الطريق
وقفت السيارة العسكرية قرب الجسر ، ونزل المجند الصهيوني ، وفتح الباب ، وقال لي : انزلي .
مدّ المجند يده إليّ ، فابتعدتُ عنه ، وقلتُ : كلا .
صاح السائق بنفاد صبر : دعها تنزل وحدها .
نزلتُ من السيارة ، وجسمي العجوز يتصايح من الألم ، فأشار المجند إلى الجسر ، وقال : امضي ، ولا تلتفتي ، لم يعد لديك شيء هنا .
مضيتُ نحو الجسر ، وعبرتُ إلى الضفة الأخرى ، وسرعان ما سمعتُ السيارة تستدير ، وتمضي بعيداً .
الأحمق ، يظنّ أنه لم لي شيء هنا ، لأني أصبحتُ بدون بيت ، لن هنا طفولتي .. وشبابي .. وحياتي .. وزيتوناتي ، التي رعيتها مع أبي أمد ، لستُ ساذجة ، إنني أم أحمد ، فحين قال لي الضابط الصهيوني ” سأنسف بيتك ” صدقته ، نعم ، فقد نسفوا الكثير من البيوت ، ولم أستطع أن أنقذ بيتنا ، كان الثمن غالياً ، وصاح الضابط بي : دلينا عليه .
لذتُ بالصمت ، فأضاف : نحن نعرف أنك آويته ليلة ، لا بأس سنسامحك .
ومال عليّ ، وقال : إنه مسلح ، وقد يقتل بعض الأبرياء.
بقيتُ صامتة ، فقال من بين أسنانه : ستندمين .
وعرفتُ معنى ” ستندمين ” ، حين أخذوني إلى بيتي ، وقال الضابط بحنق : سننسف البيت إذا بقيتِ صامتة .
بقيتُ صامتة ، نعم ، ولكن لو تكلمت ، آه يا أبا أحمد ، واحتدّ الضابط الصهيوني ، وصاح : انسفوه .
لم أنفجر بالبكاء ، حين رأيتُ بيتنا ينسف ، ولذتُ بشجرة الزيتون ، آه يا أبا أحمد ، إنّ الفدائي لم يقتل ” بعض الأبرياء ” ، مثلما قال الضابط ، بل هاجم دورية للعدو ، وقتل ثلاثة من أفرادها ، واختفى .. نعم .. اختفى .. ولم يعثروا له على أثر .
آه الطريق طويل ، وجسمي العجوز يئن من الألم ، وابتسمتُ حين تذكرتُ ما قاله لي الفدائي : إنّ طريقنا طويل يا جدتي ، ولكنه لن يكون بلا نهاية .
نعم ، الطريق طويل ، طويل جداً ، لكننا سنسيره ، فهذا قدرنا .
الحجارة
أغلقت الدكاكين على عجل ، إثر الهتافات الأولى “يسقط الاحتلال ” ” تحيا فلسطين ” ، حتى أبو سالم ، أطفأ النار في مقهاه ، وصاح بصوته الأجش : هيا يا شباب ، سنغلق المقهى .
شباب ! أين الشباب ؟ إنّ أبا سالم نفسه في أواخر الخمسين ، وهو ” شاب ” أكثر منا ، وسرعان ما حمل ” الشباب ” سنيهم ، وسبحاتهم ، وهمومهم ، ومضوا يدبون في شتى الاتجاهات .
وهتف أبو سالم : انهض يا أبا خليل ، ستدهمنا هذه المظاهرة .
نهضتُ ببطء ، وقلتُ : وما شأنك أنت والمظاهرة ؟
فردّ أبو سالم ، وهو يمسك بالقفل : أنت تعرف الجنود ، يا أبا خليل ، إنهم مجرمون ، وقد يكسرون كلّ شيء .
أمسكتُ عكازي ، ومضيتَُ أدب نحو البيت ، نعم ، إنني أعرفهم ، أعرفهم جيداً ، فقد أخذوا بستاني ، وأخذوا بيتي ، وشردوني من مخيم إلى مخيم .
وعند الباب ، استقبلتني أم خليل بصيحة ملتاعة : فائز .
وأجبتها قائلاً : لابد أنه يلهوا مع الأطفال .
لم يقنعها جوابي ، فقالت : أخشى أن يكون مع المتظاهرين .
وكتمتُ انفعالي ،وقلتُ : اطمئني ، لا يمكن أن يكون معهم .
وردت بصوت باك : لن أطمئن إلا إذا أتيتني به .
وصحتُ بانفعال : سيأتي بعد قليل . واندفعت نحو الباب ، وهي تقول : سأذهب أنا ، وآتي به .
فأمسكتها بيديّ المرتعشتين ، وهممتُ أن أدفعها إلى الداخل ، لكن عينيها الغارقتين بالدموع أوقفتاني ، فقلتُ : عودي ، سأذهب إليه بنفسي .
توكأتُ على عكازي ، ورحتُ أدب في الشارع ، فبعد مرضي الأخير ، لم أعد أستطيع السير بدون العكاز ، وتلفتُ حولي ، لا أطفال في الشوارع ، لابد أنهم حجزوا في البيوت ، فللحجارة نداء لا يقوم ، ترى أين فائز ؟ أهو مع المتظاهرين ؟ لا يمكن ، إنه هادىء، مسالم ، لكنه ليس جباناً ، فهو حفيدي ، وأنا أعرفه .
ارتفع الضجيج والهتافات ” يسقط الاحتلال ” ” تحيا فلسطين ” ، وهدر سيل من الفتيان والفتيات والأطفال . ومن بعيد ظهر الجنود ، وراحوا يطلقون قنابل الغاز المسيل للدموع ، وسقطت قنبلة إلى جانبي ، وقل أن تنفجر ، خفت فتاة شابة ، وأمسكت القنبلة ، ورمتها نحو الجنود ، ثم أسرعت إليّ ، وأخذت لبدي ، وقالت : عمي، ابتعد من هنا .
