(1)
لا شيءَ يروي قلبكَ الدامي بأشواكِ الفجيعةِ غيرَ جمراتٍ من الشعرِ القديمْ
تكوي بها زغبَ الجراحِ وتوقفَ النزفَ المعتّقَ بالأنين .
لكنّ أقصى الجرحِ في ثوراتهِ يبقى يبوحُ لزهرةِ التوليبِ ما فعلَ الحنينْ
للذينَ تأبّدتْ أشباحُهم في سيلِ كثبانِ الأوابد عند بادِئة الأبدْ .
بيضاءُ كانتْ كلَّ أحلامِ الطفولةِ قبل أنْ تأتي على أغصانِها بُومُ الحروبْ
قبلَ أن ترمي فجائعُ أمسنا قلبي ببئرِ الخوفِ في أغوارِه أصداءُ من كانوا هنا لكنّهم رحلوا إلى أعلى النجومِ النائياتِ بدربِ معراجِ التلاشي في غيومِ الابتداء…
(2)
للفجرِ كنّا نحشدُ الصلواتِ حتّى لا تبيضَ الطائراتُ على شقوقِ نهارنا عُثَّ القنابلِ أو تقيءَ على ذبالةِ عمرنا نتفَ الشظايا .
كنّا نخافُ على بقايا خبزِ أحلامِ الطفولةِ أنْ يغطيها العفن .
كنّا ننامُ على مرايا صحونا كي لا تفاجئنا المنايا حتّى وإن كنّا بأرحام الملاجئ ِ كان بعوّضُ الشظايا يملأ الروحَ بأصواتِ الطنين .
لا شيء يوقفُ أذرع الموتِ الطويلة حينما تغزو العناكبُ ما تبقى من ندى أعمارِنا فوق الجِرار .
تغزو اليعاسيبُ المخضّبةُ الأزيز نعاسَنا كيما نرى في موتِنا لحظاتِ تفكيك الدموعِ ونشرها في أرخبيلِ الدهشة الصفراءِ حين هُجرانِ النعاس فراشنا نبقى بأخدودِ الملاجئ ننتظرْ [موتاً أليفْ ]
من يا ترى يختارُهُ الموتُ المخبّأ بالسقوف وبالفوانيسِ التي لو تسعلُ النيرانُ فيها تخبرُ الأصداءُ قطعانَ القنابلِ عن أماكنِ ظلِّنا .
تتجمّدُ الأرواحُ خِشيةَ فضحها في هجدةِ الليلِ على جمرِ السواترِ والنجومُ يحيطها غيمُ الدخانِ المعتمِ الإيقاع في صُلبِ السماءْ .
لا شيءَ يحدثُ للذينَ تجرّدُوا من خوفهم لكنّهم في سرّهِم خافوا كثيراً
من رياحِ الصَرصرِ المنسابِ من عمقِ ثقبٍ أسودٍ يغزو مدائنهم ويلتهمَ النخيل …
تغزو مسَاماتِ قلوبِ المترعينَ بزهوهم أزهارُ سلوى الموتِ كي تغري رؤاهم بالرحيقِ وتأكلَ الأوطانَ في فخِ الأريجْ .
أيعرفُ القتلى بيومٍ أنّهم كانوا قرابينَ لجوعِ تضخُّمِ الثعبانِ في يأسِ الصناديدِ وصنّاع المآسي …
(3)
عندما صَدِئَتْ على أصداءِ من عادوا بذاتِ فجيعةٍ أصداءُ من حاطتْ بهم إبرُ الشظايا والرصاصِ على طريق الملحِ في عهدِ المَلِيك الأخطبوط …
كانتْ قرابينُ الجنودِ أضاحياً كي يورقَ الأبنوسُ من رشفِ الدماءِ ويرتوي عطشُ الذباب من التفسّخِ والعفنْ …
كان الجنوبُ يُحمِّلُ الشهداءَ أسرارَ الوصولِ إلى منازلَ ما وراءِ جدارِ كونِ الميتين .
الريحُ تأتينا يُحمّلُها جنوبُ الملحِ آلافَ المراثي والرسائلَ للذينَ تكبّدوا موتاً جديد .
(4)
فوقَ دمائِنا حطّتْ غرانيقُ الفجيعةِ في عجافِ التيهِ وامتصّتْ جذورُ العوسجِ الوحشيِّ ألوانَ الفراشة .
