن في مجتمعاتنا هو بسبب طغيان عين المادة، أو عين الجسد، والنساء حتّى وإن كنّ يذهبن إلى المدارس ويحصلن على أرقى الشهادات العلمية من أكبر الجامعات، فإنهن لم يستطعن أن يحققن ولو جزءا يسيرا مما حققته نيفيرتيتي من تقدم، والسبب بسيط للغاية: أصبحتِ النساء اليومَ كالعديد من الرجال، ينظرن ويفكّرن بعقل الرجل المعاصر الذي لا يسعى إلاّ إلى الحروب، والسلطة والحُكم، وإلى كل ماهو فاسد، مما أثّرَ سلباً على أطفال الكونِ الذين لا أمل منهم يرجى، لأنهم سيعيدون ولا ريب إنتاجَ ما تتلقاهُ أمهاتهن من علوم ليستْ في العلم من شيء، ولا بينها وبين التقدم والتحضر أيّ رابط أو علاقة. والطامة تصبحُ أكبر وأعظم، حينما يجدُ المتأمل في شؤون هذا الكوكب المريض، أنّ هذا النوع من التفكير سائد حتى لدى مَنْ يُسَمّونَ اليوم بأهل العرفان والتصوف، فأيّ عرفان هذا وأيّ تصوف، بل أيّة عبادة هذه التي اختزلت المرأةَ في ربّة المعبد، أو تلميذة الشيخ، وعازفة الناي والعود، أو الراقصة وملهمة الشعراء وغيرهم؟ فأينَها بالله عليكم العارفة العالمة، صاحبة الفكر الثاقب والحرف الحق المتوهج بنور العلوم؟! لا نجدها بتاتا، إلا في حالات نادرة جدا. وكل هذا بسبب سيطرة عين المادة حتى على قلوب الكثير من رجال العرفان الغارقين في أوهامهم وأحلامهم بالأنثى المقدسة التي تغازل مخيلاتهم وتأتيهم بالفيوضات “الربّانية” أو بالحروف التي تتلبّسُ بلباس التقوى، وتتجسّدُ بجسد الألوهية، وهي ليست من الألوهية أو التقوى في شيء. من هذا المنطلق تأتي صرخة نفرتيتي العالمة العارفة الملكة صاحبة الفكر الوهاج قبل الوجه والجسد الجميل. تأتي كيْ تزعزع ماتكلّسَ من فساد في قلوب أحفادها من أهل الحرف، وتعيدهم إلى جادة الصواب، علّ تغييرا ما يحدث في المستقبل القريب، وعلّ العالم يعود إلى رخائه تحت ظل الحروف المؤمنة صاحبة القلوب الخابتة السابحة في بحار العلوم الحقة] (4)
وها قد سلّطتِ الشاعرة الضوء على بعض مكنونات نصّها الشعري تتبدى الآن واضحة معالم عظمة الملكة نيفيرتيتي التي اجتمع فيها الجمال المادي بالجمال المعنوي الروحي من خلال إيمانها بالإله الواحد ونبذها عبادة الأصنام المتمثلة بآمون، فجمالها المادي يمثل التجلي البايولوجي لصورتها كامرأة، أمّا جمالها الروحي فيتجلى عبْرَ دعوتها لدين التوحيد وعودتها من أجل إرساء العدل الإلهي كما جاء على لسان أسماء غريب:
“لكنّي اليومَ عُدْتُ
كي أقوّض عَرْشكَ الزائف البالي
وأخْبِر الجميعَ عنّي
وأستردّ كلّ ما سرقتهُ منّي
حرفاً حرفاً حرفاً
وأعْلنَ في حفْلٍ ملكيّ باذخٍ
عن اسمي الحقّ،
فأنا نفِرتيتي سيّدةُ الأرض
وصاحبةُ القيثارة الحمْراء
والرّقصة الوحشية
والأربعين زمرّدة المرصوصة فوق الجبينِ”
ومازال عنوان القصيدة إلى اللحظة يمارس وظيفته الحثية التشويقية بصورة كبيرة جداً لا يجد أمامها المتلقي من بدٍّ سوى السياحة في مصر القديمة والاطلاع على تاريخ نفرتيتي الذي يحكي لنا رائعة من روائع قصص الحضارات القديمة والدولة المدنية في عصور ما قبل الميلاد، فنفرتيتي كانت منذ بدايات حكم زوجها تقف معه جنبا إلى جنب من أجل القضاء على (آمون) كبير آلهة مصر القديمة، ما أورث الأحقاد والضغائن في صدور كهنة معبد آمون وخدمته وأنصاره، الذين ما إن