فأبعدتُ يدها عني ، وقلتُ : دعيني ، يا بنيتي .
وهتفت الفتاة : نحن نكفيكم ، لقد جاء دورنا ، يا عم .
واندفع جندي من بين الجنود ، وأقبل نحوي ملوحاً ببندقيته ، فرفعتُ عكازي ، ورميته به ، وأنا أصيح : يسقط الاحتلال .
وفجأة انهالت الحجارة على الجندي ، فتوقف مذهولاً ، ثم تراجع ، وأطلق ساقيه للريح ، ولاذ بجماعته. وانحنيتُ على الأرض ، ومددتُ يدي لألتقط حجراً ، وإذا بعينيّ تلتقيان بعيني حفي فائز ، وهو ينحني مثلي ، فتراجع قليلاً ، وتمتم : جدي .
فابتسمتُ له ، وقلتُ : التقط الحجر.
وأشرق وجه فائز ، وامتدت يده مع يدي ، والتقط كلّ منا حجراً ، ومعاً ومع كلّ الفتيان والفتيات والأطفال ، ووسط الهتافة بحياة فلسطين ، وسقوط المحتلين ، أطلقنا الحجارة نحو جنود الاحتلال .
القنبلة
طوقتني أمي بذراعيها ، وعيناها مليئتان بالدموع ، وقالت على غير عادتها : سافر ، يا بنيّ ، سافر حيثما تريد .
ماذا جرى ” كانت أمي تعارض دائماً رغبتي في السفر، وابتسمتُ ، وقلتُ : لا أحبّ أن أسافر ، وأتركك هنا وحيدة .
والتمعت عيناها الدامعتان بحزن ، قالت : سأنتظرك على الغداء ، سأنتظرك ، لا تتأخر .
لكن يبدو أنني سأتأخر كثيراً ، فقد فاجأني جند الاحتلال في الشارع ، واقتادوني إلى المركز ، وفي غرفة الضابط ، رأيتُ جميل يقف مطوقاً بين جنديين .
وحدق الضابط بي ، وقال : أين القنبلة ؟
وأجبته دون أن ألتفت إلى أحد : أية قنبلة ؟
ونهض الضابط من مكانه ، وقال : لقد اعترف رفيقك جميل ، بأنه جاءك البارحة إلى البيت ، وأعطاك قنبلة .
وشعرتُ بجميل يتململ محرجاً ، لكني لم ألتفت إليه ، وقلتُ : لم يعطني جميل أي شيء .
واحتد الضابط ، وقال : سننسف بيتك إذا لم تعترف .
والتفت إلى الجند ، وقال : فلنذهب ، هيا .
وحشرني الجند في عربة مصفحة ، انطلقت بسرعة ، وعلى الفور علفتُ وجهتهم . وتوقفت العربة أمام منزلنا، ونزل الضابط ، وراح يطرق الباب ، وهو يصيح : أنزلوه .
وأطلت أمي من الباب ، وقبل أن تتفوه بكلمة دفعها الضابط جانبا ، واندفع إلى الداخل ، وهو يصيح بالجند : فتشوا المنزل .
وبدت أمي ، على غير عادتها ، جامدة ، وهي ترى جند الاحتلال يقلبون المنزل . وحين يئسوا ، عادوا إلى الضابط ، وقال أحدهم : لم نعثر على شيء .
وتطلعتُ إلى أمي ، لكنها ظلت جامدة ، والتفت الضابط إليّ ، وقال : ستندم .
فأجبته قائلاً : قلتُ لك ..
وقبل أن أنهي كلامي ، رنّ كفه فوق وجهي ، وشعرتُ بالألم عندما سمعتُ أمي تشهق : آآآآ .
وصاح الضابط : خذوه .
ووضعوني في زنزانة منفردة ، وأمهلوني أربع وعشرين ساعة لأسلمهم القنبلة ، أو .. لا أدري كيف غفوتُ ، لكني سرعان ما استيقظت على صوت انفجار بعيد ، وتحسستُ خدي ، وتساءلتُ للمرة الألف : كيف اختفت القنبلة ؟ لقد وضعتها بنفسي بين كتبي ، لعل أمي .. لا إنها امرأة عجوز .. لكن .. من يدري ، آه عرفتُ لماذا تريدني أن أسافر ، إنها تخشى أن أنتهي كما انتهى أخي برصاص جند الاحتلال .
وفُتح باب الزنزانة ، وأطلّ الضابط ، وقال : أسمعت الانفجار ؟
واعتدلتُ في جلستي ، وأجبت : نعم ، سمعته .
وحدق الضابط فيّ ، وقال : لقد تلفنوا لي من وسط المدينة ، إنها أمك .
لم أتمالك نفسي ، فصحتُ : أمي !
وسالت ابتسامة دبقة فوق شفتي الضابط ، وقال : يبدو أنكم لم تدربوها جيداً ، لقد حاولت أمك أن تلق قنبلة على إحدى دورياتنا ، لكنها انفجرت على مقربة منها ، وأصابتها بجروح بليغة .
أرض الميعاد
لم أشارك قي احتلال القرية ، فقد كنتُ وقتها طريحاً في المستشفى ، أعاني من حمى غريبة . وما إن خفت الحمى ، واستعدتُ بعض نشاطي ، حتى أمرتُ أن ألتحق بوحدتي . وها إني رغم ضعفي ، أكلف بالمساهمة في اقتحام أحد البيوت ، واعتقال صاحبها ، لأنه على ما قيل، يحرض على مقاومتنا ، ويتعاون مع المخربين .
