حامد سرمك حسن : الحقيقة الجمالية؛تناغم الموقف والتفسير

hamed sarmak 2لو حاولنا تقصي آراء الفلاسفة وعلماء الجمال لوجدنا أن تحديدهم لمفهوم الفن وماهيته لا يخرج عن الإطار العام للفلسفة التي يعتنقها صاحب الرأي من الفلاسفة والعلماء وبالأخص ما يتحدد من آرائهم في ضوء نظرية المعرفة(*1) التي يعتمدها الباحث في إرساء فهمه الخاص للقضايا الفلسفية. تتمثل ماهية الفن عند “أفلاطون” في المحاكاة Imitation لأن فلسفته في الفن وعلم الجمال تؤكد قيمة المحاكاة الفنية للحقائق المثالية وهي محاكاة عقليه لا حسية . أما “أرسطو” فان اهتمامه بالفن يقع ضمن المعرفة الإنتاجية حيث قسم المعرفة إلى أنواع ثلاث هي، النظرية والعملية والإنتاجية، وتشمل الأولى المنطق والميتافيزيقيا، والثانية السياسة والاقتصاد، أما الثالثة، أي الإنتاجية، فتشمل الأخلاق والفن . ونلاحظ عند “هيجل” اقتراب ماهية الفن في مفهومها من المعرفة، أي المعرفة الجمالية(*1) ، “فهيجل” الذي أساس فلسفته هو الروح المطلق، يؤكد بان هذا الروح يظهر في ثلاث صيغ: ((في الفن والدين والفلسفة، فهو في الفن يتعرف على نفسه في صيغة المعرفة، وفي الدين في صيغة التأمل، وفي الفلسفة في صيغة الفهم))(1 ). ويذهب صاحبا “نظرية الأدب” إلى أن علماء الجمال في القرن التاسع عشر، وتحت تأثير “هيجل” ، احتجوا بأنَّ ((كل فن هو إشعاع حسي منبثق من الفكرة، في حين أن آخرين منهم تحدثوا عن الفن باعتباره قدرة على الرؤية الصافية))(2 ).
يتبارى معظم الفلاسفة وعلماء الجمال في رفض أي منفعة أو غرض خاص قد يتوخاه الفنان جراء عمله الفني، لأن الفن مهارة في إحداث الجمال وإرضاء الحس الاستطيقي عند الإنسان، فلا يتوجب أن يكون هناك حافز وراء الإنتاج الفني أكبر من المتعة الجمالية ذاتها، والتي تتمثل ذروتها، في الفن الحقيقي، في الكشف عن الحقيقة الجمالية.إن اللحظة التي يبتعد فيها الإنسان عن السمة النفعية للحياة العملية ويستطيع فيها ان يحرر نفسه من استعباد الضرورة هي اللحظة التي يبدأ فيها الفن.
يرى “ميرلوبونتي”عالم الجمال الفرنسي المعاصر” إن ماهية كل فن تتمثل في العمل على تقديم حقيقة عينية أصيلة، أو واقع عار مباشر( 3)؛ ولا يعني الفن،في نظره، الخروج عن العالم أو التهرب من الوجود، بل هو صورة أخرى من صور الوجود في العالم أو التعبير عن صلة الإنسان بالعالم؛ ولما كان الفن لا يستطيع الفكاك من التحرك فوق أرضية العالم، فانه عرضة للوقوع في كمين المحاكاة السطحية، أو النقل الشيئي عن الطبيعة، وهنا يتوجه “ميرلوبونتي” بنصائحه إلى الفنان لتجنيبه الانزلاق في هذه الحفرة الخطرة، بأن عليه اعتماد التجريد لإبداع صور جديدة تعتمد خامة الطبيعة لكنها تنبثق في الوقت ذاته عن إرادة الفنان ونفسه وإبداعه. إنه يرسم وينحت ويبدع وكأنما هو يكتب ما تمليه عليه الطبيعة، بينما حقيقة الأمر أن الفنان يعيد خلق الطبيعة لحسابه الخاص. ام العالم الجمالي “شارل لالو” فيذهب إلى أن ماهية الفن تتمثل في عملية التحوير أو التغيير التي يدخلها الإنسان على مواد الطبيعة، أو انه، حسب “بيكون”، الإنسان مضافاً إلى الطبيعة.
ورغم التلازم الحاد بين الفن من جهة والخيال والحلم من جهة أخرى في أذهان معظم الناس، وكما هو في تقرير بعض علماء الجمال من أن خلق عالم جمالي متخيل يأتي ناسفا أو مغايرا لما هو كائن هو ما يمثل المهمة الأسمى للفن، نرى العديد من الباحثين يؤكدون علـى ضرورة الاعتراف بالفن ((كأفضل طريقة للتعبير توصَّل إليها الجنس البشري))( 4)، وعلى الرغم من الاعتراف الواسع التي تلاقيه الفكرة القائلة بأن الفن معرفة خيالية للحياة ، بفعل تأصل الخيال في عملية الإبداع الفني، إلا إن الفن نشاط معقد ومركب من عدة عناصر متلاحمة، وليس مجرد خيال أو عاطفة أو أحلام. بل ان العمل الفني يبتنى على آليات وتقنيات معتبرة جاءت نتيجة تراكم الخبرات الطويلة في تاريخ البشرية الفني، فالخيال والأحلام والعواطف ليست كافية لإنتاج عمل فني معتبر، كما هو الحال في مجال العلم، فقد يكون المرء مليئا بالطموحات والأحلام والامال ولديه من قوة الإرادة والحزم الجبار لصنع آلات عظيمة تقلب وجه التاريخ ولكنه في ذات الوقت يجهل قوانين العلوم التي تؤهله لتحقيق اختراعاته، فرضاً جهله بقوانين الميكانيك، فبالتأكيد انه لن يتمكن من تحقيق شيء على أرض الواقع وستبقى أفكاره حبيسة فيه. كذلك الحال في عالم الفن؛ فلا ينفع المرء إنْ فقد القدرة على التعبير وفق الشروط الفنية، أنْ يكون زاخراً بالعاطفة والوجدان والأفكار، فالفن كما قال “مالرو” ليس أحلاماً وإنما امتلاك لناصية الأحلام . وبالتأكيد، فان امتلاك الفنان لناصية الأحلام لا يتيسر لـه إلا بعد عمرٍ من الدراسة الفنية والخبرة بالتكنيكات النابعة من الذات وغيرها من شروط الفن.
قد تكون الحقيقة خلاف ما تدركه الحواس، فالفن بجنوحه إلى التجريد(*1) وبحثه عن المعنى وماهية الأحداث والأشياء يعكس الحقيقة، وان كان بأسلوب خيالي مجازي، فكم من مرة ندرك الواقع بحواسنا ونظن أننا قد أدركنا الحقيقة، ومن ثم تظهر الحقيقة بخلاف ما كنا نرى ونتصور.لذا لا نجد غرابة في تأكيد جهابذة الفلسفة أمثال “هيجل” على ان العمل الفني أكثر حقيقة من الواقع ؛ لأنه من نتاج الروح أو الفكر الذي يجنح دوماً للبحث عن الحقائق والماهيات ولا يرضى بالتسليم لما تبديه له الحواس.
يتوجب التفريق بين الحقيقة التي يعرضها الفن واللغة التي يتم التوصيل عن طريقها، والتي تتسم بالخيال والرمزية، خصوصاً إن هناك من يعرّف الفن بأنه ((لغة رمزية)) كما حدده الناقد “كاسيرر”. فباستطاعة كل فرد تصور العالم عاطفياً وجمالياً والإحساس بجمال الطبيعة، ولكن الفن هو وحده القادر على نقل الانفعالات إلى مجال الإدراك والتفسير الفني للعالم من خلال التوحيد بين الموقفين الفني والجمالي.