ماتت نفرتيتي حتى بدأت على يدهم حركات مريعة في نبش رفات الملكة وتزوير حقائق الحقبة التي عاشتها، وهذا يبدو جليا على تماثيلها التي نُهبت أو أصابها الكسر أو الابتداع من أجل تشويه سمعتهما، إضافة إلى حذف اسمها من سجلات التأريخ في تصفية تأريخية شرسة لم يسبق لها مثيل، وهذا ما يجعلُ عنوان القصيدة محوراً لتناص قرآني جميل يتولّد من البنية والمعنى اللغويين لاسم الملكة نفرتيتي نفسها، فهي الجميلة التي أتت، وهي في نص أسماء غريب الجميلة التي عادت وأشرقت، ولابدّ للحق من بزوغ مهما طال العهد، لأنّ الحق ظاهر وقد تكفل الله تعالى بذلك من خلال قوله: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (5) وهي إشارة ربما لم تولد بالصدفة وإنما من إيمان الشاعرة العميق بفلسفة العدل الإلهي.
وسط خليط عرفاني تاريخي اجتماعي رسمته أنامل ثرية بالمعرفة ورفيقة للقلم، غصتُ ومعي قلمي البسيط لنقتطف القليل مما أرادت د. أسماء غريب أن تقوله على لسان (نفرآتون) أو ما أرادتْ (نفرآتون) أن تقوله على لسان د. أسماء غريب فكلاهما قد صرختا بوجه نمطية المرأة واستلاب حقها وكلاهما سعتا لترميم كيان المرأة المخدوش منذ الأزل، وتحرير صورتها الحقيقية المسلوبة والتي تمثل انعكاسا لقدرات المرأة ودورها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وفي إرساء دعائم المجتمع المدني.
ومن العنوان ننتقل إلى مطلع القصيدة الذي تقول فيه الشاعرة ما يلي:
“أيّها الحرفُ الصّعلوكُ
كُنْ مَنْ تكُون،
فكَما تَدينُ تُدانُ
وإذا سَرقتَ سُرِقْتَ
وإذا خُنْتَ ظَهَر اليومَ قبل الغدِ
مَنْ سيخُونكَ ويسقيكَ
منَ الكأس نفسِها
السّـُمّ الزعاف
إنّمَا هي أعمالكَ تـُردُّ إليكَ
ولا تحصدُ إلا ما زرعتْهُ يداكَ”
وليس بالخفي أبدا ما يظهر في هذا المقطع من إحساس وشعور بالظلم والعدوان الذي مارسه “الحرف الصعلوك” بحق (نفرتيتي)، فالصعلوك هو ابن الليل المتسكع الذي لا مأوى له، والحرف هو أداة ( الكتابة، التوصيل، الرسالة)، فكيف يكون الحرف صعلوكا؟ إذ أن الحرف ليس كمثل سائر الكائنات الحية التي تحتاج إلى المأوى وبالذات الإنسان، فما معنى افتقار الحرف؟ وما هي صعلكته؟
إن صورة الانزياح الدلالي الذي عمدت إليه الشاعرة يؤدي دوراً إيقونياً خاصاً، ومعلما رمزيا دقيقاً، فالحرف أيقونة التدوين والكتابة والأرخنة، وصعلكة الحرف ترمز إلى التأريخ الصعلوك الذي لا إرث له ولا تركة مشرفة، وبذلك تعطي الشاعرة لملفوظة (الحرف الصعلوك) دوراً رمزيا مهماً يحيل إلى تأريخ مزور مفترى تمتطيه الأغراض التهديمية القبيحة التي طالت تأريخ نفيرتيتي وزوجها، ووصلت إلى حّد التشويه الأخلاقي لسيرة الإمبراطور الذي يبدو في إحدى المنحوتات القديمة وهو يمارس الرذيلة مع أخيه (سمنكارع)(6)، ولا يستبعد أنّ هذه المنحوتات ما هي سوى بعض منْ آثار الحملة التسقيطية التي قام بهَا مَنْ حكمَ مصرَ بعْدَ (أخناتون) من عبدة آمون انتقاما منه ومن نفرتيتي حاملة سرّ دين التوحيد والأحدية من بعده. إذن تريد الشاعرة أن تقول ومن خلال صورة الحرف الصعلوك أنه على الرغم من كل ما حدثَ على يده من تشويه لتاريخ ومجد (نفرآتون) فإنه سيأتي يوم ويلاقي فيه هذا الحرف القصاص، وقد أوجزت الشاعرة بقولها (كما تدين تدان) في إشارة إلى