لم يبقَ معنىً أنْ نحبَّ الوردَ في زمنِ الحصارِ ونتركَ القمحَ المعتّقِ بالعفونةِ والمرارةِ للحمام .
عندَ الحصارِ تحاصرتْ خطواتُ أمنيتي الأخيرة ِ حينما حاطتْ بها أشواكُ ملحِ اليأسِ في قبوِ الخضوع .
وتفاقمَ العلّيقُ فوقَ نشيدِ أحلامي الكسيرة …
لا وقتَ كي أجري بأفقِ الروحِ أقطفُ نجمةَ أو غيمةَ من سقفِ ذاتي
فهنا تكوّرَ في تفاصيلِ احتضارِ العمرِ ثعبانُ المجاعةِ واعتلى سيرَ الدقائقِ والثواني فوقَ خطواتِ الحصارِ نملُ كثبانِ الخراب …
لكنّني لم ألقَ في زبدِ التذكّرِ غيرَ أصدافِ الخرافةِ علّني ترجمتُ ما يغزو وهادَ الروحِ من وجعِ الجرادْ .
فهنا تجوعُ الأمنياتُ وليس يجدي أن ترتّقَ ما تفتّقَ من حصار .
هو هكذا البشريُّ حينَ حصارِهِ يصطادُ من ظلِّ الخيالِ مجازَهُ حتّى يربِّي في رؤاه
جمّيزةَ الأملِ الوحيدة …
(5)
صلبانُ مملكةِ الزوالِ تلوحُ في دربِ العروجِ إلى المشانقِ عندَ أبراجِ الدخانِ على مسارِ الجمرِ يستعرُ النخيلُ وتسعلُ الأفاقُ من فوضى الحريقِ ؛ ليبدأ الشعراءُ تشكيلَ المراثي عندَ شاهدةِ الطريقِ إلى المعابدِ حيثُ تسلخُ هجمةُ التتري ألواحَ الوصايا والأغاني …
عمّا قليلٍ سوفَ تصلبُ كلُّ أحلامِ النوارسِ في رؤاكَ وينتهي فيكَ المخاضُ إلى مجازرَ ترتوي فيها صراعاتُ الملاحمِ في بقايا زورقِ الأوديسة المكسورِ عندَ شواطئ العدمِ الفقيرة …
لكنّكَ الآنَ تشاهدُ في وضوحِ الميتينَ تأرجحَ الفقراءِ في عُقدِ المشانق …
وتحيطُكَ الغربانُ من كلِّ الجهاتِ فتنتهي فيك الحصاراتُ القديمةُ جمرةً تغري نشيدكَ بالبكاء الحرِّ في وضحِ الهزيمة
ليذوبَ تحتَ إوارها ما كان من نبضِ الندى في عمقِ غاباتِ القصيدة .
فأينَ تسندُ ظلّكَ الآن وقدْ ذبلتْ قصائدُكَ الأثيرةُ وقلبك الدامي بطعناتِ الفجيعةِ لم تعدْ غيماتُ شعرِ الأندلسْ .. تأتيه بالمطرِ الموشّحِ بالكواكبِ والقوافي والولوج إلى أقاصي الوجدِ في لحنِ السديم .
لا شيءَ بعدَ سقوطِ قرطبةَ الجميلةَ في ظلامِ الأمسِ يأتيكَ من قمرِ الحنينِ بِكسرةٍ من شعرِ ” لوركا ” عن بقايا قرطبة …
(6)
ألآن قد أزفَ الرحيلْ
أحلامُكَ استُلِبتْ
[ففتّشْ عن كوابيسَ تعلّمُك البكاء .]
وبلادُكَ انتهكتْ
[ففتّش عن نشيدٍ آخرٍ يغنيك عن شعرِ الحنينِ إلى التراب .]
أنهارُك اختلطتْ بها أشلاءُ من كانتْ لديهم أمنياتٌ لا يوازيها سراب
[فابحثْ عن الماءِ الذي لم تختلطْ فيه الدماء .]
وسماؤك الأولى تشوّه غيمُها لما استباحتْ أفقَها فوضى الحديد
[فأبحثْ بما خلفَ النجوم
عن الكواكبِ والمجراتِ البتول ….]
هو هكذا البشريُّ حينَ حصارِه يصطادُ من معنى الحياةِ وجودَه
حتّى يشيّدَ في مداه
زقورةَ الأملِ الوليد …