هوامش : 
(*1) – المعرفة: إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف. ((التعريفات: ص221)).
– معرفة: إدراك الأشياء وتصورها. ((المعجم الفلسفي: ص221)).
ـ تبحث نظرية المعرفة أو (الإبستمولوجيا) في المشاكل الفلسفية الناجمة عن العلاقة بين العارف والمعروف أي بين الذات المدرك(الانسان) وموضوع الإدراك( العالم). فهي تتصدى للنظر في مصدر المعرفة وطبيعتها وامكانها ووسائل تحصيلها وحدودها.
(*1) كما جاء في عنوان هذه الدراسة.
( 1) موجز تاريخ النظريات الجمالية – تأليف: م. اومنسيانيكوف، ز. سميرنوفا – ترجمة باسم السقا – دار الفارابي – بيروت، ط2، 1979: ص285.
( 2) نظرية الأدب – أوستن وارين ورينيه ويليك – ترجمة: محيي الدين صبحي – مراجعة د. حسام الخطيب – المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، سوريا، دمشق – 1972، د.ط: ص28.
( 3) ينظـر:فلسفة الفن في الفكر المعاصر: ص ص 189 ـ 190.
( 4) الفن والمجتمع: ص – ص 16، 17.
(*1) تجريد = Abstraction انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها. ((المعجم الفلسفي: ص46)).
التجريد: هو ان تعمم فكرة أو شيئاً لغاية الوصول إلى انعدام كل خاصية ملموسة حسية فيه فيصبح إذن مسحوباً على كل ما هو ملموس حي بقطع النظر عن وجوده ضمن واقع زماني ومكاني محدد. ((الأسلوبية والأسلوب: ص145)).

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *