طلال حسن : خمس قصص للأطفال من الزمن الفلسطيني

talal hasanلحمامة

منذ يومين ، وصرخات الرصاص تهزّ القرية ، ترى .. ماذا جرى ؟
لا يبدو أنّ الأعلين يحتفلون بالعيد أو بزواج أحد أبنائهم ، فقد رأيتُ البارحة أكثر من واحد يتهاوى على الأرض ، مضرجاً بدمائه .
آه .. إنني متعبة ، وفمي يكاد يتشقق من العطش ، يا للقيظ .. إنّ الصيف جاء مبكراً هذا العام .. الحرّ لاهب كالنار .. ونحن ما نزال بعد في حزيران ، لقد تأخر زوجي .. وأنا لا أستطيع أن أبرح مكاني .. إنّ ” حضرته ” لم يشتق إلى ماء الغدير إلا الآن .. فمضى يمرح على هواه دون أن يحفل بي .. لكن من يدري .. لعله غرق في الغدير .. أو أصابته رصاصة طائشة .. كلّ شيء ممكن في مثل هذا الجو المضطرب .
قطرة واحدة من الماء .. هذا كلّ ما أريه الآن .. فالعطش يكاد يقتلني .. يبدو أنّ حرارتي تتزايد .. آه .. لكن هذا طبيعيّ ..فمن دون الحرارة لن يكون لي صغار .. لقد صبرتُ طويلاً ، فلأصبر أكثر .
بعد يومين أو ثلاثة أيام ستبرز رؤوسهم الصغيرة المبللة .. ويفتحون أفواههم ويهدلون بعذوبة .. آه ما أجملهم .. ليس للغدران وبساتين البرتقال والزيتون وصباحات الربيع أيّ معنى من دونهم .. أنهم .. كما يقول شاعرنا البلبل .. نسغ الحياة .
بدأت العتمة تزحف من التلال البعيدة ، وراحت تفرد عباءتها السوداء على القرية .. آه .. إنه الليل .. لقد تأخر زوجي كثيراً .
ترى ماذا جرى له ؟
من يدري ، لعل أحد أصدقائه قد أغراه ، فراحا يلهوان قرب الغدير ، آه من الذكور ، إنهم لا يجيدون سوى الهديل واللعب ، وعندما تسأل واحد منّا زوجها :
ـ أين كنت ؟
يصيح بها في غضب وأنفة ، وكأنه هدهد الملك سليمان :
ـ أسكتي ، لا تدسي أنفك في شؤوني ، إنني ذكر .
يا للعنة .. ماذا جرى لي !
يا لي من أنانية جاحدة .. لم تكد تمضي ساعة على ذهابه حتى اتهمته وخونته .. نعم لقد مضى إلى الغدير .. وربما مضى يلهو مع أحد أصدقائه .. فما الغريب في الأمر ؟
ومع حلول الظلام ، راحت أصوات الرصاص ، التي ظلت تلعلع طول النهار ، تخفت بالتدريج . ومن كلّ مكان في القرية ، ارتفعت صرخات نساء وأطفال وشيوخ ، وأخذت أصوات الاضطراب والذعر والعويل تختلط في الظلمة بضجيج العربات والجرارات وسيارات الشحن .
يا إلهي . ماذا جرى ؟
وفجأة .. انبثق عصام من العتمة .. واندفع كالمجنون نحوي .. وصوت أمه الباكي يستعجله من الخارج : عصام .. هيا بسرعة .
فصاح عصام :
ـ لن أترك حمامتي ..
ومدّ عصام يديه نحوي ، وانتزعني بعنف من فوق بيضاتي ، فصرختُ فيه : ماذا تفعل ؟
ويبدو أنّ عصام لم يفهمني ، فصرختُ ثانية : ستفسد بيضاتي .
بيد أنّ عصاماً ضغط على جسدي النحيل بكلتا يديه ، ومضى بي إلى الخارج ، وأنا أصيح وأستغيث : أرجوك يا عصام .. بيضاتي .. بيضاتي ..
وركض عصام ، دون أن يصغي إلىّ ، نحو عربتهم التي يجرها حصان عجوز فرفعته أبوه بيديه القويتين ، وحشره بين أمه وإخوته الصغار ، وهو يقول :
ـ أين كنت ؟
فأجاب عصام ، وهو يريني لوالده :
ـ أخذتُ حمامتي .
فسأله أبوه :
ـ وبيضاتها ، أين هي ؟
ـ آه .. لقد نسيتها .
ـ ستفسد بلا شك .
صرختُ بعصام ، وأنا أضربه بجنحي :
ألم أقل لك ؟
لكن عصاماً لم يلتفت إلى صراخي ، وقال لوالده : لحظة .. سآتي بها ..
ـ كلا .. لا يمكن ..
فتوسلتُ إلى والد عصام :
ـ أرجوك ، دعه يأتي بها .
لكن أبا عصام قال دون أن ينظر إليّ
ـ إنّ أعداءنا قريبون .. يجب أن نسرع ..
وسارت العربة تحت جنح الظلام ، في صفّ طويل من العربات وسيارات الشحن ، وكانت يدا عصام ، اللتان طالما أحببتهما تطوقاني ، وتحتضنان جسدي النحيل .
آه يا عصام .. كنتُ أحبك كأفراخي .. فقد كنت تطعمني .. وتحنو عليّ .. فلماذا تضطهدني الآن هكذا ؟
ماذا فعلتُ لك ؟ إنني أكرهك .. أكرهك أكثر من كرهي للقط الأسود .. الذي أكل أحد فراخي ، في العام الماضي .. لن أنظر إليك بعد الآن أبداً .. ولن آكل الحبّ من يديك ، حتى لو متّ من الجوع .. آه .. يا عصام لن أسامحك أبداً .. كنت صديقي .. وكنتُ أحبك .. والآن أنا لا أحبك .. أنت عدوي .. وأنا أكرهك .. آه .. كم أنا متعبة .. إنني لم أنم منذ ساعات طويلة .. والنوم يطبق الآن فوق جفوني .. لكني لا أريد أن أنام .. لا أريد .. أن .. أ .. نا .. م .. .. آه .
فتحتُ عينيّ على أزيز مرعب ، وشعرت بيد عصام اللتين كانتا تحتضنان جسدي النحيل ، ترتعشان باضطراب ، وصاح أبو عصام ، وهو يستحث حصانه العجوز :
ـ طائرة صهيونية ..
رفعتُ رأسي ، وتلفتُ حولي في رعب ، وفي ضوء الفجر ، لمحت صقراً معدنياً كبيراً ، ينقض كالصاعقة على القافلة ، ويفتح عليها جحيماً من الرصاص .
جفل الحصان العجوز ، وجمح كالمجنون ، فجنحت العربة ، وتتناثر كلّ من كان فيها ، وهوى عصام ، ويداه تنفكان عني ، وانسحق جسده الغض بعنف فوق الأرض الصلبة ، وبلا وعي وجدتني أصيح :
ـ عصام ..
فرفع عصام وجهه المعفر بالتراب ، وراح ينظر إليّ ، يبدو أنه فهمني هذه المرة ، فسألته :
ـ هل أنت بخير ؟
وبدل أن يردّ عليّ ، ويطمئنني على حالته ، راح يزحف نحوي ، فقلتُ :
ـ ماذا تريد ؟
ومدّ يديه الداميتين نحوي ، فتراجعتُ إلى الوراء ، وأنا أقول له : كلا .. لن أدعك تمسني ثانية ..
فغمغم عصام بصعوبة : تعالي ..
لكني قلتُ في رجاء :
ـ كلا يا عصام .. يجب أن أعود إلى بيضاتي ..
وكالقط قفز عصام نحوي ، وهوى عليّ بيديه الداميتين ، لكني تملصتُ منه ، وفتحتُ جناحيّ المتعبين ، وحلقتُ عالياً ، فصرخ عصام :
حمامتي .
لكني لم أردّ عليه ، فصرخ ثانية ، وهو يكاد يبكي :
ـ لا تعودي .. أنّ الأعداء يحتلون القرية ..
لم أصغ ِ إليه ، فهو لم يعد صديقي ، وحلقتُ عالياً ، بينما كان الصقر المعدني اللعين ينقض ثانية على بقايا القافلة، التي كانت تتناثر كالهشيم على طول الطريق .
واستدرتُ نحو القرية ، وفتحتُ جناحيّ للريح .. هيا .. هيا بسرعة .. لعلّ صغاري قد حطموا الآن قشور البيضات ، وأطلوا برؤوسهم الندية على العالم ، لكن من يقول أنّ القط الأسود اللعين ، الذي يتربص بي دائماً ، لم يظفر بهم ؟ .. اللعين .. يجب أن أسرع .. هيا .. هيا .. ترى من هم الأعداء ، الذين تحدث عصام عنهم ؟ إنهم على كلّ حال لن يكونوا أسوأ من القط .. هيا .. هيا ,, أنّ القرية لم تعد بعيدة .. آه .. يا للفرح .. ها هي بساتين البرتقال والزيتون .. وها هو ذا الغدير .. والفجر .. يا للفرح .. لقد وصلتُ .. وصلتُ .. و .. ص .. لتُ ..
وفجأة
وكما في الحلم .. سمعتُ طلقاً نارياً .. وشعرتُ بشيء كالنار .. يخترق جسدي ..
يا إلهي ، ماذا جرى ؟
أين جناحاي ؟
هيا .. هيا إلى الأمام .. أنّ صغاري ينتظرونني الآن .. ، وحاولتُ أن أتمالك نفسي ، لكني تهاويتُ على غصن زيتون ، وراح دمي يسيل ببطء فوق خضرته الغامقة .
وفي خضرة الزيتون الدامية ، رأيتُ فراخي الصغار ، تطلّ برؤوسها الصغيرة المبللة ، وتفتح أفواهها ، وقبل أن أغلق عينيّ ، ويختفي كلّ شيء أمامي ، سمعتُ هديلها العذب يملأ العالم .