إعلان الشاعرة محكمة إنسانية حقة تقتص ممن ظلم (نفرآتون) وسرق مجدها وتراثها وزور تأريخها، لتصدر حكمها القاضي بالنصر وعودة المسروق إلى صاحبه الحق عبر ثورة الملكة الجديدة والتي أذيع بيانها الأول عبر قصيدة (نفرآتون)، فنفرآتون المرأة العظيمة الجميلة الحاكمة العادلة المؤمنة – التي يتجلى فيها جمال العدل الإلهي، والتي طالتها يد الظلم والتحريف- عائدة لتكون المرأة الثائرة عبر تأريخها العائد ومجدها المحرر، ولتعلن من خلال هذا النص الشعري الرائع محكمة تقاضي فيها التأريخ ومزوريه لتنتصر للحق وتقتص من الجناة:
“نعم أيّها المَلـِكُ اللصُّ
فقدْ رأيتـُكَ وأنتَ تنبُش قبْري
وتسرقُ رُفاتي
وتمُدُّ يدكَ إلى اللون الأخضرِ فِي عيوني
والحرفِ الأزرقِ المنقوشِ
فوق جدرانِ محرابي
أجل، الحرف الأزرق
أتتذكّرُه؟ لقد أخذتهُ كاملا
وأخذت معهُ حتى النقاط والشموس الذهبيّة”
تبدأ (نفرتيتي) وعلى لسان الشاعرة في تعداد مظالمها وما جرى بعد وفاتها، وكيف شُوهت أمجادها ونبش قبرها، وكما عودتنا (د. أسماء غريب) أن ترسم لنا -بفرشاتها الرشيقة- الحياة والحق وجمال التعلق بين البشر والإله الواحد المحبوب، فهي لا تنفك تلون قصائدها بألوان الطهر والسلام والنصر والنماء وهي خصيصة تميزت بها قصائدها العرفانية التي تسيل بنهر المحبة والعطاء.
فألوانها بما فيها الأخضر والأزرق والشموس الذهبية – إضافة إلى مدلولها التأريخي – ترسم لنا معاني المحبة التي مهما سرقت وحاول الأعداء إطفاءها تظل جذوتها منيرة ساطعة بالضّبط كما شاءت لها الشاعرة عبر عنوان قصيدتها (أشرق الإله) أو (نفرآتون).
وفي المقطع الثالث تستمر نفرتيتي الثائرة في عقد محكمتها ومحاكمة ظالميها وعبر الحرف الصوفي المنتصر لها وهو حرف قصيدة (نفرآتون) فتقول :
“آه، آهٍ ما أجشعكَ
أيّها الشاعرُ المريض بجنونِ العظمة
لم تنسَ شيئا وقعَ عليه بصركَ
في غرفتي الملكيّة،
حتّى كتابَ الموتى أخذتهُ
وكتاب تفسير الأحلام العظيمِ
ثم خرجتَ بين النّاس تؤسّسُ لك
مملكة جديدة وعرشا خلتهُ أزليّاً
وطفقتَ تكتبُ ممّا سرقتَ أشعاراً
تقولُ إنّها عنّي،
أنا إمبراطورتكَ التي غيّرتَ اسمَها
وأسماء شموسها وكنوزها”
وتعلن هنا في رحاب محكمة الحرف الأصيل عن مشارك آخر في العدوان التأريخي الظالم على المرأة السالب لعظمتها الحقة ودورها الحق في توظيف قدراتها في إدارة المجتمع المدني ونيل استحقاقها في إدارة شؤون الأمة مثلها مثل الرجل ولتؤسس لنا مبدأً جميلاً وهو أحقية المرأة بقيادة المجتمع تبعا للاستحقاق الإيماني والإنساني، والذي يجسد قوله تعالى ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم))(7)
وبذلك تستكمل الثالوث المشؤوم المخرب والمفسد للكون والمدمر للبشرية وهو:
1- (السلطان) الذي عبرت عنه الشاعرة بـ (الملك)
2- (التأريخ المزور) والذي يرمز إلى مؤسسي الفتن مزوري التأريخ، عبّرت عنهم الشاعرة بـ (الحرف الصعلوك)
3- (المتملقون) من (وعاظ السلاطين) أو (الحروفيون الفاسدون) وهم (أئمة الضلال) أو (علماء السوء) أو (فقهاء الفتنة) أو (أهل العرفان الموبوئين) والذين عبرت عنهم الشاعرة بـ (الشاعر المريض)
فهذا الثالوث هو من يتحمل مسؤولية سرقة حقوق الشعوب المسلوبة وبالأخص حقوق المرأة، المتجلي عبر مظلمة نفرتيتي.