ومع الليل ، انطلقنا لتنفيذ مهمتنا ، يقودنا ضابط متوسط العمر . كان حظر التجول مفروضاً على القرية ، فقد قاوم الأهلون قواتنا مقاومة عنيفة ، وقد أخبرني أحد المجندين ، أنّ القائد أمر بإبعاد عدد من الأهلين ، ونسف بيوتهم . ترددتُ في تصديق الأمر ، لكن يبدو أنّ المجند كان صادقاً ، فقد رأيتُ بأم عينيّ أنقاض البيوت المنسوفة .
أحطنا بالبيت ، وأسلحتنا مهيأة لإسكات أية مقاومة ، وأشار الضابط إليّ أن أتقدم ، وقال : أطرق الباب .
وتقدمتُ على الفور ، وطرقتُ الباب مراراً ، لكن أحداً لم يرد ، فالتفتُ إلى الضابط ، وقلتُ : ُيبدو أنّ البيت خال .
وقال الضابط ، وهو يتقدم نحوي : كلا ، إنهم في الداخل ، ابتعد .
ولم أكد أبتعد قليلاً ، حتى فتح النار على الباب ، ورفسه بقوة ، فترنح الباب ، وتداعى جانباً ، وصاح الضابط ، دون أن يلتفت إليّ : هي ، أدخل .
ودخلتُ البيت ، ورشاشتي بيدي ، ترتعش انفعالاً ، وعلى ضوء فانوس ، رأيتُ امرأة عجوزاً ، تضم طفلاً في حدود الخامسة من عمره ، وتراءى لي الجندي النازي بصلبه المعقوف ، يقتحم بيتنا ، ورشاشته بيده ، وصرخ الضابط : أين هو ؟ تكلمي .
وتردد في سمعي ، صوت الجندي النازي ، يصرخ في وجه جدتي : أين هو ؟ تكلمي .
وأجابت جدتي بصوت مختنق : لا أدري .
وبصوت مختنق أجابت المرأة العجوز : لا أدري .
ورفع الجندي النازي يده ، وصفع جدتي . صرخت جدتي ، وضمتني مرتعبة إلى صدرها ، وحدقت في الجندي النازي ، وعيناي تفيضان بالخوف والكره ، ونظرت إلى الطفل ، الملتصق بالمرأة العجوز ، وإذا به يحدق فيّ ، وعيناه البنيتان تفيضان بالخوف والكره ، آه آن لي أن أنسى عينيه ما حييت .
وأفقتُ على الضابط يصيح : أخبريني ، أين هو ؟
وإلا ..
وتطلعت المرأة العجوز إليه ، وقالت : لا أدري .. لا أدري .
واندفع الضابط نحوها ، ورفع يده ليصفعها ، وإذا يدي تمتدّ ، وتطبق على يده ، فتطلع إليّ ، وقال : أجننت !
فأجبته وأنا أتصبب عرقاً ، لن أدعك تصفعها .
وسحب الضابط يده بعنف ، وصاح : موهين .
وأقبل كوهين ، ورشاشته بين يديه ، فقال الضابط : أبعد هذه العجوز ، وانسف البيت .
فقال كوهين ، وهو يجرجر العجوز : حاضر .
ورمقني الضابط بغضب ، وقال ، وهو يخرج : ستدفع الثمن .
ورميتُ رشاشتي ، وخرجتُ إلى الليل ، أي ثمن سأدفعه أفدح من هذا ؟ لقد ماتت جدتي في إحدى المعسكرات النازية ، وجئتُ إلى .. أرض الميعاد .. لأحقق حلمها في الهرب من الجحيم ، وفجأة .. دويّ انفجار ، لم تصرخ المرأة العجوز ، وسمعتُ جدتي تصرخ .. تصرخ .. تصرخ .
أحمد آخر
جفلتُ حين دقّ الباب ، وبصورة لا إرادية ، رمقتُ زوجتي بنظرة سريعة . اعتدلت زوجتي ، وهمت أن تنهض ، لكني أشرتُ لها أن تبقى في فراشها ، إنها لا تكاد تقوى على حمل نفسها ، فهي في الشهر الأخير من الحمل .
وفتحتُ الباب ، وإذا عينان شابتان تحدجاني بنظرة ثاقبة ، وقبل أن أتفوه بكلمة ، قال الشاب : أنت إبراهيم ؟
وحولتُ أن أتمالك نفسي ، وأجبتُ : نعم ، من أنت ؟
وتابع الشاب قائلاً ، دون أن يلتفت إلى سؤالي : لقد كلفت أن أبلغك ، أنه عليك أن تترك العمل معهم .
لم أجد جواباً ، وألقى الشاب نظرة سريعة على الزقاق ، ثم أحكم كوفيته حول وجهه ، ومضى بخطوات ثابتة . وأفقتُ على زوجتي تهتف بي : إبراهيم ، من بالباب ؟
وأغلقتُ الباب ، وعدتُ إلى الغرفة ، وقلتُ : لا أحد .
وارتديتُ ملابسي الرسمية ، فتطلعت زوجتي إليّ ، وقد بدا الخوف في عينيها ، وقالت : ليتك تبقى اليوم إلى جانبي .
وأدركتُ ما ترمي إليه ، إنها لا تخاف على نفسها ، بل تخاف عليّ ، لقد قتل قبل يومين رجل بوليس مثلي ، وأعلن أنه متعاون مع العدو . . عميل للصهيونية .. خائن لشعبه .. ، فقلتُ : لدي عمل .
وردت زوجتي : قل لهم أنك مريض .
وفتحتُ الباب ، وقلتُ : سيقولون إني خائف .
وهتفت زوجتي : لكن قد تحضرني الولادة فقلتُ وأنا أغلق الباب ورائي : أرسلي إلى أم خليل .في طريقي إلى المخفر ، شعرتُ بالعيون تحاصرني ، أهو مجرد شعور ؟ربما ، فأنا لم أؤذ ِ أحدا ، إن الكثيرين يعملن معهم ، لا حباً بهم ، بل لأنهم يريدون أن يعيشوا ، الحياة صعبة ، ولابد لي من العمل لأعيش ، إنني لا أريد أن يلقى وليدي القادم مصير ابني أحمد ، لو كنت وقتها أعمل ، ولدي ما يكفيني لأخذته إلى الطبيب ، ولكان الآن يعو كالفرحة إلى جانبي .وترددت أصوات من بعيد ، أعما شغب ، انتفاضة ، ثورة الحجارة ، أسماء متعددة لمسمى واحد ، شباب .. شابات .. أطفال .. وحجارة . لن تطول أعمال الشغب ، هذا ما قاله الضابط الإسرائيلي في مخفرنا ، بل هدد سيدفعون ثمن حجارتهم غالياً ، ولكن ها هي .. أعمال الشغب .. تطول .. وها هي الحجارة ما زالت تتطاير .. دون أن يبالي أحد بالثمن .
على طريق الملتوف
” 1 ”
المحامي
قبل بدء المحكمة ، قلتُ لأحمد ، أن لا ينفعل ، أو يغضب ، وأن لا يقول غير الحقيقة ، لكن أحمد طفلا استثيرت براءته ، فلم ينفعل فقط ، بل صاح بغضب في وجه رئيس المحكمة : أنت تكذب .
فأصدرت المحكمة قراراً باحتجازه لأجل غير مسمى ، بتهمة إهانة رئيس المحكمة . وتدخاتُ على الفور ، بصفتي محامي الطفل ، وقلتُ لرئيس المحكمة : لا يجوز احتجاز أحمد ، إنه طفل صغير في الحادية عشرة من عمره .
إلا أنّ رئيس المحكمة لم يصغ ِ إليّ ، وصاح بالحارس : خذه .
وحاولت أم أحمد أن تتشبث بابنها ، وهي تصيح باكية : ابني ، ابني أحمد .
” 2 ”
الدورية
دارت السيارة في شوارع رام الله ، وهي تقل خمسة من جنود الاحتلال ، ورغم أسلحتهم وسيارتهم المصفحة ، كانوا يرتعشون في دواخلهم ، لقد حذرهم الضابط أكثر من مرة : افتحوا أعينكم ، وكونا حذرين ، ففي داخل كل عربي هنا إرهابي مخرب .
لم يكن الجنود بحاجة إلى تحذير الضابط ، فلا يكاد يمرّ يوم ، دون عملية تؤكد أنهم غرباء في أرض ترفضهم وتحاربهم .
كانت عيونهم مفتوحة على الشباب والشابات والرجال والنساء ، بل وحتى الشيوخ ، ولمن فاته أن يتوقعوا عملية يقوم بها طفل .
لقد شلتهم المفاجأة ، إذ اندفع طفل من بين الجموع ، ورشقهم بقنبلة ملتوف ، أشعلت بهم النار .
” 3 ”
ملتوف
في المدرسة ، سمع أحمد طفلاً أكبر منه ، يتحدث عن ” ملتوف ” ، وفي بيت عمه ، سمع ابنة عمه نضال ، تتحدث أيضاً عن ” ملتوف ” ، وفي إحدى المظاهرات ، سمع شاباً يصيح برفيقه : هيا ، ارمهم بالملتوف .
الملتوف إذن شيء لا يؤكل ، ولا يشرب ، بل يرمى به الأعداء .
وأمام عينيّ الطفلتين ، اندفع الشاب ، وهو يحمل قنينة ، فيه فتيل محترق ، ويرميها نحو سيارة المحتلين ، وإذا بالسيارة تلتهمها النار ، يا لله ، أهذا هو الملتوف إذن .
” 4 ”
أحمد
حذرني المحامي أن لا أنفعل ، أو أغضب ، أو أقول غير الحقيقة ، ولمن كيف لا أنفعل ، ورئيس المحكمة يتهمني بأني أصغر وأضعف و .. من أن أصنع الملتوف، لقد صدق بأني رميتُ الملتوف ، لكنه لم يصدق بأني صنعتها بنفسي ، والأنكى أنه يريد مني أن أقول أن .. نضال .. ابنة عمي ، هي التي صنعتها ، بل وصاح بي : اعترف ، لقد اعترفت نضال بأنها هي التي صنعت الملتوف ، وأنها ..
وازدحمت الدموع في عينيّ ، لكني حبستها ، وأقسمتُ أن لا أبكي ،وصرختُ بغضب في وجه رئيس المحكمة : أنت تكذب .
العجوز والحجارة
البرد شديد اليوم ، هذا شباط ، لكنه لم يكن بهذا البرد في شبابي . وتراءى لي ” سالم ” ، إنها الشيخوخة ، نعم يا بنيّ ، لستُ صغيراً ، ولم يعد لي من علاج للبرد سوى معطفي .. والشاي .
تحاملتُ على نفسي ، ونهضتُ من السرير ، وتدثرتُ بمعطفي القديم ، إنني أحبّ هذا المعطف ، فهو عتيق مثلي ، لا أذكر متى اشتريته ، ربما قبل رحيل أم سالم بثلاث سنوات أو أربع ، وربما أكثر ، إنّ ذاكرتي بدأت تضعف ، آه من الشيخوخة .
فلأعد قليلاً من الشاي ، لا أفضل من الشاي لمواجهة البرد ، هذا ما كنت أقوله لسالم ، هذا ما كنت أقوله لسالم ، حين أقدم له كوباً من الشاي ، وهو يدرس في ضوء الفانوس ، ما أحلى الشاي ، وما ألذه ، حين نشربه معاً ، لكن أين سالم ؟
هممتُ أن أشعل المدفأة ، لكني تذكرتُ أن الشاي قد نفد ليلة البارحة ، اللعنة ، لابد من أن أذهب في هذا البرد إلى البقال ، لو أن سالم لم يذهب مع رفاقه إلى الجبال ، لأسرع واشترى لي قليلاً من الشاي ، إنه جيل لا يصغي إلى ” الكبار ” ، ابتسمت ، فأنا نفسي لم أصغ ِ إلى ” الكبار ” عام ” 1936 ” ، حين حملتُ بارودتي ، والتحقتُ مع رفاقي بالثورة .
تناولتُ عكازي ، ومضيتُ إلى الخارج ، لابدّ من الشاي، فالشيخوخة والبرد لا يحتملان من غير شاي .
عجباً ، لم يُفتح الدكان بعد ، ماذا جرى ؟ إنني أعرف جيداً ، إنه لا يغلق دكانه حتى لو كان مريضاً .
وقفتُ على الرصيف ، فمرّ شاب ، وقال : لن يُفتح الدكان اليوم .
رفعتُ عينيّ إلى الشاب ، فقال ، وهو يخفي وجهه وراء كوفيته ، ويمضي مسرعاً : إنه الإضراب ، لقد قتل جنود الاحتلال البارحة اثنين من المتظاهرين .
الإضراب ، لا أستطيع أن أبقى اليوم من غير شاي ، فلأذهب إلى السوق ، لعلّ أحدهم قد فتح دكانه ، إنه الإضراب إذن ؟ ليتهم يتعلمون من إضراباتنا ، كنّا نهزّ فلسطين كلها ، بل العالم كله .
وتراءى لي سالم ، لا تستهينوا بنا ، نحن أيضاً نقاتل ، يا للدماثة ، إنه لا يقول نحن نقاتل أفضل منكم ، وإن كانوا يقاتلون حقاً على نحو جيد ، وربما يعود الفضل لأسلحتهم ، فهي ليست عتيقة مثل باروداتنا .
تناهت إليّ من بعيد ، أصوات مختلفة هتافات ، وعويل ، وقنابل مسيلة للدموع ، وأزيز رصاص ، لابدّ من أنها مظاهرة ، يبدو أنّ هذه المظاهرة لن تنتهي .
مرقت امرأة عجوز ، وهتفت بي : عُد إلى بيتك ، إنهم يطلقون النار على المتظاهرن .
لم ألتفت إلى المرأة العجوز ، إنها خرفة ، فما شأني والنار ؟لا أريد إلا قليلاً من الشاي ، ولكن أين الشاي ؟ إنّ جميع الدكاكين مقفلة ، هذه عادتهم ، إنني أعرفهم جيداً ، فما إن يُدعى إلى إضراب حتى يقفل الجميع ، والنتيجة أنني سأبقى اليوم من غير شاي .فوجئتُ بالأصوات تقترب مني ، وارتفعت الحجارة ، وسحب الدخان ، والهتافات .. بالروح بالدم .. عاشت فلسطين .. الموت للصهاينة .. ، آه إنها أجواء ” 1936 ” نفسها ، ليتني طفل ، لكن ها أنا في وسطهم طفل من عام ” 1936 ” .
أزّ الرصاص ، فاقتربت مني فتاة في عمر الورد ، وهتفت بي : ابتعد يا عم ، فأنت رجل عجوز .
وتراجعت إلى الوراء قليلاً ، ثم رفعتُ عكازي عالياً ، وأطلقته بكل قواي على جنود الاحتلال ، وأنا أصيح : ها إني لم أعد عجوزاً .
ابتسمت الفتاة ، فابتسمتُ لها ، ليت ” سالم ” هنا، ليرى أباه الدفل ، نعم ، لم عجوزاً ، فما الفرق بين ” 1936 ” والآن ؟ إنّ الثورة مستمرة .وانحنيتُ مع الفتاة ، وحملنا معاً بعض الحجارة ، ومعاً رحنا نطلقها نحو جنود الاحتلال .
أشجار الزيتون
منذ المساء ، جمع الزوجان العجوزان حاجياتهما ، ووضعاها جانباً في طرف الكوخ ، دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر ، أو يتبادلان كلمة واحدة . سيرحلان ، هذا ما قرراه ، فلمَ الكلام ؟ وقبل أن يأوي الرجل العجوز إلى فراشه ، قصد حماره ، فأطعمه ، وسقاه ، واطمأن على راحته .
استيقظا عند الفجر ، فتحاملا على نفسيهما ، وحملا حاجيتهما ، ووضعاها فوق ظهر الحمار . وأغلق الرجل العجوز باب الكوخ ، وحانت منه نظرة إلى زوجته ، فرآها ترمق النبع والبستان بنظرة دامعة ، فهرب بعينيه عنها ، وقال : هيا نسرع ، لقد تأخرنا .
سار الزوجان العجوزان صامتين ، وأطلت الشمس من وراء التلال البعيدة متسلقة السماء ، وراحت تطاردهما بأشعتها الملتهبة .
ورفع الرجل العجوز يده ، ومسح العرق عن وجهه ، وقال : يا للحر .
ولاذت المرأة العجوز بالصمت ، فتابع الجل العجوز قائلاً : لعل أخي على حق ، سنرتاح عنده في القرية ، إنّ أولاده كثيرون ، وزوجته امرأة طيبة .
وهزت المرأة العجوز رأسها ، دون أن تجيب ، فصمت لحظة ، ثم قال : أشجار الزيتون في بستاننا ، رغم أنها ما زالت فتية ، إلا أنها تعد بإنتاج طيب هذا العام .