جدي قال لي

المستعمرة
ابتسم القمر الطيب ، وغمز لنا بعينه ، وقال بصوت خافت ، وهو يخفي وجهه المضيء وراء غيمة :
ـ سأتوارى الآن لئلا تراكم عيون الأعداء .
وعلى ضوء النجوم الخافت ، رأينا المستعمرة المدججة بالسلاح ، ترتجف من الخوف ، فالتفتُ إلى رفاقي ، وهمستُ بحذر :
ـ لقد وصلنا الهدف .
تطلع رفاقي نحو المستعمرة ، وقد أضاء التصميم عيونهم ، ورفعتُ يدي ، وهممتُ أن أشير بيد الهجوم ، وإذا بالمستعمرة المدججة بالسلاح ، تفتح علينا عيونها الخائفة ، فصحتُ بصوت خافت :
ـ كشافات الأعداء ، ارتموا على الأرض .
وفتحت أرضنا الطيبة ذراعيها ، وضمتنا إلى صدرها الحنون ، بينما راحت أعين الأعداء الخائفة ، تقلب الأرض بحثاً عنا . آه إنّ أرضنا لن تسلمنا إلى القتلة . ومن أعماق الأرض ، تسلل إلينا عبير الوطن ، عبير الزيتون والبرتقال ، وابتسمتُ إذ تذكرتُ جدي ، لوطننا يا بنيّ عبير الجنة ، طف العام كله ، لكنك لم تشم عبير الجنة إلا هنا ، أغمضتُ عينيّ ، ووضعتُ خدي على الوطن ـ الجنة ، وكينابيع الجبال ، انبثق صوت جدي ، عذباً صافياً ، يا بنيّ ، لستُ طفلاً الآن ، إنني في الثمانين ، لكني كالأطفال أحنّ إلى صدر أمي ، أين أمي الآن ؟ لقد أصبحت جزء من تراب الوطن ، وحين سأعود إلى وطني ، وأضع رأسي العجوز المتعب فوق ترابه ، سأحس بدفء أمي ، وحنانها ، وطيبتها ، وينظر جدي عبر الأسلاك الشائكة ، ويقول :
ـ بني ، سواعدكم المسلحة فقط ، ستعيدني إلى أمي ـ الوطن .
ـ رفيقي ، رجاء ، كن حذراً
ابتسمت ، إنه رفيقي الطيب ” سلام ” ، فوضعتُ رأسي ثانية فوق صدر الوطن ، ومن جديد تسلل من الأعماق عبير الوطن ـ الجنة .palestine