وتعود نفرتيتي مرة أخرى لتجلس على دكة القضاء، وتعلن بعين الرّوح عن هذا الرهان والتحدي الجديد للمرأة، وعن ثورتها الآتية لا محالة بقوة (نفرآتون) وعنفوان (سيدة الأرض)، هذا العنفوان الذي يرسمُ لنا في المقطعين الأخيرين من القصيدة صورةً تؤدي وظيفة رمزية خاصة، هي صورة (دولة العدل الإلهي) التي ستسود بها، ويالها من صورة دلالية خلابة حيث تجتمع فيها المدلولات (سيدة الأرض) (جميلة الإله الواحد) (دولة العدل الإلهي المنتظرة) لتتكلل برمزية النقاء والصفاء، والطهر والسلام عبر أيقونة (الحرف الأبيض) الذي يمثل صاحب الدستور أو الميثاق الجديد العادل الذي تحتاجه الأرض الآن أكثر من أي وقت مضى، عوضا عن مواثيق أممية زائفة تنظّر وتشرعن القتل والظلم والإرهاب.
وعذراً إن قلتُ إن الشاعرة د.أسماء غريب قد سرقتنا من همومنا لتضعنا في باحة قصر نفرتيتي لنعيش وإياها لحظات حاسمة من تأريخ ربما قد نعيشه أو لا نعيشه لكنه آت حتماً لينتصف للمظلوم من الظالم وليعمّ الأمن والسلام والوئام.
ولنختم هذه الدراسة المتواضعة بالمقطع الأخير من رائعة أسماء، وزبور عشقها الأزلي لعظمة العدل الإلهي وتجليات نوره في قصيدتها (نفرآتون):
“أنا نفرتيتي
وأنا أيضا آتون
فأعيدوا أيها الشّعراء قراءة حروفكم
وكتابةَ قصائدكم
ودقّقوا يا أهلَ التأريخ النظر
في بَردياتِكُم
وأعيدوا يا أهلَ اللاّهوت
كتابة تعاليمكمُ
فأنا الإلهُ الواحدُ والمعبودُ الأوحد”
الهوامش:
(1) جوليا سامسون، (نفرتيتي الجميلة التي حكمت مصر في ظل ديانة التوحيد)، ترجمة مختار السويفي، ط 2 – 1998 ، الدار المصرية اللبنانية، ص12
(2) تجدرُ الإشارة إلى أنّ أسماء غريب كتبت قصيدتها (نفرآتون) بتأريخ 10/07/2015 ونشرتها مباشرة على صفحتها بالفيسبوك، ثم تفرّد بسبق وحصرية الإعلان عنها رقميا بعد ذلك في اليوم التالي(11/07/2015) الأديب المصري مصطفى الجارحي على موقع (كتب).
(3) خبر اكتشاف ممر سري ربما يحوي قبر نفرتيتي منشور على هذا الرابط: http://arabic.rt.com/news/791203-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%85%D9%85%D8%B1-%D8%B3%D8%B1%D9%8A-%D9%82%D8%A8%D8%B1-%D9%86%D9%81%D8%B1%D8%AA%D9%8A%D8%AA%D9%8A/
(4) كلمة الدكتورة أسماء غريب
(5) الإسراء/81
(6) http://www.civilizationguards.com/2014/05/nefertiti.html
الملكة نفرتيتي (بحث كامل بالصور) لمحمود مندراوي
(7) الحجرات /13