لم تفه المرأة العجوز بشيء ، وسكت الرجل العجوز بدوره ، وسرعان ما شملهما صمت عميق ، وما عاد يسمع على الطريق الملتهب غير وقع أقدام الحمار .
وقبل الظهر ، توقفت المرأة العجوز ، حين رأت نبعاً يتواثب فيه الماء ، وتوقف الرجل العجوز أيضاً ، ثم قال : آه .. لنعترف .. لقد شخنا .
واتجهت المرأة العجوز نحو النبع ، وهي تقول : إنني عطشانة .
وأسرع الرجل العجوز في أثرها ، وقال : أنا أيضاً عطشان .
وعبّ الزوجان العجوزان حتى ارتويا ، ومسح الرجل العجوز فمه بظاهر كفه ، وقال : ماء عذب .
فردت المرأة العجوز قائلة : نعم ، لكن ماء نبعنا أعذب .
استراحا قليلاً عند النبع ، ثم تابعا سيرهما ، والشمس تجدّ في مطاردتهما بلهيبها المتزايد . وحثّ الرجل العجوز الحمار ، وقال : لن تقاوم الأشجار كثيراً في مثل هذا الحر .
واعتصمت المرأة العجوز بالصمت ، فتابع قائلاً : سيعود ابننا ، ذات يوم ، وأخشى أن يرى الأشجار يابسة.
ولمحها ترمقه بنظرة خاطفة ، يا إلهي ، يبدو أنها لا تصدق أنه سيعود ، صحيح أنه فُقد أثناء الحرب ، لكن .. ، ودمعت عيناه ، وقال بصوت متحشرج : سيحزن .. لأننا هجرنا .. أشجار الزيتون .. التي زرعها بنفسه .
واختنق صوت المرأة العجوز بالدموع ، وقالت : إن أشجار الزيتون تقاوم العطش ، أكثر من غيرها .
وغالب الرجل العجوز دموعه ، وقال : نعم .
ثم أضاءت عينيه فرحة ، وقال : لقد فقس بيض الفاختة..
وأشرقت الفرحة من بين دموع المرأة العجوز ، وقالت : يا للصغيرين الجميلين ، لقد رأيتهما .
وصمتت لحظة ، ثم قالت ، وقد انطفأت فرحتها : ستموت الشجرة من العطش والإهمال عاجلاً أو آجلاً ، وستهاجر الفاختة بصغيريها .
وتمتم الرجل العجوز : نعم .. ستهاجر .. مثلنا وإل ..
ورفع عصاه ، وهم بضرب الحمار ، لكنه توقف ، فالتفتت زوجته إليه ، وتوقفت هي الأخرى متسائلة ، وقلبها يخفق بشدة : ما الأمر ؟
لم يلتفت الرجل العجوز إلى زوجته ، وألقى بالعصا نحو الحمار ، وهو يصيح بغضب : أيها الأحمق ، توقف .
وعند المساء ، جلس الزوجان العجوزان كعادتهما ، قرب باب كوخهما ، يتأملان النبع .. والبستان .. والتلال البعيدة ، وتنهدت المرأة العجوز بارتياح ، وقالت : سيفرح ابننا ، حين يعود ، ويرى أشجار الزيتون قد كبرت ، وازداد إنتاجها .
المنشور
رفعتُ عينيّ عن الصورة التي أرسمها ، حين سمعتُ أمي تتحدث فوق السطح مع ” أم خليل ” ، كان صوتاهما خافتين ، لكني عرفتُ أنّ ” أم خليل ” تسأل عني ، فأجابتها أمي ضاحكة : ليتك ترينه ، يا أم خليل ، إنه يتقافز على عكازه مثل العصفور .وضحكت ” أم خليل ” ، وقالت : ستشفى ساقه سريعاً ، فهو صغير .
وسمعتُ أمي تسألها عن ابنها خليل ، فردت بنبرة دامعة : يقولون إنه لن يخرج إلا إذا هدأت الأوضاع .
ثم تنهدت ، وقالت : ولكن يبدو أنّ الأوضاع لن تهدأ ، فالحجارة تتطاير في كلّ مكان .
وسمعتُ أمي تقول : جيل غريب .
وردت ” أم خليل ” بلهجة مرحة : أنسيت كيف كنت تصرخين في وجه الجنود .. تسقط الصهيونية .. يسقط الاستعمار ؟
وضحكت أمي قائلة : وأنت إلى جانبي تصرخين ..
فقاطعتها ” أم خليل ” وهي ما زالت تضحك : اذهبي يا عزيزتي ، فهذا الجيل من ذاك الجيل .
وارتفع وقع أقدام أمي على السلم ، فطويتُ الصورة ، وخبأتها تحت الفراش ، وسرعان ما فتح الباب ، وأطلت أمي عليّ ، وقالت : سأذهب إلى السوق ، أتريد شيئاً ؟
فهززتُ رأسي ، دون أن أتفوه بكلمة ، فأغلقت أمي الباب ، وهي تقول : ابقَ في فراشك ريثما أعود ، إنّ الجو بارد .
أخرجتُ الصورة ، وتأملتها ملياً ، إنها منشور بحق ، ومصوّر أيضاً . ها هم الجنود الصهاينة ينكمشون بخوف، والحجارة تنهال عليهم ، وفي أسفل الصورة كلمات بخط واضح : اخرجوا من وطننا أيها المحتلون .
صفق الباب الخارجي ، ابتسمت ، لقد شاركت في المظاهرات إذن ، يا أمي ، وهتفت ” تسقط الصهيونية .. يسقط الاستعمار ” ، وأنت التي تحومين حولي دائماً ، وتحذرينني من اللعب بالنار ، الجنود الصهاينة لا يمزحون ، وهراواتهم غليظة ، وقد كسروا بها أكثر من ساق وذراع . آه ، وتطلعتُ إلى ساقي الحبيسة في الجبس، ليتها كسرت بهراوة ، فما فائدتها وقد كسرت بعثرة في الكلام ، لابد أن أصدقائي في المدرسة والمحلة يشاركون في المظاهرات ، ويطلقون الحجارة على جند العدو .وانبثقت في ذهني فكرة ، فسحبت ساقي الحبيسة في الجبس ، وتناولتُ عكازي . لقد مضت أمي إلى السوق ، وقد تتأخر قليلاً ، هذه فرصتي ، لم أستطع أن أطلق الحجارة مع أصدقائي ، فلأعلق الصورة في الزقاق ، ولتكن هذه حجارتي .
فتحتُ الباب ، ورحتُ أتوكأ على عكازي ، ومن بعيد تناهت إليّ أصوات المتظاهرين ، وارتفع في الجو دخان القنابل المسيلة للدموع . آه هاهي المعركة مستمرة ، لابد أنّ أصدقائي جميعاً هناك ، وها أنا هنا أشترك معهم بحجارتي الخاصة .
توقفتُ عند الناصية ، وتلفتُ حولي ، لا أحد هنا ، فأخرجتُ الصورة ، وألصقتها بسرعة على الحائط ، وبدل أن أقفل عائداً إلى البيت ، وقفتُ أتأمل الصورة ، .. ” اخرجوا من وطننا أيها المحتلون ” ، ترى أين سمعتُ هذه العبارة ؟ لعل معلمنا ، الذي لا ينسى فلسطين ، وحتى وهو يعلمنا الرياضيات ، قد قالها مرة في الصف و.. وفجأة ارتفع وقع أقدام متسارعة في أول الزقاق ، فالتفتُ بسرعة ، وإذا مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح والهراوات ، يتراجعون باتجاهي ، وحجارة المتظاهرين تطاردهم ، ما العمل ؟لا سبيل إلى الهرب ، إنّ ساقي حبيسة في الجبس ، وهم يقطعون عليّ الطريق إلى البيت ، ولا أدري كيف امتدت يدي إلى الأرض ، أمسكت بحجرة ، وصرخوا عليّ بأصوات منفعلة غاضبة ، لكني لم أتراجع ، وبكلّ ما في ذراعي من قوة، أطلقتُ الحجرة نحوهم ، لم أرَ أين سقطت حجرتي ، لكن رأيتهم يشهرون هراواتهم ، وينقضون عليّ و .. ، وفتحتُ عينيّ ، أين أنا ؟ آه هاهي أمي إلى جانبي دامعة العينين ، وساقايا كلتاهما حبيستان في الجبس ، إنني لا أعرف كيف ضربوني ، وكسروا ساقي الأخرى ، لكنني أعرف أنني لم أعثر هذه المرة في الكلام .
الوادي الكبير
أنزل حمولة الشاحنة ، هو وزوجته وأولاده ، ونقلوها على عجل إلى داخل البيت ، ودفع الأجرة لي كاملة ، ثم قال بنبرة رجاء ، : ليتك ، يا أخي ، تبات الليلة عندنا .
فشكرته قائلاً : أشكرك ، ما زال الوقتُ مبكراً ، واستطيع الوصول إلى القدس قبيل المغرب .
وشدّ على يديّ بحرارة ، وقال : صحبتك السلامة .
وصعدتُ إلى الشاحنة ، فهتف بي قائلاً : احذر أولاد الأبالسة ، إنهم كالضباع يتربصون بالمارة على الطريق.وأدرتُ محرك الشاحنة ، وقلتُ : لن يتعرض لي أحد ، مادمتُ في حدود عملي المشروع .
وسرتُ بالشاحنة ببطء ، حتى خرجتُ من القرية ، إلى الطريق العام . وأرخيتُ لها العنان ، فراحت تدرج خفيفة نشيطة كفرس في مقتبل العمر . وتطلعتُ إلى الشمس ، نعم ، الوقتُ مازال مبكراً ، وسأصل مع المغرب ، إذا لم يواجهني عائق يتسبب في تأخيري .
وامتد الطريق أمامي ، ومعه امتدت الحقول والبيارات وأيامي القادمة مفعمة بالخضرة والعطاء . هاهي الشاحنة، صرت ملكاً لي ، دفعتُ يوم أمس آخر قسط من ثمنها ، صحيح إنها نصف عمر ، لكنها مازالت فرساً قوية ، جديرة بهذه الطريق الصعبة . وعلى الرغم مني ، تسلل إليّ شيء من الشعور بالتعب والنعاس ، وهززتُ رأسي، لا .. لا وقت لمثل هذا الشعور ، فقد يُعرض الشاحنة لحادث يلحق الضرر بها ، خاصة أنّ الشاحنة ليست ملكي وحدي ، فمازال لأخي جمال نصيب فيها .
آه جمال ، أين أنت ؟ لقد ركبت رأسك كالعادة ، وحملت السلاح ، وسقطت في معركة يائسة ، وسقط معك سلاحك .
مهما يكن ، فقد كان لجمال نصف الشاحنة ، وسيبقى له نصف الشاحنة . وتنهدتُ بحرقة ، آه لو بقي جمال لعملنا معاً ، وبنينا حياة جديدة معاً ، لكنه حمل السلاح ، ومضى . أشعلتُ سكارة ، ونفثتُ مع دخانها الكثير من تعبي وتعاستي وهمومي .
لاحت القدس من بعيد ، تتوهج في حمرة الأصيل ، فهممتُ أن أسرع لأصل مع المغرب ، لكني أبطأتُ حين أبصرتُ ثلة من الجنود مدججين بالسلاح يقطعون عليّ الطريق . تراءى لي جمال حاملاً رشاشته ، مندفعاً بغضب نحوهم .
وكدتُ أضغط على دواسة الوقود ، وأندفع بالشاحنة نحوهم في أثر جمال ، وإذا الرصاص يلعلع ، ويجرح شاحنتي ، مهدداً إياها بالموت . فضغطتُ على الكابح ، فتصارخت الشاحنة ، وتسمرت في مكانها .
واندفع الجنود نحوي ، إنهم عشرون وربما أكثر ، وأحاطوا بالشاحنة ، ورشاشاتهم في أيديهم ، واقترب الضابط مني ، وقال بنبرة آمة : خذنا إلى يافا .
فأجبته قائلاً : إنني ذاهب إلى القدس ، تعالوا معي ، وخذوا سيارة من هناك إلى حيث تريدون .
فرفع رشاشته ، وصوبها نحوي ، ثم قال : ستأخذنا بهذه الشاحنة إلى يافا .
ولذتُ بالصمت لحظة ، ثم قلتُ : إنني متعب ، لقد عملت طول النهار ، ولا أستطيع العمل أكثر .
لم يقتنع الضابط بكلامي ، فأشار للجنود ، ورشاشته مصوبة نحوي ، وصاح : اصعدوا .
وتدافع الجنود يتسلقون الشاحنة من جميع الجهات ، وفتح الضابط الباب ، وصعد إلى جواري ، وصوب رشاشته نحوي ، وقال : نستطيع أن نأخذ الشاحنة منك ، ونستطيع أن نقتلك أيضاً ، فماذا تقول ؟
لم أقل شيئاً ، وإنما استدرتُ بالشاحنة ، وانطلقتُ بها على الطريق متوجهاُ إلى يافا .
وحاول الضابط أكثر من مرة ، أن يجرني إلى الكلام ، دون جدوى . وأخيراً مدّ يده في جيبه ، وأخرج علبة سكائر ، وقدم لي سكارة ، فقلتُ باقتضاب : لا أدخن .
ونظر إلى علبة سكائري ، المركونة أمام المقود ، وقال : أنت تكذب .
وتراءى لي جمال ، يندفع نحو الضابط ، وق أشهر رشاشته . وأشعل الضابط سكارته ، وراح يدخنها بنهم ، لا بأس يا جمال ، كلها ساعات ، وأخلص الشاحنة منهم ، أنّ يافا ليست في آخر الدنيا .
ومرّ الوقتُ ثقيلاً بطيئاً ، والضابط يشعل سكارة من سكارة ، ترى ماذا يريد أن يشعل في داخله ؟
وأشعل سكارة جديدة ، وحدق فيّ من خلال الدخان ، ثم قال : هل أنت من القدس ؟
ولعلي أردتُ أن أطعنه ، فأجبته قائلاً : كلا ، إنني في الأصل من يافا ، لقد عشتُ فيها طفولتي ، قبل أن تأخذوها .
وقهقه الضابط ، وقال : اشكر نزهة الأيام الستة ، فقد أتاحت لك الفرصة لأن ترى يافا ثانية ، وستراها الليلة ، إن لم تكن قد رأيتها بعد .
ولذتُ بالصمت ، فأخذ الضابط يدخن ويدندن أغنية بلغته العبرية . وأطل القمر بدراً ، فوق التلال والوديان ، فهتف الضابط مهللاً : أنظر ، إنه أروع قمر في العالم ، أتعرق لماذا ؟ إنه ينير إسرائيل ، إسرائيل القوة والسلام.
وصمت لحظة ، ثم حدق فيّ ، وقال : أنتم تكرهوننا ، وتريدون إبادتنا ، رغم أننا شعب مسالم .
يا لكم من شعب مسالم ، لقد استوليتم على فلسطيننا ، وقتلتم أخي .. جمال ، هذا بعض ما أردتُ قوله له ، لكنني قلتُ ، دون أن ألتفت إليه : إنّ شاحنتي لم تؤذكم ، ومع ذلك أطلقتم النار عليها .
وردّ الضابط بانفعال : وكنا سنحرقها ، لو لم تتوقف ، وتمتثل لإرادتنا .
وارتجت الشاحنة ، ربما غضباً من كلماته ، فسكت متلفتاً ، ثم قال : انتبه ، الطريق وعر ، والوديان هنا كثيرة ، وعميقة .
وأردتُ أن أغيظه ، فقلتُ : أعرف ، إنها مهد طفولتي ، وما زلت أذكرها واد واد ، وخاصة الوادي الكبير .
فتململ الضابط متوتراً ، وأشعل سكارة أخرى ، وقال : أبطيء قليلاً ، اقتربنا من هذا الوادي .
لم أمتثل لأمره ، فهذه الشاحنة ليست ملكي وحدي ، أنّ نصفها ملك لأخي جمال ، وله عليّ أن أعطيه حصتي أيضاً ، فهو ليس وحده فلسطيني ، أنا أيضاً فلسطيني ، وهذا القمر الرائع لا يضيء إسرائيل ، إنما يضيء فلسطين .
وارتفع صوت الشاحنة ، تزأر بأقصى سرعتها ، وصحتُ بالضابط : أتذكر ما قاله شمشون ؟
فردّ الضابط بصوت يشوبه الخوف والاضطراب : طبعاً .. طبعاً .
ولاح الوادي الكبير ، وقد كشر عن أنيابه الصخرية ، فاندفعتُ بالشاحنة نحوه ، وأنا أصيح بأعلى صوتي : قال .. عليّ وعلى أعدائي .. يا رب .
وقبل أن أكمل عبارتي ، فتحتُ الباب ، وقفزتُ بسرعة ، وتلقفتني أرض طفولتي الطيبة ، وتشبثت بي ، عند حافة الوادي . ورأيتُ الشاحنة ، شاحنتي وشاحنة أخي جمال ، تنفجر ملتهبة بمن فيها ، في أعماق .. الوادي الكبير .