المحراث والبندقية
تحسس جدي ” بارودته ” ، ثم انحنى على محراثه ، يفتح صدر أرضه الطيبة للشمس والأمطار ، وحين رأيتُ العرق يتلألأ فوق جبينه الأسمر ، هرعتُ إليه ، وقلتُ له :
ـ جدي ، دعني أساعدك .
وقف جدي وراء محراثه ، وقال لي ، وهو يبتسم :
ـ أنت ما تزال صغيراً .
فقلتُ وأنا أتطلع إلى بندقيته الثقيلة :
ـ دعني إذن أحمل البارودة عنك .
ـ لا تتعجل ، ستحملها حين تكبر .
ـ لكنها ثقيلة يا جدي ، دعها الآن جانباً .
تجهم جدي ، وقال :
ـ أدع بارودتي ! ماذا تقول ؟ المحراث والبارودة توأمين ، كيف نحمي أرضنا من الصهاينة ـ الذئاب إذا تركنا البارودة جانباً ؟

كلهم أولادي
بملء حناجرنا ، هتفنا معاً :
ـ الموت للرجعية .
وتدفقت سيولنا الشابة في شوارع المدينة ، ونحن نصرخ في وجه الشرطة المدججة :
ـالتحرير أو الموت .
وانقضت الشرطة علينا ، وبنادقهم .. بنادق الاستعمار والرجعية ، تفتح أشداقها المجنونة ، وتغرس أنيابه الحاقدة في صدورنا العارية ..
قتل البعض .. والقي القبض على البعض الآخر ..
لكن شوارعنا المناضلة ، ظلت صامدة ، تهتف .. الموت للرجعية .. التحرير أو الموت .
وتحت وطأة القضبان ، شعرتُ بيد جدي تشدّ على يدي ، وسمعتُ صوته الدافيء يقول لي : يا بني ، ولدي لم يمت.
وحن رأيته في باحة السجن ، في اليوم التالي ، يحمل وسط الزوار ، سلة مليئة بالبرتقال ، اندفعتُ إليه ، واحتضنته بقوة ، وأنا أقول :
ـ جدي .
تجهم جدي ، وقال :
ـ ما لك ، يا بنيّ ؟
حاولتُ أن أبتسم :
ـ إنني فرح بك .
وتفرس جدي بي ، وقال :
ـ لكني لستُ فرحاً بدموعك .
خنقتني الدموع ، فعاد جدي يقول :
ـ هيا ، كفكف دموعك ، أنت رجل .
احتضنتُ جدي ، وقلتُ :
ـ لستُ أبكي ، يا جدي ، هذه دموع الفرح .
أشرق وجه جدي ، وضحكت الفرحة في عينيه الذكيتين، وقال وهو يريني السلة :
ـ هذه سلة من البرتقال .
ـ أشكرك يا جدي .
ـ ولكن ليس لك فقط .
ابتسمتُ ، فأضاف جدي :
ـ بل لرفاقك أيضاً ، فالكل أولادي .

البندقية والطريق
أنهيتُ دراستي ، ورحتُ أطرق أبواب المستقبل ، لكن الأبواب التي أغلقت في وجهي ، ظلت مغلقة ، فمن يجرؤ على التعامل مع ” فلسطيني عِدته السجون والمعاقل ” ، فعدتُ إلى جدي ، وقلتُ :
ـ جدي ، ماذا أفعل ؟
لم يقل جدي شيئاً ، فتساءلتُ : العالم واسع ، يا جدي ، هل أهاجر ؟
غامت عينا جدي ، وقال :
ـ أبوك لم يهاجر .
تساءلتُ ثانية :
ـ ماذا أفعل ، يا جدي ؟ أنّ جميع الأبواب مقفلة في وجهي .
حدق جدي فيّ لحظة ، ثم رفع عينيه الذكيتين إلى بارودته العتيدة ، التي ثبتها على الجدار ، فوق خارطة الوطن .
وفي معسكر تدريب الفدائيين ، تذكرتُ عيني جدي ، وأنا أتعلم الحديث بالسلاح ، وسمعتُ صوته العميق ، مع لعلعة الرصاص :
ـ البارودة هي الطريق

القافلة
وضع جدي يده المعروقة فوق كتفي ، وقال بصوت يهزه التأثر والانفعال :
ـ يا بنيّ ، لقد قلتُ لك الكثير ، لكني لا أدري ما الذي يجب أن أقوله لك الآن .
ابتسمتُ لجدي ، وقلتُ :
ـ قل لي ، امض ِ ، وليكن النصر حليفك .
التمعت عينا جدي الذكيتين ، وسكت لحظة ، ثم قال :
ـ قبل أن أودع أباك ، في معركة ” 1948 ” ، قالت جدتك ، والدموع تملأ عينيها ، حاول أن تمنعه ، فليس لنا ولد غيره ، فقلتُ لها ، ماذا تريدين أن أقول ؟ هل أقول له ، لا تكن رجلاً ، ابقَ هنا ، واترك وطنك للغرباء، كلا ، لا يمكن ، وحين جاءني أحد رفاقه ، يحمل لي يشماغه ، ملوناً بدمه وشجاعته ، بكت جدتك ، وقالت ، ماذا بقي لنل ؟ فقلتُ لها ، بقي لنا ابنه ، بقي لنا رفاقه ، بقي لنا الوطن .
سكت جدي لحظة ، ثم قال بمرارة :
ـ لكن الوطن مضى ، سلبه الصهاينة الذئاب ، ولم يبقَ لنا غيركم ، بنيّ أنتم الآن الطن ، مادمتم أحياء فإن الوطن حيّ ، وسيعود حتماً إلينا .
وشدّ جدي على كتفي ، وقال بعزم :
ـ يا بنيّ ، امض ِ ، فأنت رجل ، وليكن النصر حليفك .

على طرق النصر
أطلّ القمر الطيب من وراء الغيمة ، وغمز لنا ثانية، وقال :
ـ اطمئنوا ، سأختفي حالاً ، ولكن أسرعوا ، يا أعزائي ، ماذا تنتظرون ؟
التفتُ إلى رفاقي ، وقلتُ لهم بصوت خافت :
ـ أيها الرفاق ، لقد أزف الوقت، هيا إلى أمام ، وليكن النصر حليفنا .
وتحت سمائنا الطيبة ، وفوق صدر وطننا السجين المقدس ، زحفنا نحو المستعمرة ، ومع يدي ، شعرتُ ب جدي ، تشدّ بقوة وعزم على الرشاشة ، وسمعتُ صوته الشجاع ملء الليل ، لقد قاتلنا عشرين سنة ، وقد نقاتل عشرين سنة أخرى ، لكن النصر لنا ، فالحقيقة معنا ، ولن يكون النصر في النهلية إلا للحقيقة .

العاصفة

” 1 “

قبل أن يفتح الفجر عينيه ، أفقتُ على صوت يشق السماء ، فتلفتّ حولي بذعر ، ماذا جرى ؟ كانت أشجار البستان تتهامس بكلمات مشوشة ، وأغصانها المثقلة بالثمار تتخافق في حيرة وذهول .
وشعرت بشجرة الزيتون ، التي بنيتُ عشي بين أغصانها ، تنحني على النبع ، وتقول له :
ـ ما هذا ؟
أجاب النبع ، وهو يتطلع حوله بعيونه الدامعة :
ـ لا أدري .
رفعتُ رأسي ، وصحتُ :
ـ يبدو أنها عاصفة قوية .
قال النبع :
ـ عاصفة ! لا أعتقد .
فتساءلتُ بحيرة :
ـ ماذا إذن ؟
أجاب النبع :
ـ من يدري .
رفعتُ رأسي ، وتطلعتُ إلى الكوخ ، وقلت :
ـ سأنادي البستاني العجوز .
فقالت شجرة الزيتون :
ـ نعم يا عزيزي ، ناديه ، لعله يعرف حقيقة الصوت .
صحتُ بصوت مضطرب :
ـ أيها البستاني العجوز .
لكن البستاني العجوز لم يفتح باب كوخه ، ولم يردّ عليّ، فصحتُ ثانية :
ـ أيها البستاني العجوز ، أين أنت ؟
ومرة أخرى ، لم يفتح البستاني العجوز باب كوخه ، ولم يردّ عليّ ، أين هو ؟ إن الشمس لم تستيقظ بعد ، من يدري ، لعله مضى كعادته إلى سفح الجبل ، آه ما العمل ؟ إن الصوت الرهيب يقترب بسرعة ، ويكاد يجتاحنا ، ومن تحت جناحي ، أطل أحد فراخي ، وقال وعيناه تدوران حوله بحيرة :
ـ ماذا يجري ، يا ماما ؟
فقلتُ أطمئنه :
ـ لا شيء ، يا عزيزي ، اختبيء مع إخوتك تحت جناحي ، فقد تهب العاصفة .
وفي الحال ، دسّ فرخي الصغير رأسه تحت جناحي ، وسمعته يقول لأخويه بصوت خطير :
ـ اختبئا ، ستهب العاصفة .

” 2 “
البستاني العجوز
رفعتُ رأسي المتعب ، حين سمعتُ هدير العاصفة ، فرأيتُ تشكيلة من طائرات النجمة السداسية ، تشق زرقة السماء ، وتتجه نح المخيمات ، المجرمون ، القتلة ، بعد قليل ، ستهدم عشرات البيوت والمدارس والملاعب ، وسيقتل مئات الأطفال والنساء والشيوخ ، وتخرب أعشاش البلابل والعصافير و .. وفجأة انفصلت إحدى طائرات النجمة السداسية عن التشكيلة ، وانقضت على البستان ، وفتحت نار جحيمها على نبعي وأشجاري وكوخي الصغير .
صرختُ بحرقة :
لا .
وانطلقتُ كالعاصفة وصوتي يلعلع :
ـ مجرمون .. مجرمون .. قتلة .
يا إلهي ، أين نبعي ؟ أين أشجاري ؟ أين كوخي الصغير ؟ أين حماماتي ؟ وأين فراخها الصغار ؟ لا ، هذا الدخان والرماد ليس عالمي ، لا .. لا .. لا .
وكما تمتليء السماء بالغيوم والرعود ، امتلأت عيناي بالدموع والغضب ، ورحتُ أتمتم :
ـ قتلة .. قتلة .. قتلة .

” 3 “
النبع
صمت ، ظلام ، في سجني هذا ، لا أميز بين الليل والنهار ، بين الشتاء والربيع ، إنني في ليل شتائي دائم . وبكل توقي للخضرة والنهار ، أصيح من الظلام والصمت :
ـ إنني هنا ، أنقذوني .
فلا يجيبني غير الصمت والظلام ، ومن سجني أهرب إلى الشمس والأشجار والعصافير ، لكن العاصفة سرعان ما تكلني ، وتعيدني إلى السجن . يا للهول ، ما زلتُ أرتجف كلما تذكرت تلك العاصفة ، وهي تنسف كلّ شيء ، وتحبسني تحت هذه الصخور ، آه لقد مضى عالمي كما تمضي الأحلام الجميلة ، لكن مهلاً .. ماذا أسمع ؟ معول ! ترى من يبحث عني ؟ لعله البستاني العجوز ، فهو لم يكن في كوخه عندما هبت العاصفة ، نعم ، إنه هو ، إنني أعرف ضربات معوله ، أضرب أيها البستاني ، أضرب ، وصحتُ بملء صوتي :
ـ هنا ، إنني هنا .
وفجأة شعرت بالمعول يمدّ يديه إليّ ، ويفتح لي كوة على العالم ، وحين لامس وجهي الهواء ، فتحتُ عينيّ الدامعتين ، ورحتُ أنث فرحي فوق الأرض الظامئة والصخور المحروقة ، والبذور التي تنتظر الإنبات . ولم يكد البستاني العجوز يراني ، حتى اندفع إليّ ، وراح يرقص تحت دموعي بسعادة الأطفال .
ومرت الأيام ، وذات صباح ، سمعتُ البستاني العجوز يفتح باب كوخه الجديد ، ويتأمل أشجار بستانه الغضة ، وسرعان ما أضاءت وجهه فرحة عظيمة ، يا لله ، حمامة ترقد في عش بين أغصان شجرة الزيتون ، وقد أطل من تحت جناحيها ثلاثة فراخ ، يهدلون بأمل وحبور.
الزهرة

درجت العربة فوق الطريق ، وراح أبي يحثّ الفرس، ، فقد أوشك المساء أن يداهمنا . ومن بعيد ، بدت القرية، تنوس في غلالة من العتمة المخضبة بالدم .
وتراءت لي معلمتي ، وأنا أحدق في وجه الشمس المدمى ، وسمعتها تسألني ، وهي تنحني على دفتري : ماذا ترسمين ؟
فأجبتُ : أرسم الشمس .
وعلقت معلمتي قائلة : إنه وجه طفلة .
فقلتُ : هكذا أراها .
واختنق صوت معلمتي بالدمع ، لم أدر ِ لماذا ، وقالت : من الأفضل أن تلونيها بلون أصفر .
فرفعتُ رأسي إليها ، وقلتُ : لكن الشمس ليست صفراء.
وتذكرتُ ما قاله رياض ، فأضفتُ : إنها حمراء ، بلون النار .
وحين حكيتُ لأمي حكاية الشمس مع معلمتي ، قالت : لا تلوميها ، يا عزيزتي ، إنها لا تحبّ أن ترى الشمس وجه طفلة مخضب بالدم ، فقد قتل الصهاينة طفلتها في يافا .
وكم تمنيت لو أستطيع أن ألون الشمس بلون أصفر ، ولكن ماذا بوسعي أن أفعل ، وقد قال رياض : إنّ الشمس كرة من نار ؟
ومن بعيد ، أقبلت عربة ” أبو رياض ” ، تدرج على الطريق ، أيتها الفرس ، لا تتعجلي ، دعي حصان ” أبو رياض ” يدركنا ، ترى أين رياض ؟
الشمس كرة من نار ، هذا ما قاله رياض ، فتساءلت فاطمة : أهي حقاً بحجم كرة السلة .
ابتسمتُ ، فأجاب رياض : يا جاهلة ، الشمس أكبر من الأرض ، وهي موجودة منذ ملايين السنين . فغرت فاطمة فاها ، وصاحت بدهشة : ها .
التفتُ إلى رياض ، وقلتُ : أحقاً الشمس كرة من نار ؟
فتطلع رياض إليّ ، وقال : نعم .
وتساءلتُ : وهي موجودة منذ ملايين السنين ؟
فأجاب رياض : نعم ، نعم .
وابتسمتُ متسائلة : إذن لماذا لم تبرد حتى الآن ؟
لم يقل لي رياض: يا جاهلة ، بل نظر إليّ في حيرة ، ثم تمتم : لا أدري .
وابتسمت فاطمة في تشفي ، فأطرق رياض برأسه ، وقد توردت وجنتاه ، وقال : سأسأل معلمي .
لكن رياض لم يستطع أن يسأل معلمه ، فقد جاء رجال مدججون بالسلاح ، وأخذوا المعلم من المدرسة . لم يأخذوه لأنه قال : الشمس كروية ، بل لأنه قال : فلسطين لنا .
نحن فلسطينيون ، وفلسطين لنا ، فلاذا أخذوه ؟
وصاح ” أبو رياض ” ، وهو يحثّ حصانه : أبو صفا .
والتفت أبي ، وعيناه الطيبتان تبتسمان قائلتين : أهلً أبا رياض .
وصاح أبو رياض : مهلاً ، يا أخي .
فقال أبي : عفواً ، حسبتك قد سبقتني اليوم .
وتساءل أبو رياض : أأسبقك بحصاني الأعجف هذا ؟
قهقه أبي ، وهو يسحب أعنة الفرس ، ومن وراء العربة انبثقت كركرة كخرير الماء ، إنه رياض ، هذه ضحكته . وانتفض قلبي مثل عصفور صغير بللته أمطار الربيع .
وخفّ حصان ” أبو رياض ” ، وهو ينخر ، حتى حاذى فرسنا ، وفي شقائق المساء ، لمحتُ رياض يرمقني ، وهو جالس في مؤخرة العربة ، وحين التقت عيناه بعينيّ، شعرتُ بدفْ كدفْ الربيع يشيع في أعماقي .
ابتسم رياض لي ، والفرح يتلامع في عينيه ، وتذكرتُ أمه الضحوكة المرحة ” عيناه حبتا بن محمصتان ” ، هكذا تدلله أمه .
وهتف ” أبو رياض ” متسائلاً :
كم الساعة عندك ؟
ونظر ألي في ساعته ، وقال : حوالي الرابعة والربع .
وتنهد ” أبو رياض ” ، وقال : ما أقصر النهار .
فردّ أبي قائلاً : نحن في تشرين . وابتسم ” أبو رياض ” ، وقال :نعم ، راحت نهارات الصيف ، آه الصيف .
وسمعتُ رياض يهمس لي : صفا .
فرفعتُ عينيّ إليه ، لكني لم أتكلم ، فقد قالت لي أمي ، أن لا أكلم أحداً في الطريق ، فأنا كما تقول أمي ، لم أعد صغيرة ، لقد أصبح عمري إحدى عشرة سنة ، طبعاً لن أكلم أحداً ، فهذا عيب ، لكني لا أعتقد أنّ أمي تقصد رياض أيضاً ، إنّ رياض ليس أي أحد ، إنه .. إنه رياض ، لا أعتقد أنّ أمي لا تفهم هذا .
وهمس رياض ثانية : لديّ شيء لك .
وتساءلت بصوت هامس : لي !
فقال ، وهو يقفز من العلبة : نعم ، لك .
راح رياض يركض وراء عربتنا ، وقد ضمّ إحدى يديه ، وحاول أن يقفز إلى جانبي ، لكن تعثر ، وكاد يسقط ، فمددتُ يديّ إليه ، وضممته بقوة، وساعدته على الصعود إلى العربة ، فابتسم في حرج ، وهو يتملص بهدوء من بين ذراعيّ ، ومدّ يده المطبقة إليّ ، وقد توردت وجنتاه، وقال : إنها لك .
فابتسمتُ ، لكني لم أفتح يدي ، من يظنني ؟ إنني لستُ فاطمة ، الملعون ، مدّ يده المطبقة إلى فاطمة ، وقال لها : فاطمة ، لديّ هدية لك .
فصاحت فاطمة بفرح : صحيح ؟
قال رياض : هدية جميلة .
فتساءلت فاطمة : ما هي ؟
وقال رياض : افتحي يدك .
وفتحت فاطمة يدها ، وفجأة صرخت آآآآآ ، آه الملعون ، لقد وضع في يدها جرادة .
ومن بعيد صرخت رشاشات : ت ت ت ت ت .
فتعكر البن في عيني رياض ، لكنه مدّ يديه نحوي ، وقال : لا تخافي .
وصاح ” أبو رياض ” : أبا صفا .
فرفع أبي رأسه ، وقال : أصغ ِ .
وأصغى ” أبو رياض ” ، ثم قال : هذا صوت رشاشة .
ونمنم أبي : ربما .
وتساءل ” أبو رياض ” : أهو من القرية ؟
فردّ أبي قائلاً : لا أعتقد ، الصوت بعيد .
وتصارخت رصاصاتُ أكثر من رشاشة ، فهبّ ” أبو رياض ” ، من فوق عربته ، وهو يصيح مرتعباً : ماذا جرى ؟
وردّ أبي : من يدري .
وصاح ” أبو رياض ” : أبا صفا .
وقاطعه أبي ، وهو يحثُ الفرس : هيا ، الأفضل أن نسرع .
وفجأة برز ثلاثة جنود من وراء الأجمة ، ورطنوا بصرخة واحدة : قفوا .
اضطرب حصان ” أبو رياض ” ، وحمحمت فرسنا ، ورفعت قائمتيها ، وكادت تسحق الجنود الثلاثة ، ففتح الجنود النار علينا ، وهم يرطنون بلغة غريبة .
وفوق ترابنا الدامي ، سقطنا جميعاً ، ورحنا ننطفيء، حتى الشمس ، كرة النار الخالدة ، راحت تنطفيء في الأفق ، لم يغمض رياض عينيه البنيتين ، كان ينظر إليّ، ويده المطبقة ممدودة نحوي ، وقبل أن تنطفيء الشمس في عينيّ ، رأيتُ كفه الصغيرة تتفتح ببطء ، وتفتحت فوق شفتيّ ابتسامة فرحة ، لستُ فاطمة ، نعم ، لستُ فاطمة ، فقد كانت في كفه زهرة بيضاء تضيئها قطرة من دمه .

حمامات في سماء الأرز

” 1 ”
الجبل الأخضر
رفع ” أبو نضال ” المنظار عن عينيه ، وقال : فعلاً، هناك حركة مريبة في مواقع العدو .
فقال ” أبو سعد ” : قد ينتقمون لعملية أمس الأول . وعلق ” أبو وفاء ” : هذه عادتهم .
وبصوته الهاديء ، الثابت ، قال ” أبو نضال ” : اذهبا إلى القرية ، وحذرا الأهالي ، فقد يشن الأعداء هجوماً في أية لحظة .
ومدّ يده ، وصافح رفيقيه قائلاً : هيا ، يا رفيقيّ ، أسرعا.
شدّ أبو وفاء رشاشته عل كتفه ، ومضى مسرعاً مع رفيقه ” أبوسعد ” ، وعلى شجرة أرز ، هدلت حمامة ، وتلامعت عينا ” أبو وفاء ” ، فقد تراءت له خولة ، بعينيها الخضراوين ، تهدل كالحمامة .
” 2 “
لبنان الأخضر لنا
أطلت خولة من نافذة الصف ، وبدا الجبل الأخضر ، وكأنه ينحني على القرية ، ويظلله بأشجار الأرز ، وتلامعت فرحة في عينيها ، حين وشوشتها نسمة دافئة : أحياناً أطلّ من الجبل ، وأرى عينيك الخضراوين ، وأقول لنفسي : إن خولتي تعلم التلاميذ الآن .وتشعر بيديه المحبتين تضمان يديها ، وتسمعه يهتف : خولة .
وترفع عينيها الخضراوين إليه : نعم .
فيسألها : ماذا تعلمين الصغار .
والتفتت خولة إلى التلاميذ ، وهتفت : سعاد .
وهبت سعاد مزقزقة كالعصفور : نعم أستاذة . فقالت خولة : اقرئي ما مكتوب على السبورة .
فزقزقت سعاد : لبنان الأخضر لنا .
وفي صوت واحد ، زقزقت كلّ عصافير الصف : لبنان الأخضر لنا .
” 3 “
ليلى والشيخ
ارتدت ليلى ملابسها ، وحملت سلتا الصغيرة ، ومضت كعادتها إلى الشيخ . وحين مرّت بالمدرسة ، سمعت التلاميذ يهتفون : لبنان الأخضر لنا .
وابتسمت ، وقالت في نفسها : نعم ، لبنان الأخضر لنا ، هذا ما يقوله أبي أيضاً برشاشته ، فوق الجبل الأخضر .
ومع حفيف الريح ، سمعت أباها يقول : ليلى ..
واحتجت ليلى : أبي ، إنني في الرابعة عشرة ..
وقال أبوها : امضي إليه ..
وأصرت ليلى : أريد أن أكون مثلك .
فأخذ أبوها يديها بين يديه ، وقال : ستكونين أفضل مني، إذا بقيت في القرية ، وعنيت بالشيخ ، لقد أستشهد ابنه ، ولم يعد له أحد .
وحثت ليلى خطاها ، وابتسمت حين خطر لها ، أن السيخ سيرفع رأسه الأشيب ، ويقول كعادته : كفى ، أنت تضيعين وقتك ، يا صغيرتي .
وتبتسم ليلى قائلة ، وهي تقدم له سلة الطعام : جئتك اليوم بفطيرة جبن .
فيصيح الشيخ : لستُ بحاجة إلى شيء ، أنا وحماماتي تكفينا كسرة خبز .
ويسكت لحظة ، ثم يقول مشيراً بيده إلى الجبل الأخضر : اذهبي ، يا بنيتي ، لعل هناك من يحتاج إليك .
” 4 ”
مريم
عبثاً حاولت أن ترفع جسدها المتهدم ، فأغمضت عينيها على أحزانها ، وهي تتأوه . ومن الأعماق نهضت كالحلم ، أشجار الأرز ، وغدران الفضة ، وحقول الورد ، وها هي طفلة .. صبية .. أم .. آه .. أين هذا كله الآن ؟ أين ابنها ؟ أين رفيق عمرها . أين عالمها ؟لقد طوتهم جميعاً أيم النار ،ولم يبقَ لها سوى .. مريم .. وتذكرت أنها اليوم ، استيقظت مع الفجر ، واقتربت منها قائلة : جدتي ، خذي دواءك .
وفتحت فمها قائلة : يبدو أنك ستخرجن اليوم أيضاً .
فردت مريم : سأزور خالتي .
وقالت محتجة : لكنك زرتها قبل يومين .
وابتسمت مريم ، وقال : إنني مشتاقة إليها .
فقالت : الطريق محفوف بالمخاطر ، وأنا أخاف عليك .
واتسمت مريم ثانية ، وقالت وهي تمضي : لا تخافي يا جدتي ، سأعود باكراً .

” 5 ”
النار
وفجأة دوت البراكين ، وأخذت تصب حممها ، فوق الجبل الأخضر ، وشجر الأرز ، وغدران الفضة ، وحقول الورد ، وابنان الأخضر لنا ، ومع الأنين وصرخات الرعب ، تطايرت الأغصان .. والأزهار .. الفضة .. وراحت النيران المجنونة ، تأكل كلّ شيء .

” 6 “
ليلى والشيخ
هرعت ليلى ، وسط اللهب المتطاير ، إلى الشيخ . ورأته وراء شجرة التفاح ، يحتضن قفص حماماته البيضاء ، فدنت منه هاتفة : هيا يا عم ، الصهاينة قادمون .
والتفت الشيخ إليها ، وقال : لا أريد أن أمضي بعيداً ، إنني هنا أعنى بأشجاري وحماماتي .
وأخذت ليلى بيه قائلة : ماذا تقول ، يا عم ؟أنظر الحرائق تجتاح كلّ شيء .
وسحب الشيخ يده ، وصاح : دعيني .
وقالت ليلى : هيا ياعم ، المدفعية تدك القرية .
وتلفت الشيخ حوله حائراً ، وقال : لدي أشجاري ، وحماماتي ، وقد تدبر الحمامات نفسها ، لكن ماذا عن الأشجار ؟
ومدت ليلى يدها إلى القفص ، وقالت : سأحمل القفص عنك ، هيا ..
وتراجع الشيخ قائلاً : وأشجاري ؟ هل أتركها ؟
وجثا قرب شجرة التفاح ، واحتضن قفص حماماته ، ثم قال : كلا ، لا يمكن ، دعيني وحدي .

” 7 ”
مريم .. مريم
أفاقت على البراكين تدوي ، فصاحت : مريم .
وأطاحت قذيفة بجزء من سقف الغرفة ، فصرخت وهي تحاول عبثا ًأن ترفع جسدها عن الفراش : مريم .. انجديني .
وأزت قذيفة أخرى ، وانفجرت في الفناء ، فأغمضت عينيها ، تتمتم منهارة : مريم .. مريم .. مريم .

” 8 “
لبنان الأخضر لنا
انفجرت قذيفة في فناء المدرسة ، فأطاحت بشجرة الزيتون ، ومزقت زقزقة الصغار .. لبنان .. الأخضر .. لنا .. في دويّ الانفجار .
ومع صيحات الصغار ، تناثر زجاج النوافذ ، وتفجرت عيون الدم ، وحاولت خولة رغم رعبها ، أن تطمئن الصغار ، فصاحت : أبقوا في أماكنكم ، لا تخافوا .. لا تخافوا .
لكن الصغار هبوا كالعصافير إ إذ تفاجئها الحدأة ، وراحوا يتدافعون نحو الخارج ، وهم يتصايحون خائفين، وانفجرت قذيفة ثانية في الفناء ، فتهاوت خولة ، وجثت باكية ، وسط الصف الفارغ .

” 9 ”
ليلى والشيخ
صاح ” أبو سعد ” ، حين لمح الشيخ ، يتعثر وسط الحمام ، وقد احتضن قفص حماماته : أسرع يا عم ، أسرع .
واحتدّ الشيخ قائلاً : مهلاً ، يا بنيّ ، مهلاً .
والتفتت ليلى إلى ” أبو سعد ” ، وقالت : دعه لي ، سآخذه إلى الجبل .
ومن بيت الحرائق ، أقبلت طفلة تحمل دمية شوهتها النيران ، وصاحت : النجدة .. النجدة .. مريم .
وهمت ليلى أن تهرع إلى جدة مريم ، لكن ” أبو سعد ” أمسك بذراعها ، وقالت : ليلى ، دعي الأمر لي .
ثم انطلقت مسرعاً نحو بيت جدة مريم ، وهو يقول : أسرعا بالخروج من هنا .
“10 “
مريم
سمعت دبيب أقدام في الفناء ، فأنصتت بأمل ، وهتفت : مريم .
وفُتح الباب ، وبدل مريم أطلّ ” أبو سعد ” ، فقالت : أريد مريم .
وردّ ” أبو سعد ” قائلاً : مريم بخير ، اطمئني .
فتطلعت إليه ، وقالت : إنها تتركني الآن كثيراً ، وتمضي إلى خالتها ، ترى ما الذي تفعله هناك ؟
وابتسم ” أبو سعد ” ، فقد تراءت له مريم ، بوجهها الملائكي ، وهي تعنى بالجرحى ، فوق الجبل الأخضر .
وانفجرت قذيفة قرب البيت ، فانحنى ” أبو سعد ” على المرأة ، وحملها بين ذراعيه قائلاً : هيا يا جدتي ، يجب أن نمضي .
فتساءلت قائلة : إلى أين ؟
فردّ ” أبو سعد ” : سآخذك إلى مريم .

” 11 “
ليلى والشيخ
التفتت ليلى إلى الشيخ ، وهمت أن تحثه على السير ، وإذا قنبلة تسقط قربهما ، وتنفج كالبركان .وكما في الحلم ، رأت ليلى الشيخ يفتح ذراعيه ، ويصرخ متهاوياً على الأرض ، مث أرزة ضربتها صاعقة مجنونة . وقبل أن تغيب عما حولها ، لمحت القفص يتدحرج على الأرض ، والحمامات البيضاء تصفق مذعورة بين قضبانه .
وفتح الشيخ عينيه بصعوبة ، فتراءت له في الأفق المدمى ، أشباح مهولة ، تخب في سحابة من النار والدخان ، فهتف بصوت متحشرج ، وهو يحاول أن ينهض عن الأرض : الصهاينة .. الصهاينة .
وتلفت حوله كمن يطلب النجدة ، ثم تمتم : يا إلهي ، سيذبحون حماماتي .
ورغم جسده المسحوق ، زحف فوق دمائه ، حتى وصل القفص ، فاحتضنه قائلاً : كلا ، لن أدعهم يذبحون حماماتي ، لن أدعهم .
ودنت سحابة النار والدخان ، ولفت القرية المطعونة ، وراحت تلتهم كلّ شيء . ومدّ الشيخ يده المدماة ، وفتح باب القفص ، وهو يصيح : هيا .. حلقن .. حلقن .. حلقن.
واندفعت الحمامات البيضاء من القفص ، وحمن حول الشيخ ، ثم حلقن فوق سحابة النار والدخان ، وانطلقن مسرعات نحو الجبل الأخضر ، وحين اختفت الحمامات في سناء الأرز ، تنهد الشيخ بارتياح ، وأغمض عينيه .

” 12 “
لبنان الأخضر لنا
هتف ” أبو وفاء ” ، وهو يندفع داخل المدرسة : خولة .
لم يجبه غير الصدى ، فهرع إلى الصف ، وإذا خولة متكومة في الزاوية ، فخفّ إليها هاتفاً خولة .
ورفعت خولة عينيها الخضراوين ، الغارقتين بالخوف والدموع ، وتطلعت إليه مذهولة ، وقالت بصوت باك : صغاري .
وأخذها بين ذراعيه ، فأجهشت بالبكاء ، وهي تقول : قتلوهم ، قتلوهم جميعاً .فقاطعها ” أبو وفاء ” قائلاً : اطمئني ، لقد نجوا .
وتطلعت خولة إليه متسائلة : نجوا !
وهزّ ” أبو وفاء رأسه ” ، فتساءلت ثانية ، والدموع تتلألأ في عينيها الخضراوين : نجا صغاري ؟
فردّ ” أبو وفاء ” قائلاً : هيا يا عزيزتي ، فلنمض ِ بسرعة .وأخذ يدها ، وأسرع بها إلى الخارج ، وعلى السبورة ، التي عفرتها الأتربة ، كانت ” لبنان الأخضر لنا ” ما زالت متألقة .

” 13 “
الحمامات البيضاء
عند المساء ، خمدت البراكين ، وعاد الجميع إلى القرية ، والتفوا في الساحة ، حول الشيخ المدمى . وتراءى لهم أنّ ابتسامة مطمئنة تعلو شفتيه .
ووقفت ليلى قرب الشيخ ، وقالت من بين دموعها : قبل أن يغمض عينيه أ أطلق حماماته من القفص .
ومسحت دموعها ، ثم قالت : خشي أن تقع في أيدي الأعداء ، ففتح باب القفص ، وأطلقها .
ومن بين الأطفال ، ووسط صمت الجميع ، تقدمت طفلة تحمل دمية شوهتها النيران ، ووضعت فوق الشيخ زهرة بيضاء ، وفي سماء الأرز ، كانت حمامات بيضاء تحلق عالياً .. عالياً .. عالياً .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالقادر رالة : زّوجي .

    أبصرهُ مستلقياَ فوق الأريكة يُتابع أخبار المساء باهتمام…      إنه زّوجي، وحبيبي..     زّوجي …

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *